انتقل إلى المحتوى

السيرة الحلبية/الجزء الرابع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


غزوة حنين

اسم موضع قريب من الطائف. وفي كلام بعضهم: إلى جنب ذي المجاز، وهو سوق الجاهلية، وتقدم ذكره. وفي كلام بعض آخر: اسم لما بين مكة والطائف، ويقال لها غزوة هوازن، ويقال لها غزوة أوطاس باسم الموضع الذي كانت به الوقعة في آخر الأمر.

أي وسببها أنه لما فتح الله تعالى على رسول الله مكة أطاعت له قبائل العرب إلا هوازن وثقيفا، فإن أهلهما كانوا طغاة عتاة مردة.

قال: قال أئمة المغازي: لما فتح الله على رسوله مكة مشت أشراف هوازن وثقيف بعضها إلى بعض، فأشفقوا: أي خافوا أن يغزوهم رسول الله وقالوا: قد فرغ لنا، فلا ناهية: أي لا مانع له دوننا، والرأي أن يغزونا، فحشدوا وبغوا وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال، فأجمعت هوازن أمرها. ا هـ. أي جمعوا، وكان جماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصيري: أي بالصاد المهملة رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك فاجتمع إليه من القبائل جموع كثيرة فيهم بنو سعد بن بكر وهم الذين كان رسول الله مسترضعا فيهم وحضر معهم دريد بن الصمة، وكان شجاعا مجرّبا لكنه كبر أي لأنه بلغ مائة وعشرين سنة، وقيل مائة وخمسين، وقيل مائة وسبعين: أي وقيل قارب المائتين قاله ابن الجوزي، وقد عمي وصار لا ينتفع إلا برأيه ومعرفته بالحرب: أي لأنه كان صاحب رأي وتدبير ومعرفة بالحروب، وكان قائد ثقيف ورئيسهم كنانة بن عبد ياليل رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، وقيل قارب بن الأسود وكان سن مالك بن عوف إذ ذاك ثلاثين سنة، فأمر الناس بأخذ أموالهم ونسائهم وأبنائهم معهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة، فقال دريد للناس: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس، قال: نعم محل الخيل. وفي لفظ: مجال الخيل بالجيم لا حزن ضرس. والحزن: بفتح الحاء المهملة وإسكان الزاي وبالنون: ما غلظ من الأرض. والضرس بكسر الضاد المعجمة وإسكان الراء وبالسين المهملة: ما صلب من الأرض، ولا سهل دهس. والسهل: ضدّ الحزن. والدهس بفتح الدال المهملة والهاء وبالسين المهملة: اللين كثير التراب، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير بضم النون: أي صوتها، وبكاء الصغير، ويعار الشاء. واليعار بضم المثناة تحت وبالعين المهملة المخففة والراء: صوت الشاء: أي وخوار البقر أي صوتها، قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم.

قال ابن مالك: أي وكان توافق معه على أن لا يخالفه، فإنه قال له إنك تقاتل رجلا كريما قد أوطأ العرب، وخافته العجم، وأجلى يهود الحجاز، أي غالبهم، إما قتلا، وإما خروجا عن ذل وصغار، فقال له: لا نخالفنك في أمر تراه، فقيل له: هذا مالك، فقال: يا مالك أما إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء، وخوار البقر؟ قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فأنقض به. قال أبو ذر: أي زجره كما تزجر الدابة، وهو أن يلصق اللسان بالحنك الأعلى ويصوت به، وهو معنى قول الأصل: أي صوّت بلسانه في فيه، ثم قال له: راعي. وفي لفظ: رويعي ضأن، والله ماله وللحرب، ثم أشار عليه برد الذرية والأموال وقال: هل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قال: ما فعلت كعب وكلب؟ قالوا: لم يشهدها منهم أحد، قال: غاب الحد والجد، الأول بفتح الحاء المهملة والثاني بالمعجمة مكسورة ضد الهزل، وبفتحها الحظ، لو كان يوم علا ورفعة ما غابا، ثم أشار عليه بأمور لم يقبلها مالك منه وقال: والله لا أطيعك، إنك قد كبرت وضعف رأيك، فقال دريد لهوازن: قد شرط يعني مالكا أن لا يخالفني فقد خالفني، فأنا أرجع إلى أهلي فمنعوه، وقال مالك: والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها رأي أو ذكر، قالوا: أطعناك: أي ثم جعل النساء فوق الإبل وراء المقاتلة صفوفا، ثم جعلوا الإبل صفوفا والبقر والغنم وراء ذلك لئلا يفروا. وفي لفظ: صفت الخيل ثم الرجالة المقاتلة، ثم صفت النساء على الإبل، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم، ثم قال للناس: إذا رأيتموهم شدوا عليهم شدة رجل واحد، وبعث عيونا له: أي وهم ثلاثة أنفار أرسلهم لينظروا إلى رسول الله، فأتوا وقد تفرقت أوصالهم قال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيول بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، وإن أطعتنا رجعنا بقومك، فقال: أف لكم، بل أنتم أجبن العسكر، فلم يرده ذلك، ومضى على ما يريده.

ولما سمع رسول الله باجتماعهم أرسل إليهم رجلا من أصحابه، أي وهو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل فيهم ويسمع منهم ما أجمعوا عليه، فدخل فيهم: أي ومكث فيهم يوما أو يومين وسمع، ثم أتى رسول الله فأخبره الخبر: أي وجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشبابهم، اجتمعوا إلى حنين، فتبسم وقال: تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى. فأجمع رسول الله أمر السير إلى هوازن، وذكر له أن عند صفوان بن أمية ـ ولم يكن أسلم يومئذ بل كان مؤمنا ـ أدرعا وسلاحا، فأرسل إليه فقال: يا أبا أمية أعرنا سلاحك نلق به عدونا غدا، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ فقال: بل عارية، وهى مضمونة حتى نؤديها إليك، قال: ليس بهذا بأس. وفي رواية الإمام أحمد قال صفوان: عارية مؤداة، فقال: العارية مؤداة، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح. قيل وسأله أن يكفيهم حملها ففعل. وذكر أن بعض تلك الأدراع ضاع، فعرض عليه رسول الله أن يضمنها له، فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب.

قال: واستعار من ابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح، فقال له: كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين ا هـ أي وتقدم أن نوفلا هذا فدى نفسه وكان في أسرى بدر بألف رمح.

وخرج رسول الله في اثني عشر ألفا: ألفان من أهل مكة، والعشرة آلاف الذين فتح الله بهم مكة أي على ما تقدم.

قال بعضهم: وخرج أهل مكة ركبانا ومشاة حتى النساء يمشين على غير وهن يرجون الغنائم ولا يكرهون: أي من لم يصدق إيمانه أن الضيعة، وفي لفظ أن الصدمة برسول الله وأصحابه: أي فقد خرج معه وأصحابه ثمانون من المشركين منهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، فلما قربوا من محل العدو صفهم ووضع الألوية والرايات مع المهاجرين والأنصار، فلواء المهاجرين أعطاه عليا كرم الله وجهه، وأعطى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه راية، وأعطى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه راية، ولواء الخزرج أعطاه الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه، ولواء الأوس أعطاه أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه.

وفي سيرة الدمياطي: وفي كل بطن من الأوس والخزرج لواء وراية يحملها رجل منهم، وكذلك قبائل العرب فيها الألوية والرايات يحملها رجال منهم، وركب بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة، والدرعان هما ذات الفضول والسغدية بالسين المهملة والغين المعجمة: وهي درع داود التي لبسها حين قتل جالوت ومروا بشجر سدرة كان المشركون يعظمونها وينوطون بها أسلحتهم: أي يعلقونها بها، فقالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، فقال رسول الله : الله أكبر، هذا كما قال قوم موسى : {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} «لتركبن سنن من كان قبلكم» فلما كان بحنين وانحدروا الوادي، أي وذلك عند غبش الصبح خرج عليهم القوم وكانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه، وذلك بإشارة دريد بن الصمة، فإنه قال لمالك: اجعل لك كمينا يكون لك عونا إن حمل القوم عليك جاءهم الكمين من خلفهم وكررت أنت بمن معك، وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم أحد، فحملوا عليهم حملة رجل واحد، أي وكانوا رماة فاستقبلوهم بالنبل كأنهم جراد منتشر، لا يكاد يسقط لهم سهم.

أي وعن البراء رضي الله تعالى عنه وسأله رجل، فقال: فررتم عن رسول الله يوم حنين، فقال: ولكن رسول الله لم يفر.

وأما ما روي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: مررت على رسول الله منهزما، فمنهزما حال من سلمة لا من النبي لأنه لم ينهزم قط في موطن من المواطن كما تقدم.

وعن البراء رضي الله عنه: كانت هوازن ناسا رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، فأخذ المسلمون راجعين منهزمين لا يلوي أحد على أحد. أي ويقال إن الطلقاء وهم أهل مكة قال بعضهم لبعض: أي من كان إسلامه مدخولا منهم اخذلوه هذا وقته فانهزموا، فهم أول من انهزم وتبعهم الناس. وعند ذلك قال أبو قتادة رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه: ما شأن الناس؟ قال أمر الله.

وهذا السياق يدل على أنهم انهزموا مرتين: الأولى في أول الأمر، والثانية عند انكباب المسلمين على أخذ الغنائم. والذي في الأصل الاقتصار على الأولى.

وانحاز رسول الله ذات اليمين ومعه نفر قليل، منهم أبو بكر وعمر وعليّ والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان ابن أخيه الحارث وربيعة بن الحارث ومعتب ابن عمه أبي لهب، وفقئت عينه، ولم أقف على أيهما كانت، أي ووردت في عدّ من ثبت معه روايات مختلفة، فقيل مائة، وقيل ثمانون، وقيل اثنا عشر، وقيل عشرة، وقيل كانوا ثلاثمائة.

ولا مخالفة لامكان الجمع، وصار رسول الله يقول: «أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله إني عبد الله ورسوله».

وعن العباس رضي الله عنه: كنت آخذا بحكمة بغلة رسول الله : أي وهي الشهباء التي أهداها له فروة بن عمرو الجزامي، أي صاحب البلقاء وعامل ملك الروم على فلسطين يقال لها فضة. وقيل التي يقال لها دلدل التي أهداها له المقوقس. وفي البخاري التي أهداها له ملك أيلة. قال بعضهم: والأول أثبت.

ويدل للثاني ما أخرجه أبو نعيم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «انهزم المسلمون بحنين ورسول الله على بغلته الشهباء وكان يسميها دلدل، فقال لها رسول الله : دلدل البدي، فألزقت بطنها بالأرض» الحديث. وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه وهو يقول حين رأى ما رأى من الناس: «إلى أين أيها الناس؟ فلم أر الناس يلوون على شيء، فقال: يا عباس اصرخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة» يعني الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان.

وفي لفظ: «يا عباس اصرخ بالمهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، وبالأنصار الذين آووا ونصروا» أي وإنما خص العباس بذلك، لأنه كان عظيم الصوت، كان صوته يسمع من ثمانية أميال، كان يقف على سلع وينادي غلمانه آخر الليل وهم بالغابة فيسمعهم، وبين سلع والغابة ثمانية أميال.

وغارت الخيل يوما على المدينة، فنادى: واصباحاه فلم تسمعه حامل إلا وضعت من عظم صوته.

وفي لفظ آخر: نادى يا أصحاب السمرة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، أي وخص سورة البقرة بالذكر، لأنها أول سورة نزلت في المدينة، لأن فيها {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} وفيها: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}وفيها: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله}. وفي لفظ: نادى: «يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بني الخزرج. خصهم بالذكر بعد التعميم لأنهم كانوا صبرا في الحرب. أو غلب فأجابوا لبيك لبيك. وفي لفظ: يا لبيك يا لبيك».

أي وفي البخاري: «لما أدبروا عنه حتى بقي وحده، فنادى يومئذ نداءين التفت عن يمينه، فقال: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك، ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك».

ويجوز أن يكون هذا بعد نداء العباس وقربهم منه، وصار الرجل يلوي بعيره فلا يقدر على ذلك، أي لكثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤمّ الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله. قال بعضهم: فما شبهت عطفة الأنصار على رسول الله إلا عطفة الإبل. وفي لفظ: عطفة البقر على أولادها فلرماحهم أخوف عندي على رسول الله من رماح الكفار، حتى إذا انتهى إليه من الناس مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا، وأشرف رسول الله فنظر إلى القوم وهم يجتلدون، أي وكان شعارهم كيوم فتح مكة، فقال: «الآن حمي الوطيس»، وهو حجارة توقد العرب تحتها النار يشوون عليها اللحم. والوطيس في الأصل: التنور، وهذه من الكلمات التي لم تسمع إلا منه، وهي مثل يضرب لشدة الحرب: أي وصار يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، وهذا السياق يدل على أن المائة انتهت إليه بعد الهزيمة، وهو يؤيد القول بأن الذين ثبتوا معه لم يبلغوا المائة.

وفي رواية: لما انكشف الناس عنه يوم حنين قال لحارثه، بالحاء المهملة، ابن النعمان: يا حارثة كم ترى الناس الذين ثبتوا؟ فحزرتهم مائة، فقلت: يا رسول الله مائة، فلما كان يوم من الأيام مررت على رسول الله وهو يناجي جبريل عند باب المسجد، فقال جبريل : يا محمد من هذا؟ فقال رسول الله : حارثة بن النعمان، فقال جبريل : هو أحد المائة الصابرة يوم حنين، لو سلم لرددت . قال: فلما أخبرني بذلك رسول الله. قلت له: ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقفا معك.

وفي رواية: لما فر الناس يوم حنين عن النبي لم يبق معه إلا أربعة: ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم: علي بن أبي طالب، والعباس وهما بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من جانبه الأيسر، ولا يقبل أحد من المشركين جهته إلا قتل.

وذكر بعضهم أنه رأى أبا سفيان بن الحارث حينئذ آخذا بزمام بغلته، ولا ينافي ما تقدم أن الآخذ بذلك العباس رضي الله عنه، وأن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بركابه، لجواز أن يكون أخذ بزمامها بعد أخذه بركابه.

وعن أبي سفيان بن الحارث قال: لما لقينا العدو بحنين اقتحمت عن فرسي وبيدي السيف مصلتا والله يعلم أني أريد الموت دونه وهو ينظر إليّ، فقال له العباس: يا رسول الله أخوك وابن عمك أبو سفيان فارض عنه، فقال: غفر الله له كل عداوة عادانيها ثم التفت إليّ وقال: يا أخي، فقبلت رجله في الركاب وقال في حقه «أبو سفيان بن الحارث من شبان أهل الجنة أو من سيد فتيان أهل الجنة» وليس قوله: «أنا النبي لا كذب» إلى آخره من الشعر، لأن شرطه كما تقدم في بناء المسجد أن يكون عن قصد وروية، بناء على أن مشطور الرجز ومنهوكه شعر وهو الصحيح، خلافا للأخفش حيث ردّ على الخليل في قوله: إن الرجز شعر بأنه وقع منه في قوله المذكور، وقد قال الله تعالى {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}.

وردّ بأن ما يقع موزونا لا عن قصد لا يقال له شعر. ولا يقال لقائله إنه شاعر كما تقدم مع زيادة، وأنما قال: «أنا ابن عبد المطلب» ولم يقل أنا ابن عبد الله، لأن العرب كانت تنسبه إلى جده عبد المطلب لشهرته، ولموت عبد الله في حياته كما تقدم، فليس من الافتخار بالآباء الذي هو من عمل الجاهلية كما تقدم في قوله: «أنا ابن العواتك والفواطم». وأخذ من هذا أنه لا بأس بالانتساب في موطن الحرب.

وذكر الخطابي أنه إنما قال: «أنا ابن عبد المطلب» على سبيل الافتخار، ولكن ذكرهم بذلك رؤيا كان رآها عبد المطلب أيام حياته، وكانت القصة مشهورة عندهم فعرّفهم بها وذكرهم إياها، وهي إحدى دلائل نبوته.

ثم نزل عن بغلته. وقيل لم ينزل بل قال: يا عباس ناولني من الحصباء فانخفضت به بغلته حتى كادت بطنها تمس الأرض، ثم قبض قبضة من تراب قال بعضهم: كأنّ الله أفقه: أي أفهم البغلة كلامه: أي علمت مراده.

وفي رواية كما تقدم أنه قال لها: يا دلدلِ البدي، فلبدت: أي انخفضت. وفي رواية قال: اربضي دلدل فربضت. وقيل ناوله العباس ذلك. وقيل ناوله عليّ. وقيل ابن مسعود رضي الله عنهم. فعنه حادت به بغلته، فمال السرج. فقلت: ارتفع رفعك الله، فقال ناولني كفا من تراب فناولته، ثم استقبل بها وجوههم فقال: شاهت الوجوه» أي وفي رواية قال: «حم لا ينصرون» وفي رواية: «جمع بينهما فما خلف الله منهم إنسانا إلا ملأت عينيه وفمه ترابا تلك القبضة وقال انهزموا ورب محمد فولوا مدبرين» () أي وقال بعضهم: ما خيل إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا.

وحدث رجل كان من المشركين يوم حنين قال: «لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله لم يقوموا لنا حلبة شاة أن كشفناهم، قال: فبينما نحن نسوقهم ونحن في آثارهم، إذ صاحب بغلة بيضاء، وإذا هو رسول الله، فتلقّانا عنده رجال بيض الوجوه حسان الوجوه وقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا» فانهزمنا من قولهم وركبوا أجسادنا فكانت إياها، وإلى رميه بالحصى أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله:

ورمى بالحصى فأقصد جيشا ** ما العصا عنده وما الإلقاء

أي ورمى بالحصى فأهلك ذلك الجيش العظيم، أىّ شيء عصا موسى عند ذلك الحصى؟ وأي شيء إلقاء موسى لتلك العصا عند إلقاء ذلك الحصى؟ شتان ما بينهما فلا يقاس هذا بذلك لأن هذا أعظم، لأن انقلاب العصا حية كان مشابها لانقلاب حبالهم وعصيهم حيات، لأن ابتلاعها لحبالهم وعصيهم لم يقهر العدو ولم يشتت شملهم، بل زاد بعدها طغيانهم وعتوهم على موسى ، بخلاف هذا الحصى فإنه أهلك العدو وشتت شمله.

أي وذكر أنه عند القتال أنزل الله تعالى قوله: {ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا} إلى قوله: {غفور رحيم).

فقد جاء أن بعض أصحابه: أي وهو أبو بكر رضي الله عنه كما في سيرة الحافظ الدمياطي قال: «يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة، وشق ذلك على رسول الله وساءته تلك الكلمة» وقيل بل قائل ذلك هو لما رأى كثرة المسلمين، وقيل قال ذلك فتى من الأنصار: أي وهو سلمة بن الأكوع، أو سلامة بن وقش.

أي وجاء: «أنه رفع يومئذ يديه، وقال: اللهم أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا».

أي وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن الضحاك، قال: «دعا موسى عليه الصلاة والسلام حين توجه إلى فرعون لعنه الله، ودعا رسول الله يوم حنين: كنت وتكون، وأنت حي لا تموت، تنام العيون، وتنكدر النجوم، وأنت حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم».

وكان أمام المشركين رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل وهوازن خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فبينما هو كذلك إذ أهوى إليه علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ورجل من الأنصار يريدانه، فأتى عليّ من خلفه وضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه، ووثب الأنصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، واجتلد الناس، فوالله ما رجعت راجعة المسلمين من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله.

ولما انهزم المسلمون تكلم رجال من أهل مكة بما في نفوسهم من الضعف، ومنهم أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه. قيل وكان إسلامه بعد مدخولا، وكانت الأزلام في كنانته، فقال: لا تنتهي هزيمتهم يعني المسلمين دون البحر، أي وقال والله غلبت هوازن، فقال له صفوان: بفيك الكثيب: أي الحجارة والتراب. وقد وصلت الهزيمة إلى مكة، وسر بذلك قوم من مكة، وأظهروا الشماتة، وقال قائل منهم ترجع العرب إلى دين آبائها، أي وقال آخر: أي وهو أخو صفوان لأمه: ألا قد بطل السحر اليوم، فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك: اسكت فض الله فاك: أي أسقط أسنانك، والله لأن يربني من الربوبية: أي يملكني ويدبر أمري رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن.

وفي رواية مر رجل من قريش على صفوان بن أمية، فقال: أبشر بهزيمة محمد وأصحابه فوالله لا يجبرونها أبدا، فغضب صفوان رضي الله عنه وقال: أتبشرني بظهور الأعراب؟ فوالله لرب رجل من قريش أحب إليّ من رجل من الأعراب. وقال عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه: وكونهم لا يجبرونها أبدا هذا ليس بيدك، الأمر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء، إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غدا، فقال له سهيل بن عمرو: والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد إنا كنا على غير شيء وعقولنا ذاهبة نعبد حجرا لا يضر ولا ينفع.

وعن شيبة الحجبي رضي الله عنه: أي حاجب البيت ويقال لبنيه بنو شيبة، وهم حجبة البيت كما تقدم أنه كان يحدث عن سبب إسلامه، قال: ما رأيت أعجب مما كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات، ولما كان عام الفتح ودخل رسول الله مكة وسار إلى حرب هوازن، قلت: أسير من قريش إلى هوازن بحنين، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأقتله، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها: أي ولفظ: «اليوم أدرك ثأري من محمد» أي لأن أباه وعمه قتلا يوم أحد قتلهما حمزة رضي الله عنه كما تقدم.

وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما اتبعته، لا يزداد ذلك الأمر عندي إلا شدة، فلما اختلط الناس ونزل عن بغلته أصلتّ السيف ودنوت منه أريد الذي أريد منه، ورفعت السيف حتى كدت أوقع به الفعل إليّ شواظ من نار كالبرق كاد يهلكني، فوضعت يدي على بصري خوفا عليه.

وفي رواية: لما هممت به حال بيني وبينه خندق من نار وسور من حديد، فناداني: «يا شيبة ادن مني»، فدنوت منه فالتفت إلي وتبسم وعرف الذي أريد منه، فمسح صدري، ثم قال: «اللهم أعذه من الشيطان»، قال شيبة: فوالله لهو كان الساعة إذن أحب إليّ من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان فيّ، ثم قال: ادن فقاتل، فتقدمت أمامه أضرب بسيفي الله أعلم إني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو كان أبي حيا ولقيته تلك الساعة لأوقعت به السيف، فجعلت ألزمه فيمن لزمه، حتى تراجع المسلمون وكروا كرة واحدة، وقربت إليه بغلته، فاستوى عليها قائما، وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه: أي لا يلوي أحد منهم على أحد، وأمر رسول الله أن يقتل من قدر عليه، واتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى قتلوا الذرية، فنهاهم النبي عن قتل الذرية، وقال رسول الله: «من قتل قتيلا فله سلبه» وفي رواية: «من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه».

وفي الأصل في غزوة بدر أن المشهور أن قول النبي: «من قتل قتيلا فله سلبه» إنما كان يوم حنين. وأما ما روي أنه قال ذلك يوم بدر ويوم أحد فأكثر ما يوجد في رواية من لا يحتج به، ومن ثم قال الإمام مالك رضي الله عنه: لم يبلغني أن النبي قال ذلك إلا يوم حنين.

وتعقب ما في الأصل بأنه وقع ذلك في غزوة مؤتة كما في مسلم وهي قبل الفتح.

وفي كلام بعضهم: كون السلب للقاتل أمر مقرر من أول الأمر، وأنما تجدد يوم حنين للإعلام العام والمناداة لا لمشروعيته.

وحدّث أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه استلب وحده عشرين رجلا: أي قتلهم وأخذ أسلابهم.

وقال أبو قتادة رضي الله عنه: رأيت يوم حنين مسلما ومشركا يقتتلان وإذا رجل من المشركين يريد إعانة المشرك على المسلم فأتيته وضربت يده فقطعتها، فاعتنقني بيده الأخرى فوالله ما أرسلني حتى وجدت ريح الموت، ولولا أن الدم نزفه لقتلني، فسقط وضربته فقتلته، وأجهضني القتال عن استلابه، فلما وضعت الحرب أوزارها، قلت: يا رسول الله، لقد قتلت قتيلا ذا سلب، وأجهضني عنه القتال، فما أدري من استلبه، فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول الله فأرضه عني من سلبه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا يرضيه، تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن دين الله تقاسمه سلب قتيله. وفي لفظ قال أبو بكر رضي الله عنه: أي للنبي: كلا، تعطيه أضيبع من قريش وتدع أسدا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله. والأضيبع تصغير ضبع، فقال رسول الله : صدق اردد عليه سلبه. قال أبو قتادة رضي الله عنه: فأخذته منه فاشتريت بثمنه: أي السلب الذي جمعته بستانا، وأدرك ربيعة بن رفيع دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة فإذا هو شيخ كبير أعمى ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد؟ قال: أقتلك، قال: ومن أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا، فقال له يسخر به: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي هذا من مؤخرة الرحل، ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك، فقتله، فلما أخبر ربيعة أمه بقتله، فقالت له: أما والله لقد أعتق اثنين بل ثلاثا، وقالت له: ألا تكرمت عن قتلة لما أخبرك بمنه علينا، فقال: ما كنت لأتكرم عن رضا الله ورسوله.

