البداية والنهاية/الجزء الخامس/ذكر إفاضته صلى الله عليه وسلم إلى البيت العتيق
قال جابر: ثم ركب رسول الله ﷺ فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم.
فقال: «انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن تغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوا فشرب منه. رواه مسلم.
ففي هذا السياق ما يدل على أنه عليه السلام ركب الى مكة قبل الزوال فطاف بالبيت، ثم لما فرغ صلى الظهر هناك.
وقال مسلم أيضا: أخبرنا محمد بن رافع، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى.
وهذا خلاف حديث جابر، وكلاهما عند مسلم.
فإن عللنا بهما أمكن أن يقال: أنه عليه السلام صلى الظهر بمكة، ثم رجع إلى منى، فوجد الناس ينتظرونه فصلى بهم، والله أعلم.
ورجوعه عليه السلام إلى منى في وقت الظهر ممكن، لأن ذلك الوقت كان صيفا والنهار طويل، وإن كان قد صدر منه عليه السلام أفعال كثيرة في صدر هذا النهار، فإنه دفع فيه من المزدلفة بعد ما أسفر الفجر جدا ولكنه قبل طلوع الشمس، ثم قدم منى فبدأ برمي جمرة العقبة بسبع حصيات.
ثم جاء فنحر بيده ثلاثا وستين بدنة، ونحر علي بقية المائة، ثم أخذت من كل بدنة بضعة، ووضعت في قدر وطبخت حتى نضجت فأكل من ذلك اللحم، وشرب من ذلك المرق.
وفي غبون ذلك حلق رأسه عليه السلام وتطيب، فلما فرغ من هذا كله ركب إلى البيت، وقد خطب عليه السلام في هذا اليوم خطبة عظيمة، ولست أدري أكانت قبل ذهابه إلى البيت أو بعد رجوعه منه إلى منى، فالله أعلم.
والقصد أنه ركب الى البيت فطاف به سبعة أطواف راكبا، ولم يطف بين الصفا والمروة، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر وعائشة رضي الله عنهما ثم شرب من ماء زمزم، ومن نبيذ تمر من ماء زمزم.
فهذا كله مما يقوي قول من قال: إنه عليه السلام صلى الظهر بمكة كما رواه جابر.
ويحتمل أنه رجع الى منى في آخر وقت الظهر، فصلى بأصحابه بمنى الظهر أيضا.
وهذا هو الذي أشكل على ابن حزم، فلم يدر ما يقول فيه، وهو معذور لتعارض الروايات الصحيحة فيه، والله أعلم.
وقال أبو داود: ثنا علي بن بحر، وعبد الله بن سعيد المعني قالا: ثنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: أفاض رسول الله ﷺ من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمى الجمرة، إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة.
قال ابن حزم: فهذا جابر وعائشة قد اتفقا على أنه عليه السلام صلى الظهر يوم النحر بمكة، وهما والله أعلم أضبط لذلك من ابن عمر.
كذا قال: وليس بشيء، فإن رواية عائشة هذه ليست ناصة أنه عليه السلام صلى الظهر بمكة، بل محتملة إن كان المحفوظ في الرواية حتى صلى الظهر، وإن كانت الرواية حين صلى الظهر، وهو الأشبه، فإن ذلك دليل على أنه عليه السلام صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت، وهو محتمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعلى هذا فيبقى مخالفا لحديث جابر، فإن هذا يقتضي أنه صلى الظهر بمنى قبل أن يركب إلى البيت.
وحديث جابر يقتضي أنه ركب إلى البيت قبل أن يصلي الظهر، وصلاها بمكة.
وقد قال البخاري: وقال أبو الزبير عن عائشة وابن عباس: أخر النبي ﷺ يعني: طواف الزيارة إلى الليل وهذا والذي علقه البخاري، فقد وراه الناس من حديث يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وفرج بن ميمون عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن عائشة وابن عباس أن النبي ﷺ أخر الطواف يوم النحر إلى الليل.
ورواه أهل السنن الأربعة من حديث سفيان به.
وقال الترمذي: حسن.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله، ثنا سفيان عن أبي الزبير، عن عائشة، وابن عمر أن رسول الله ﷺ زار ليلا.
فإن حمل هذا على أنه أخر ذلك إلى ما بعد الزوال، كأنه يقول: إلى العشي صح ذلك.
وأما إن حمل على ما بعد الغروب فهو بعيد جدا.
ومخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة من أنه عليه السلام طاف يوم النحر نهارا، وشرب من سقاية زمزم.
