البداية والنهاية/الجزء الخامس/فصل فيمن تخلف معذورا من البكائين وغيرهم
قال الله تعالى: { وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين * رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم * وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم * ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون * إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون } [التوبة: 86 - 93] .
قد تكلمنا على تفسير هذا كله في التفسير بما فيه كفاية، ولله الحمد والمنة.
والمقصود ذكر البكائين الذين جاؤا إلى رسول الله ﷺ ليحملهم حتى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه، فرجعوا وهم يبكون تأسفا على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله، والنفقة فيه.
قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم.
فمن بني عمرو بن عوفي: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقولون: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى، وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان.
فقال: ما يبكيكما؟
قالا: جئنا رسول الله ﷺ ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له، فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر، فخرجا مع النبي ﷺ.
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد، فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى وقال: (اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم فيه بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو جسد أو عرض).
ثم أصبح مع الناس فقال رسول الله ﷺ: «أين المتصدق هذه الليلة؟».
فلم يقم أحد.
ثم قال: «أين المتصدق فليقم».
فقام إليه فأخبره.
فقال رسول الله ﷺ: «أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة».
وقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا حديث أبي موسى الأشعري فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الحميد المازني، حدثنا أبو أسامة عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله ﷺ أسأله لهم الحملان، إذ هم معه في جيش العسرة غزوة تبوك.
فقلت: يا نبي الله!إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم.
فقال: «والله لا أحملكم على شيء».
ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزينا من منع رسول الله ﷺ ومن مخافة أن يكون رسول الله ﷺ قد وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله ﷺ، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس؟
فأجبته فقال: أجب رسول الله ﷺ يدعوك فلما أتيت رسول الله ﷺ قال: «خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين»
لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فقال: «انطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن».
قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي فقلت: إن رسول الله ﷺ يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم، حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله، حين سألته لكم ومنعه لي في أول مرة، ثم إعطائه إياي بعد ذلك، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله.
فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت.
قال: فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله ﷺ من منعه إياهم ثم إعطائه بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء.
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا عن أبي كريب، عن أبي أسامة.
وفي رواية لهما: عن أبي موسى قال: أتيت رسول الله ﷺ في رهط من الأشعريين ليحملنا.
فقال: «والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه»
قال: ثم جيء رسول الله ﷺ بنهب إبل فأمر لنا بست ذودعر الذرى، فأخذناها.
ثم قلنا: يعقلنا رسول الله ﷺ يمينه، والله لا يبارك لنا، فرجعنا له.
فقال: «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم».
ثم قال: «وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها».
قال ابن إسحاق: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة، حتى تخلفوا عن رسول الله ﷺ من غير شك ولا ارتياب.
منهم: كعب بن مالك ابن أبي كعب أخو بني سلمة، ومرارة بن ربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم.
قلت: أما الثلاثة الأول فستأتي قصتهم مبسوطة قريبا إن شاء الله تعالى الذين، وهم أنزل الله فيهم: { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم }. [التوبة: 118] .
وأما أبو خيثمة: فإنه عاد وعزم على اللحوق برسول الله ﷺ كما سيأتي.