البداية والنهاية/الجزء الخامس/ذكر رمله عليه السلام في طوافه واضطباعه
قال البخاري: حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله ﷺ حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أول ما يطوف يخب ثلاثة أشواط من السبع.
ورواه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، وحرملة، كلاهما عن ابن وهب به.
وقال البخاري: ثنا محمد بن سلام، ثنا شريح بن النعمان، ثنا فليح عن نافع، عن ابن عمر قال: سعى النبي ﷺ ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة. - تابعه الليث -.
حدثني كثير بن فرقد عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ. انفرد به البخاري.
وقد روى النسائي عن محمد وعبد الرحمن ابني عبد الله بن عبد الحكم، كلاهما عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن كثير بن فرقد، عن نافع، عن ابن عمر به.
وقال البخاري: ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، ثنا موسى بن عقبة عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ كان اذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف، ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة.
ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.
وقال البخاري: ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا أنس عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة.
ورواه مسلم من حديث عبيد الله بن عمر.
قال مسلم: أنبأنا عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: رمل رسول الله ﷺ من الحجر إلى الحجر ثلاثا، ومشى أربعا.
ثم رواه من حديث سليم بن أخضر عن عبيد الله بنحوه.
وقال مسلم أيضا: حدثني أبو طاهر، حدثني عبد الله بن وهب، أخبرني مالك وابن جريج عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ رمل ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر.
وقال عمر بن الخطاب: فيم الرملان والكشف عن المناكب، وقد أطد الله الإسلام ونفى الكفر، ومع ذلك لا نترك شيئا كنا نفعله مع رسول الله ﷺ.
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي من حديث هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم، عن أبيه عنه.
وهكذا كله رد على ابن عباس، ومن تابعه من أن المرسل ليس بسنة، لأن رسول الله إنما فعله لما قدم هو وأصحابه صبيحة رابعة - يعني: في عمرة القضاء -.
وقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا خشية الإبقاء عليهم.
وهذا ثابت عنه في الصحيحين، وتصريحه لعذر سببه في صحيح مسلم أظهر، فكان ابن عباس ينكر وقوع الرمل في حجة الوداع.
وقد صح بالنقل الثابت كما تقدم بل فيه زيادة تكميل الرمل من الحجر إلى الحجر، ولم يمش ما بين الركنين اليمانيين لزوال تلك العلة المشار إليها، وهي الضعف.
وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس أنهم رملوا في عمرة الجعرانة واضطبعوا، وهو رد عليه، فإن عمرة الجعرانة لم يبق في أيامها خوف، لأنها بعد الفتح كما تقدم.
رواه حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت واضطبعوا، ووضعوا أرديتهم تحت آباطهم وعلى عواتقهم.
ورواه أبو داود من حديث حماد بنحوه.
ومن حديث عبد الله بن خثيم عن أبي الطفيل، عن ابن عباس به.
فأما الاضطباع في حجة الوداع، فقد قال قبيصة والفريابي عن خثيم، عن أبي الطفيل، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن يعلى بن أمية، عن أمية قال: رأيت رسول الله ﷺ يطوف بالبيت مضطبعا.
رواه الترمذي من حديث الثوري وقال: حسن صحيح.
وقال أبو داود: ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه قال: طاف رسول الله مضطبعا برداء أخضر.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن وكيع، عن الثوري، عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه أن النبي ﷺ لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع، ببرد له أخضر.
وقال جابر في حديثه المتقدم: حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [البقرة: 125] .
فجعل المقام بينه وبين البيت، فذكر أنه صلى ركعتين قرأ فيهما: { قل هو الله أحد }، و { قل ياأيها الكافرون }.
فإن قيل: فهل كان عليه السلام في هذا الطواف راكبا أو ماشيا؟.
فالجواب: أنه قد ورد نقلان، قد يظن أنهما متعارضان، ونحن نذكرهما، ونشير إلى التوفيق بينهما، ورفع اللبس عند من يتوهم فيهما تعارضا، وبالله التوفيق وعليه الاستعانة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن صالح، ويحيى بن سليمان قالا: ثنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: طاف النبي ﷺ على بعيره في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن.
وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عن ابن وهب.
قال البخاري: تابعه الدراوردي عن ابن أخي الزهري، عن عمه، وهذه المتابعة غريبة جدا.
وقال البخاري: ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الوهاب، ثنا خالد الحذاء عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طاف النبي ﷺ بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه.