وأما الطواف الذي ذهب في الليل إلى البيت بسببه فهو طواف الوداع.
ومن الرواة من يعبر عنه بطواف الزيارة كما سنذكره إن شاء الله، أو طواف زيارة محضة قبل طواف الوداع وبعد طواف الصدر الذي هو طواف الفرض.
وقد ورد حديث سنذكره في موضعه.
أن رسول الله كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى، وهذا بعيد أيضا، والله أعلم.
وقد روى الحافظ البيهقي من حديث عمرو بن قيس عن عبد الرحمن، عن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله أذن لأصحابه، فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار رسول الله ﷺ مع نسائه ليلا.
وهذا حديث غريب جدا أيضا.
وهذا قول طاوس وعروة بن الزبير أن رسول الله ﷺ أخر الطواف يوم النحر إلى الليل.
والصحيح من الروايات، وعليه الجمهور: أنه عليه السلام طاف يوم النحر بالنهار، والأشبه أنه كان قبل الزوال، ويحتمل أن يكون بعده، والله أعلم.
والمقصود: أنه عليه السلام لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا وهو راكب، ثم جاء زمزم وبنو عبد المطلب يستقون منها، ويسقون الناس فتناول منها دلوا فشرب منه وأفرغ عليه منه.
كما قال مسلم: أخبرنا محمد بن منهال الضرير، ثنا يزيد بن زريع، ثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني سمع ابن عباس يقول: وهو جالس معه عند الكعبة، قدم النبي ﷺ على راحلته، وخلفه أسامة فأتيناه بإناء فيه نبيذ فشرب، وسقى فضله أسامة.
وقال: «أحسنتم وأجملتم هكذا فاصنعوا».
قال ابن عباس: فنحن لا نريد أن نغير ما أمر به رسول الله ﷺ.
وفي رواية عن بكر أن أعرابيا قال لابن عباس: مالي أرى بني عمكم يسقون اللبن والعسل، وأنتم تسقون النبيذ، أمن حاجة بكم أم من بخل؟.
فذكر له ابن عباس هذا الحديث.
وقال أحمد: حدثنا روح، ثنا حماد عن حميد، عن بكر، عن عبد الله أن أعرابيا قال لابن عباس: ما شأن آل معاوية يسقون الماء والعسل، وآل فلان يسقون اللبن، وأنتم تسقون النبيذ، أمن بخل بكم أم حاجة؟
فقال ابن عباس: ما بنا بخل ولا حاجة، ولكن رسول الله ﷺ جاءنا ورديفه أسامة بن زيد، فاستسقى فسقيناه من هذا - يعني: نبيذ السقاية - فشرب منه.
وقال: «أحسنتم هكذا فاصنعوا».
ورواه أحمد عن روح ومحمد بن بكر عن ابن جريج، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، وداود بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس فذكره.
وروى البخاري عن إسحاق بن سليمان، حدثنا خالد عن خالد الحذاء، عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله جاء الى السقاية فاستقى.
فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله بشراب من عندها.
فقال: «اسقني!»
فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه.
قال: «اسقني!»
فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها.
فقال: «اعملوا فإنكم على عمل صالح».
ثم قال: «لولا أن تغلبوا لنزعت حتى أضع الحبل على هذه - يعني: عاتقه - وأشار إلى عاتقه».
وعنده من حديث عاصم عن الشعبي أن ابن عباس قال: سقيت النبي ﷺ من زمزم فشرب وهو قائم.
قال عاصم: فحلف عكرمة - ما كان يومئذ إلا على بعير -.
وفي رواية: ناقته.
وقال الإمام أحمد: ثنا هشيم، ثنا يزيد ابن أبي زياد عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ طاف بالبيت وهو على بعير، واستلم الحجر بمحجن كان معه قال: وأتى السقاية فقال: «أسقوني!».
فقالوا: إن هذا يخوضه الناس، ولكنا نأتيك به من البيت.
فقال: «لا حاجة لي فيه اسقوني مما تشرب الناس».
وقد روى أبو داود عن مسدد، عن خالد الطحان، عن يزيد ابن أبي زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قدم رسول الله مكة ونحن نستقي فطاف على راحلته - الحديث -.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح وعفان قالا: ثنا حماد عن قيس وقال عفان في حديثه: أنبأنا قيس عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: جاء النبي ﷺ إلى زمزم فنزعنا له دلوا فشرب، ثم مج فيها ثم أفرغناها في زمزم ثم قال: «لولا أن تغلبوا عليها لنزعت بيدي».
انفرد به أحمد وإسناده على شرط مسلم.