أي وقيل القاتل لدريد بن الصمة الزبير بن العوام رضي الله عنه، وقيل عبد الله بن قبيع وكانت أم سليم رضي الله عنها مع زوجها أبي طلحة رضي الله عنه وهي حازمة وسطها ببرد لها وفي حزامها خنجر، وكانت حاملا بابنها عبد الله، فقال لها زوجها أبو طلحة: ما هذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت: إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به، فقال أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم الرميصاء، فأعادت عليه القول، فجعل رسول الله يضحك، أي وكان يقال لها العميصاء والرميصاء: وهي التي يخرج القذى من عينها، ومن ثم قال بعضهم: قيل لها الرميصاء لرمص كان في عينها.

وعن ولدها أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قد مات أبي مالك عنها مشركا ثم خطبها عمي أبو طلحة وهو مشرك فأبت ودعته إلى الإسلام فأسلم، فقالت له: إني أتزوجك ولا آخذ منك صداقا غيره فتزوجها، قال أنس رضي الله عنه. قال النبي: «دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقالوا هذه العميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك».

وعنه رضي الله عنه: «كان النبي لا يدخل على أحد من النساء إلا أزواجه وإلا أم سليم فإنه كان يدخل عليها، فقيل له في ذلك؟ فقال: إني أرحمها، قتل أخوها معي» ولعل المراد أنه كان يكثر الدخول عليها كأزواجه، ولا ينافي أنه كان يدخل على غيرها من النساء الأنصار، لأن من خصائصه جواز الاختلاء بالأجنبية، فكان يدخل على أخت أم سليم وهي أم حرام بالراء رضي الله عنها، وتفلي له رأسه الشريف وينام عندها ويدخل على الربيع، ثم رأيته في الإمتاع أشار إلى ذلك.

وفي (مزيل الخفاء) أن أم سليم وأختها خالتا النبي من جهة الرضاع، وعليه فلا دلالة في دخوله عليهما والخلوة بهما على جواز الخلوة بالأجنبية.

وعن أنس رضي الله عنه، قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، أي وهو أبو عمير الذي كان يداعبه ويقول أبا عمير ما فعل النغير، ذكره السيوطي في كتابه (تبريد الأكباد).

وفي كلام بعضهم ما يفيد أنه غيره، فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه فجاء فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن ما كان، فقربت إليه عشاء فأكل وشرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت وطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوا؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب ثم انطلق حتى أتى رسول الله فأخبره بما كان، فقال رسول الله : بارك الله لكما في غابر ليلتكما، قال: فحملت بعبد الله المذكور، قالت: ولما ولدته حملته وجئت به إلى رسول الله، فقال: هل معك تمر؟ فقلت: نعم، فناولته تمرات فألقاهن في فيه الشريف فلا كهن، ثم فغر فاه الصبي فمجه فيه فجعل الصبي يتلمظ، فقال رسول الله : حب الأنصار التمر وسماه عبد الله، أي وجاء لعبد الله هذا الذي جاء من جماع تلك الليلة تسعة أولاد كلهم قد قرؤوا القرآن.

«ولما أخبر أبو طلحة النبي بما تقدم عن أم سليم، قال: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صابرة بني إسرائيل، فقيل: يا رسول الله ما كان من خبرها؟ قال: كان في بني اسرائيل امرأة وكان لها زوج وكان له منها غلامان، وكان زوجها أمرها بطعام تصنعه ليدعو عليه الناس، ففعل واجتمع الناس في داره، فانطلق الغلامان يلعبان، فوقعا في بئر كانت في الدار، فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة، فأدخلتهما البيت وسجتهما بثوب، فلما فرغوا دخل زوجها، فقال: أين ابناي، قالت: هما في البيت، وإنها كانت تمسحت بشيء من الطيب وتعرضت للرجل حتى وقع عليها ثم قال: أين ابناي؟ قالت: هما في البيت، فناداهما أبوهما فخرجا يسعيان، فقالت المرأة: سبحان الله. والله لقد كانا ميتين ولكن الله أحياهما ثوابا لصبري.

ولما انهزم القوم عسكر بعضهم بأوطاس، فبعث النبي في آثارهم أبا عامر الأشعري رضي الله عنه، وسيأتي في السرايا. ورجع رسول الله إلى معسكره، قال شيبة: فدخل خباءه فدخلت عليه، ما دخل عليه غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به، فقال: يا شيبة الذي أراد الله خير مما أردت بنفسك، ثم حدثني بكل ما أضمرته في نفسي مما لم أذكره لأحد قط. فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم قلت: استغفر لي، فقال غفر الله لك، أي وقالت له أم سليم رضي الله عنها: بأبي أنت وأمي يا رسول الله. اقتل هؤلاء الذين انهزموا عنك فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله : إن الله قد كفى وأحسن.

وعن عائذ بن عمرو قال: أصابتني رمية يوم حنين في جبهتي فسال الدم على وجهي وصدري، فسد النبي الدم بيده عن وجهي وصدري إلى ترقوتي، ثم دعاني فصار أثر يده غرة سائلة كغرة الفرس.

وجرح خالد بن الوليد رضي الله عنه، فتفل النبي في جرحه فلم يضره.

أي فعن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال: رأيت النبي بعد ما هزم الله الكفار ورجع المسلمون إلى رحالهم، يمشي في المسلمين ويقول: من يدلني على رحل خالد بن الوليد حتى دل عليه، فوجده قد أسند إلى مؤخرة رحله لأنه قد أثقل بالجراحة فتفل النبي في جرحه فبرىء.

وعن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون شيئا أسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة، ولم تكن إلا هزيمة القوم.

وفي سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله أن سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم: أي فعن جمع من هوازن قالوا: لقد رأينا يوم حنين رجالا بيضا على خيل بلق، عليها عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض، وكتائب لا نستطيع أن نقاتلهم من الرعب منهم. ولما وقعت الهزيمة أسلم ناس من كفار مكة وغيرهم لما رأوا نصر الله لرسوله.

وعن شيبة الحجبي قال: خرجت مع رسول الله يوم حنين، والله ما خرجت إسلاما ولكن خرجت اتقاء أن تظهر هوازن على قريش، فوالله إني لواقف مع رسول الله، فقلت: يا رسول الله إني لأرى خيلا بلقا، قال: يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر فضرب بيده صدري ثم قال: اللهم اهد شيبة، فعل ذلك ثلاثا، فما رفع يده عن صدري الثالثة حتى ما أجد من خلق الله أحب إلي منه ويحتاج إلى الجمع بينه وبين ما تقدم على تقدير صحتهما.

وأمر رسول الله بالسبي والغنائم أن تجمع، فجمع ذلك كله وأحضره إلى الجعرانة أي بسكون العين وتخفيف الراء. وكثير من أهل الحديث يشددها وسمي المحل باسم امرأة كانت تلقب بذلك قيل وهي التي نقضت غزلها من بعد قوة، فكان بها إلى أن انصرف رسول الله أي من غزوة الطائف. وفي هذه الغزوة سمي طلحة بن عبيد الله طلحة الجواد لكثرة إنفاقه على العسكر.


غزوة الطائف

ولما علم أن مالك بن عوف وجمعا من أشراف قومه لحقوا بالطائف عند انهزامهم. أي والطائف بلد كبير، كثير الأعناب والنخيل والفاكهة، قيل سمي بذلك لأن جبريل طاف بها حين نقلها من الشام إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أي أن الله يرزقهم أي أهل مكة من الثمرات.

أي وقيل إنهم بنوا حواليها حائطا وطافوا به تحصينا لهم، وقيل هي جنة أصحاب الصريم كانوا نواحي صنعاء، نقلها جبريل فسار بها إلى مكة وطاف بها حول البيت، ثم أنزلها في ذلك المكان، أي ويقال له: «وج» سمي ذلك باسم شخص من العماليق أول من نزل به، وأن أولئك القوم تحصنوا في حصن به وأدخلوا فيه ما يصلحهم سنة خرج من حنين وتوجه إليهم وترك السبي بالجعرانة.

أي، وفي الإمتاع أنه بعث بالسبي والغنائم إلى الجعرانة مع بديل بن ورقاء الخزاعي. وفي كلام السهيلي: وكان سبي حنين ستة آلاف رأس، قد ولى أبا سفيان بن حرب أمرهم وجعله أمينا عليهم هذا كلامه، أي ولعل هذا بعد رجوعه من الطائف، لأن أبا سفيان كان معه بالطائف كما سيأتي فلا معارضة.

أي ومر بحصن مالك بن عوف، فأمر به فهدم، ومر بحائط، أي بستان لرجل من ثقيف قد تمنع فيه، فأرسل إليه: إما أن تخرج، وإما أن نخرب عليك حائطك، فأبى أن يخرج فأمر رسول الله بإحراقه، ومر بقبر، فقال: هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف، أي وكان من ثمود قوم صالح أي وقد أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان ثم دفن فيه، أي بعد أن كان بالحرم ولم تصبه تلك النقمة، فلما خرج من الحرم إلى المكان المذكور أصابته النقمة.

فعن بعض الصحابة: حين خرجنا مع رسول الله إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال رسول الله : هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، الحديث.

وفي العرائس عن مجاهد قيل له: هل بقي من قوم لوط أحد؟ قال: لا، إلا رجل بقي أربعين يوما وكان بالحرم فجاءه حجر ليصيبه في الحرم، فقام إليه ملائكة الحرم فقالوا للحجر: ارجع من حيث جئت، فإن الرجل في حرم الله تعالى، فرجع فوقف خارجا من الحرم أربعين يوما بين السماء والأرض حتى قضى الرجل حاجته، وخرج من الحرم إلى هذا المحل أصابه الحجر فقتله فدفن فيه.

وأبو رغال هذا هو الذي كان دليلا لأبرهة ليوصله إلى مكة لما مر أبرهة بالطائف، وتلقاه أهله، وأظهروا له الطاعة، وقالوا له: نرسل معك من يدلك على الطريق، فأرسلوا أبا رغال معه دليلا كما تقدم. وقال: «آية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه» فابتدر الناس فنبشوه واستخرجوا منه الغصن. وقدّم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه على مقدمته: أي وهي خيل بني سليم مائة فرس قدمها من يوم خرج من مكة، واستعمل عليهم خالد بن الوليد، فلم يزل كذلك حتى وصل، فلما وصل نزل قريبا من الحصن وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحات.

أي وممن أصيب أبو سفيان بن حرب، أصيبت عينه، فأتى النبي وعينه في يده، فقال: يا رسول الله، هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال النبي: «إن شئت دعوت فردت عينك، وإن شئت فالجنة. وفي لفظ: فعين في الجنة، قال: فالجنة، ورمى بها من يده»، أي وقلعت عينه الثانية في القتال يوم اليرموك عند مقاتلة الروم، فإن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه كان في ذلك اليوم يحرض المسلمين على قتال الروم والثبات لهم، ويقول لهم: الله الله عباد الله، انصروا الله ينصركم، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك، وذلك في آخر خلافة الصديق، فإن الصديق رضي الله عنه توفي وهم في الاستعداد للقتال باليرموك، وكان الأمير على العسكر خالد بن الوليد رضي الله عنه.

ولما ولي سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أرسل البريد بعزل خالد وولاية أبي عبيدة بن الجراح على العسكر، فجاء البريد وقد التحم القتال بين المسلمين والروم، وأخذته خيول المسلمين، وسألوه عن الخبر، فلم يخبرهم إلا بخير وسلامة، وأخبرهم عن إمداد يجيء إليهم، وأخفى موت أبي بكر رضي الله تعالى عنه وتأمير أبي عبيدة، فأتوا به إلى خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، فأسرّ إليه موت أبي بكر وولاية عمر رضي الله تعالى عنهما، وأخبره بما أخبر به الجند، فاستحسن ذلك منه، وأخذ الكتاب فجعله في كنانته وخاف إن هو أظهر ذلك يتخاذل العسكر، ثم لما هزم الله الروم، وجمعوا الغنائم، ودفنوا قتلى المسلمين وقد بلغوا ثلاثة آلاف، دفع خالد رضي الله تعالى عنه الكتاب إلى أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه، فتولى أبو عبيدة، ثم بعث أبو عبيدة أبا جندل رضي الله تعالى عنه بشيرا إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه بالفتح على المسلمين.

ولما عزل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة خطب الناس وقال: إني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد، إني نزعته وأثبتّ أبا عبيدة بن الجراح، فقام إليه عمرو بن حفص وهو ابن عم خالد بن الوليد وابن عم أم سيدنا عمر، فقال: والله ما عدلت يا عمر، لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله، وغمدت سيفا سله رسول الله، ولقد قطعت الرحم، وجفوت ابن العم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: إنك قريب القرابة، حديث السن، غضبت لابن عمك.

ومات ممن خرج بالطائف اثنا عشر رجلا، فارتفع رسول الله إلى موضع مسجد الطائف الآن، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهما، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين الصلاة مقصورة مدة حصار الطائف، وكانت ثمانية عشر يوما: أي غير يومي الدخول والخروج، وهذا هو المراد بقول فقهائنا لأنه أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن يقصر الصلاة، وقيل في مدة حصاره غير ذلك.

ودخل خيمة أم سلمة وعندها أخوها عبد الله ومخنث، وإذا المخنث يقول: يا عبد الله فتح الله عليكم الطائف غدا، فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فلما سمعه قال: لا يدخل هذا عليكن. وأراد المخنث بالأربع التي تقبل بهن عكنها الأربع التي في بطنها، ولكل عكنة طرفان فتكون ثمانية من خلفها، فهي الثمانية التي تدبر بهن.

أي وفي الإمتاع: كان رسول الله مولى لخالته فاخته بنت عمرو بن عائذ يقال له ماتع، وكان يدخل بيوته لأنه كان يرى أنه لا يفطن لشيء من أمر النساء ولا إربة له، فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد ويقال لعبد الله أخي أم سلمة: إن فتح رسول الله الطائف غدا فعليك ببادية، أي رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت، وبادية بالياء تحت لا بالنون بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، إذا قامت تثنت، وإذا جلست تبنت، وإذا تكلمت تغنت، بين رجلها مثل الإناء المكفوء، ثم نفر كأنه الأقحوان، فقال: «لا أرى هذا الخبيث يفطن لما أسمع».

وفي رواية أنه قال له: قاتلك الله، لقد أمعنت النظر، ما كنت أظن هذا الخبيث يعرف شيئا من أمر النساء.

وفي الأغاني أن هيتا بكسر الهاء وقيل بفتحها وإسكان التحتية بعدها مثناة. والهيت: الأحمق المخنث، قال لعبد الله بن أمية: إن فتح الله عليكم الطائف فاسأل النبي بادية بنت غيلان، فإنها رداح شموع نجلاء إن تكلمت تغنت يعني من الغنة، وإذا قامت تثنت، موردة الخدين، منحطة المانتين، لقحاء الفخذين، مسرولة الساقين، كأنها قضيب بان. وفي لفظ: كأنها خوط بانة قصفت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، وبين فخديها شيء مخبوء كأنه الإناء المكفوء، فلما سمع رسول الله كلامه قال: لقد غلغلت النظر يا عدو الله، ثم نفاه من المدينة إلى الحمى وقال: لا يدخل على أحد من نسائكم، فقيل له: إنه يموت جوعا، فأذن له أن يدخل المدينة كل جمعة يسأل الناس.

وقيل نفى كلا من ماتع وهيت إلى الحمى، فشكيا الحاجة، فأذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان الناس ثم يرجعان إلى مكانهما، فلما توفي رسول الله دخلا المدينة فأخرجهما أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فلما توفي دخلا المدينة فأخرجهما عمر رضي الله تعالى عنه، فلما مات دخلا.

وغيلان أبو بادية هو الذي أسلم وعنده عشرة نسوة، فأمره أن يمسك أربعا ويفارق سائرهن.

واختلف الفقهاء في ذلك؟ فقال فقهاء الحجاز: يختار أربعا، وقال فقهاء العراق يمسك التي تزوج أولا ثم التي تليها إلى الرابعة. واحتج فقهاء الحجاز بترك الاستفصال.

وغيلان هذا لما وفد على كسرى قال له: أيّ ولدك أحب إليك، فقال الغائب حتى يقدم والمريض حتى يعافى، والصغير حتى يكبر.

وكان المخنثون في زمانه ثلاثة: هيت، وماتع وهذم، وقيل لهم ذلك لأنه كان في كلامهم لين، وكانو يختضبون بالحناء كخضاب النساء لا أنهم يأتون الفاحشة الكبرى. ويحتمل أن يكون كل من ماتع وهيت كان معه في تلك الغزوة وقد سمع منهما ما تقدم عنهما، ويدل لهذا الاحتمال أنه نفاهما. وفي البخاري أن القائل لعبد الله ما تقدم هو هيت. ويحتمل أن الذي كان معه أحدهما وتكرر منه ذكر ما تقدم، وتسميته باسم الآخر خلط من بعض الرواة فليتأمل.

وقال: أقبل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه ونادى من يبارز؟ فلم يطلع إليه أحد ثم كرر ذلك فلم يطلع إليه أحد، وناداه عبد ياليل لا ينزل إليك منا أحد، ولكن نقيم في حصننا، فإن به من الطعام ما يكفينا سنين، فإن أقمت حتى يذهب هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت عن آخرنا اهـ، ونصب عليهم المنجنيق: أي ورمي به كما في كلام غير واحد من أئمتنا، وهو أول منجنيق رمي به في الإسلام، أي أرشده إليه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: إنا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون فنصيب من عدونا، أي ويقال إن سلمان رضي الله تعالى عنه هو الذي عمله بيده، وفيه أنه تقدم في خيبر أنه لما فتح حصن الصعب وجدوا فيه آلة حرب ودبابات ومنجنيقات، إلا أن يقال سلمان صنع هذا المنجنيق الذي بالطائف، لأنه يجوز أن يكون الذي وجدوه في خيبر لم يكن معهم في الطائف، وتقدم في خيبر أنه لما حاصر الوطيح وسلالم أربعة عشر يوما ولم يخرج أحد منهما همّ أن يجعل عليهم المنجنيق، وتقدم عن الإمتاع أنه نصب المنجنيق على حصن البراء. وقد قدمنا أن ذلك لا يخالف قول بعضهم لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف، لأنه يجوز أن يكون مراد هذا البعض لم يرم به إلا في غزوة الطائف، أي كما أشرنا إليه.

وأول من صنع المنجنيق إبليس، فإن نمروذا لعنهما الله لما أراد أن يلقي إبراهيم عليهم الصلاة والسلام في النار بنى إلى جنب الجبل جدارا طوله ستون ذراعا، ولما ألقوا الحطب وجعلوا فيه النار ووصلت النار إلى رأس ذلك الجدار لم يدروا كيف يلقون إبراهيم، فتمثل لهم إبليس لعنه الله في صورة نجار فصنع لهم المنجنيق ونصبوه على رأس الجبل ووضعوه فيه وألقوه في تلك النار.

وأوّل من رمى به في الجاهلية جذيمة الأبرش، وهو أوّل من أوقد الشمع ودخل نفر من الصحابة تحت دبابة وزحفوا بها إلى جدار الحصن ليحرقوه. وفي الإمتاع دخلوا تحت دبابتين وكانا من جلود البقر، فأرسلت إليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها فرموهم بالنبل فقتل منهم رجال. أي والدبابة بفتح الدال المهملة ثم موحدة مشددة وبعد الألف موحدة ثم تاء التأنيث: وهي آلة من آلات الحرب تجعل من الجلود يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها، وأمر رسول الله بقطع أعنابهم، أي ونخيلهم وتحريقها، فقطع المسلمون قطعا ذريعا، فسألوه أن يدعها لله وللرحم فقال رسول الله: إني أدعها لله وللرحم، ونادى رسول الله : أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر، أي وقيل ثلاثة وعشرون رجلا، ونزل منهم شخص في بكرة، فقيل له أبو بكرة، أي وكان عبدا للحارث بن كلدة، فأعتقهم رسول الله ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة، قال: واستأذن رسول الله عينية بن حصن في أن يأتي ثقيفا في حصنهم ليدعوهم إلى الإسلام فأذن له في ذلك، فأتاهم فدخل في حصنهم، فقال لهم: تمسكوا في حصنكم فوالله لنحن أذل من العبيد، أي زاد بعضهم: ولا تعطوا بأيديكم ولا تتأثروا: أي لا يشق عليكم قطع هذا الشجر، فرجع إلى رسول الله فقال له: ما قلت لهم يا عيينة؟ قال: أمرتهم بالإسلام ودعوتهم إليه، وحذرتهم النار ودللتهم على الجنة، فقال له رسول الله : كذبت، إنما قلت لهم كذا، وقص عليه القصة، فقال صدقت يا رسول الله، أتوب إلى الله وإليك من ذلك ا. هـ.

ولم يؤذن لرسول الله في فتح الطائف، أي فإن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون، قالت له: يا رسول الله ما يمنعك أن تنهض إلى أهل الطائف؟ قال لم يؤذن لنا الآن فيهم، وما أظن أن نفتحها الآن، وقال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ذلك، فقال: لم يؤذن لنا في قتالهم، فقال رضي الله تعالى عنه: كيف نقبل في قوم لم يأذن الله فيهم، وفي لفظ: إن خولة قالت: يا رسول الله أعطني إن فتح الله عليك الطائف حليّ بادية بنت غيلان أو حلي الفارعة بنت عقيل، وكانتا من أحلى نساء ثقيف، فقال لها: وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة، فذكرت خولة ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل على رسول الله، فقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة؟ زعمت أنك قلت لها، قال: قتلته، قال أو ما أذن الله فيهم يا رسول الله؟ قال لا، قال: أو أذن بالرحيل؟ قال بلى، واستشار رسول الله بعض الناس أي وهو نوفل بن معاوية الديلي في الذهاب أو المقام، فقال له: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت أخذته، وإن تركته لم يضرك، فأمر رسول الله عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأذن في الناس بالرحيل، فقبح الناس ذلك وقالوا: نرحل ولم يفتح علينا، فقال رسول الله : فاغدوا على القتال، فغدوا، فأصابت الناس جراحات، فقال رسول الله : إنا قافلون إن شاء الله، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله يضحك، أي تعجبا من سرعة تغير رأيهم، لأنهم رأوا أن رأيه أبرك وأنفع من رأيهم، فرجعوا إليه وقال لهم رسول الله : قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلما ارتحلوا واستقبلوا، قال قولوا: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، وقيل: يا رسول الله ادع على ثقيف أهل الطائف، فقال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم مسلمين، ولعل صاحب الهمزية رحمه

الله يشير إلى ذلك بقوله:

جهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء

وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء

أي آذاه قومه من قريش وغيرهم فأرخى جفنه حياء، وصاحب عدم الانتقام شأنه إرخاء الجفن. وسع علمه علوم العالمين من الإنس والجن والملك، ووسع حلمه كل من صدر منه نقص، فهو بسبب ذلك بحر واسع لم تتعبه الأحمال الثقيلة.

ومن جملة من جرح سيدنا عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما رماه بسهم أبو محجن، وطاوله ذلك الجرح إلى أن مات به في خلافة أبيه، ورثته زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكان يحبها حبا شديدا مرّ عليه أبوه يوم جمعة وهو يلاعبها وقد صلى الناس، فقال عبد الله: أو جمع الناس؟ فسمعه أبوه، فقال: أشغلتك عن الصلاة؟ لا جرم لا تبرحن حتى تطلقها فطلقها، ثم تعب عبد الله بسبب طلاقها فاطلع عليه أبوه يوما فسمعه يقول أبياتا من جملتها:

فلم أرى مثلي طلق اليوم مثلها ** ولا مثلها في غير جرم تطلق

فقال له: يا عبد الله راجع عاتكة، فقال لأبيه: قف بمكانك، وكان معه غلام مملوك له، فقال للغلام: أنت حر لوجه الله، اشهدا أني قد راجعت عاتكة، فلما مات رضي الله تعالى عنه رثته بقولها في أبيات:

آليت لا تنفك عيني حزينة ** عليك ولا ينفك جلدي أغبرا

ثم تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فلما أعرس بها، قال له علي كرم الله وجهه: أتأذن لي أن أكلم عاتكة، فقال: لا غيرة عليك كلمها، فقال لها علي كرم الله وجهه: أنت القائلة البيت:

آليت لا تنفك عيني قريرة ** عليك ولا ينفك جلدي أصفرا

قالت: لم أقل هكذا، وبكت وعادت إلى حزنها، فقال له رضي الله تعالى عنه: يا أبا الحسن ما أردت إلا إفسادها عليّ، فلما قتل عمر رضي الله تعالى رثته بأبيات منها:

من لنفس عادها أحزانها ** ولعين شفها طول السهد

جسد لفف في أكفانه ** رحمه الله على ذاك الجسد

ثم تزوجها الزبير رضي الله تعالى عنه، فلما قتل رثته بأبيات منها تخاطب قاتله:

ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما ** حلت عليك عقوبة المتعمد

ثم خطبها سيدنا علي كرم الله وجهه، فقالت له: لم يبق للإسلام غيرك وأنا أنفس لك عن القتل، ومن ثم قيل في حقها: من أراد الشهادة فعليه بعاتكة.

