البداية والنهاية/الجزء الخامس/صفة دفنه عليه السلام وأين دفن
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، أخبرني أبي - وهو: عبد العزيز بن جريج - أن أصحاب النبي ﷺ لم يدروا أين يقبروا النبي ﷺ حتى قال أبو بكر: سمعت النبي ﷺ يقول: «لم يقبر نبي إلا حيث يموت».
فأخروا فراشه، وحفروا تحت فراشه ﷺ، وهذا فيه انقطاع بين عبد العزيز بن جريج وبين الصديق، فإنه لم يدركه.
لكن رواه الحافظ أبو يعلى من حديث ابن عباس وعائشة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم فقال: حدثنا أبو موسى الهروي، ثنا أبو معاوية، ثنا عبد الرحمن ابن أبي بكر عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: اختلفوا في دفن النبي ﷺ حين قبض، فقال أبو بكر: سمعت النبي ﷺ يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه».
فقال: ادفنوه حيث قبض.
وهكذا رواه الترمذي عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن عبد الرحمن ابن أبي بكر المليكي، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله ﷺ اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله شيئا ما نسيته قال: «ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه» ادفنوه في موضع فراشه.
ثم إن الترمذي ضعف المليكي ثم قال: وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، رواه ابن عباس عن أبي بكر الصديق، عن النبي ﷺ.
وقال الأموي عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن رجل حدثه عن عروة، عن عائشة أن أبا بكر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنه لم يدفن نبي قط إلا حيث قبض».
قال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن سهل التميمي، ثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان بالمدينة حفاران، فلما مات النبي ﷺ قالوا: أين ندفنه؟
فقال أبو بكر رضي الله عنه: في المكان الذي مات فيه، وكان أحدهما يلحد، والآخر يشق، فجاء الذي يلحد فلحد للنبي ﷺ.
وقد رواه مالك بن أنس عن هشام بن عروة، عن أبيه منقطعا.
وقال أبو يعلى: حدثنا جعفر بن مهران، ثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق، حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا للنبي ﷺ وكان أبو عبيدة الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي كان يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد، فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: إذهب إلى أبي عبيدة.
وقال للآخر: إذهب إلى أبي طلحة، اللهم خره لرسولك.
قال: فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به، فلحد لرسول الله ﷺ فلما فرغ من جهاز رسول الله ﷺ يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده.
وقال قائل: ندفنه مع أصحابه.
فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض»
فرفع فراش رسول الله ﷺ الذي توفي فيه، فحفروا له تحته، ثم أدخل الناس على رسول الله ﷺ يصلون عليه أرسالا دخل الرجال حتى إذا فرغ منهم أدخل النساء، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله ﷺ أحد، فدفن رسول الله ﷺ من أوسط الليل ليلة الأربعاء.
وهكذا رواه ابن ماجه عن نصر بن علي الجهضمي، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، فذكر بإسناده مثله، وزاد في آخره: ونزل في حفرته علي ابن أبي طالب، والفضل وقثم ابنا عباس، وشقران مولى رسول الله ﷺ.
قال أوس بن خولى - وهو أبو ليلى - لعلي ابن أبي طالب: أنشدك الله!وحظنا من رسول الله ﷺ قال له علي: إنزل، وكان شقران مولاه أخذ قطيفة كان رسول الله ﷺ يلبسها فدفنها في القبر وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك!
فدفنت مع رسول الله ﷺ.
وقد رواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن ابن إسحاق مختصرا.
وكذلك رواه يونس بن بكير وغيره عن ابن إسحاق به.
وروى الواقدي عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبي بكر الصديق، عن رسول الله ﷺ: «ما قبض الله نبيا إلا ودفن حيث قبض».
وروى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين أو محمد بن جعفر بن الزبير قال: لما مات رسول الله ﷺ اختلفوا في دفنه فقالوا: كيف ندفنه مع الناس، أو في بيوته؟
فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما قبض الله نبيا إلا دفن حيث قبض» فدفن حيث كان فراشه، رفع الفراش وحفر تحته.
وقال الواقدي: حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن عبد الرحمن بن سعيد - يعني: ابن يربوع - قال: لما توفي النبي ﷺ اختلفوا في موضع قبره فقال قائل: في البقيع فقد كان يكثر الإستغفار لهم.
وقال قائل: عند منبره.
وقال قائل: في مصلاه.
فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث توفي».
قال الحافظ البيهقي: وهو في حديث يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وفي حديث ابن جريج عن أبيه، كلاهما عن أبي بكر الصديق، عن النبي ﷺ مرسلا.
وقال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سلمة بن نبيط بن شريط، عن أبيه، عن سالم بن عبيد - وكان من أصحاب الصفة - قال: دخل أبو بكر على رسول الله ﷺ حين مات ثم خرج فقيل له: توفي رسول الله ﷺ؟
قال: نعم!فعلموا أنه كما قال.
وقيل له: أنصلي عليه، وكيف نصلي عليه؟
قال: تجيئون عصبا عصبا فتصلون، فعلموا أنه كما قال.
قالوا: هل يدفن، وأين؟
قال: حيث قبض الله روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، فعلموا أنه كما قال.
وروى البيهقي من حديث سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب قال: عرضت عائشة على أبيها رؤيا وكان من أعبر الناس، قالت: رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجري.
