البداية والنهاية/الجزء الخامس/باب ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيان أن النبي ﷺ لم يترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شاة، ولا بعيرا، ولا شيئا يورث عنه، بل أرضا جعلها كلها صدقة لله عز وجل.
فإن الدنيا بحذافيرها كانت أحقر عنده كما هي عند الله من أن يسعى لها أو يتركها بعده ميراثا صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
قال البخاري: حدثنا قتيبة، ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن عمرو بن الحارث قال: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة.
انفرد به البخاري دون مسلم، فرواه في أماكن من صحيحه من طرق متعددة عن أبي الأحوص، وسفيان الثوري، وزهير بن معاوية.
ورواه الترمذي من حديث إسرائيل، والنسائي أيضا من حديث يونس ابن أبي إسحاق، كلهم عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق ابن أبي ضرار أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما به.
وقد رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش وابن نمير عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا، ولا أوصى بشيء.
وهكذا رواه مسلم منفردا به عن البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طرق متعددة عن سليمان بن مهران الأعمش، عن شقيق بن سلمة أبي وائل، عن مسروق بن الأجدع، عن أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها وأرضاها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا أمة، ولا عبدا، ولا شاة، ولا بعيرا.
وحدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عائشة: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا.
قال سفيان: وأكثر علمي وأشك في العبد والأمة.
وهكذا رواه الترمذي في (الشمائل) عن بندار، عن عبد الرحمن بن مهدي به.
قال الإمام أحمد: وحدثنا وكيع، ثنا مسعر عن عاصم ابن أبي النجود، عن زر، عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شاة، ولا بعيرا.
هكذا رواه الإمام أحمد من غير شك.
وقد رواه البيهقي عن أبي زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأنا جعفر بن عون، أنبأنا مسعر عن عاصم، عن زر قال: قالت عائشة: تسألوني عن ميراث رسول الله ﷺ ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة.
قال مسعر: أراه قال: ولا شاة ولا بعيرا.
قال: وأنبأنا مسعر عن عدي بن ثابت، عن علي بن الحسين قال: ما ترك رسول الله ﷺ دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة أن رسول الله ﷺ اشترى طعاما من يهودي إلى أجل، ورهنه درعا من حديد.
وفي لفظ للبخاري رواه عن قبيصة، عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين.
ورواه البيهقي من حديث يزيد بن هارون عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود عنها قالت: توفي النبي ﷺ ودرعه مرهونة بثلاثين صاعا من شعير.
ثم قال: رواه البخاري عن محمد بن كثير، عن سفيان.
ثم قال البيهقي: أنبأنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أبو بكر محمد بن حمويه العسكري، ثنا جعفر بن محمد القلانسي، ثنا آدم، ثنا شيبان عن قتادة، عن أنس قال: لقد دعي رسول الله ﷺ على خبز شعير، وإهالة سنخة.
قال أنس: ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «والذي نفس محمد بيده ما أصبح عند آل محمد صاع بر، ولا صاع تمر».
وإن له يومئذ تسع نسوة، ولقد رهن درعا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه طعاما فما وجد ما يفتكها به حتى مات ﷺ.
وقد روى ابن ماجه بعضه من حديث شيبان بن عبد الرحمن النحوي عن قتادة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا ثابت، ثنا هلال عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي ﷺ نظر إلى أحد فقال: «والذي نفسي بيده ما يسرني أحدا لآل محمد ذهبا أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران إلا أن أرصدهما لدين».
قال: فمات فما ترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة، فترك درعه رهنا عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير.
وقد روى آخره ابن ماجه عن عبد الله بن معاوية الجمحي، عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب العبدي الكوفي به، ولأوله شاهد في الصحيح من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، وأبو سعيد، وعفان قالوا: حدثنا ثابت - هو ابن يزيد - ثنا هلال - هو ابن خباب - عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي ﷺ دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله لو اتخذت فراشا أوثر من هذا.
فقال: «مالي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها».
تفرد به أحمد وإسناده جيد، وله شاهد من حديث ابن عباس عن عمر في المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله ﷺ، وقصة الإيلاء، وسيأتي الحديث مع غيره مما شاكله في بيان زهده عليه السلام، وتركه الدنيا وإعراضه عنها، وإطراحه لها، وهو مما يدل على ما قلناه من أنه عليه السلام لم تكن الدنيا عنده ببال.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، ثنا عبد العزيز بن رفيع قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال ابن عباس: ما ترك رسول الله ﷺ إلا ما بين هذين اللوحين.
قال: ودخلنا على محمد بن علي فقال مثل ذلك.
وهكذا رواه البخاري عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة به.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، ثنا مالك بن مغول عن طلحة قال: سألت عبد الله ابن أبي أوفى أأوصى النبي ﷺ؟
فقال: لا!
فقلت: كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بها؟
قال: أوصى بكتاب الله عز وجل.
وقد رواه البخاري أيضا، ومسلم، وأهل السنن إلا أبا داود من طرق عن مالك بن مغول به.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول.
تنبيه: قد ورد أحاديث كثيرة سنوردها قريبا بعد هذا الفصل في ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه، وإماء، وعبيد، وخيول، وإبل، وغنم، وسلاح، وبغلة، وحمار، وثياب، وأثاث، وخاتم، وغير ذلك مما سنوضحه بطرقه ودلائله، فلعله عليه السلام تصدق بكثير منها في حياته منجزا، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده، وأرصد ما أرصده من أمتعته مع ما خصه الله به من الأرضين من بني النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين، على ما سنبينه إن شاء الله، إلا أنه لم يخلف من ذلك شيئا يورث عنه قطعا، لما سنذكره قريبا، وبالله المستعان.