وعند منصرفه من ذلك: أي وبينا هو يسير ليلا بواد بقرب الطائف إذ غشي سدرة في سواد الليل وهو في وسن النوم، فانفرجت السدرة له نصفين، فمر رسول الله بين نصفيها وبقيت منفرجة على حالها، أي وعند انحداره إلى الجعرانة لقيه سراقة، وهو واضع الكتاب الذي كتبه له عند الهجرة بين أصبعيه وينادي: أنا سراقة، وهذا كتابي، فقال: هذا يوم وفاء ومودة، أدنوه، فأدنوه منه وساق إليه الصدقة، وسأله عن الضالة من الإبل ترد حوضه الذي ملأه لإبله هل له في ذلك من أجر، فقال له رسول الله: «نعم في كل ذات كبد حراء أجر».

وعند وصوله إلى الجعرانة أحصى السبي فكان ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألفا وأربعة آلاف أوقية فضة.

فأعطى للمؤلفة، أي من أسلم من أهل مكة، فكان أولهم أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه أعطاه أربعين أوقية ومائة من الإبل، وقال: ابني يزيد ويقال له يزيد الخير فأعطاه كذلك، وقال ابني معاوية فأعطاه كذلك، فأخذ أبو سفيان رضي الله عنه ثلاثمائة من الإبل ومائة وعشرين أوقية من الفضة. وقال: بأبي أنا وأمي يا رسول الله، لأنت كريم في الحرب وفي السلم، أي وفي لفظ: لقد حاربتك فنعم المحارب كنت، وقد سالمتك فنعم المسالم أنت، هذا غاية الكرم جزاك الله خيرا.

وأعطى حكيم بن حزام رضي الله عنه مائة من الإبل ثم سأله مائة أخرى، فأعطاه إياها، أي وفي الامتاع: وسأله حكيم بن حزام مائة من الإبل فأعطاه، ثم سأله مائة فأعطاه ثم سأله مائة فأعطاه، وقال له: «يا حكيم هذا المال خضر حلو من أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» فأخذ حكيم المائة الأولى وترك ما عداها، أي وقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا لا أرزأ أحد بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال عمر: يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.

وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل. وأعطى عيينة مثله. وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل، فقال في ذلك شعرا: أي يعاتبه به حيث فضل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن عليه وهو:

أتجعل نهبي ونهب العبيـ ** ـد (يعني فرسه) بين عيينة والأقرع

وما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرىء منهم ** ومن تضع اليوم لا يرفع

فأعطاه تمام المائة. أي وفي رواية أنه قال: اقطعوا عني لسانه. وفي الكشاف أنه قال: يا أبا بكر اقطع لسانه عني وأعطه مائة من الإبل، هذا كلامه، وحينئذ يتوقف في قولهم فظن ناس أنه أمر أن يمثل به وفزع هو أيضا لذلك فأتي به إلى الغنائم، وقيل له خذ منها ما شئت، فقال: إنما أراد رسول الله أن يقطع لساني بالعطاء فكره أن يأخذ منها شيئا، فبعث إليه رسول الله بحلة، وفي رواية: «فأتم له رسول الله مائة» وروي بدل: فما كان حصن ولا حابس: فما كان بدر ولا حابس وهو صحيح أيضا، لأن بدرا جد حصن أبو أبيه فانتسب تارة إلى أبيه حصن وتارة إلى جد أبيه بدر، فإن عيينة بن حصن بن حذيقة بن بدر. ويروى بدل مرداس: شيخي بالإفراد يعني والده، ويروى بالتثنية يعني والده وجده.

وفي كلام بعضهم: كانت المؤلفة ثلاثة أصناف. صنف يتألفهم رسول الله ليسلموا كصفوان بن أمية. وصنف ليثبت إسلامهم كأبي سفيان بن حرب. وصنف لدفع شرهم كعيينة بن حصن والعباس بن مرداس والأقرع بن حابس.

لكن في رواية: «قيل يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة. وتركت جعيل بن سراقة؟ فقال: أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع، ولكني تألفتهما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» وتقدم أن جعيلا هذا كان من فقراء المسلمين، وكان رجلا صالحا دميما قبيحا، وهو الذي تصوّر الشيطان بصورته يوم أحد، وقال إن محمدا قد مات، وجاء: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه» وقال: «إن من الناس ناسا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حبان» وأعطى صفوان بن أمية ما تقدم ذكره وهو جميع ما في الشعب من غنم وإبل وبقر، وكان مملوءا وكان ذلك سببا لإسلامه كما تقدم.

أقول: في كلام ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن من المؤلفة قلوبهم أقواما تؤلفوا في بدء الاسلام ثم تمكن الإسلام في قلوبهم، فخرجوا بذلك عن حد المؤلفة، وإنما ذكرهم العلماء في المؤلفة اعتبارا ببداية أحوالهم، وفيهم من لم يعلم منه حسن الإسلام، والظاهر بقاؤه على حالة التأليف.

ولا يمكن أن يفرق بين من حسن إسلامه، وبين من لم يحسن إسلامه لجواز أن يكون من ظننا به شرا أنه على خلاف ذلك، إذ الإنسان قد يتغير عن حاله ولا ينقل إلينا أمره فالواجب أن نظن بكل من نقل عنه الإسلام خيرا.

وقد جاء عن أنس رضي الله عنه، قال: «كان الرجل يأتي النبي فيسلم لشيء يعطاه من الدنيا، فلا يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها» هذا كلام ابن الجوزي، والعباس بن مرداس أسلم قبل الفتح بيسير، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، والله أعلم. ولا زال يعطي الرجل ما بين مائة وخمسين من الإبل، أي وذلك من الخمس كما سيأتي.

ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم: أي ما بقي منها، وهي الأربعة الأخماس الباقية بعد إعطاء من تقدم ما تقدم من الخمس وقسمتها عليهم، أي بعد أن اجتمعوا إليه وصاروا يقولون يا رسول الله اقسم علينا حتى ألجؤوه إلى شجرة فاختطفت رداءه، فقال ردوا ردائي أيها الناس، فوالله إن كان لي فيه شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كدودا، ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ وبرة من سنامه ثم رفعها، ثم قال: أيها الناس، والله ما لي من فيئكم أي غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة، فجاء شخص من الأنصار بكبة من خيوط شعر، وقال: يا رسول الله أخذت هذه الكبة أعمل بها بردعة بعير لي دبر، فقال: أما نصيبي منها فلك، قال: أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها وألقاها.

ويروى أن عقيلا كان دفع لامرأته إبرة أخذها من الغنيمة، أي فإنها قالت له: إني قد علمت أنك قد قاتلت فماذا أصبت من الغنيمة، فقال: دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك. فسمع منادي رسول الله يقول: من أخذ شيئا فليرده حتى الخيط والمخيط، فرجع وأخذها منها وألقاها في الغنائم.

وفي كلام السهيلي أن أبا جهم بن حذيفة العدوي كان على الأنفال يوم حنين، فجاءه خالد بن البرصاء وأخذ من الأنفال زمام شعر فمانعه أبو جهم، فلما تمانعا ضربه أبو جهم بالقوس فشجه منقلة، فاستعدى عليه خالد رسول الله فقال له: خذ خمسين شاة ودعه فقال: أقدني منه، فقال: خذ مائة ودعه، فقال: أقدني منه، فقال: خذ خمسين ومائة ودعه وليس لك إلا ذلك، ولا أقيدك من وال عليك، فقوّمت المائة والخمسون بخمس عشرة فريضة من الإبل، فمن هنا جعلت دية المنقلة خمس عشرة فريضة، ولما قسم ما بقي خص كل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ ثنتي عشرة بعيرا وعشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس لم يسهم إلا لفرس واحد ومن ثم لم يعط الزبير رضي الله عنه إلا لفرس واحد، وكان معه أفراس، وبه أخذ إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه فقال: لا يعطى إلا لفرس واحد، وقال بعض المنافقين، قيل وهو معتب هذه القسمة ما عدل فيها ولا أريد بها وجه الله، فأخبر بذلك رسول الله فتغير وجهه الشريف، أي حتى صار كالصِرف بكسر الصاد المهملة: وهو شيء أحمر يدبغ به الجلد. وفي رواية: فغضب غضبا شديدا واحمر وجهه وقال: «من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحمة الله على أخي موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» انتهى.

ولعل من ذلك أن قارون ابن خالة موسى أو ابن عمه حمله البغي والشر على أن أحضر امرأة بغيا وجعل لها جعلا على أن ترمي موسى بنفسها، وأحضر بني إسرائيل وأعلمهم بذلك ودعا موسى وقال له: إن قومك اجتمعوا فاخرج إليهم لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم وقال لهم: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى محصنا رجمناه حتى يموت، ومن زنى وهو لم ينكح جلدناه مائة جلدة، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل زعموا أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعها، فإن قالت فهو كما قالت، فأتت فقال موسى: يا فلانة أنشدك بالذي أنزل التوراة أصدق قارون؟ فقالت: أما إذا أنشدتني فقد أشهد أنك بريء وأنك رسول الله، وإن قارون جعل لي جعلا على أن أرميك بنفسي، وجاءت بخريطتين فيهما دراهم عليهما ختمه، وقالت للملأ: إن قارون أعطاني هاتين وهذا ختمه، وأعوذ بالله أن أفتري على الله، فنظر القوم إلى ختمه فعلموا صدقها فخر موسى ساجدا، فأوحى الله إليه: أن ارفع رأسك فإني أمرت الأرض أن تطيعك، فخسف به فهو يتجلجل في الأرض، يخسف به في كل مقدار قامة إلى يوم القيامة.

ولعل من ذلك أيضا أن بني إسرائيل قالوا لموسى : إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه تعالى فيؤمنوا، فأوحى الله لموسى : أن اختر سبعين من خيارهم واصعد بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ففعل، فلما سمعوا كلامه سبحانه سألوه أن يريهم الله جهرة.

ومن ذلك نسبته إلى أنه قتل أخاه هارون عليهما السلام كما تقدم، أي وقيل إن قائل: هذه القسمة ما عدل فيها: ذو الخويصرة التميمي، وهو غير ذي الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد. فقد جاء: «أن ذا الخويصرة التميمي وقف على رسول الله وقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله أجل، فكيف رأيت؟ قال: لم أرك عدلت، فغضب رسول الله، ثم قال: «ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ » فقال عمر رضي الله عنه: ألا نقتله؟ . قيل وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ألا أضرب عنقه».

قال الإمام النووي رحمه الله: ولا تعارض، لأن كل واحد منهما استأذن فيه؟ أي ففي مسلم: «فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: لا، ثم أدبر، فقام إليه خالد رضي الله عنه فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال لا لعله أن يكون يصلي، قال خالد رضي الله عنه: وكم مصلّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله : إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم».

وفي مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بعث علي كرم الله وجهه وهو باليمن بذهبة في تربتها، أي لم تخلص من ترابها إلى رسول الله فقسمها رسول الله بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس، وعيينة بن بدر، وعلقمة بن علاثة وزيد الخير، فغضبت قريش فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا، فقال رسول الله : إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم، فجاء رجل فقال: اتق الله يا محمد، فقال رسول الله : فمن يطع الله إن عصيته! يأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ » وفي رواية: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساءً، فجاء رجل فقال ما تقدّم، فقال له: ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ ».

ولعل هذه القسمة غير قسمة غنائم حنين، وأن الرجل الذي قال له ما ذكر يحتمل أن يكون واحدا منهما أو من شيعة ذلك الرجل الذي قال له في أحدهما.

وذكر بعضهم أن ذا الخويصرة أصل الخوارج، وأنه قال: «دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية» وفي رواية: «قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله دعني فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه» أي جماعة يخرجون من صلبه فهو أصل الخوارج: «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم» وفي لفظ: «تراقيهم، لا تفقهه قلوبهم، ليس لهم حظ منه إلا تلاوة الفم، وإنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وثمود» أي قتلا متأصلا لعامتهم. وفي رواية: «إذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» وبهذا استدل من يقول بجواز قتل الخوارج. وقد قاتلهم عليّ كرم الله وجهه. وقد سئل عن الخوارج، أهم كفار؟ فقال: «من الكفر فروا، فقيل: أمنافقون؟ فقال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا فقيل: ما هم؟ فقال: أصابتهم فتنة فعموا وصموا» فلم يجعلهم كفارا لأنهم تعلقوا بضرب من التأويل.

وحينئذ يكون المراد بالدين في وصفهم بالمروق من الدين الطاعة لا الملة، ويبعده رواية بدل الإيمان: الإسلام، وكان مصداق ما قاله رسول الله : أن ذا الخويصرة خرج منه حرقوص المعروف بذي الثدية، وهو أول من بويع من الخوارج بالأمانة.

والخوارج قوم يكفرون مرتكب الكبيرة، ويحكمون بحبوط عمل مرتكبها وتخليده في النار، ويحكمون بأن دار الإسلام تصير بظهور الكبائر فيها دار كفر ولا يصلون جماعة.

وسبب مقاتلة سيدنا علي كرّم الله وجهه لهم أنهم نقموا عليه التحكيم الذي وقع بينه وبين معاوية في صفين، وقالوا لا حكم إلا الله، وأنت كفرت حيث حكمت الحكمين، فإن شهدت على نفسك أنك كفرت فيما كان من تحكيمك الحكمين واستأنفت التوبة والإيمان نظرنا فيما سألتنا من الرجوع إليك، وإن تكن الأخرى فإنا ننابذك على سواء {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} فلما أيس من رجوعهم إليه قاتلهم. وحرقوص هذا أول مارق من الدين، وكان رجلا أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة. فقد جاء عنه: «إن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض».

ولما قاتلهم علي كرّم الله وجهه وقتل غالبهم التمس ذلك الرجل فأتي به، فإذا هو له ثدي كثدي المرأة. وفي رواية التمسوه في القتلى فلم يجدوه، فقام عليّ كرم الله وجهه بنفسه فطاف في القتلى فأخرجوه من بينهم، فكبر عليّ كرم الله وجهه، ثم قال: صدق رسول الله، سمعته يقول «إن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض» فقام إليه عبيدة السلماني، فقال: يا أمير المؤمنين: والله الذي لا إله إلا هو، أسمعت هذا من رسول الله؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجدوا في أنفسهم» أي غضبوا «حتى كثرت منهم القالة» أي وهي القول الرديء «أي حتى قال بعضهم إن هذا لهو العجب يعطي قريشا» وفي لفظ: «الألفاء والمهاجرين، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم» أي وفي لفظ: «إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا تقطر من دماء قريش، وإن غنائمنا تردّ عليهم» وفي رواية: «إذا كانت شديدة ندعى إليها ويعطى الغنيمة غيرنا» وفي رواية: «سيوفنا تقطر من دمائهم وهم يذهبون بالمغنم، فإن كان من أمر الله صبرنا، وإن كان من أمر رسول الله استعتبناه، فدخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم»، أي غضبوا «لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» أي وهي قبة من أدم. أي وفي كلام بعضهم أن الحظيرة الزريبة التي تجعل للإبل والغنم من الشجر لتقيها من البرد والريح، ولعل هذا باعتبار الأصل فلا مخالفة، فلما اجتمعوا له أتى سعد إليه فقال: «اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله : أي فقال لهم: أفيكم أحد من غيركم؟ قالوا لا إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله : إن ابن أخت القوم منهم» وفي رواية: «قال: من كان ههنا من غير الأنصار فليرجع إلى رحله»، وذكر بعضهم أن سبب إيراد ابن أخت القوم منهم أنه قال لعمر رضي الله عنه «اجمع لي من هنا من قريش، فجمعهم له ثم قال: تخرج إليهم أم يدخلون؟ قال: اخرج، فخرج فقال: يا معشر قريش هل فيكم من غيركم، قالوا: لا إلا ابن أختنا فذكره» ثم قال: «يا معشر قريش إن أولى الناس بي المتقون، فانظروا لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها فأصدّ عنكم بوجهي» انتهى.

«فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وَجِدَةُ وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ » القالة كما علمت: الكلام الرديء، والجدة: الغضب، والمعروف أنه الموجدة، ومن ثم قال بعضهم: الجدة في المال، والموجدة في الغضب «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألف بين قلوبكم» أي وفي لفظ: «وكنتم متفارقين فجمعكم الله» وفي لفظ: «يا معشر الأنصار ألم يمنّ الله عليكم بالإيمان، وخصكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء، أنصار الله، وأنصار رسوله؟ قالوا: بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنة والفضل» أي وفي لفظ: «قالوا: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور، ووجدتنا على شفا جرف من النار فأنقذنا الله بك. ووجدتنا ضلالا فهدانا الله بك، فرضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فافعل ما شئت، فأنت يا رسول الله في حل، قال: إذن والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فأغنيناك، أي وخائفا فأمناك» أوي أي إن كان متعديا كما هنا فالأفصح المد، وإن كان قاصرا فالأفصح القصر، قال تعالى: {وآويناهما إلى ربوة}وقال تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} «قال فقال الأنصار: المن لله ولرسوله، والفضل علينا وعلى غيرنا، فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فسكتوا، فقال: ما حديث بلغني عنكم؟ فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، قالوا: يغفر الله تعالى لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم»،

أي وفي رواية: «ماالذي بلغني عنكم؟ قالوا هو الذي بلغك، لأنهم لا يكذبون، فقال رسول الله : إني لأعطي رجالا حديثو عهد بكفر أتألفهم» ا. هـ. أي وفي رواية: «إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم فيّ لغاغة» بضم اللام وغينين معجمتين: أي شيء قليل من الدنيا «ألفت بها قوما ليسلموا، أي ليحسن إسلامهم ويسلم غيرهم تبعا لهم، ووكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يزلزل، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت رجلا من الأنصار». أي لانتسبت إلى المدينة «ولو سلك الناس شعبا» أي بكسر الشين المعجمة: وهو ما انفرج بين جبلين «وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار» وفي لفظ: «فبكى القوم حتى أخضلوا لحالهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله وتفرقوا» أي وقوله للأنصار: «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي» ليس من المن المذموم في قوله: «آفة السماحة المن» بل هو من التذكير بنعمة الله، لكن يشكل على ذلك قوله للأنصار: «ألا تجيبوني الخ» فليتأمل، أي وقد جاء في مدح الأنصار «اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، ولأزواج الأنصار، ولذراري الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي، وإن الناس يكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» وفي لفظ آخر: «اللهم صل على الأنصار، وعلى ذرية الأنصار وعلى ذرية ذرية الأنصار» وقال للأنصار: «أنتم شعار والناس دثار» أي والشعار الثوب: الذي يلي الجسد، والدثار: الثوب الذي يكون فوق ذلك الثوب، فهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم وقال: «الأنصار حبهم إيمان، وبغضهم نفاق، اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار، ولنساء الأنصار، ولنساء

أبناء الأنصار، ولنساء أبناء أبناء الأنصار». وفي لفظ: «اللهم اغفر للأنصار، ولذراري الأنصار، ولذراري ذراريهم، ولمواليهم، ولجيرانهم، لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر» وقال: «لا تؤذوا الأنصار، فمن آذاهم فقد آذاني، ومن نصرهم فقد نصرني، ومن أحبهم فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن بغى عليهم فقد بغى عليّ، ومن قضى لهم حاجة كنت في حاجته يوم القيامة أسرع. إن الله اختار دارهم لإعزاز دينه، واختارهم لنبيه أنصارا» وقال «حب الأنصار آية الإيمان وبغضهم آية النفاق» وقال في الأنصار: «لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» وقال لهم: «اللهم أنتم أحب الناس إليّ قالها ثلاثا» قال: وقال حسان رضي الله عنه في مدح الأنصار:

سماهم الله أنصارا بنصرهم ** دين الهدى وعوان الحرب تستعر

وسارعوا في سبيل الله واعترفوا ** للنائبات وما خافوا وما ضجروا

انتهى أي وقد وقع له نظير ذلك، فعن عمرو بن ثعلبة: «أنه سبى فأعطى قوما ومنع قوما، وقال: إنا لنعطي قوما نخشى هلعهم وجزعهم، ونكل قوما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن ثعلبة»، فكان عمرو رضي الله عنه يقول: ما يسرني أن لي بها حمر النعم.

ولما أسرت أخته من الرضاعة الشيماء بشين معجمة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وميم بمدة، ويقال الشماء بغير ياء، واختلف في اسمها صارت تقول: «والله إني أخت صاحبكم ولا يصدقوها، فأخذها طائفة من الأنصار حتى أتوا بها رسول الله، فقالت: يا محمد إني أختك، قال: وما علامة ذلك؟ » الحديث «ثم قال لها ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك، فإني أمضي إلى الطائف، فرجعت إلى الجعرانة، فلما قدم الجعرانة جاءته، فقالت: يا رسول الله إني أختك، أي وأنشدته أبياتا، قال: وما علامة ذلكِ» بكسر الكاف لأنه خطاب لمؤنث «قالت عضة عضضتنيها في ظهري» وفي رواية «وفي وجهي» وفي رواية: «في إبهامي وأنا متوركتك» فعرف رسول الله العلامة. وفي رواية: «قال لها إن تكوني صادقة فإن بك منّي أثرا لن يبلى، فكشفت عن عضدها، ثم قالت: نعم يا رسول الله، حملتك وأنت صغير فعضضتني هذه العضة، فعرف رسول الله العلامة» فليتأمل «وعند ذلك قام لها قائما وبسط لها رداءه وأجلسها عليه. أي ودمعت عيناه، وسألها عن أمه وأبيه فأخبرته بموتهما، أي وقال لها: سلي تعطي، واشفعي تشفعي، فاستوهبته السبي، أي بعد أن قال لها قومها: إن هذا الرجل أخوك، فلو أتيته فسألته قومك لرجونا أن يحابينا، فأتته فقالت: أتعرفني؟ قال: ما أنكرك فمن أنت؟ قالت: أنا أختك بنت أبي ذؤيب، وآية ذلك أني حملتك ذات يوم فعضضت كتفي عضة شديدة هذا أثرها فرحب بها، ثم استوهبته السبي وهم ستة آلاف فوهبه لها، فما عرفت مكرمة مثلها، ولا امرأة هي أيمن على قومها منها، وخيرها وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أمتعتك وترجعي إلى قومك، قالت: بلى تمتعني وتردني إلى قومي، فأعطاها غلاما يقال له مكحول وجارية، وقيل بل أعطاها ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء» وقيل إن القادمة عليه أمه من الرضاع التي هي حليمة، وتقدم الكلام على ذلك.

قال بعضهم: وهذا العطاء الذي أعطاه رسول الله للمؤلفة من قريش إنما كان من خمس الخمس الذي هو سهمه، لا من أربعة أخماس الغنيمة وإلا لاستأذن الغانمين في ذلك، لأنهم ملكوها بحوزهم لها.

ثم قدم وفد هوازن، وهم أربعة عشر رجلا مسلمين ورأسهم زهير بن صُرَد وفي لفظ: يكنى بأبي صرد، وأبو برقان بالموحدة، عم رسول الله من الرضاعة، أي فقالوا: يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك. وفي رواية قالوا: يا رسول الله إن فيمن أصبتهم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، وهن مخازي الأقوام، ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله، وقال زهير: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك أي لأن مرضعته حليمة كانت من هوازن، أي وقال له أيضا: ولو ملحنا أي أرضعنا للحارث بن أبي شمر: أي ملك الشام، أو للنعمان بن المنذر: أي ملك العراق، ثم نزل منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين وأنشده أبياتا يستعطفه بها منها:

امنن علينا رسول الله في كرم ** فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك مملوءة من مخضها الدرر

أي الدفعات الكثيرة من اللبن.

إنا لنشكر للنعماء إن كفرت (أي جحدت). وفي لفظ:

إنا لنشكر آلاء وإن كفرت ** وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

إنا نؤمل عفوا منك نلبسه ** هدي البرية أن تعفو وتنتصر

فألبس العفو من قد كنت ترضعه ** من أمهاتك إن العفو مشتهر

فقال: «إن أحسن الحديث أصدقه أبناؤكم أصدقه، أيناأكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ » أي وفي لفظ البخاري: «أحب الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال» وفي رواية: «وقد كنت اسأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون» أي لأنه انتظرهم بعد أن قفل من الطائف بضع عشرة ليلة وفي لفظ: «أنه قال لهم: قد وقعت المقاسم مواقعها، فأي الأمرين أحبّ إليكم؟ أطلب لكم السبي أم الأموال؟ » وإنما قال لهم: قد وقعت المقاسم، أي لأنه لا يجوز للإمام أن يمن على الأسرى بعد القسم، وإنما يمن عليهم قبله كما وقع له في يهود خيبر، ولا يخفى أن هذا في الرجال دون الذراري «فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا اردد علينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير، فقال: أما مالي ولبني عبد المطلب فهو لكم، أي وقال لهم: فإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، أي بعد أن قال لهم: أظهروا إسلامكم وقولوا نحن إخوانكم في الدين، فسأسأل لكم الناس، فلما صلى رسول الله الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله، أي بعد أن أثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل» كذا في البخاري.

وفي لفظ: «أنه قال: وأما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أسبيه».

وفي رواية: «فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل، ومن كره أن يعطي ويأخذ الفداء فعليّ فداؤهم، ثم قال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال المهاجرون والأنصار رضي الله تعالى عنهم: ما كان لنا فهو لرسول الله، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله، فقال العباس بن مرداس: وهنتموني: أي أضعفتموني حيث صيرتموني منفردا».