وقد رواه الترمذي من حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعبد الوارث، كلاهما عن خالد بن مهران الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف رسول الله ﷺ على راحلته، فإذا انتهى إلى الركن أشار إليه.
وقال: حسن صحيح.
ثم قال البخاري: ثنا مسدد، ثنا خالد بن عبد الله عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طاف النبي ﷺ بالبيت على بعير، فلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده، وكبر.
تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء، وقد أسند هذا التعليق ها هنا في كتاب الطواف عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر، عن إبراهيم بن طهمان به.
وروى مسلم عن الحكم بن موسى، عن شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله ﷺ طاف في حجة الوداع حول الكعبة على بعير، يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس.
فهذا إثبات أنه عليه السلام طاف في حجة الوداع على بعير، ولكن حجة الوداع كان فيها ثلاثة أطواف:
الأول: طواف القدوم.
والثاني: طواف الإفاضة وهو طواف الفرض، وكان يوم النحر.
والثالث: طواف الوداع.
فلعل ركوبه ﷺ كان في أحد الآخرين أو في كليهما.
فأما الأول: وهو طواف القدوم فكان ماشيا فيه، وقد نص الشافعي على هذا كله، والله أعلم وأحكم.
والدليل على ذلك: ما قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه (السنن الكبير): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، ثنا الفضل بن محمد بن المسيب، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق هو ابن يسار رحمه الله عن أبي جعفر وهو محمد بن علي بن الحسين، عن جابر بن عبد الله قال: دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى، فأتى النبي ﷺ باب المسجد، فأناخ راحلته ثم دخل المسجد، فبدأ بالحجر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا حتى فرغ، فلما فرغ قبل الحجر ووضع يده عليه، ومسح بهما وجهه. وهذا إسناد جيد.
فأما ما رواه أبو داود: حدثنا مسدد، ثنا خالد بن عبد الله، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، فلما أتى على الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين.
تفرد به يزيد ابن أبي زياد، وهو ضعيف، ثم لم يذكر أنه في حجة الوداع، ولا ذكر أنه في الطواف الأول من حجة الوداع، ولم يذكر ابن عباس في الحديث الصحيح عنه عند مسلم، وكذا جابر أن النبي ﷺ ركب في طوافه لضعفه، وإنما ذكر لكثرة الناس وغشيانهم له، وكان لا يحب أن يضربوا بين يديه، كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله.
ثم هذا التقبيل الثاني الذي ذكره ابن إسحاق في روايته بعد الطواف، وبعد ركعتيه أيضا، ثابت في صحيح مسلم من حديث جابر.
قال فيه بعد ذكر صلاة ركعتي الطواف: ثم رجع إلى الركن فاستلمه.
وقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وابن نمير جميعا عن أبي خالد قال أبو بكر: حدثنا أبو خالد الأحمر عن عبيد الله، عن نافع قال: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده قال: وما تركته منذ رأيت رسول الله ﷺ يفعله.
فهذا يحتمل: أنه رأى رسول الله ﷺ في بعض الطوافات، أو في آخر استلام فعل هذا لما ذكرنا.
أو أن ابن عمر لم يصل إلى الحجر لضعف كان به، أو لئلا يزاحم غيره فيحصل لغيره أذى به.
وقد قال رسول الله ﷺ لوالده ما رواه أحمد في مسنده: حدثنا وكيع، ثنا سفيان عن أبي يعفور العبدي قال: سمعت شيخا بمكة في إمارة الحجاج يحدث عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله ﷺ قال: «يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وكبر».
وهذا إسناد جيد، لكن راويه عن عمر مبهم لم يسم.
والظاهر: أنه ثقة جليل، فقد رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن أبي يعفور العبدي، واسمه: وقدان سمعت رجلا من خزاعة حين قتل ابن الزبير، وكان أميرا على مكة يقول: قال رسول الله لعمر: «يا أبا حفص إنك رجل قوي، فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فكبر وامض».
قال سفيان بن عيينة - هو عبد الرحمن بن الحارث -: كان الحجاج استعمله عليها منصرفه منها حين قتل ابن الزبير.
قلت: وقد كان عبد الرحمن هذا جليلا نبيلا كبير القدر، وكان أحد النفر الأربعة الذين ندبهم عثمان بن عفان في كتابة المصاحف التي نفذها إلى الآفاق، ووقع ما فعله الاجماع والاتفاق.