فقال لها: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة، فلما قبض رسول الله ﷺ قال يا عائشة: هذا خير أقمارك.
ورواه مالك عن يحيى بن سعيد، عن عائشة منقطعا.
وفي الصحيحين عنها أنها قالت: توفي النبي ﷺ في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه في آخر ساعة من الدنيا وأول ساعة من الآخرة.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي عوانة عن هلال الوراق، عن عروة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ في مرضه الذي مات فيه يقول: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.
وقال ابن ماجه: حدثنا محمود بن غيلان، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا مبارك بن فضالة، حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: لما توفي رسول الله ﷺ وكان بالمدينة رجل يلحد، والآخر يضرح فقالوا: نستخير الله ونبعث إليهما، فأيهما سبق تركناه، فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبي ﷺ.
تفرد به ابن ماجه.
وقد رواه الإمام أحمد عن أبي النضر هاشم بن القاسم به.
وقال ابن ماجه أيضا: حدثنا عمر بن شبة عن عبيدة بن يزيد، ثنا عبيد بن طفيل، ثنا عبد الرحمن ابن أبي مليكة، حدثني ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: لما مات رسول الله ﷺ اختلفوا في اللحد والشق حتى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم.
فقال عمر: لا تصخبوا عند رسول الله ﷺ حيا، ولا ميتا - أو كلمة نحوها - فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد جميعا، فجاء اللاحد فلحد لرسول الله ﷺ ثم دفن.
تفرد به ابن ماجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا العمري عن نافع، عن ابن عمر، وعن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشه أن رسول الله ﷺ ألحد له لحد.
تفرد به أحمد من هذين الوجهين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن شعبة وابن جعفر، ثنا شعبة، حدثني أبو حمزة عن ابن عباس قال: جعل في قبر النبي ﷺ قطيفة حمراء.
وقد رواه مسلم، والترمذي، والنسائي من طرق عن شعبة به.
وقد رواه وكيع عن شعبة وقال وكيع: كان هذا خاصا برسول الله ﷺ.
رواه ابن عساكر.
وقال ابن سعد: أنبانا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا أشعث بن عبد الملك الحمراني عن الحسن أن رسول الله ﷺ بسط تحته قطيفة حمراء كان يلبسها قال: وكانت أرضا ندية.
وقال هشيم بن منصور عن الحسن قال: جعل في قبر النبي ﷺ قطيفة حمراء كان أصابها يوم حنين.
قال الحسن: جعلها لأن المدينة أرض سبخة.
وقال محمد بن سعد: ثنا حماد بن خالد الخياط عن عقبة ابن أبي الصهباء سمعت الحسن يقول: قال رسول الله ﷺ: «إفرشوا لي قطيفة في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء».
وروى الحافظ البيهقي من حديث مسدد، ثنا عبد الواحد، ثنا معمر عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال علي: غسلت النبي ﷺ فذهبت أنظر إلى ما يكون من الميت فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا.
قال: وولي دفنه عليه الصلاة والسلام وإجنانه دون الناس أربعة: علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى النبي ﷺ، ولحد للنبي ﷺ لحدا، ونصب عليه اللبن نصبا.
وذكر البيهقي عن بعضهم أنه نصب على لحده عليه السلام تسع لبنات.
وروى الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن عباس بن عبد الله بن معبد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ موضوعا على سريره من حين زاغت الشمس من يوم الإثنين إلى أن زاغت الشمس يوم الثلاثاء يصلي الناس عليه، وسريره على شفير قبره، فلما أرادوا أن يقبروه عليه السلام نحوا السرير قبل رجليه فأدخل من هناك، ودخل في حفرته العباس، وعلي، وقثم، والفضل، وشقران.
وروى البيهقي من حديث إسماعيل السدي عن عكرمة، عن ابن عباس قال: دخل قبر رسول الله ﷺ العباس، وعلي، والفضل، وسوى لحده رجل من الأنصار، وهو الذي سوى لحود قبور الشهداء يوم بدر.
قال ابن عساكر: صوابه يوم أحد.
وقد تقدم رواية ابن إسحاق عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان الذين نزلوا في قبر رسول الله: علي، والفضل، وقثم، وشقران، وذكر الخامس وهو أوس بن خولي، وذكر قصة القطيفة التي وضعها في القبر شقران.
وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو طاهر المحمد آبادي، ثنا أبو قلابة، ثنا أبو عاصم، ثنا سفيان بن سعيد - هو: الثوري عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن الشعبي قال: حدثني أبو مرحب قال: كأني أنظر إليهم في قبر النبي ﷺ أربعة، أحدهم عبد الرحمن بن عوف.
وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن الصباح، عن سفيان، عن إسماعيل ابن أبي خالد به.
ثم رواه أحمد بن يونس عن زهير، عن إسماعيل، عن الشعبي، حدثني مرحب أو أبو مرحب أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف فلما فرغ علي قال: إنما يلي الرجل أهله، وهذا حديث غريب جدا، وإسناده جيد قوي، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد قال أبو عمر بن عبد البر في (استيعابه): أبو مرحب اسمه سويد بن قيس.
وذكر أبا مرحب آخر وقال: لا أعرف خبره.
قال ابن الأثير في (الغابة): فيحتمل أن يكون راوي هذا الحديث أحدهما، أو ثالثا غيرهما، ولله الحمد.