وفي رواية: «فقال رسول الله : هؤلاء القوم جاؤوا مسلمين وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده من النساء سبي فطابت نفسه أن يرده فليردّه، ومن أبى فليرد عليهم ذلك قرضا علينا بكل إنسان ست فرائض من أوّل ما يفيء الله علينا، قالوا: رضينا وسلمنا، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم، ولما فرق النساء نادى مناديه: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يسبرئن بحيضة».

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: «أصبنا سبايا يوم حنين، فكنا نلتمس فداءهن، فسألنا رسول الله عن العزل، فقال: اصنعوا ما بدا لكم، فما قضى الله فهو كائن، وليس من كل الماء يكون الولد» قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: وكانت اليهود تزعم أن العزل الموءودة الصغرى، فقال رسول الله: «كذبت اليهود، ولو أراد الله أن يخلقه لم يستطع أحد أن يصرفه» وجاء: «لو أن الماء الذي منه الولد أهرقته على صخرة أخرج الله منها ولدا» وقد جاء في الحديث ما قالت اليهود. ففي مسلم وابن ماجه «العزل الوأد الخفي» أي لأن التحرز عن الولد بالعزل كدفنه حيا فليتأمل، وقد مر الكلام على ذلك مبسوطا.

والفريضة: البعير الذي يؤخذ في الزكاة لأنه فرض وواجب على رب المال، وإلى عفوه عن هوازن، أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله:

منّ فضلا على هوازن إذ ** كان له قبل ذاك فيهم رباء

وأتى السبي فيه أخت رضاع ** وضع الكفر قدرها والسباء

فحباها برا توهمت النا ** س به أنما السباء هداء

بسط المصطفى لها من رداء ** أيّ فضل حواه ذاك الرداء

فغدت فيه وهي سيدة النسـ ** ـوة والسيدات فيه إماء

أي أعتق هوازن قبيلة أمه من الرضاعة التي هي حليمة السعدية، وكانوا ستة آلاف آدمي وإنما أعتقهم لأجل أنه كان له وهو طفل فيهم رباء بفتح الراء والمد: أي تربيته فيهم، ولأجل أن أخته من الرضاعة أتت في ذلك السبي، وتلك الأخت صغّر كفرها وسباؤها قدرها الرفيع بأخوته فأعطاها برا وفعل معها معروفا حتى وقع في وهم الحاضرين بسبب ذلك أن سباءها هداء لها بكسر الهاء كالعروس التي تهدي لزوجها، ومن بره لها أنه بسط لها رداءه لتجلس عليه، أي شرف لذلك الرداء شرف عظيم، لا غاية له بسبب مماسته لجسده الشريف فصارت في ذلك السبي سيدة من فيه من النساء، وصار السيدات التي فيه بالنسبة إليها إماء، وليتأمل الجمع بين كون أخته المذكورة هي الشافعة في السبي وقبلت شفاعتها، وبين كون السائل فيهم هوازن، والأصل اقتصر على سؤال الوفد، وردّ جميع السبي، ولم يتخلف منه أحد إلا عجوز من عجائزهم، كانت عند عيينة بن حصن أبى أن يردها، وقال حين أخذها: أرى عجوزا إني لأحسب أن لها في الحي نسبا وعسى أن يعظم فداؤها، ثم ردها بعد ذلك بعشر من الإبل، وقيل بست أخذ ذلك من ولدها بعد أن ساومه فيها مائة من الإبل، وقال له ولدها: والله ما ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد، ولا صاحبها بواجد: أي بحزين لفراقها، ولا درها بناكد بالنون: أي غزير وهو من الأضداد. وقيل قائل ذلك له زهير.

وقد يقال: لا مخالفة لجواز أن زهيرا هو ولدها، فقال عيينة: خذها لا بارك الله لك فيها، قال وذلك ببركة دعائه، دعا على من أبى أن يرد من السبي شيئا أن يبخس، أي يكسد، فإن ولدها دفع له فيها مائة من الإبل فأبى، ثم غاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه فقال: خذها بالمائة، فقال لا أدفع إلا خمسين فأبى، فغاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه، فقال: خذها بخمسين فقال لا أدفع إلا خمسة وعشرين فأبى. فغاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه، فقال خذها بالخمسة والعشرين فقال: لا آخذها إلا بعشرة. وفي رواية إلا بستة فقال له ما تقدم، ولما أخذها ولدها قال لعيينة: إن رسول الله كسا السبي قبطية قبطية، فقال: لا والله ما ذاك لها عندي، فما فارقها حتى أخذ لها منه ثوبا، والقبطية بضم القاف: وهو ثوب أبيض من ثياب مصر منسوب للقبط وهم أهل مصر وضم القاف من التغيير في النسب.

أي وفي كلام بعضهم وزعموا أن رسول الله أمر رجلا أن يقدم مكة فيشتري للسبي ثياب المتعة فلا يخرج الحر منهم إلا كاسيا، قال: وأمر رسول الله بحبس أهل مالك بن عوف النضري بمكة عند عمتهم أم عبد الله بن أبي أمية، وكلمه الوفد في ذلك، فقالوا: يا رسول الله أولئك سادتنا، فقال رسول الله : إنما أريد بهم الخير، ولم يجز أن تجري السهمان في مال مالك بن عوف، وقال رسول الله لوفد هوازن: ما فعل مالك بن عوف؟ قالوا: يا رسول الله هرب، فلحق بحصن الطائف مع ثقيف، فقال رسول الله : أخبروه أنه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل، فلما بلغ مالكا ما صنع رسول الله في قومه وأن ماله وأهله موفور، وما وعده به نزل من الحصن مستخفيا خوفا أن تحبسه ثقيف إذا علموا الحال، وركب فرسه وركضه، حتى أتى الدهناء، محلا معروفا، ركب راحلته ولحق برسول الله، فأدركه بالجعرانة، وأسلم وردّ عليه أهله وماله، واستعمله على من أسلم من هوازن، فكان لا يقدر على سرح لثقيف إلا أخذه ولا رحل إلا ميله، وكان رضي الله تعالى عنه يرسل بالخمس مما يغنم لرسول الله ا هـ.

أي وجاء أعرابي إلى النبي في هذا المحل الذي هو الجعرانة، وهو المراد بقول بعضهم وهو بحنين، لأن المراد منصرفه من غزوة حنين، وعلى ذلك الأعرابي جبة وهو متضمخ بخلوق: أي مصفر لحيته ورأسه، وقد أحرم بعمرة فقال: أفتني يا رسول الله. وفي رواية قال له: كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فسكت ساعة ثم نزل عليه الوحي، فلما سُري عنه قال: أين السائل عن العمرة اخلع عنك الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق. وفي رواية قال له: ما كنت تصنع في حجك؟ قال: كنت أنزع هذه الجبة، وأغسل هذا الخلوق، فقال: اصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجك. واستند لذلك من يقول بحرمة التطيب قبل الإحرام بما يبقى عند الإحرام. والراجح عند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه استحباب ذلك.

وجاءه رجل فوقف على رأسه الشريف فقال: يا رسول الله إن لي عندك موعدا، فقال له: صدقت فاحْتكم، فقال: أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها، فقال: هي لك، ولقد احتكمت يسيرا، ولصاحبة موسى عليه الصلاة والسلام التي دلته على عظام يوسف عليه الصلاة والسلام كانت احزم وأجزل حكما منك حين حكمهما موسى عليه الصلاة والسلام، فقالت: حكمي أن تردني شابة، وأدخل معك الجنة، كذا ذكره الغزالي رحمه الله. قال السخاوي: وهذا أخرجه ابن حبان والحاكم وصحح إسناده، وفيه نظر كما قال العراقي، وهذا أصل في عدم إخلاف الوعد بالخير.

ونقل الإمام النووي رحمه الله أن جماعة ذهبوا إلى وجوب الوفاء بذلك، ووجهه السبكي رحمه الله بأن إخلاف الوعد كذب، والكذب حرام وترك الحرام واجب.

وذكر الغزالي رحمه الله أن إخلاف الوعد لا يكون كذبا إلا إذا عزم حين الوعد على عدم الوفاء.

أي ويدل لذلك ما جاء عن عبد الله بن ربيعة قال: «جاء رسول الله إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبت لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطك، فقال رسول الله : ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرا، قال: لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة».

وأحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا، واستمر يلبي حتى استلم الحجر، ثم رجع من ليلته، وأصبح بها كبائت. وفي لفظ: أصبح بمكة كبائت وفيه نظر، ولم يسق هديا في هذه العمرة وحلق رأسه وكان الحالق لرأسه الشريف أبا هند الحجام وقيل أبو خراش بن أمية الذي حلق رأسه في الحديبية، وأتى بأعمال العمرة بعد أن أقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، وقال: اعتمر منها سبعون نبيا.


غزوة تبوك

بعدم الصرف للعملية والتأنيث: ووقع في البخاري صرفها نظرا للموضع، أي ويقال لها غزوة العسيرة، ويقال لها الفاضحة، لأنها أظهرت حال كثير من المنافقين.

ففي شهر رجب سنة تسع أي بلا خلاف، ظووقع في البخاري أنها كانت بعد حجة الوداع، قيل وهو غلط من النساخ، بلغ رسول الله أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة الشام، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء المحل المعروف.

أي وذكر بعضهم أن سبب ذلك أن منتصرة العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي قد خرج يدعي النبوّة هلك وأصابت أصحابه سنون أهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا، أي ولم يكن لذلك حقيقة، أي وإنما ذلك شيء قيل لمن يبلغ ذلك للمسلمين ليرجف به وكان ذلك في عسرة في الناس وجدب في البلاد، أي وشدة من نحو الحر، وحين طابت الثمار والناس يحيون المقام في ثمارهم وظلالهم() أي وكونه عند طيب الثمار يؤيد قول عروة بن الزبير: إن خروجه لتبوك كان في زمن الخريف، ولا ينافي ذلك وجود الحر في ذلك الزمن، لأن أوائل الخريف وهو الميزان يكون فيه الحر، وكان رسول الله قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وورّى بغيرها، إلا ما كان من غزوة تبوك لبعد المشقة وشدة الزمن، أي وكثرة العدو، وليأخذ الناس أهبتهم، وأمر الناس بالجهاز، أي وبعث إلى مكة وقبائل العرب ليستنفرهم، وحض أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، أي أكد عليهم في طلب ذلك، وهي آخر غزواته، وأنفق عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه نفقه عظيمة لم ينفق أحد مثلها، قال: فإنه جهز عشرة آلاف أنفق عليها عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل، وهي تسعمائة بعير ومائة فرس والزاد وما يتعلق بذلك حتى ما تربط به الأسقية.

أي وفي كلام بعضهم أنه أعطى ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرسا، وعند ذلك قال: «اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راض».

أي وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: «رأيت رسول الله من أول الليل إلى أن طلع الفجر رافعا يديه الكريمتين يدعو لعثمان بن عفان يقول: اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه» وجاء أنه قال: «سألت ربي أن لا يدخل النار من صاهرته أو صاهرني».

وجاء رضي الله تعالى عنه بألف دينار فصبها في حجر النبي، فجعل رسول الله يقلبها بيديه ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم يرددها مرارا» ا هـ.

وفي رواية: «جاء بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله فصبت بين يديه، فجعل يقول بيديه ويقلبها ظهرا لبطن، ويقول: غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما كان منك، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي ما عمل بعدها» أي ولعل هذه العشرة الآلاف هي التي جهز بها العشرة آلاف إنسان وإنها أي العشرة غير الألف التي صبها في حجره.

وأنفق غير عثمان أيضا من أهل الغنى قال: وكان أول من جاء بالنفقة أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه جاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله : هل أبقيت لأهلك شيئا. قال: أبقيت لهم الله ورسوله. وجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله : هل أبقيت لأهلك شيئا قال: النصف الثاني. وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه بمائة أوقية، أي ومن ثم قيل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما كانا خزنتين من خزائن الله في الأرض ينفقان في طاعة الله تعالى. وجاء العباس رضي الله تعالى عنه بمال كثير، وكذا طلحة رضي الله تعالى عنه، وبعثت النساء رضي الله تعالى عنهن بكل ما يقدرون عليه من حليهن. وتصدق عاصم بن عدي رضي الله تعالى عنه بسبعين وسقا من تمر اهـ. وجاءه جمع، أي سبعة أنفس من فقهاء الصحابة يتحملونه: أي يسألونه أن يحملهم. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، وعند ذلك {تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون} أي ما يحملهم، ومن ثم قيل لهم البكاؤون، ومنهم العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، ولم يذكره القاضي البيضاوي في السبعة. وحمل العباس رضي الله تعالى عنه منهم اثنين، وحمل منهم عثمان رضي الله تعالى عنه بعد الجيش الذي جهزه ثلاثة، أي وحمل ياميز بند عمرو النضري اثنين دفع لهما ناضجا له وزودّ كل واحد منهما صاعين من تمر.

وعدهم مغلطاي ثمانية عشر.

وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله أسأله الحملان لهم، فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال والله لا أحملكم على شيء. وفي رواية: والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه، فرجعت حزينا إلى أصحابي من منع النبي ومن مخافة أن يكون النبي وجد في نفسه حيث حلف على أن لا يحملهم. قال: فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته قال: أحب رسول الله يدعوك، فلما أتيته قال: خذ هذه الستة أبعرة فانطلق بها إلى أصحابك. زاد بعضهم: فعند ذلك قال بعضهم لبعض أغلقنا رسول الله أي حملناه على يمين الغلق وقد حلف أن لا يحملنا ثم حملنا فوالله لا بارك لنا في ذلك، فأتوه فذكروه، فقال عليه الصلاة والسلام: أنا ما حملتكم، الله حملكم، ثم قال: «إني لا أحلف يمينا فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير» أي فهو إنما حلف أن لا يتكلف لهؤلاء حملا بقرض ونحوه ما دام لا يجد لهم حملا فلا حنث. وفيه أن هذا لا يناسب قوله: إني لا أحلف إلى آخره.

وأجيب بأن هذا استثبات قاعدة لا تدل على أن النبي حنث في يمينه بل خرج الكلام على تقدير. كأنه قال لو حنثت في يميني حيث كان الحنث خيرا وكفرت عنها لكان ذلك شرعا واسعا بل ندبا راجحا، ويؤيده أنه لم ينقل أن رسول الله كفر عن هذه اليمين، وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هذا وما قبله.

وقد يقال: إن حمل العباس رضي الله تعالى عنه اثنين منهم إلى آخره كان قبل وجود هذه الأبعرة الستة، أو يدعى أن هؤلاء غير من تقدم.

فلما تجهز رسول الله بالناس وهم ثلاثون ألفا، أي وقيل أربعون ألفا، وقيل سبعون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، وقيل بزيادة ألفين.

وخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله تعالى عنه على ما هو المشهور، وقال الحافظ الدمياطي رحمه الله: وهو أثبت عندنا، وقيل سباع بن عرفطة، أي وقيل ابن أم مكتوم، وقيل علي بن أبي طالب، قال ابن عبد البر: وهو الأثبت، هذا كلامه.

وفي كلام ابن إسحاق: وخلف عليا كرّم الله وجهه على أهله وأمره بالإقامة فيهم، وتخلف عنه عبد الله بن أبيّ ابن سلول ومن كان من المنافقين بعد أن خرج بهم، وعسكر عبد الله بن أبيّ على ثنية الوداع، أي أسفل منها، لأن معسكره كان على ثنية الوداع، وكان عسكر عبد الله بن أبيّ أسفل منه. قال ابن إسحاق رحمه الله: وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين، أي والتعبير عن ذلك بالزعم واضح لأنه يبعد أن يكون عسكر عبد الله مساويا لعسكره فضلا عن كونه أكثر منه فليتأمل، وقال عند تخلفه: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ والبلد البعيد: أي ما لا طاقة له به، يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب، والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين في الحبال، يقول ذلك إرجافا برسول الله وبأصحابه أي وقيل للروم بنو الأصفر، لأنهم ولد روم بن العيص بن إسحاق نبي الله ، وكان يسمى الأصفر لصفرة به.

فقد ذكر العلماء بأخبار القدماء أن العيص تزوّج بنت عمه إسماعيل فولدت له الروم وكان به صفرة، فقيل له الأصفر، وقيل الصفرة كانت بأبيه العيص ().

ولما ارتحل رسول الله عن ثنية الوداع متوجها إلى تبوك عقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ورايته العظمى للزبير رضي الله عنه، ودفع راية الأوس لأسيد بن حضير رضي الله عنه، وراية الخزرج إلى الحباب بن المنذر رضي الله عنه، ودفع لكل بطن من الأنصار ومن قبائل العرب لواء وراية، أي لبعضهم راية ولبعضهم لواء، وكان قد اجتمع جمع من المنافقين أي في بيت سويلم اليهودي، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر. أي وهم الروم كقتال العرب بعضهم بعضا، والله لكأنهم يعني الصحابة غدا مقرنون في الحبال، يقولون ذلك إرجافا وترهيبا للمؤمنين، والجلاد: الضرب بالسيوف، فقال رسول الله عند ذلك لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل بل قلتم كذا وكذا، فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله يعتذرون إليه وقالوا إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} وقال للجد بن قيس: يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر، قال: يا رسول الله أو تأذن لي أي في التخلف ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله وقال: قد أذنت لك، فأنزل الله تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} الآية. وفي لفظ أنه قال: «اغزوا تبوك تغنموا بنات بني الأصفر نساء الروم، فقال قوم من المنافقين: ائذن لنا ولا تفتنا فأنزل الله تعالى الآية: {ألا في الفتنة سقطوا}» أي التي هي التخلف عن رسول الله والرغبة عنه.

وفي لفظ أنه قال للجد بن قيس: «يا أبا قيس هل لك أن تخرج معنا لعلك تحقب: أي تردف خلفك من بنات بني الأصفر، فقال ما تقدم» وعند ذلك لامه ولده عبد الله رضي الله عنه وقال له: والله ما يمنعك إلا النفاق، وسينزل الله فيك قرآنا فأخذ نعله وضرب به وجه ولده، فلما نزلت الآية قال له: ألم أقل لك؟ فقال له: اسكت يالكع، فوالله لأنت أشد عليّ من محمد. وفي رواية أن الجد بن قيس لما امتنع واعتذر بما تقدّم قال للنبي: ولكن أعينك بمالي، فأنزل الله تعالى: {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم}وتقدّم أنه لم يبايع بيعة الرضوان، وتقدم أنه تاب من النفاق وحسنت توبته، وأنه قال لبني ساعدة: «من سيدكم؟ فقالوا: الجد بن قيس على بخل فيه، فقال: وأي داء أدوأ من البخل؟ قالوا: يا رسول الله من سيدنا؟ فقال: بشر بن البراء بن معرور». وفي رواية: «سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح» وذكر ابن عبد البر أن النفس أميل إلى الأوّل ومات الجد بن قيس في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقال بعض المنافقين لبعض: لا تنفروا في الحرّ فأنزل الله تعالى: {قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} أي يعلمون {وجاء المعذرون} أي وهم الضعفاء والمقلون {من الأعراب ليؤذن لهم} في التخلف فأذن لهم، وكانوا اثنين وثمانين رجلا وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة جراءة على الله ورسوله، وقد عناهم الله تعالى بقوله: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله}.

قال السهيلي: وأهل التفسير يقولون إن آخر براءة نزل قبل أولها، وإن أوّل ما نزل منها: {انفورا خفافا وثقالا} قيل معناه شبابا وشيوخا، وقيل أغنياء وفقراء، وقيل أصحاب شغل وغير ذي شغل وقيل ركبانا ورجالة، ثم نزل أولها في نبذ كل ذي عهد إلى صاحبه كما تقدّم.

وتخلف جمع من المسلمين منهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع من غير عذر، وكانوا ممن لا يتهم في إسلامه.

ولما خلف عليا كرّم الله وجهه أرجف به المنافقون، وقالوا ما خلفه إلا استثقالا له، وحين قيل فيه ذلك أخذ علي كرّم الله وجهه سلاحه، ثم خرج حتى لحق برسول الله وهو نازل بالجرف فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك ما خلفتني إلا استثقلتني وتخففت مني، فقال: «كذبوا، ولكنني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا عليّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» أي فإن موسى حين توجه إلى ميقات ربه استخلف هارون في قومه، فرجع عليّ إلى المدينة.

وعن علي كرّم الله وجهه قال: «خرج رسول الله في غزوة وخلف جعفرا في أهله، فقال جعفر: والله لا أتخلف عنك، فخلفني، فقلت: يا رسول الله أتخلفني إلى شيء تقول قريش، أليس يقولون ما أسرع ما خذل ابن عمه وجلس عنه، وأخرى أبتغي الفضل من الله، أني سمعت الله يقول: {ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار} الآية، فقال: أما قولك أن تقول قريش ما أسرع ما خذل ابن عمه وجلس عنه، فقد قالوا إني ساحر وإني كاهن وإني كذاب، وأما قولك تبتغي الفضل من الله، فلك بي أسوة أي حيث تخلفت عن بعض مواطن القتال، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى عليهما السلام» أي ولم يتخلف عنه علي كرّم الله وجهه في مشهد من المشاهد إلا في هذه الغزوة.

وادّعت الرافضة والشيعة أن هذا من النص التفصيلي على خلافة علي كرّم الله وجهه، قالوا لأن جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوّة ثابتة لعلي كرّم الله وجهه من النبي، وإلا لما صح الاستثناء: أي استثناه النبوّة بقوله: «إلا أنه لا نبي بعدي» ومما ثبت لهارون من موسى استحقاقه للخلافة عنه لو عاش بعده: أي دون النبوّة.

وردّ بأن هذا الحديث غير صحيح كما قاله الآمدي. وعلى تسليم صحته، بل صحته هي الثابتة لأنه في الصحيحين ـ فهو من قبيل الآحاد، وكل من الرافضة والشيعة لا يراه حجة في الإمامة. وعلى تسليم أنه حجة فلا عموم له، بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا كرم الله وجهه خليفة عن النبي في أهله خاصة مدة غيبته بتبوك، كما أن هارون كان خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة. فعلى تسليم أنه عام لكنه مخصوص والعام المخصوص غير حجة في الباقي أو حجة ضعيفة. وقد استخلف في مرار أخرى غير عليّ فيلزم أن يكون مستحقا للخلافة، وصار بعد مسيره يتخلى عنه الرجل، فيقال تخلف فلان، فيقول دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه.

وكان ممن تخلف عن مسيره معه أبو خثيمة. ولما أن سار أياما دخل أبو خثيمة على أهله في يوم حارّ فوجد امرأتين له في عريشتين لهما في حائط قد رشت كل منهما عريشتها، وبرّدتا فيها ماء، وهيأتا طعاما، وكان يوما شديد الحر، فلما دخل نظر إلى امرأتيه وما صنعتا فقال رضي الله عنه: رسول الله في الحرّ، وأبو خثيمة في ظلّ بارد وماء مهيأ، وامرأة حسناء؟ ما هذا بالنصف. ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيئا لي زادا ففعلتا. ثم قدّم ناضحه فارتحل وأخذ سيفه ورمحه كما في الكشاف، أي ثم خرج في طلب رسول الله حتى أدركه حين نزل بتبوك، وقد كان أبو خثيمة أدرك عمير بن وهب في الطريق يطلب رسول الله فترافقا حتى دنوا من تبوك. فقال أبو خثيمة لعمير: إن لي ذنبا فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله ففعل، فلما دنا أبو خثيمة قال الناس: هذا ركب مقبل. فقال رسول الله : كن أبا خثيمة. فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو خثيمة، فلما أناخ أقبل يسلم على رسول الله، فقال له رسول الله : أولى لك يا أبا خثيمة، ثم أخبر رسول الله الخبر، فقال له رسول الله خيرا، ودعا له بخير: أي وأولى لك كلمة تهديد وتوعد.

ولما مرّ رسول الله بالحجر ديار ثمود سَجى ثوبه على رأسه واستحث راحلته، وقال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم»، أي لأن البكاء يتبعه التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله عز وجل على أولئك بالكفر، مع تمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه يقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك «ونهى الناس أن يشربوا من مائها شيئا، وأن لا يتوضؤوا به للصلاة، وأن لا يعجن به عجين وأن لا يحاس به حيس، ولا يطبخ به طعام، وأن العجين الذي عجن به أو الحيس الذي فعل به يعلفونه الإبل، وأن الطبيخ الذي طبخ به يلقى ولا يأكلوا منه شيئا».

ثم ارتحل بالناس: أي لا زال سائرا حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، وأخبرهم أنها تهب عليهم الليلة ريح شديدة، أي وقال: من كان له بعير فليشد عقاله، ونهى الناس في تلك الليلة عن أن يخرج واحد منهم وحده بل معه صاحبه، فخرج شخص وحده لحاجته فخنق، وخرج آخر كذلك في طلب بعير له ندّ فاحتمله الريح حتى ألقته بجبل طيىء، فأخبر بذلك رسول الله، فقال: ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه، ثم دعا للذي خنق فشفي، والذي ألقته الريح بجبل طيىء له حين قدم المدينة.

وفي سيرة الحافظ الدمياطي: وكان رسول الله يستخلف على عسكره أبا بكر الصديق رضي الله عنه يصلي بالناس. واستعمل على العسكر عباد بن بشر، فكان يطوف في أصحابه على العسكر. ثم أصبح الناس ولا ماء معهم: أي وحصل لهم من العطش ما كاد يقطع رقابهم، حتى حملهم ذلك على نحر إبلهم ليشقوا أكراشها ويشربوا ماءها.

فعن عمر رضي الله عنه: خرجنا في حرّ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. وفي لفظ: على صدره، فشكوا ذلك للنبي، أي قال له أبو بكر: يا رسول الله قد عوّدك الله من الدعاء خيرا فادع الله لنا، قال أتحب ذلك؟ قال نعم، فدعا، أي ورفع يديه فلم يرجعهما حتى أرسل الله سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا ما يحتاجون إليه، قال: وذكر بعضهم أن تلك السحابة لم تتجاوز العسكر، وأن رجلا من الأنصار قال لآخر متهم بالنفاق: ويحك قد ترى فقال: إنما مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى: {وتجعلون رزقكم} أي بدل شكر رزقكم {أنكم تكذبون} أي حيث تنسوبه للأنواء. وقيل إنه قال له: ويحك، هل بعد هذا شيء، قال: سحابة مارّة انتهى.

وفي لفظ أنهم لما شكوا إليه شدة العطش. قال لعليّ: لو استسقيت لكم فسقيتم قلتم هذا بنوء كذا وكذا. فقالوا: يا نبيّ الله ما هذا بحين أنواء فدعا رسول الله بماء فتوضأ ثم قام فصلى، فدعا الله تعالى، فهاجت ريح وثار سحاب فمطروا حتى سال كل واد، فمرّ رسول الله برجل يغرف بقدحه، ويقول: هذا نوء فلان فنزلت الآية.

وضلت ناقته، فقال رجل من المنافقين الذين خرجوا معه ليس غرضهم إلا الغنيمة: إن محمدا يزعم أنه نبي، وأنه يخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال: إن رجلا يقول كذا وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها أنها في شعب كذا وكذا، وقد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فوجدوها كذلك، فجاؤوا بها، أي وتقدم له نظير هذا في غزوة بني المصطلق التي هي المريسيع، ولا بعد في تعدد الواقعة. ويحتمل أن يكون من خلط بعض الرواة.

ولما سمع بذلك بعض الصحابة جاء إلى رحله، فقال لمن به: والله لعجب في شيء حدثناه رسول الله عن مقالة قائل أخبره الله عنه وذكر المقالة. فقال له بعض من في رحله: هذه المقالة قالها فلان يعني شخصا في رحله أيضا قالها قبل أن تأتي بيسير، فقال: يا عباد الله في رحلي داهية وما أشعر: أي عدوّ الله اخرج من رحلي ولا تصحبني فيقال: إنه تاب، ويقال إنه لم يزل منها بشرّ حتى هلك.

وتباطأ جمل أبي ذرّ رضي الله عنه لما به من الأعياء والتعب، فتخلف عن الجيش فأخذ متاعه وحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيا فأدركه نازلا في بعض المنازل، أي وقبل مجيئه قالوا له: يا رسول الله تخلف أبو ذرّ وأبطأ به بعيره.

فقال: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه.

ولما أشرف على ذلك المنزل ونظره شخص يمشي، فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فقال رسول الله : كن أبا ذرّ، فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذرّ، فقال رسول الله: «رحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» وكان كما قال إنه يموت وحده. فقد مات رضي الله عنه وحده بالربذة لما أخرجه عثمان رضي الله عنه إليها.

أي فإنه بعد موت أبي بكر رضي الله عنه خرج من المدينة إلى الشام. فلما ولى عثمان رضي الله عنه شكاه معاوية رضي الله عنه إليه، فإنه كان يغلظ على معاوية في بعض أمور تقع منه، فاستدعاه عثمان رضي الله عنه من الشام ثم أسكنه الربذة، ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه، فوصاهما عند موته أن غسلاني وكفناني ثم اجعلاني على قارعة الطريق، فأول من يمرّ بكم قولا له هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه، فلما مات رضي الله عنه فعلا به ذلك. وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق فوجدوا الجنازة على ظهر الطريق، قد كادت الإبل تطؤها فقام إليهم الغلام وقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه، فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله، تمشي وحدك وتموت وحدك، وتبعث وحدك ثم نزل هو وأصحابه فواروه، ثم حدثهم عبد الله بن مسعود خبره.

أي وفي الحدائق عن أم ذر قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: وما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض ولا بد لنا من معين على دفنك، وليس معنا ثوب يسعك كفنا. فقال: لا تبكي وأبشري، فإني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية، وإني أنا الذي أموت بالفلاة، والله ما كذب رسول الله ولا كذبت. وفي رواية: ما كذبت ولا كذبت فانظري الطريق. فقالت: قد ذهب الحاج وتقطعت السبل. فقال: انظري، فقالت: كنت أشتد إلى الكثيب فأقوم عليه ثم أرجع إليه فأمرضه، فبينما أنا كذلك إذا أنا برجال على رواحلهم كأنهم الرخم فألحت بثوبي، فأسرعوا إليّ ووضعوا السياط في نحورها يستقبلون إليّ، فقالوا ما لك يا أمة الله؟ فقلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه، قالوا: ومن هو؟ قلت أبو ذر. قالوا: صاحب رسول الله؟ قلت نعم، فأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فسلموا عليه فرحب بهم. وقال: أبشروا فإنكم عصابة من المؤمنين وحدثهم الحديث، وقال: والله لو كان لي أو لها ما يسعني كفنا ما كفنت إلا فيه، وإني أنشدكم الله والإسلام لا يكفنني منكم رجل كان أميرا ولا عريفا ولا بريدا أو نقيبا، ولم يكن منهم أحد سلم من ذلك إلا فتى من الأنصار، فقال: والله لم أصب مما ذكرت شيئا أن أكفنك في ردائي هذا وثوبين معي من غزل أمي، فمات فكفنه الفتى الأنصاري ودفنه في النفر الذين معه.

أقول: يحتاج إلى الجمع بين هذا وما تقدم. وقد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه، لجواز أن يكون قدومه بعد أن كفن بكفن الأنصاري، ولا ينافي ذلك ما تقدم من قول الراوي: فلما مات فعلا: أي زوجته وغلامه ذلك: أي غسله وتكفينه، ولا ينافي ذلك قول الغلام لابن مسعود ومن معه: أعينونا على دفنه. ولا ينافي ذلك قول الراوي هنا: ودفنه: أي الفتى الأنصاري في النفر الذين معه، لأن ذلك يقال إذا اشتركوا مع غيرهم في ذلك.

وأبو ذر رضي الله عنه اسمه جندب، وقيل اسمه سلمة بن جنادة. وكان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع والقول بالحق. وقد قال في حقه: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» وكان رضي الله عنه من الأقدمين في الإسلام. قال ابن عبد البر: كان خامس رجل أسلم فليتأمل. وقال: «أبو ذر في أمتي شبيه عيسى ابن مريم في زهده» وبعضهم يرويه: «من ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذر» وإلى وجود ما أخبر عن أبي ذر من أنه يموت وحده أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله:

وعاش أبو ذر كما قلت وحده ** ومات وحيدا في بلاد بعيدة

قال: وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال: لما كنا فيما بين الحجر وتبوك ذهب رسول الله لحاجته بعد الفجر وتبعته بماء فأسفر الناس بصلاتهم التي هي صلاة الفجر فقدموا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فصلى بهم، فانتهى بعد أن توضأ ومسح خفيه لعبد الرحمن بن عوف وقد صلى ركعة، فصلى رسول الله مع عبد الرحمن ركعة وقام ليأتي بالركعة الثانية، وقال لهم بعد فراغه: أحسنتم أو أصبتم، ثم قال: «لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته» اهـ. أي ولعل هذا لا ينافي ما تقدم.

وكان رسول الله يستخلف على عسكره أبا بكر الصديق رضي الله عنه يصلي بالناس، وقوله: «لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته» يقتضي أنه لم يصل خلف الصديق في هذه الغزوة حيث يصلى بالعسكر فليتأمل.

أي وجاء أنه قال: «عبد الرحمن سيد من سادات المسلمين» ولا يخالف هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «لم يصل النبي خلف أحد من أمته إلا خلف أبي بكر» أي في مرض موته، لأن المراد صلاة كاملة أو تكرر الصلاة هذا.

وفي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه فيما حكى القاضي عياض رحمه الله أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه لأنه لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا غيرها لا لعذر ولا لغيره.

وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعا له وقد قال: «أئمتكم شفعاؤكم» ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: «ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله » فليتأمل.

ولما نزلوا تبوك وجدوا عينها قليلة الماء، فاغترف رسول الله بيده غرفة من مائها فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت.

قال: وعن حذيقة رضي الله عنه «بلغ رسول الله أن في الماء قلة أي ماء عين تبوك، أي وقد قال لهم: إنكم لتأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، وإنكم لن تنالوها حتى يضحا النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي، وأمر مناديا ينادي بذلك فجئناها فإذا العين مثل الشراك تبض من مائها، وقد سبق إليها رجلان: أي من المنافقين ومسا من مائها فسبهما رسول الله لما بلغه ذلك» وفي رواية: «سبق إليها أربعة من المنافقين، ثم إنهم غرفوا من تلك العين قليلا قليلا حتى اجتمع شيء في شن فغسل رسول الله وجهه ويديه ومضمض ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير» وفي رواية: «فجعلوا فيها سهاما دفعها لهم، فجاشت بالماء» وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله:

فيوما بوقع النبل جئت بشربهم ** ويوما بوقع الوبل جدت بسقية

وحينئذ أي وحين إذ ثبت أنه جعل السهام في عين تبوك يسقط الاعتراض بأن وقع النبل لم يكن بتبوك وإنما كان بالحديبية على أن الذي بالحديبية إنما هو غرز سهم واحد لا سهم فليتأمل.

ثم قال لمعاذ: «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هنا ملىء جنانا» أي بساتين، وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن بعضهم. قال: أنا رأيت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانا خضرة نضرة.

وقبل قدومهم تبوك بليلة نام رسول الله، فلم يستيقظ حتى كادت الشمس قيد رمح، أي وقد كان قال لبلال: اكلأ لنا الفجر فاسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه قال: ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر؟ وفي رواية أن بلالا رضي الله عنه قال لهم ناموا وأنا أوقظكم: فاضطجعوا، فقال له رسول الله : يا بلال أين ما قلت؟ قال: يا رسول الله ذهب بي مثل الذي ذهب بك، أي وفي لفظ: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وقال للصديق: إن الشيطان صار يهدىء بلالا للنوم كما يُهدَّىء الصبي حتى ينام، ثم دعا رسول الله بلالا وسأله عن سبب نومه، فأخبر النبي بما أخبر به النبي الصديق، فقال الصديق للنبي: أشهد أنك رسول الله، فانتقل رسول الله من منزله غير بعيد. ثم صلى وتقدم في خيبر: أي في غزوة وادي القرى، فإنها كانت عند منصرفه من خيبر، الخلاف في أي غزوة كان وسار مسرعا بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك.

وفي منصرفه من تبوك قال أبو قتادة رضي الله عنه: «بينا نحن نسير مع رسول الله وهو قافل من تبوك وأنا معه، إذ خفق خفقة وهو على راحلته فمال على شقه، فدنوت منه فدعمته، فانتبه فقال: من هذا؟ فقلت أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط فدعمتك، فقال: حفظك الله كما حفظت رسوله ثم سار غير كثير ثم فعل مثلها فدعمته، فانتبه، فقال: يا أبا قتادة هل لك في التعريس؟ فقلت: ما شئت يا رسول الله، فقال انظر من خلفك، فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة فقال: ادعهم، فقلت أجيبوا رسول الله، فجاؤوا فعرسنا».

وفي رواية قال أبو قتادة رضي الله عنه: «بينا رسول الله يسير حتى ابهار الليل وأنا إلى جنبه فنعس فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته، فدعمته حتى اعتدل على راحلته ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأولتين حتى كاد يسقط، فأتيته فدعمته فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: أبو قتادة، قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: حفظك الله كما حفظت نبيه» وهذا تقدم في منصرفه من خيبر، ولا مانع من التعدد. ويحتمل أن هذا خلط وقع من بعض الرواة فليتأمل، ثم قال: هل ترى من أحد: يعني من الجيش؟ قلت: هذا راكب، ثم قلت هذا راكب آخر حتى اجتمعنا وكنا سبعة. وفي رواية خمسة برسول الله، فمال رسول الله عن الطريق، ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا، وكان أول من استيقظ رسول الله والشمس في ظهره، فقمنا فزعين. ثم قال: اركبوا، فركبنا، فسرنا حتى ارتفعت الشمس: ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، فتوضأ منها وبقي فيها شيء، وفي رواية: جرعة من ماء، ثم قال لي: احفظ علينا ميضأتك، وفي رواية: ازدهر بها يا أبا قتادة فسيكون لها نبأ» الحديث.

وفي رواية: «ما أيقظنا إلا حر الشمس، فقلنا: إنا لله فاتنا الصبح، فقال رسول الله لنغيظن الشيطان كما غاظنا، فتوضأ من الإداوة التي هي الميضأة، ففضل فضل، فقال يا أبا قتادة احتفظ بما في الإداوة، واحتفظ بالركوة فإن لهما شأنا فصلى بنا رسول الله الفجر بعد طلوع الشمس. وفي لفظ إن عمر رضي الله عنه هو الذي أيقظ النبي بالتكبير.

أقول: ظاهر هذه الرواية أنهم صلوا بمحلهم ولم ينتقلوا. وفي رواية قال لهم: تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة. وفي لفظ: ارتحلوا، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان.

وفي البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «كنا في سفر مع النبي، وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه: أي من الوحي، فكانوا يخافون من إيقاظه قطع الوحي» كما تقدم في غزوة بني المصطلق «فلما استيقظ عمر رضي الله عنه ورأى ما أصاب الناس: أي من فوات صلاة الصبح كبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ النبي ».

وفي رواية: «إن الصديق رضي الله عنه استيقظ أولا ثم لا زال يسبح ويكبر حتى استيقظ عمر، ولا زال يكبر حتى استيقظ رسول الله، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم: أي من فوات صلاة الصبح، قال: لا ضير، ارتحلوا، فارتحلوا فسار غير بعيد ثم نزل، فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس» وهذا كما نرى فيه التصريح بأن هاتين اليقظتين وقعتا في غزوة تبوك، الأولى عند ذهابهم لها، والثانية عند منصرفهم منها.

وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابة: «وبعد أن صلينا وركبنا جعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ فقال النبي : ما هذا الذي تهمسون دوني؟ فقلنا: يا رسول الله بتفريطنا في صلاتنا، قال: أما لكم في أسوة حسنة؟ ثم قال: ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلّ الصبح حتى يجيء وقت الأخرى».

وفي فتح الباري: اختلف في تعيين هذا السفر. ففي مسلم أنه كان في رجوعهم من خيبر قريب من هذه القصة. وفي أبي داود: «أقبل النبي من الحديبية ليلا، فنزل فقال: من يكلؤنا؟ فقال بلال أنا» الحديث. وفي مصنف عبد الرزاق أن ذلك كان بطريق تبوك.

وقد اختلف العلماء هل كان ذلك: أي نومهم عن صلاة الصبح مرة أو أكثر؟ فجزم الأصيلي رحمه الله بأن القصة واحدة.

وتعقبه القاضي عياض رحمه الله بأن قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران بن حصين. ومما يدل على تعدد القصة اختلاف مواطنها.

وفي الطبراني قصة شبيهة بقصة عمران وأن الذي كلأ لهم الفجر ذو مخبر، قال ذو مخبر: فما أيقظني إلا حر الشمس، فجئت أدنى القوم فأيقظته وأيقظ الناس بعضهم بعضا حتى استيقظ النبي فليتأمل، وتقدم عن الإمتاع قال عطاء بن يسار: إن ذلك كان بتبوك، وهذا لا يصح، وإلا فالآثار الصحاح على خلاف قوله مسندة ثابتة، والله أعلم.

واستشكل ذلك بقوله: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» وقوله لعائشة وقد قالت له «أتنام قبل أن توتر؟ قال: تنام عيني ولا ينام قلبي».

وأجيب عنه بأجوبة أحسنها أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ولا يدرك ما يتعلق بالعين كرؤية الشمس وطلوع الفجر.

ومن الأجوبة أنه كان له نومان: نوم تنام فيه عينه وقلبه، ونوم تنام فيه عينه فقط. وينبغي أن يكون هذا الثاني أغلب أحواله وإن كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك، ويكون قوله: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا، ولا تنام قلوبنا» أي غالبا. ويكون هذا حاله دائما وأبدا إذا كان متوضئا، لقولهم: إنه لا يُنقض وضوؤه بالنوم، وفي جعله العين محلا للنوم نظر، لأن العين إنما هي محل السِنة، ومحل النعاس الرأس، ومحل النوم القلب.

قال الحافظ السيوطي: وكون القلب محلا للنوم دون العين لا يشكل عليه قوله: «تنام عيناي ولا ينام قلبي»، لأنه من باب المشاكلة، وفيه بحث هذا كلامه.

واستشكل قوله: «ارتحلوا فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان» وفي لفظ: «ارتحلوا، فإن هذا واد به شيطان» بأنه يقتضي تسلط الشيطان على النبي، لأن الظاهر أن وجود الشيطان هو السبب في النوم عن الصلاة.

وأجيب بأنه على تسليم ذلك، فإن تسليطه إنما كان على من كان يحفظ الفجر بلال أو غيره. ففي بعض الروايات كما تقدم: «إن الشيطان أتى بلالا فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام».

ثم لحق بالجيش، وقبل لحوقه بهم قال لأصحابه ما ترون الناس: يعني الجيش فعلوا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا، وذلك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أرادا أن ينزلا بالجيش على الماء فأبوا ذلك عليهما فنزلا على الماء فأبوا ذلك عليهما، فنزلا على غير ماء بفلاة من الأرض لا مار بها عند زوال الشمس وقد كادت أعناق الخيل والركاب تقطع عطشا فدعا رسول الله وقال: أين صاحب الميضأة؟ قيل هو ذا يا رسول الله. قال: جئني بميضأتك فجاءه بها وفيها شيء من ماء، وفي رواية: دعا رسول الله بالركوة فأفرغ ما في الإدواة فيها ووضع أصابعه الشريفة عليها فنبع الماء من بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا، وفاض الماء حتى رووا ورووا خيلهم وركابهم، وكان في العسكر من الخيل اثنا عشر ألف فرس أي على ما تقدم، ومن الإبل خمسة عشر ألف بعير، والناس ثلاثون ألفا، وقيل سبعون ألفا. وواضح أن هذه العطشة غير المتقدمة التي دعا فيها رسول الله فنزل المطر.

وفي كلام بعضهم أنه لما حصل للقوم العطش أرسل نفرا، ويقال عليا والزبير يستعرضون الطريق، وأعلمهم أن عجوزا تمر بهم في محل كذا على ناقة معها سقاء ماء، فقال لهم: اشتروا منها بما عزّ وهان، وائتوا بها مع الماء، فلما بلغوا المكان إذا بالمرأة ومعها السقاء. وفي رواية: إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين، فسألوها في الماء، فقالت: أنا وأهلي أحوج إليه منكم، فسألوها أن تأتي رسول الله مع الماء، فأبت وقالت: من هو رسول الله؟ لعله الساحر. وفي رواية الذي يقال له الصابىء وخير الأشياء أني لا آتيه، فشدوها وثاقا وأتوا بها إلى رسول الله، فقال لهم: خلوا عنها. وفي رواية: قلنا لها أين الماء؟ قالت: أهاه أهاه لا حالكم، بينكم وبين الماء مسيرة يوم وليلة، ثم قال لها رسول الله : أتأذنين لنا في الماء، ولتصيبنّ ماءك كما جئت به؟ فقالت: شأنكم، فقال لأبي قتادة: هات الميضأة، فقرّبت إليه، فحل السقاء وتفل فيه وصب في الميضأة ماء قليلا، ثم وضع يده الشريفة فيه ثم قال: ادنوا فخذوا، فجعل الماء يفور ويزيد والناس يأخذون حتى ما تركوا معهم إناء إلا ملؤوه، ورووا إبلهم وخيلهم، وبقي في الميضأة ثلثاها. والميضأة هي الإداوة لأنه يتوضأ منها. وفي الدلائل للبيهقي: فجُعل في إناء من مزادتيها، ثم قال فيه ما شاء الله أن يقول. زاد في رواية: ثم مضمض، ثم رد الماء في المزادتين وأوكأ أفواههما وأطلق العزالي، ثم أمر الناس أن يملؤوا آنيتهم وأسقيتهم، ثم قال لها: تعلمي والله ما رزأنا من مائك شيئا، ولكن الله عز وجل هو الذي سقانا، والعزالي: جمع عزلاء، والعزلاء: هي التي تجعل في فم القربة لينزل فيها الماء من الراوية وهي المرادة بالمزادة، وهذا السياق يدل على أن هذه عطشة ثالثة، لأن الثانية وضع يده في الركوة التي صب فيها من الميضأة، وهذه وضع يده في الميضأة بعد أن لم يجدوا في الميضأة شيئا.

وفي رواية أن تلك المرأة أخبرته أنها مؤتمة: أي لها صبيان أيتام، فقال: هاتوا ما عندكم فجمعنا لها من كسر وتمر وصرتها صرة، ثم قال لها: اذهبي فأطعمي هذا عيالَك.

وفي رواية أيتامك، وصارت تعجب مما رأت. ولما قدمت على أهلها قالوا لها: لقد احتبست علينا، قالت: حبسني أني رأيت عجبا من العجب، أرأيتم مزادتيّ هاتين؟ فوالله لقد شرب منهما قريب من سبعين بعيرا، وأخذوا من القرب والمزاد والمطاهر ما لا أحصي، ثم هما الآن أوفر منهما يومئذ، فلبثت شهرا عند أهلها ثم أقبلت في ثلاثين راكبا على رسول الله، فأسلمت وأسلموا.

وفي مسلم: «لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة بحيث صارت تمص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا فأكلنا وادّهنا، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله إن فعلت فني الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله أن يجعلها في ذلك، فقال رسول الله : نعم، فدعا بنطع فبسطه ثم دعاهم بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف من تمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله بالبركة، ثم قال لهم: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنة» وفي رواية: «إلا وقاه الله النار» وتقدم نظير ذلك في الرجوع من غزوة الحديبية، أي ولا مانع من التعدد أو هو من خلط بعض الرواة، ولعل هذا كان بعد أن ذبح لهم طلحة بن عبيد الله جزورا فأطعمهم وأسقاهم فقال له رسول الله «أنت طلحة الفياض» وسماه يوم أحد «طلحة الخير» ويوم حنين« طلحة الجود» لكثرة إنفاقه على العسكر رضي الله عنهم.

وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم، قال: «كنت في غزوة تبوك على نحي السمن، فنظرت إلى النحي وقد قلّ ما فيه، وهيأت للنبي طعاما ووضعت النحي في الشمس ونمت، فانتبهت بخرير النحي، فقمت فأخذت رأسه بيدي، فقال رسول الله وقد رأى: لو تركته لسال الوادي سمنا».

وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: «كنت مع رسول الله بتبوك، فقال ليلة لبلال: هل من عشاء؟ فقال: والذي بعثك بالحق لقد نفضنا جربنا» فقال: انظر عسى أن تجد شيئا، فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا، فتقع التمرة والتمرتان حتى رأيت في يده سبع تمرات، ثم دعا بصحفة فوضع التمر فيها ثم وضع يده الشريفة على التمرات، وقال: كلوا بسم الله، فأكلنا ثلاثة أنفس، وأحصيت أربعا وخمسين تمرة أعدّها عدّا ونواها في يدي الأخرى وصاحباي يصنعان كذلك، فشبعا ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي، فقال: يا بلال ارفعها فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعا، فلما كان من الغد دعا بلالا بالتمرات، فوضع يده الشريفة عليهنّ، ثم قال: كلوا بسم الله، فأكلنا حتى شبعنا وأنا لعشرة ثم رفعنا أيدينا وإذا بالتمرات كما هي، فقال رسول الله : لولا أن أستحيي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نردّ إلى المدينة من آخرنا، فأعطاهنّ غلاما فولى وهو يلوكهن».

وأتاه وهو بتبوك يُحنة بضم المثناة تحت وفتح الحاء المهملة ثم نون مشددة مفتوحة ثم تاء التأنيث ابن رؤبة بالموحدة صاحب أيلة وصحبته أهل جرباء تأنيث أجرب يمد ويقصر: قرية بالشام، وأهل أذرح بالذال المعجمة والراء المهملة المضمومة والحاء المهملة، مدينة تلقاء السراة، وأهل ميناء، وأهدى يحنة لرسول الله بغلة بيضاء، فكساه رسول الله بردا، فصالح رسول الله على إعطاء الجزية، أي بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم.

وكتب له ولأهل أيلة كتابا صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بي رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يجوز ماله دون نفسه، وإنه لطيبة لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر».

وكتب لأهل أذرح وجرباء ما صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي، لأهل أذرح وجرباء أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد وأن عليهم مائة دينار في كل رجب، وافية طيبة، والله كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين وصالح أهل ميناء على ربع ثمارهم».

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «رأيت ونحن بتبوك شعلة من نار في ناحية العسكر» أي ضوء شمعة كما صرح به الجلال السيوطي رحمه الله حيث أجاب من سأله هل الشمع كان موجودا قبل البعثة وهل وقد عنده بأنه كان موجودا قبل البعثة؟ فقد ذكر العسكري رحمه الله في الأوائل أن أول من أوقده جزيمة الأبرش، أي وقد تقدم وهو قبل البعثة بدهر، وورد في حديث «أنه أوقد للنبي عند دفنه عبد الله ذا البجادين» قال: وقد ألفت في المسألة تأليفا سميته (مسامرة السموع في ضوء الشموع) قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: «فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له ورسول الله في حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه، وهو يقول: أدليا إليّ أخاكما، فأدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: اللهم قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه» يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة: أي والبجاد بموحدة ككتاب: الكساء المخطط الغليظ، أنه لم يكن لعبد الله المذكور إلا بجاد واحد، فشقه نصفين فاتزر بواحد وارتدى بالآخر وقدم المدينة وأسلم، وقرأ قرآنا كثيرا، وكان اسمه عبد العزى فسماه رسول الله عبد الله.

«ولما خرج رسول الله إلى تبوك خرج معه وقال: يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة، فقال: ائتني بلحاء شجرة» أي بقشرها «فأتاه بذلك فربطه على عضده وقال: اللهم حرم دمه على الكفار، قال: يا رسول الله ليس هذا ما أردت، قال إنك إذا أخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، فأخذته الحمى بعد الإقامة بتبوك أياما ومات بها» أي وهذا هو المشهور.

وروي عن الأدرع الأسلمي وكان في حرس رسول الله قال، جئت ليلة أحرس رسول الله، فإذا رجل ميت، فقيل: هذا عبد الله ذو البجادين، توفي بالمدينة، وفرغوا من جهازه وحملوه، فقال النبي : ارفقوا به رفق الله بكم، فإنه كان يحب الله ورسوله، قال ابن الأثير: وهذا حديث غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه وتقدم.

وعن الحافظ السيوطي رحمه الله: لما ذكر أنه أوقد للنبي الشمع عند دفنه عبد الله ذا البجادين قال: وقد دل ذلك على إباحة استعماله أي الشمع ولا يعد استعماله إسرافا مع قيام غيره من الأدهان مقامه.

وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة، وفي سيرة الحافظ الدمياطي عشرين ليلة يصلي ركعتين ولم يجاوز تبوك، ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن ذلك على تقدير صحته.

قال: وقد استشار النبي أصحابه في مجاوزتها، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: إن كنت أمرت بالسير فسر، فقال رسول الله : لو أمرت بالسير لم أستشركم فيه، فقال يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة وليس بها أحد من أهل الإسلام وقد دنونا، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمرا، وهذا تصريح بأن تبوك لم يقع بها مقاتلة ولا حصل فيها غنيمية، وبه يرد ما ذكره الزمخشري في فضائل العشرة أنه جلس في المسجد يقسم غنائم تبوك، فدفع لكل واحد سهما، ودفع لعلي كرّم الله وجهه سهمين، فقام زائدة بن الأكوع وقال: يا رسول الله أوحي نزل من السماء أم أمر من نفسك؟ فقال: أنشدكم الله هل رأيتم في ميمنتكم صاحب الفرس الأغر المحجل والعمامة الخضراء بها ذؤابتان مرخاتين على كتفيه بيده حربة قد حمل بها على الميمنة فأزالها؟ قالوا نعم، قال: هو جبريل عليه الصلاة والسلام وإنه أمرني أن أدفع سهمه لعليّ، فقال زائدة: حبذا سهم مسهم، وخطب خطبة فيها: «أما بعد، فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، والسعيد من وعظ بغيره، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، أستغفر الله لي ولكم».

وأهدى له بعض أهل الكتاب جبنة فدعا بالسكين فسمى الله وقطع وأكل، ثم انصرف قافلا إلى المدينة وكان في الطريق ماءً يخرج من وشل قليل جدا، فقال رسول الله : من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه، فسبق إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله وقف عليه، فلم يجد فيه شيئا، فقال: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له فلان وفلان وفلان، فقال أو لم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه، ثم لعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فصار يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه ومسح بيده ودعا رسول الله بما شاء أن يدعو به فانخرق من الماء وكان له حس كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله : لئن بقيتم أو بقي منكم أحد لتسمعن بهذا الوادي وقد أخصب ما بين يديه وما خلفه. أي وهذا خلاف عين تبوك الذي تقدم له فيها ما يشبه هذا، وقوله لمعاذ: «يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ههنا ملىء جنانا» إلى آخره، لأن تلك العين كانت بتبوك، وهذا عند منصرفه من تبوك.

قال: واجتمع رأي من كان معه من المنافقين وهم اثنا عشر رجلا وقيل أربعة عشر، وقيل خمسة عشر رجلا على أن ينكثوا برسول الله في العقبة التي بين تبوك والمدينة، فقالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي فأخبر الله تعالى رسوله بذلك، فلما وصل الجيش العقبة نادى منادي رسول الله : إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي، وسلك رسول الله العقبة، فلما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا، وسلكوا العقبة، وأمر عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيقة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما أن يسوق من خلفه.

وفي الدلائل عن حذيفة قال: «كنت ليلة العقبة آخذا بخطام ناقة رسول الله أقود به وعمار بن ياسر يسوقه أو أنا أسوقه وعمار يقوده» أي يتناوبان ذلك «فبينا رسول الله يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه، فنفرت ناقة رسول الله حتى سقط بعض متاعه، فغضب رسول الله، وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة إليهم وقد رأى غضب رسول الله ومعه محجن، فجعل يضرب به وجوه رواحلهم وقال: إليكم إليكم يا أعداء الله فإذا هو بقوم ملثمين» وفي رواية: «أنه صرخ بهم فولوا مدبرين، فعلموا أن رسول الله اطلع على مكرهم به، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي واختلطوا بالناس، فرجع حذيفة يضرب الناقة، فقال له رسول الله : هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم؟ قال: لا، كان القوم ملثمين والليلة مظلمة».

وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: «لما سقط متاع النبي وأردت جمعه نوّر لي في أصابعي الخمس فأضاءت حتى جمعت ما سقط حتى ما بقي من المتاع شيء» وفي لفظ: «أن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: عرفت راحلة فلان وراحلة فلان، قال: هل علمت ما كان من شأنهم، وما أرادوه؟ قال لا: قال: إنهم مكروا ليسيروا معي في العقبة فيزحموني فيطرحوني منها، إن الله أخبرني بهم وبمكرهم وسأخبركما بهم واكتماهم، فلما أصبح رسول الله جاء إليه أسيد بن حضير؟ فقال يا رسول الله ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل من سلوك العقبة؟ فقال: أتدري ما أراد المنافقون وذكر له القصة، فقال: يا رسول الله قد نزل الناس واجتمعوا، فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا، فإن أحببت بين بأسمائهم، والذي بعثك بالحق لا أبرح حتى آتيك برؤوسهم، فقال: إني أكره أن يقول الناس إن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم، فقال: يا رسول الله هؤلاء ليسوا بأصحاب، فقال رسول الله : أليس يظهرون الشهادة، ثم جمعهم رسول الله وأخبرهم بما قالوه وما أجمعوا عليه، فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا الذي ذكر، فأنزل الله تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} الآية، وأنزل الله تعالى: {وهموا بما لم ينالوا} ودعا عليهم رسول الله فقال: اللهم ارمهم بالدبيلة» وهي سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم انتهى. أي وفي لفظ: «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلكه».

وفي الامتاع أن النبي وهو بتبوك صلى إلى نخلة فجاء شخص فمر بينه وبين تلك النخلة بنفسه، وفي رواية وهو على حمار، فدعا عليه فقال: قطع صلاتنا قطع الله أثره فصار مقعدا، وكان يقال لخذيفة رضي الله تعالى عنه صاحب سر رسول الله، قال حذيفة: نزل رسول الله عن راحلته، فأُوحي إليه وراحلته باركة فقامت تجر زمامها، فلقيتها فأخذت بزمامها وجئت إلى قرب رسول الله فأنختها، ثم جلست عندها حتى قام النبي فأتيته بها، فقال: من هذا؟ قلت، حذيفة فقال النبي : إني مسر إليك سرا فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان، وعد جماعة من المنافقين، فلما توفي رسول الله كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في خلافته إذا مات الرجل ممن يظن به أنه من أولئك الرهط أخذ بيد حذيفة رضي الله عنه فقاده إلى الصلاة عليه، فإن مشى معه حذيفة صلى عليه عمر رضي الله تعالى عنه وإن انتزع يده من يده ترك الصلاة عليه.

وقال للمسلمين عند انصرافه: إن بالمدينة لأقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال نعم حبسهم العذر، ثم أقبل رسول الله حتى نزل بذي أوان محل بينه وبين المدينة ساعة من نهار، أي وقال البكري: أظن أن الراء سقطت من بين الهمزة والواو: أي أروان، منسوب إلى البئر المشهورة.

وحين نزل أتاه خبر مسجد الضرار، فأنزل الله تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا} الآية: أي لإضرار أهل قباء، أي فإن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نصلي في مربط حمار، لا، لعمر الله أي لأنه كان لامرأة كانت تربط فيه حمارها، ولكننا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، فيثبت لنا الفضل والزيادة على إخواننا وكان المسلمون في تلك الناحية كلهم يصلي في مسجد قباء جماعة، فلما بني هذا المسجد فصرف عن مسجد قباء جماعة وصلوا بذلك المسجد، فكان به تفريق للمؤمنين، فكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي ويستهزئون به، أي ويقال إن أبا عامر الراهب الذي سماه النبي فاسقا هو الآمر لهم ببنائه، فقال لهم: ابنوا لي مسجدا واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة، وإنهم لما فرغوا من بنائهم أرسلوا إلى النبي أن يأتيهم ويصلي فيه كما صلى في مسجد قباء، فهمّ أن يأتيهم، فأنزل الله تعالى الآية.

وفي رواية أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، قال: إني علي جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لأتيناكم فصلينا لكم فيه، فلما قفل من السفر وسألوه إتيان المسجد جاءه الخبر من السماء فأمر جماعة منهم وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهم وقال لهم: انطلقوا إلى المسجد الظالم أهله فاحرقوه واهدموه على أصحابه، ففعل به ذلك، قال: وكان ذلك بين المغرب والعشاء، ووصل الهدم إلى الأرض، وأعطاه لثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه يجعله بيتا، فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، وحفر فيه بقعة فخرج منها الدخان، ولعل هذا أي جعله بيتا كان بعد أن أمر أن يتخذه محلا لإلقاء الكناسة والجيفة.

وفي الكشاف أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في خلافته أن يأذن لجمع بن حارثة أن يؤمهم في مسجدهم، فقال: لا ولا نعمة، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ فوالله لقد صليت بهم والله يعلم إني لا أعلم ما أضمروا فيه ولو علمت ما صليت معهم فيه، وكنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرؤون من القرآن شيئا فعذره وصدقه، وأمره بالصلاة بهم.

ولما أشرف رسول الله على المدينة قال: هذه طابة أسكننيها ربي، تنفي خبث أهلها كما ينفي الكبر خبث الحديد.

ولما رأى جبل أحد قال: «هذا أحد جبل يحبنا ونحبه» وتقدم ما في ذلك في غزوة أحد، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «ولما قدم رسول الله المدينة تلقاه النساء والصبيان يقلن:

طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع»

قال البيهقي رحمه الله: وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة لا أنه عند مقدمه المدينة من تبوك، هذا كلامه، ولا مانع من تعدد ذلك.

ولما دنا من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا، فقال رسول الله لأصحابه: لا تكلموا رجلا منهم، ولا تجالسوهم حتى آذن لكم، فأعرض عنهم رسول الله والمسلمون، حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه انتهى.

أي وعن فضالة بن عبيد: أن رسول الله لما غزا غزوة تبوك جهد الظهر جهدا شديدا حتى صاروا يسوقونه، فشكوا إليه ذلك ورآهم يسوقونه، فوقف في مضيق والناس يمرون فيه فنفخ في الظهر، وقال: اللهم احمل عليها في سبيلك فإنك تحمل على القوي والضعيف والرطب واليابس في البر والبحر، فزال ما بها من الإعياء، وما دخلنا إلا وهي تنازعنا أزمتها.

وجاء: «أن حية عارضتهم في الطريق عظيمة الخلقة، فانحاز الناس عنها، فأقبلت حتى وقفت على رسول الله وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فقال رسول الله : تدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآن أي بنخلة عند منصرفه من الطائف، وتقدم الكلام عليه فرأى عليه من الحق حين ألمّ رسول الله ببلده أن يسلم عليه، وها هو يقرئكم السلام فقال الناس: و ورحمة الله».

وقد كان تخلف عنه، رهط من المنافقين وكانوا بضعة وثمانين رجلا، وتخلف عنه أيضا كعب بن مالك وكان من الخزرج ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكانا من الأوس، فأما المنافقون فجعلوا يحلفون ويعتذرون فقبل رسول الله منهم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله، واستغفر لهم، وأما الثلاثة، فعن كعب بن مالك الخزرجي رضي الله تعالى عنه أنه قال: «لما جئته وسلمت عليه تبسم تبسم المغضب وقال لي تعال، فجئت حتى جلست بين يديه، فقال: ما خلفك؟ فصدقته، وقلت: والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك» وفي رواية: «قلت: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخط عليّ فيه، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي من عذر. فقال رسول الله : أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك، وقال الرجلان الآخران وهما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكانا ممن شهد بدرا وهما من الأوس مثل قول كعب، فقال لهما مثل ما قال لكعب، ونهى المسلمين عن كلامهم، فاجتنبهم الناس، فأما الرجلان فمكثا في بيوتهما يبكيان، وأما كعب فكان يشهد الصلاة مع المسلمين ويطوف بالأسواق فلا يكلمه أحد منهم، قال: ولما طال ذلك عليّ من جفوة الناس تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه، والله ما رد عليّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله، فسكت فعدت إليه فنشدته، فسكت فعدت إليه فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، قال: وبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطى من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك، فطفق: أي جعل الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليّ كتابا من ملك غسان أي وهو الحارث بن أبي شمر أو جبلة بن الأيهم، وكان الكتاب ملفوفا في قطعة من الحرير، فإذا فيه: أما بعد فانه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسِك، فقلت لما قرأته: وهذا أيضا من البلاء، فيممت أي قصدت به التنور فسجرته بها: أي ألقيته فيها: أي والأنباط قوم يسكنون البطائح بين العراقين: قال حتى إذا مضت أربعون ليلة جاءني رسول رسول الله فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيّ: أي وهما هلال بن أمية ومرارة بن الربيع بمثل ذلك، فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لا ولكن لا يقربك، قالت: والله إنه ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لي بعض أهلي. قال في النور: الظاهر أن القائل له امرأة لأن النساء لم يدخلن في النهي لأن في الحديث «ونهى المسلمين» وهذا الخطاب لا يدخل فيه النساء فدل على أن المراد الرجال، قالت: لو استأذنت رسول الله في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدريني ما يقول لي رسول الله إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، ثم مضى بعد ذلك عشر ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما كان صلاة الفجر صبح تلك الليلة سمعت صوتا فوق جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر، فخررت ساجدا. وعرفت أن رسول الله قد آذن، أي أعلم بتوبة الله علينا، فلما جاءني الرجل الذي سمعت صوته يبشرني أي وهو حمزة بن عمرو الأوسي نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه، والله لا أملك غيرهما يومئذ: واستعرت أي من أبي قتادة رضي الله عنه ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله فتلقاني الناس فوجا فوجا: أي جماعة جماعة يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة: أي لأنه كان آخى بينهما حين قدم المدينة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله قال وهو يبرق وجهه من السرور، وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، فلما جلست بين يديه قال: أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم عند الله عز وجل؟ قال: لا بل من عند الله، فقلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال رسول الله : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، أي وكان المبشر لهلال بن أمية أسعد بن أسد، وكان المبشر لمرارة بن الربيع سلطان بن سلامة أو سلامة بن وقش.

أي وفي البخاري عن كعب رضي الله عنه: «فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله عند أم سلمة، وكانت أم سلمة رضي الله عنها محسنة في شأني معينة في أمري، فقال رسول الله : يا أم سلمة تيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره، قال: إذن يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الليل، حتى إذا صلى رسول الله صلاة الفجر أعلم بتوبة الله علينا وأنزل الله تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} إلى قوله: {وكونوا مع الصادقين} وقال في حق من اعتذر له: {سيحلفون بالله لكم} إلى قوله: {فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين}.

واستشكل نزول الوحي بالقرآن في بيت أم سلمة بقوله في حق عائشة رضي الله عنها: «ما نزل عليّ الوحي في فراش امرأة غيرها» وأجاب بعضهم بأنه يجوز أن يكون ما تقدم في حق عائشة كان قبل هذه القصة، أو أن الذي خصت به عائشة رضي الله تعالى عنها نزول الوحي في خصوص الفراش لا في البيت.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} الآية، قال: كانوا عشرة أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك، فلما رجع أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد منهم أبو لبابة، فلما مر بهم رسول الله قال: من هؤلاء؟ قالوا: أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك حتى تطلقهم وتعذرهم، قال: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا، فأنزل الله تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} الآية، فعند ذلك أطلقهم رسول الله وعذرهم، فجاؤوا بأموالهم وقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ أموالكم، فأنزل الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم} إلى قوله: {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسواري، وتقدم أن أبا لبابة رضي الله عنه ربط نفسه ببعض سواري المسجد في قصة بني قريظة، وعلى هذا فقد تكرر منه ربط نفسه، وقد ذكره ابن إسحاق فليتأمل ذلك.

ولما قدم من تبوك وجد عويمرا العجلاني رضي الله عنه امرأته حبلى، أي وهي خولة بنت عمه قيس، فلاعن بينهما أي في المسجد بعد العصر وكان قد قذفها بشريك بن سمحاء ابن عمه وقال: وجدته على بطنها، وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، فدعا رسول الله عويمرا وقال له: اتق الله في زوجتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر، ودعا بالمرأة التي هي خولة وقال لها: اتقي الله ولا تخبريني إلا بما صنعت، فقالت: يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور، وأنه يأتي وشريكا يطيل السهر ويتحدث، حملته الغيرة، على أن قال ما قال، فدعا شريكا وقال له: ما تقول؟ فقال مثل قول المرأة فأنزل الله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} الآية، فأمر رسول الله أن ينادى بالصلاة جامعة، فلما صلي العصر أي وقد نودي بذلك واجتمع الناس، قال لعويمر: قم، فقام وقال: أشهد بالله إن خولة لزانية، وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثانية: أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها، وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثالثة: أشهد بالله إنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين، ثم قال في الرابعة: أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين، ثم قال في الخامسة: لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين، ثم أمره بالقعود، وقال لخولة: قومي، فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا زانية، وإن عويمرا لمن الكاذبين، ثم قالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت في الثالثة: أشهد بالله إني لحبلى منه وإنه لمن الكاذبين، ثم قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة، وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة: إن غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله بينهما: أي قال له لا سبيل لك عليها وهو دليل لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه القائل إن الفرقة بين الزوجين تحصل بنفس التلاعن.

وما جاء في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثا قبل أن يأمره: أي بعدم الاجتماع بها فهو محمول على أنه ظن أن التلاعن لا يحرّمها عليه، فأراد تحريمها بالطلاق، فقال: هي طالق ثلاثا، ومن ثم قال له عقب ذلك لا سبيل لك عليها، أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاقك، ثم قال: إن جاء الولد على صفة كذا فعويمر صادق، وإن جاء على صفة كذا فعويمر كاذب، فجاء على الصفة التي تصدق عويمرا، فكان الولد ينسب إلى أمه.

وفي البخاري: «أن عويمرا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا: أيقتله فتقتلونه، أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله، فأتى عاصم النبي فسأله، فكره النبي تلك المسألة وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله، فسأله عويمر، فقال له عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله المسألة وعابها، أي لأنه كان يكره المسألة التي لا يحتاج إليها: أي التي لم تكن وقعت لا سيما إن كان فيها هتك ستر مسلم أو مسلمة. قال: فعويمر رضي الله عنه لم يكن وقع له مثل ذلك حينئذ ثم اتفق له وقوع ذلك بعد، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله عن ذلك، فجاءه عويمر وهو وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا إن تكلم جلدتموه، وإن قتله قتلتموه، أو سكت سكت على الغيظ، فقال رسول الله: «اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان، وعند ذلك قال لعويمر: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فائت بها» أي وذلك بعد أن ذكر له عويمر قصته.

وفي رواية «قد قضى فيك وفي امرأتك فتلاعنا» وفي «أن هلال بن أمية أحد المتخلفين عن تبوك قذف امرأته عند النبي بشريك ابن سمحاء، أي وكانت حاملا، فقال النبي : البينة» زاد في رواية: «أوحدّ في ظهرك: فقال، يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا يتكلف يلتمس البينة، فجعل النبي يقول وإلا فحدّ في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام: أي بعد أن قال: اللهم افتح، أي بين لنا الحكم، فأنزل الله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} فأرسل إلى المرأة فجاءت وتلاعنا، وعند الخامسة تلكأت ونكصت حتى ظن أنها ترجع، أي لأنه قال لها: إنها أي اللعنة موجبة: أي للعذاب في الآخرة، وعذاب الدنيا أهون من غضب الآخرة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر الأيام وقالتها: أي الخامسة، أي وقال: إن جاءت به كذا فهو لهلال، وإن جاءت به كذا فهو لشريك، فجاءت به على الوصف الذي ذكر أنه يكون لشريك، فقال: لولا ما سبق من كتاب الله تعالى لكان لي ولها شأن.

وجمهور العلماء على أن سبب نزول آية اللعان قصة هلال بن أمية، وإنه أول لعان وقع في الإسلام.

وذهب جمع إلى أن سبب نزولها قصة عويمر العجلاني، لقوله: «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا» وأجيب بأن معناه لما نزل في قصة هلال، لأن ذلك عام في جميع الناس.

قال الإمام النووي رحمه الله: ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعا، فلعلهما سألا في وقتين متقاربين: أي وقال في كل: اللهم افتح، فنزلت هذه الآية فيهما، وسبق هلال باللعان، فكان أول من لاعن.

وفي مسلم: «أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله؟ قال رسول الله : لا، قال، سعد: بلى والذي أكرمك بالحق». وفي رواية: «كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف» وفي لفظ: «لضربته بالسيف من غير صفح» أي بل أضربه بحده «فقال رسول الله: «اسمعوا الى ما يقول سيدكم» وليس ذلك من سعد رضي الله تعالى عنه ردا عليه، وإنما هو إخبار عن حاله، ومن ثم قال: «إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني» فأخبر عن سعد بأنه غيور، وأنه أغير منه، وأن الله أغير منه، ومن ثم جاء في الحديث «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك أرسل مبشرين ومنذرين. ولا أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة ليكثر سؤال العباد إياها والثناء منهم عليه».

وفي تفسير الفخر الرازي رحمه الله «لا شخص أغير من الله» وبه استدل على جواز إطلاق الشخص على الله تعالى.

وفي الحلية لأبي نعيم رحمه الله عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: «يا أبا بكر أرأيت لو وجدت مع أم رومان رجلا ما كنت صانعا؟ قال: كنت فاعلا به شرا ثم قال: يا عمر أرأيت لو وجدت رجلا، أي مع زوجتك ما كنت صانعا؟ قال: كنت والله قاتله، فقرأ: {والذين يرمون أزواجهم} الآية».

وفي الأم لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه: «أن رجلا من أهل الشام وجد مع امرأته رجلا فقتله، فرفع الأمر إلى معاوية رضي الله تعالى عنه فأشكل على معاوية القضاء فيها فكتب. معاوية إلى أبي الأشعري رضي الله تعالى عنه أن يسأل عن ذلك علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، فاستخبر علي أبا موسى عن القصة، فأخبره أبو موسى أن معاوية كتب إليه في ذلك، فقال علي كرّم الله وجهه: أنا أبو الحسن إن لم يأت بأربعة شهداء قتلناه، فليتأمل.

وفي الخصائص الكبرى أن في غزوة تبوك اجتمع بإلياس. فعن أنس رضي الله تعالى عنه: سمعنا صوتا يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور لها المستجاب لها. فقال النبي : يا أنس انظر ما هذا الصوت؟ قال أنس رضي الله تعالى عنه: فدخلت الجبل، فإذا رجل عليه ثياب بيض أبيض الرأس واللحية، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فلما رآني قال: أنت خادم رسول الله؟ قلت نعم، قال: ارجع إليه وأقرئه السلام، وقل له: أخوك إلياس يريد أن يلقاك، فرجعت إلى رسول الله فأخبرته، فجاء يمشي وأنا معه، حتى إذا كنت منه قريبا تقدم النبي وتأخرت أنا فتحدثا طويلا فنزل عليهما من السماء شيء شبه السفرة ودعاني فأكلت معهما قليلا فإذا فيها كمأة ورمان وحوت وتمر وكرفس، فلما أكلت قمت فتنحيت ثم جاءت سحابة فاحتملته وأنا أنظر إلى بياض ثوبه فيها. قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث موضوع مخالف للأحاديث الصحاح من وجوه، وأطال في بيان ذلك. والعجب من الحاكم كيف يستدركه على الصحيحين، وهذا مما يستدرك به على الحاكم.

وفي النور: لم يجىء في حديث صحيح اجتماعه بإلياس. وفي الجامع الصغير إلياس أخو الخضر. وفي تفسير البغوي: أربعة من الأنبياء أحياء إلى يوم البعث اثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس، أي وإلياس في البر والخضر في البحر، يجتمعان كل ليلة على ردم ذي القرنين يحرسانه. وأكلهما الكرفس والكمأة، واثنان في السماء إدريس وعيسى عليهما الصلاة والسلام.

وعن ابن إسحق الخضر من ولد فارس وإلياس من بني إسرائيل، أي وقد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم أنهما أخوان، لجواز أن يكونا أخوين لأم.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن إليه النفس أن الخضر عليه الصلاة والسلام اجتمع برسول الله في يوم من الأيام، ولو كان حيا في زمان رسول الله لكان أشرف أحواله اجتماعه به.

وفي الخصائص الكبرى عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: «خرجت ليلة مع النبي أحمل الطهور، فسمع قائلا يقول: اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني منه، فقال رسول الله : يا أنس ضع الطهور وأت هذا فقل له: ادع لرسول الله أن يعينه الله على ما بعثه به، وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به من الحق، فأتيته فقلت له: فقال مرحبا برسول الله، أنا كنت أحق أن آتيه، اقرأ على رسول الله مني السلام، وقل له أخوك الخضر يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن الله فضلك على النبيين كما فضل شهر رمضان على الشهور، وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام، فلما وليت سمعته يقول: اللهم اجعلني من هذه الأمة المرحومة المتاب عليها قال بعضهم: وهذا حديث واه منكر الإسناد سقيم المتن، ولم يراسل الخضر عليه الصلاة السلام نبينا ولم يلقه.

قال السيوطي في اللآلىء قلت: قد أخرج هذا الحديث الطبراني في الأوسط. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة: قد جاء من وجهين. وفي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه أنه جمعت له الشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أحدهما بدليل قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، والمراد بالشريعة الحكم بالظاهر، وبالحقيقة الحكم بالباطن.

وقد نص العلماء على أن غالب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا ليحكموا بالظاهر دون ما اطلعوا عليه من بواطن الأمور وحقائقها، ومن ثم أنكر موسى عليه الصلاة والسلام على الخضر في قتله الغلام بقوله: {لقد جئت شيئا نكرا} فقال له الخضر عليه الصلاة والسلام {وما فعلته عن أمري} ومن ثم قال الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام: إني على علم من عند الله لا ينبغي لك أن تعلمه، أي تعمل به لأنك لست مأمورا بالعمل به، وأنت على علم من عند الله لا ينبغي لي أن أعلمه: أي لا ينبغي لي أن أعمل به، لأني لست مأمورا بالعمل به.

وفي تفسير أبي حيان: والجمهور على الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن أمور أوحيت إليه، أي ليعمل بها، وعلم موسى عليه الصلاة والسلام الحكم بالظاهر، أي دون الحكم بالباطن.

ونبينا حكم بالظاهر في أغلب أحواله، وحكم بالباطن: أي في بعضها، بدليل قتله للسارق وللمصلي لما اطلع على باطن أمرهما وعلم منهما ما يوجب القتل.

وقد ذكر بعض السلف رحمه الله أن الخضر إلى الآن ينفذ الحكم بالحقيقة، وأن الذين يموتون فجأة هو الذي يقتلهم، فإن صح ذلك فهو في هذه الأمة بطريق النيابة عن النبي فإنه عليه الصلاة والسلام صار من أتباعه، كما أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما ينزل يحكم بشريعته نيابة عنه لأنه من أتباعه.

وفيه أن عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع به اجتماعا متعارفا ببيت المقدس فهو صحابي. وجاء في حديث مطعون فيه: أي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الخضر وإلياس عليهما الصلاة والسلام يجتمعان في كل عام: أي في الموسم، ويحلق كل منهما رأس صاحبه ويفترقان عن هذه الكلمات «بسم الله، ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله، ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله». قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من قالها حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات عوفي من السرق والحرق والغرق ومن السلطان، ومن الشيطان، ومن الحية والعقرب.

وعن علي كرّم الله وجهه: سكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة إلى باب الأسباط، والله اعلم.


باب سراياه وبعوثه

لا يخفى أن ما كان فيه رسول الله يقال له غزوة، وما خلا عنه يقال له سرية إن كان طائفة اثنين فأكثر، فإن كان واحدا قيل له بعث، وربما سموا بعض السرايا غزوة كما في مؤتة، حيث قالوا غزوة مؤتة، وكما في سرية الرجيع حيث عبر عنها السيوطي في الخصائص بغزوة الرجيع، وعن سرية ذات السلاسل بغزوة ذات السلاسل، وعن سرية سيف البحر بغزوة سيف البحر، وربما سموا الواحد سرية وهو في الأصل كثير، وربما سموا الاثنين فأكثر بعثا، ومنه قول الأصل كالبخاري بعث الرجيع، وظاهر كلامهم أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون إرسال ذلك لقتال، أو لغير قتال كتجسس الأخبار، أو لتعليمهم الشرائع كما في بئر معونة والرجيع، أو للتجارة كما في سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما حيث ذهب مع جمع بالتجارة للشام فلقيه بنو فزارة فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم كما سيأتي.

والسرية في الأصل الطائفة من الجيش تخرج منه، ثم تعود إليه خرجت ليلا أو نهارا، وقيل السرية هي التي تخرج ليلا. والسارية هي التي تخرج نهارا، وهي من مائة إلى خمسمائة، وقيل إلى أربعمائة: أي وفي القاموس: السرية من خمسة أنفس إلى ثلثمائة أو أربعمائة، وعليه فما دون ذلك لا يقال له سرية، فما زاد على الثلاثمائة أو أربعمائة إلى ثمانمائة يقال له بنسر بالنون، فإن زاد على ذلك إلى أربعة آلاف قيل له جيش، أي وقيل الجيش من ألف إلى أربعة آلاف، فإن زاد على ذلك قيل له جحفل وجيش جرار أي إلى اثني عشر ألفا.

والبعث في الأصل: الطائفة تخرج من السرية، ثم تعود إليها، وهو من عشرة إلى أربعين يقال له حفيرة، ومن أربعين إلى ثلاثمائة يقال له معتقب، وما زاد على ذلك يسمى حمزة: قال بعضهم: والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله: «خير الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، وما هزم قوم بلغوا اثني عشر ألفا من قلة إذا صدقوا وصبروا» أي فلا يرد انهزام القدر المذكور يوم حنين. قال في الأصل: وكانت سراياه التي بعث بها سبعا وأربعين سرية، وهو في ذلك موافق لما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب. قال الشمس الشامي: والذي وقفت عليه من السرايا والبعوث لغير الزكاة يزيد على السبعين ا هـ.

أي وكان إذا أمر أميرا على سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، والوليد الصبي، أي ما لم يقاتل كالنساء وإلا قتلوا.

وفي رواية: «لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة»، وهذا عند العمد، فلا ينافي أنه يجوز الإغارة على المشركين ليلا وإن لزم على ذلك قتل الصبيان والنساء والشيوخ.

فقد روى الشيخان: «سئل عن المشركين يبيتون، أي يغار عليهم ليلا فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم» وكان يقول: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ولا سمع ولا طاعة في معصية الله» وكان يعتذر عن تخلفه عن تلك السرايا ويقول: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب نفوسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل».

ومن جملة وصيته لمن يوليه على سرية «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم».

ومن جملة قوله للسرايا: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا» ولما بعث معاذ بن جبل وأبا موسى رضي الله تعالى عنهما إلى اليمن قال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا».


سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه

بعث رسول الله عمه حمزة في ثلاثين رجلا من المهاجرين، قيل ومن الأنصار، وفيه نظر لأنه لم يبعث من الأنصار إلا بعد أن غزا بهم بدرا، أي وذلك في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة، وعقد له لواء أبيض. وهو أول لواء عقد في الإسلام، حمله أبو مرثد بفتح الميم وإسكان الراء ثم مثلثة مفتوحة: حليف حمزة رضي الله تعالى عنه، ليعترض عيرا لقريش جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل لعنه الله في ثلاثمائة رجل، وقيل في مائة وثلاثين، فصار رضي الله تعالى عنه إلى أن وصل سيف البحر، أي بكسر السين المهملة وإسكان المثناة تحت ثم فاء: ساحله من ناحية العيص، أرض من جهينة فصادف العير هناك، فلما تصافوا للقتال حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان حليفا للفريقين، فأطاعوه وانصرفوا، ولم يقع بينهم قتال. ولما عاد حمزة رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله وأخبره الخبر، أي بأن مجديا حجز بينهم وأنهم رأوا منه نصفة، قال في مجدي: إنه ميمون النقيبة: أي مبارك النفس، مبارك الأمر. وقال سعيد أو رشيد الأمر: أي أموره ناجحة، ولم يقع له إسلام. أي وفي الإمتاع: وقدم رهط مجدي على النبي فكساهم.


سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه

بعث رسول الله على رأس ثمانية أشهر من الهجرة عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين، منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وعقد له لواء أبيض، وحمله مسطح بن أثاثة رضي الله تعالى عنه ليعترض عيرا لقريش، وكان رئيسهم أبا سفيان. وقيل عكرمة بن أبي جهل. وقيل مكرز بن حفص في مائتي رجل، فوافوا العير ببطن رابغ: أي ويقال له ودان، فلم يكن بينهم إلا المناوشة برمي السهام، أي فلم يسلوا السيف، ولم يصطفوا للقتال. وكان أول من رمى المسلمين سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، فكان سهمه أول سهم رمى به في الإسلام، أي كما أن سيف الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أول سيف سل في الإسلام. ففي كلام ابن الجوزي: أول من سل سيفا في سبيل الله الزبير بن العوام.

وقد ذكر أن سعدا رضي الله تعالى عنه تقدم أصحابه ونثر كنانته، وكان فيها عشرون سهما ما منها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابة، أي لو رمى به لصدق رمية وشدّة ساعده رضي الله تعالى عنه، ثم انصرف الفريقان، فإن المشركين ظنوا أن المسلمين مددا فخافوا وانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو، أي الذي يقال له ابن الأسود، وعيينة بن غزوان، فإنهما كانا مسلمين ولكنهما خرجا مع المشركين ليتوصلا بهم إلى المسلمين، فعلم أن سرية عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه بعد سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وقيل بل هي قبلها، وكلام الأصل يشعر به، ويؤيده قول ابن إسحاق كانت راية عبيدة بن الحارث فيما بلغنا أول راية عقدت في الإسلام. قال بعضهم: ومنشأ هذا الاختلاف أن بعث حمزة وبعث عبيدة رضي الله تعالى عنهما كانا معا، أي في يوم واحد في محل واحد، أي وشيعهما رسول الله جميعا كما في ذخائر العقبى فاشتبه الأمر، فمن قائل يقول: إن راية حمزة رضي الله تعالى عنه أول راية عقدت في الإسلام، وأن بعثه أول البعوث، ومن قائل يقول: إن راية عبيدة رضي الله تعالى عنه أول راية عقدت في الإسلام، وأن بعثه أول البعوث، لكن يشكل على ذلك أن خروج حمزة كان على رأس سبعة أشهر من الهجرة كما تقدم، وخروج عبيدة كان على رأس ثمانية أشهر كما تقدم، وبما ذكر أن بعثهما معا إلى آخره يردّ ما أجاب به بعضهم عن هذا الإشكال، بأنه يحتمل أنه عقد رايتهما معا، وتأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية أشهر لأمر اقتضى ذلك هذا كلامه، إلا أن يقال يجوز أن يكون المراد ببعثهما معا أمرهما بالخروج، وإن المراد بتشييعهما جميعا أن كلا منهما وقع له التشييع منه، وذلك لا يقتضي أن يكون ذلك في وقت واحد تأمل.

وفي هذا إطلاق الراية على اللواء، وهو الموافق لما صرح به جماعة من أهل اللغة أنهما مترادفان، وتقدم أنه لم يحدث له اسم الراية إلا في خيبر، أي وكانوا لا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية، وما هنا يرده.

وفي كلام بعضهم كانت رايته سوداء ولواؤه أبيض كما في حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما. زاد أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: مكتوب فيه «لا إله إلا الله، محمد رسول الله».


سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار

بفتح الخاء المعجمة وراءين مهملتين: وفي النور بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء الأولى بعث رسول الله على رأس تسعة أشهر من الهجرة سعد بن أبي وقاص في عشرين من المهاجرين، أي وقيل ثمانية وعقد له لواء أبيض، حمله المقداد بن عمرو قال: والخرار واد يتوصل منه إلى الجحفة، وقد عهد إليه أن لا يجاوزه ليعترض عيرا لقريش تمرّ بهم فخرجوا يمشون على أقدامهم يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبحوا المكان المذكور في صبح خمس، فوجدوا العير قد مرت بالأمس، فضربوا راجعين إلى المدينة ا هـ.

وقد ذكر ابن عبد البر وابن حزم هذه السرية بعد بدر الأولى. وفي السيرة الشامية: «الباب السادس في سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار» وساق ما تقدم وقال بعده: «الباب السابع في سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه».

روى الإمام أحمد عنه قال: «لما قدم رسول الله المدينة جاءت جهينة فقالوا له: إنك نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا، وبعثنا ولا نكون مائة، وكان ذلك في رجب أي من السنة الثانية، وأمرنا رسول الله أن نغير على حي من كنانة، فأغرنا عليهم، فكانوا كثيرا فلجأنا إلى جهينة فمنعونا، وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا نأتي رسول الله فنخبره، وقال بعض آخر لا نقيم ههنا، وقلت أنا في أناس معي: بل نأتي عير قريش فنقتطعها، فانطلقنا إلى العير وانطلق بعض أصحابنا إلى رسول الله فأخبروه الخبر، فقام رسول الله غضبان محمرا وجهه، فقال: جئتم متفرقين وإنما أهلك من قبلكم الفرقة، لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش، فبعث عبد الله بن جحش أميرا فأمره علينا لنذهب إلى جهة بين مكة والطائف».


سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى بطن نخلة

قال: لما صلى رسول الله العشاء الأخيرة، قال لعبد الله بن جحش واف مع الصبح معك سلاحك أبعثك وجها، فوافاه الصبح ومعه قوسه وجعبته ودرقته، فلما انصرف رسول الله من صلاة الصبح وجده واقفا عند بابه، فدعا رسول الله أبي بن كعب، فدخل عليه، فأمره فكتب كتابا ثم دعا عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه، فدفع إليه الكتاب، وقال له: قد استعملتك على هؤلاء النفر ا هـ. أي وكان قبل ذلك بعث عليهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فلما ذهب لينطلق بكى صبيانه إلى النبي، فبعث عليهم عبد الله وسماه رسول الله أمير المؤمنين، أي فهو أول من تسمى في الإسلام بأمير المؤمنين ثم بعده عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ولا ينافي ذلك قول بعضهم: أول من تسمى في الإسلام بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لأن المراد أول من تسمى بذلك من الخلفاء أو أن هذا أمير جميع المؤمنين وذاك أمير من معه من المؤمنين خاصة.

فقد جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يكتب أولا: من خليفة أبي بكر، فاتفق أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل إلى عامل العراق أن يبعث إليه برجلين جلدين يسألهما عن أهل العراق، فبعث إليه بعبد بن ربيعة وعدي بن حاتم الطائي، فقدما المدينة ودخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين، فقال عمرو: أنتما والله أصبتما اسمه، فدخل عليه عمرو وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: ما بدا لك في هذا الاسم؟ فأخبره الخبر وقال: أنت الأمير ونحن المؤمنون، فأول من سماه بذلك عبد بن ربيعة وعدي بن حاتم. وقيل أول من سماه بذلك المغيرة بن شعبة، وحينئذ صار يكتب: من عبد الله عمر أمير المؤمنين، فقد كتب رضي الله تعالى عنه بذلك إلى نيل مصر، فإن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح مصر ودخل شهر بؤنة من شهور العجم دخل إليه أهل مصر وقالوا له: أيها الأمير إذا كان أحد عشر ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبوابها وجعلنا عليها من الثياب والحلي ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، أي ليجري، فقال لهم عمرو رضي الله تعالى عنه: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا مدة والنيل لا يجري لا قليلا ولا كثيرا حتى هم أهل مصر بالجلاء منها، فكتب عمرو بذلك إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه كتابا وكتب بطاقة في داخل الكتاب، وقال في الكتاب: قد بعثت إليك بطاقة في داخل الكتاب فألقها في نيل مصر، فلما قدم الكتاب أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر. أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله هو الذي يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا في ليلةً واحدة، فقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم.

وكان أولئك النفر ثمانية: أي وقيل اثني عشر من المهاجرين. يعتقب كل اثنين منهم بعيرا منهم سعد بن أبي وقاص وعيينة بن غزوان، وكانا يعتقبان بعيرا، ومنهم واقد بن عبد الله، ومنهم عكاشة بن محصن، وأمر عبد الله أن لا ينظر في ذلك الكتاب حتى يسير يومين، أي قبل مكة ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من أصحابه أي على السير معه. أي وقد عقد له راية.

قال ابن الجوزي: أول راية عقدت في الإسلام راية عبد الله بن جحش، أي بناء على أن الراية غير اللواء، وحينئذ تعارض القول بترادفهما والقول بأن اسم الراية إنما وجد في خيبر.

قال ابن الجوزي رحمه الله: وهو أول أمير أمر في الإسلام. وفيه أنه مخالف لما سبق. إلا أن يريد أول من سمي أمير المؤمنين، فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب، فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فأت حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، ولا تكره أحدا من أصحابك على السير معك، أي ولفظ الكتاب: سر بسم الله وبركاته ولا تكرهن أحدا من أصحابك على السير معك، وامض لأمري حتى تأتي بطن نخلة فترصد عير قريش، وتعلم لنا أخبارهم، فلما قرأ الكتاب على أصحابه قالوا: نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك، فسر على بركة الله تعالى، أي وجعل البخاري دفعه الكتاب لعبد الله ليقرأه ويعمل بما فيه دليلا على صحة الرواية بالمناولة، وهي أن الشيخ يدفع لتلميذه كتابا، ويأذن له أن يحدّث عنه بما فيه.

وممن قال بصحة المناولة سيدنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه. روى إسماعيل بن صالح عنه أنه أخرج لهم كتبا مشدودة وقال لهم: هذه كتبي صححتها ورويتها فارووها عني، فقال له إسماعيل بن صالح: نقول: حدثنا مالك؟ قال نعم.

وفي لفظ أن عبد الله رضي الله عنه لما قرأ الكتاب قال سمعا وطاعة، أي بعد أن استرجع ثم أعلم أصحابه، وقال لهم من كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض إلى رسول الله، فمضوا لم يتخلف منهم أحد حتى إذا كانوا ببَحران بفتح الموحدة وبضمها وسكون الحاء المهملة: موضع أضل سعد بن وقاص وعيينة بن غزوان بعيرهما فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله ومن عداهما معه حتى نزل بنخلة فمرت عير لقريش: أي تحمل زبيبا وأدما: أي جلودا من الطائف وأمتعة للتجارة، في تلك العير عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن المغيرة، وأخوه نوفل والحكم بن كيسان، ونزلوا قريبا من عبد الله وأصحابه وتخوّفوا منهم، فأشرف عليهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه: أي وتراءى لهم ليظنوا أنهم عمارا فيطمئنوا، أي وذلك بإرشاد عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه، فإنه قال لهم: إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم، فلما رأوا رأسه محلوقا قالوا عُمَّار، أي هؤلاء قوم معتمرون لا بأس عليكم منهم، وكان ذلك آخر يوم من شهر رجب، أي وقيل أول يوم منه.

ويدل للأول ما جاء أن عبد الله تشاور مع أصحابه فيهم، فقال بعضهم لبعض: إن تركتموهم في هذه الليلة دخلوا الحرم فقد تمنعوا منكم به، وإن قتلتموهم في هذا اليوم تقتلوهم في الشهر الحرام، أي وكان ذلك قبل أن يحل القتال في الشهر الحرام، فإن تحريم القتال في الأشهر الحرم كان معمولا به من عهد إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام، جعل الله ذلك مصلحة لأهل مكة، فإن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما دعا لذريته بمكة أن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي إليهم لمصلحتهم ومعاشهم، جعل الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سردا وواحدا فردا وهو رجب، أما الثلاثة فليأمن الحجاج فيها واردين لمكة وصادرين عنها، شهرا قبل شهر الحج، وشهرا آخر بعده قدر ما يصل الراكب من أقصى بلاد العرب ثم يرجع، وأما رجب فكان للعمار يأمنون فيه مقبلين ومدبرين وراجعين نصف الشهر للإقبال ونصفه الآخر للإياب، لأن العمرة لا تكون من أقاصي بلاد العرب كالحج، وأقصى منازل بلاد المعتمرين خمسة عشر يوما، ذكره السهيلي.

ولم يزل تحريم القتال في تلك الأشهر الحرم إلى صدر الإسلام، وذلك قبل نزول براءة، فإن براءة كان فيها نبذ العهد العام، وهو أن لا يصدّ أحد عن البيت جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم، وأن لا يحج مشرك، وإباحة القتال في الأشهر الحرم، أي مع بقاء حرمتها، فإنها لم تنسخ، قال تعالى: {منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} فتعظيم حرمتها باقية لم تنسخ، وإنما نسخ حرمة القتال فيها، خلافا لما نقل عن عطاء من أن حرمة القتال فيها باقية لم تنسخ.

ويدل للثاني ما في الكشاف وكان ذلك اليوم أول يوم من رجب وهم يظنون أنه من جمادى الآخرة، فتردد القوم وهابوا الإقدام، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، ثم أجمع رأيهم على قتل من لم يقدروا على أسره، أي وأخذ ما معهم فقتلوا عمرو بن الحضرمي، رماه واقد بن عبد الله بسهم فهو أول قتيل قتله المسلمون، وأسروا عثمان والحكم فهما أول أسير أسره المسلمون، وأفلت بفتح الهمزة باقي القوم، أي وجاء الخبر لأهل مكة فلم يمكنهم الطلب لدخول شهر رجب، أي بناء على ما تقدم، واستاق عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم العير حتى قدموا على رسول الله وهو أول غنيمة غنمها المسلمون فقال لهم رسول الله : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وأبى أن يستلم العير والأسيرين، فسُقِطَ بالبناء للمجهول في أيديهم: أي ندموا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام؟ سفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، أي وصارت قريش تعير بذلك من مكة من المسلمين، يقولون لهم: يا معشر الصباة قد استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، وزادوا في التشنيع والتعيير وصارت اليهود تتفاءل بذلك على رسول الله فيقولون القتيل عمرو الحضرمي والقاتل واقد، فيه عمرت بفتح العين المهملة وكسر الميم الحرب: أي حضرت الحرب ووقدت الحرب، فكان ذلك الفأل عليهم لعنهم الله وضاق الأمر على عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم، فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} أي عظيم الوزر{وصد عن سبيل الله} أي ومنع للناس عن دين الله {وكفر به} أي بالله {والمسجد الحرام} أي ومنع للناس عن مكة {وإخراج أهله منه}وهم النبي ومن معه من المؤمنين منه من {أكبر عند الله} أعظم وزرا {والفتنة} الشرك: أي الذي أنتم عليه، أو حملكم من أسلم على الكفر بالتعذيب له {أكبر من القتل} لكم فيه:

أي صدهم لكم عن المسجد الحرام، وكفرهم بالله وإخراجكم من مكة وأنتم أهلها، وفتنة من أسلم بحيث يرتد عن الإسلام ويرجع إلى الكفر أكبر من قتل من قتلتم منهم، ففرج عن عبد الله وأصحابه رضي الله عنهم، أي وهذا كما ترى يدل على أنهم قتلوا مع علمهم بأن ذلك اليوم من رجب، ويضعف ما تقدم عن الكشاف الموافق لما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أصحاب محمد كانوا يظنون أن ذلك اليوم آخر جمادى، وكان أول رجب ولم يشعروا، أي لأن جمادى يجوز أن يكون ناقصا. وفيه أنه لو كان الأمر كذلك لاعتذر عبد الله وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بذلك.

وجاء أن المسلمين اختلفوا في ذلك اليوم، فمن قائل منهم هذه غرة من عدوكم وغنم رزقتموه، ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا؟ وقال قائل منهم: لا نعلم اليوم إلا من الشهر الحرام، ولا نرى أن تستحلوه لطمع اشتملتم عليه، ويذكر أنه عقل ابن الحضرمي أي أعطى ديته، ويضعفه ما تقدم في غزوة بدر من أن أخاه طلب ثأره وكان ذلك سببا لإثارة الحرب وأن عتبة بن ربيعة أراد أن يتحمل ديته ويتحمل جميع ما أخذ من العير وأن تكف قريش عن القتال، وحينئذ تسلم رسول الله العير والأسيرين، وطمع عبد الله وأصحابه في حصول الأجر، وسألوا رسول الله عن ذلك، فأنزل الله تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} أي فقد أثبت لهم الجهاد في سبيل الله.

ثم إن رسول الله قسم ذلك العير وخمسه. أي جعل خمسه لله وأربعة أخماسه للجيش.

وقيل تركه حتى رجع من بدر وخمسه مع غنائم بدر، وقيل إن عبد الله هو الذي خمسها، أي فإنه رضي الله عنه، قال لأصحابه: إن لرسول الله فيما غنمنا الخمس فأخرج خمس ذلك لرسول الله : أي عزلها له، وقسم سائرها بين أصحابه رضي الله عنهم. وحينئذ يكون ما تقدم من قوله وأبى أن يتسلم العير، الظاهر في أن العير لم تقسم، المراد خمس تلك العير، وهو أول غنيمة خمست في الإسلام: أي قبل فرضه، ثم فرض على ما صنع عبد الله رضي الله عنه، ويوافق ذلك قول ابن عبد البر في الاستيعاب. وعبد الله بن جحش أوّل من سنّ الخمس من الغنيمة للنبي من قبل أن يفرض الله الخمس، وأنزل الله تعالى بعد ذلك آية الخمس: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه} الآية، وإنما كان قبل ذلك المرباع، هذا كلامه، والمرباع: ربع الغنيمة، وتقدم أن الفيء والغنيمة يطلق أحدهما على الآخر.

وفي كلام فقهائنا أن الغنيمة كانت في صدر الإسلام له خاصة، ثم نسخ ذلك بالتخميس.

وبعثت قريش إلى رسول الله في فداء عثمان والحكم، فقال رسول الله : لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا يعني سعد بن أبي وقاص وعيينة بن غزوان، فإنا نخشاكم عليهما، فإن قتلتموها نقتل صاحبيكم، فإن سعدا وعيينة رضي الله عنهما لم يحضرا الوقعة بسبب التماسهما بعيرهما وقد مكثا في طلبه أياما ثم قدما، فأفدى رسول الله الأسيرين: أي كل واحد بأربعين أوقية. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه وأقام عند رسول الله حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا.

أي وعن المقداد: أراد أميرنا يعني عبد الله بن جحش أن يقتل الحكم، فقلت: دعه فقدم به على رسول الله، وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا بعث وفي الأصل تبعا لشيخه الحافظ الدمياطي.


سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء

أي بالمد: بنت مروان اليهودية، وكانت متزوجة في بني خطمة، وكان زوجها مرثد بن زيد بن حصين الأنصاري أسلم بعد ذلك رضي الله عنه.

بعث رسول الله عمير بن عدي الخطمي، وهو أول من أسلم من بني خطمة إلى قتل عصماء بنت مروان، لأنها كانت تسب الإسلام وتؤذي النبي في شعر لها، وتحرّض عليه، فجاءها عمير في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام وعلى صدرها صبي ترضعه فمسها بيده ونحى الصبي عن صدرها، ووضع سيفه على صدرها وتحامل عليه حتى أنفذه من ظهرها ثم صلى الصبح مع النبي بالمدينة، فقال له رسول الله، أقتلت ابنة مروان؟ فقال: نعم، فهل عليّ في ذلك من شيء؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان: أي الأمر في قتلها هين لا يعارض فيه معارض، وهذه الكلمة من جملة الكلمات التي لم تسمع إلا من النبي، وقد جمع غالبها في النور في هذا المحل، قال: وسمى رسول الله عميرا هذا بالبصير، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: انظروا إلى هذا الأعمى الذي يسري في طاعة الله تعالى، فقال رسول الله : لا تقل الأعمى، ولكن البصير.

وفي رواية أنه لما قال: ألا رجل يكفينا هذه؟ يعني عصماء بنت مروان، فقال عمير بن عدي: أنا لها، فأتاها وكانت تمارة: أي تبيع التمر، فقال لها: أعندك أجود من هذا التمر، لتمر بين يديها؟ قالت نعم، فدخلت إلى البيت وانكبث لتأخذ شيئا من التمر، فالتفت يمينا وشمالا فلم يشعر بأحد، فضرب رأسها حتى قتلها، فليتأمل هذا مع ما قبله.

ثم إنّ عميرا أتى المسجد فصلى الصبح مع رسول الله، فلما انصرف من صلاته نظر إليه، فقال له: أقتلت ابنة مروان؟ قال نعم، فقال النبي: «إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله فانظروا إلى عمير، فلما رجع عمير إلى منزل بني خطمة وجد بنيها في جماعة يدفنونها، فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال: نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون: والذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لأضربنكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم، فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة، وكان يخفي إسلامه من أسلم منهم، لكن جاء في رواية أنها كانت تلقي خرق الحيض في مسجد بني خطمة فليتأمل.

وفي رواية أنه لما أهدر دم عصماء نذر عمير إن رد الله رسوله من بدر إلى المدينة سالما ليقتلنها، فلما رجع رسول الله من بدر إلى المدينة عدا عليها عمير رضي الله تعالى عنه فقتلها. وفي كلام السهيلي رحمه الله أن الذي قتل عصماء بعلها.

وقد يقال: لا مخالفة لأن عميرا رضي الله عنه جاز أن يكون كان بعلا لها قبل مرثد بن زيد. وذكر في الاستيعاب في ترجمة عمير رضي الله عنه أنه قتل أخته لسبها رسول الله ولم يسمها.

أقول: الظاهر أنها كانت غير عصماء، لأن نسب عصماء غير نسب عدي، إلا أن يقال إنها أخته لأمه ويبعده ما تقدم من أنه كان زوجا لها، والله أعلم * وبعث * وفي الأصل تبعا لشيخه الحافظ الدمياطي.


سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك

أي والعفك بفتح العين المهملة وبالفاء وبالكاف: أي الحمق أي أبي الحمق اليهودي، قال يوما: «من لي بهذا الخبيث، يعني أبا عفك» أي من ينتدب إلى قتله وكان شيخا كبيرا قد بلغ مائة وعشرين سنة، وكان يحرض الناس على رسول الله ويعيبه في شعر له، فقال سالم بن عمير رضي الله عنه، أي وهو أحد البكائين، وقد شهد بدرا: عليّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه فطلب له غرة: أي غفلة، فلما كانت ليلة صائفة أي شديدة الحر نام أبو عفك بفناء بيته، أي خارجه، فعلم بذلك سالم رضي الله عنه فأقبل نحوه فوضع السيف على كبده ثم تحامل حتى خش السيف في الفراش وصاح عدو الله، فتركه سالم رضي الله عنه وذهب، فقام إلى أبي عفك ناس من أصحابه فاحتملوه وأدخلوه داخل بيته فمات عدو الله، وابن إسحاق قدم هذا البعث على بعث عمير.


سرية عبد الله بن مسلمة رضي الله عنه إلى كعب بن الأشرف الأوسي

أي فإن أباه أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف منهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، وكان شاعرا مجيدا، وقد كان ساد يهود الحجاز بكثرة ماله، وكان يعطي أحبار اليهود ويصلهم، فلما قدم النبي المدينة جاءه أحبار يهود من بني قينقاع وبني قريظة لأخذ صلته على عادتهم، فقال لهم: ما عندكم من أمر هذا الرجل: يعني النبي؟ قالوا: هو الذي كنا ننتظر، ما أنكرنا من نعوته شيئا، فقال لهم قد حرمتم كثيرا من الخير، فارجعوا إلى أهليكم، فإن الحقوق في مالي كثيرة، فرجعوا عنه خائبين، ثم رجعوا إليه وقالوا له إنا أعجلناك فيما أخبرناك به، ولما استثبتنا علمنا أنا غلطنا وليس هو المنتظر، فرضي عنهم ووصلهم، وجعل لكل من تابعهم من الأحبار شيئا من ماله، وهذا نزل فيه قوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما} استودعه شخص دينارا فجحده كذا في تكملة الجلال السيوطي. وفي الكشاف وفروعه أنها نزلت في فنحاص بن عازوراء. وقد يقال: لا مانع من تعدد الواقعة.

ولما انتصر رسول الله يوم بدر وقدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنهما مبشرين لأهل المدينة بذلك وصارا يقولان قتل فلان وفلان وأسر فلان وفلان من أشراف قريش، صار كعب يكذب في ذلك ويقول هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها، أي كما تقدم، فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة وكان شاعرا فجعل يهجو رسول الله والمسلمين، ويمدح عدوهم ويحرضهم عليه، وينشد الأشعار ويبكي من قتل ببدر من أشراف قريش، فقال: اللهم اكفني ابن الأشرف بما شئت، ثم رجع إلى المدينة: أي بعد أن لم يجد من يأوي رحله بمكة، أي لأنه لما قدم مكة وضع رحله عند المطلب بن وداعة وأكرمته زوجة المطلب وهي عاتكة بنت أسيد، فدعا رسول الله حسان وأخبره بذلك، فهجا المطلب وزوجته، فلما بلغهما هجاء حسان ألقت رحله، وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي؟ وأسلم المطلب وزوجته بعد ذلك رضي الله عنهما، وصار كلما تحول عند قوم من أهل مكة صار حسان يهجوهم فيلقون رحله، أي يقال إنه خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة ليحالفوا قريشا على رسول الله، فنزلوا على أبي سفيان فقال لهم أبو سفيان إنكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما، ففعلوا، فأنزل الله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} أي وحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين، فخرج من مكة للمدينة، فلما وصل إلى المدينة وصار يشبب بنساء المسلمين: أي يتغزل فيهن ويذكرهن بالسوء حتى آذاهن.

أي وقيل إن كعب بن الأشرف صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود أن يدعوا النبي إلى الطعام، فإذا حضر يفتكون به، ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل بما أضمروه بعد أن جالسه، فقام وجبريل يستره بجناحه حتى خرج، فلما فقدوه تفرّقوا، ولا مانع من تعدد الأسباب، فقال رسول الله : من ينتدب لقتل كعب بن الأشرف؟ وفي لفظ: من لنا بابن الأشرف، فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، أي وفي رواية: إنه يؤذي الله ورسوله، وفي أخرى فإنه قد آذانا بشعره وقوى المشركين علينا، أي فإن أبا سفيان قال لكعب: فإنك تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق، أنحن أم محمد؟ فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء، ونسقيهم الماء، ونقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه، وقطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا قديم ودين محمد الحديث، فقال كعب لعنه الله: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه، فقال: من لي بقتل ابن الأشرف؟ فقال محمد بن سلمة الأوسي: أنا لك به يا رسول الله، هو خالي ـ لأن محمد بن سلمة ابن أخته ـ أنا أقتله، وأجمع: أي عزم على ذلك هو وأربعة: أي من الأوس عباد بن بشر وأبو نائلة، وكان رضي الله عنه أخا لكعب بن الأشرف من الرضاعة والحارث بن عيسى والحارث بن أوس. ومكث محمد بن سلمة رضي الله عنه بعد قوله لرسول الله ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب إلا ما تقوم به نفسه خوفا من عدم وفائه بما ذكر، ثم قال: يا رسول الله لا بد لنا أن نقول: أي نذكر ما نتوصل به إليه من الحيلة، وحينئذ كان المناسب أن يقول لا بد لنا أن نتقول: أي نخترع ما نحتال به عليه، فقال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك، فأباح لهم الكذب لأنه من خدع الحرب كما تقدم.

وقيل إنه أمر سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه، والجمع ممكن، فتقدمهم إلى كعب أبو نائلة رضي الله عنه، وكان يقول الشعر فتحدث معه ساعة وتناشد شعرا، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، فقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس. أي وسألنا الصدقة ونحن لا نجد ما نأكل، وسائر ما عندنا أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه، فقال كعب: لقد كنت أخبرتك يا بن مسلمة أن الأمر سيصير إلى ما تقول، أي ثم قال له كعب: أصدقني ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتنحي عنه، قال شر تبين، بأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل، فقال أبو نائلة، وقيل محمد بن سلمة كما في رواية صحيحة.

قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن كلا منهما قال له: إني أريد أن تبيعني وأصحابي طعاما ونرهنك ونوثق لك، فقال: أترهنوني أبناءكم. وفي رواية نساءكم، قال: أردت أن تفضحنا، نرهنك من الحلقة: أي السلاح كما تقدم ـ وقيل الدرع خاصة ـ ما فيه وفاء، وقد أردت أن آتيك بأصحابي، أراد أبو نائلة رضي الله عنه أن لا ينكر كعب السلاح إذا جاء به هو واصحابه، فقال إن في الحلقة لوفاء: أي وفي البخاري، قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب. زاد في رواية: ولا نأمنك عليهنّ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك فإنك تعجب النساء، قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم، فيقال رهن يوسف، قالوا: هذا عار علينا ولكنا نرهنك اللامة: أي السلاح، فرجع أبو نائلة رضي الله عنه إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، وأمرهم أن يأخذوا السلاح، ثم جاؤوا إلى رسول الله وخرجوا من عنده متوجهين إلى كعب، فخرج رسول الله يمشي معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم، ثم رجع رسول الله إلى بيته: أي وأمرَّ عليهم محمد بن سلمة، وكانت تلك الليلة مقمرة، فأقبلوا رضي الله عنهم حتى انتهوا إلى حصن كعب فهتف به أبو نائلة رضي الله عنه، وكان كعب قريب عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها أي طرفها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة، لو وجدني قائما لا يوقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، أي وفي البخاري: فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فإني أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم. وفي مسلم كأنه صوت دم: أي صوت طالب دم، قال: إنما هو ابن أختي محمد بن سلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب كذا في البخاري. وفي مسلم: إنما هو محمد ورضيعته، قيل وصوابه إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة.

فقد ذكر أهل العلم أن أبا نائلة رضي الله عنه كان رضيعا لمحمد فنزل أي وهو ينفح منه ريح طيب، فتحدث معه هو وأصحابه ساعة ثم تماشوا، ثم إن أبا نائلة رضي الله عنه وضع يده على رأس كعب ثم شم يده، وقال: ما رأيت طيبا أعطر من هذا الطيب. أي فقال: وكيف وعندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب؟ وفي لفظ: وأجمل بدل أكمل، وهي أشبه، فقال له: يا أبا سعيد ادنِ مني رأسك أشمه وأمسح به عيني ووجهي، ثم مشوا ساعة، ثم عاد أبو نائلة لوضع يده على رأسه، واستمسك به وقال اضربوا عدوّ الله، فضربوه، فاختلفت أسيافهم، فلم تغن شيئا: أي وقع بعضها على بعض ولصق عدوّ الله بأبي نائلة وصاح صيحة لم يبق حصن إلا وعليه نار، قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فوضعت سيفي في ثنيته ثم تحاملت عليه حتى بلغ عانته فوقع، أي ولما صاح اللعين صاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير مرتين، فخرجت اليهود فأخذوا على غير طريق الصحابة ففاتوهم.

قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: وأصيب الحارث بن أوس من بعض أسيافنا في رجله ورأسه ونزف به الدم، فتخلف عنا: أي وناداهم: اقرئوا رسول الله مني السلام، فعطفوا عليه واحتملوه. وفي رواية تخلف عن أصحابه فافتقدوه ورجعوا إليه فاحتملوه. قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: فجئنا رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا وأخبرناه بقتل عدوّنا، وتفل على جرح صاحبنا فلم يؤلمه.

قال: وفي رواية أنهم حزوا رأس كعب وحملوا ذلك الرأس ثم خرجوا يشتدّون، فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام رسول الله يصلي تلك الليلة، فلما سمع تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف أنهم قد قتلوا عدوّ الله، وخرج إلى باب المسجد فجاؤوا فوجدوا رسول الله واقفا على باب المسجد، فقال لهم رسول الله : أفلحت الوجوه، قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله، أي وعند ذلك أصبحت يهود مذعورين، فأتوا النبي، فقالوا: قتل سيدنا غيلة، فذكر لهم النبي صنيعه من التحريض عليه وأذيته المسلمين فازدادوا خوفا.


سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع

سلام بالتخفيف ابن أبي الحقيق على وزن نصير بالتصغير وبالحاء المهملة الخزرجي: أي وفي البخاري: أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، ويقال له سلام بن أبي الحقيق، كان بخيبر، وكان تاجر أهل الحجاز.

لما قتلت الأوس: أي عبد الله بن مسلمة وأبو نائلة ومن تقدم معهما كعب بن الأشرف تذاكر الخزرج من يشابه كعب بن الأشرف في العداوة لرسول الله من الخزرج، فذكروا أبا رافع سلام بن أبي الحقيق، أي لأنه كان يؤذي رسول الله.

أي وعن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله، وهو الذي حزب الأحزاب يوم الخندق، لأن الأوس والخزرج كانا يتنافسان فيم يقرّب إلى الله ورسوله، لا تفعل الأوس شيئا من ذلك إلا فعلت الخزرج نظيره وبالعكس، ويقولون: والله لا يذهبون بهذا فتيلا علينا في الإسلام، فانتدب لقتله خمسة من الخزرج منهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، واستأذنوا رسول الله في ذلك: أي في أن يتكلموا بما يتوصلون به إليه من الحيلة، فأذن لهم وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وأمرهم أن لا يقتلوا وليدا ولا امرأة فخرجوا حتى أتوا خيبر فتسوروا دار أبي رافع ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله، وكان أبو رافع في علية لها درجة، أي سُلّم من الخشب من محل يصعد عليه إلى تلك العلية، فطلعوا في تلك الدرجة حتى قاموا على باب تلك العلية، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم؟ قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة.

وفي لفظ: لما صعدوا قدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يتكلم بلسان يهود، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته وقالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلوا عليه أغلقوا عليهم وعليها باب الحجرة ووجدوه وهو على فراشه، ما دلهم عليه في الظلمة إلا بياضه كأنه قبطية بيضاء فابتدروه بأسيافهم، ووضع عبد الله بن أنيس رضي الله عنه سيفه في بطنه وتحامل عليه حتى أنفذه وهو يقول قطني قطني: أي يكفيني يكفيني، وعند ذلك صاحت المرأة. قال بعضهم: ولما صاحت المرأة جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يتذكر نهي رسول الله فيكف يده. قال: وفي رواية أن المرأة لما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بعضنا بالسيف فسكتت، فابتدرناه بأسيافنا وخرجنا من عنده، وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيىء البصر فوقع من الدرجة فوثبت رجله وثبا شديدا، أي جرحت جرحا شديدا. وفي لفظ: قد انكسرت ساقه. وفي آخر فانخلعت رجله فعصبها بعمامته، والجمع بين كسر ساقه وخلع رجله واضح، لأن الانخلاع يكون من المفصل، فقد انكسرت ساقه وانخلعت من مفصلها، ومع الكسر ولانخلاع حصلت فيها جراحة أيضا.

وأما قول ابن إسحاق رحمه الله فوثبت يده فقيل وهم والصواب رجله كما تقدم. وفي السيرة الهشامية. فوثبت يده، وقيل رجله.

وقد يقال: لا مانع من حصولهما، قال: فحملناه حتى أتينا محلا استخفينا فيه: أي وذلك المحل من أفنيتهم التي يلقون فيها كناستهم. وفي لفظ: أنهم كمنوا في نهر من عيونهم حتى سكن الطلب.

وقد يقال: لا مخالفة، لأنهم أوقدوا النيران، وتفرقوا من كل وجه يطلبونهم أي وفي لفظ: فخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران حتى إذا أيسوا رجعوا إلى عدوّ الله، فاكتنفوه وهو بينهم يجود بنفسه، فقال بعضنا لبعض: كيف نعلم أن عدوّ الله مات؟ فقال رجل منهم: أنا ذاهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس قال: فوجدت امرأته تنظر في وجهه وفي يدها المصباح، ورجال يهود حوله وهي تحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي.

أي وعلى الرواية الآتية أنه أكذبها، ثم أقبلت تنظر في وجهه، ثم قالت فاضت وإله يهود: أي خرجت روحه، فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جئت وأخبرت أصحابي، واحتملنا عبد الله بن عتيك، وقدمنا إلى رسول الله.

وفي رواية: أن ابن عتيك لما عصب رجله انطلق حتى جلس على الباب. وقال: لا أخرج الليلة حتى أعلم أني قتلته أو لا؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلق يحجل إلى أصحابه وقال قد قتل الله أبا رافع، فأسرعوا، وليتأمل هذا مع ما قبله، وقوله أنعى هو بفتح العين، وقيل الصواب انعوا، والنعي: خبر الموت والاسم الناعي. ويقال له الناعية، وكانت العرب إذا مات فيهم الكبير ركب راكب فرسا وصار يذكر أوصافه ومآثره، وقد نهى عن ذلك. ولا منافاة بين كونه انطلق يحجل إلى أصحابه وكونهم حملوه، لأنه يجوز أن يكون عند وقوعه وحصول ما تقدم له لم يحس بالألم لما هو فيه من الاهتمام وقدر على المشي يحجل، ومن ثم جاء في بعض الروايات: فقمت أمشي ما بي قلبة: أي علة مهلكة. فلما وصل إلى أصحابه وعاد عليه المشي أحسّ بالألم، فحمله أصحابه، وهذا السياق يدل على أن الذي قتله عبد الله بن عتيك وحده، وهو ما في البخاري، وفي رواية أن الذي كسرت رجله أبو قتادة لأنهم لما قتلوه وخرجوا نسي أبو قتادة قوسه فرجع إليها وأخذها فأصيبت رجله فشدها بعمامته ولحق بأصحابه، وكانوا يتناوبون حمله حتى قدموا المدينة على النبي فمسحها فبرئت، أي وقال لما رآنا: أفلحت الوجوه، قلنا أفلح وجهك يا رسول الله وأخبرناه بقتل عدوّ الله، واختلفنا عنده في قتله كل منا ادعاه، فقال رسول الله هاتوا أسيافكم فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. قال: والثابت في الصحيح كما علمت أن عبد الله بن عتيك هو الذي انفرد بقتله وأن عدوّ الله كان يحصن بأرض الحجاز، ولا منافاة لأن خيبر من الحجاز، أي من قراه وريفه.

فلما دنوا من خيبر وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله، ناداه بذلك كما ينادي الشخص شخصا لا يعرفه وهو يظن أنه من أهل الحصن، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب فدخل وكمن. فلما أغلق الباب علق المفاتيح. قال ثم أخذتها وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده. فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته عليّ من داخله حتى انتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فضربته بالسيف فما أغنت شيئا وصاح، فخرجت من البيت، أي وعند ذلك قالت له امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك. قال: ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ قال ابن عتيك: ثم عدت وقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني بالسيف فعمدت إليه فضربته أخرى فلم تغن شيئا فتواريت ثم جئته كهيئة المغيث وغيرت صوتي، وإذا هو مستلق على ظهره فوضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم جئت إلى الدرجة فوقعت، فانكسرت رجلي فعصبتها بعمامتي فانطلقت إلى أصحابي، وقلت النجاة قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي فحدثه. فقال: ابسط رجلك فمسحها فكأني لم أشتكها قط، وعادت كأحسن ما كانت انتهى، أي وهذا ما في البخاري.

وفيه في رواية أخرى أن ابن عتيك قال: لما وضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمعت صوت العظم خرجت دهشا حتى أتيت السلم: أي الذي صعدت فيه أريد أن أنزل فأسقطت منه فانخلعت رجلي، فعصبتها، فأتيت أصحابي أحجل. فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية، فقال أنعى أبا رافع، فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله فبشرته.

وفي سيرة الحافظ الدمياطي أنهم مكثوا في ذلك المحل الذي استخفوا فيه يومين حتى سكن عنهم الطلب. وينبغي النظر إلى وجه الجمع بين ما ذكر.


سرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى القردة

بفتح القاف والراء، وقيل بالفاء مفتوحة، وقيل بكسرها وسكون الراء، وقدمه في الأصل على الأول: اسم ماء.

وسببها أن قريشا لما كانت وقعة بدر خافوا الطريق التي كانوا يسلكونها إلى الشام من على بدر، فسلكوا طريقا أخرى من جهة العراق. فخرج عير لهم فيه أموال كثيرة جدا من تلك الطريق يريدون الشام، واستأجروا رجلا يدلهم على الطريق، وكان ذلك الرجل ممن هرب من أسارى بدر. وفي ذلك العير من أشراف قريش: أبو سفيان، وصفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزى. فبعث رسول الله زيد بن حارثة في مائة راكب، وهي أول سرية لزيد بن حارثة خرج فيها أميرا، فصادف تلك العير على ذلك الماء فأصاب العير، وأفلت القوم وأسروا دليلهم.

وقدم زيد رضي الله عنه بتلك العير على رسول الله فخمسها فبلغ الخمس ما قيمته عشرون ألف درهم، وأتي بذلك الأسير إلى رسول الله، فقيل له إن تسلم تترك: أي من القتل. فأسلم فتركه رسول الله وحسن إسلامه بعد ذلك.


سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

وهو ابن عمته برة بنت عبد المطلب وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة كما تقدم ـ إلى قطن ـ أي وهو جبل، وقيل ماء من مياه بني أسد.

وسببها أنه بلغ رسول الله أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن أطاعهما إلى حرب رسول الله : أي أخبره بذلك رجل من طيىء قدم المدينة لزيارة بنت أخيه بها، فدعا رسول الله أبا سلمة المذكور، وعقد له لواء وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار، وخرج الرجل المخبر له دليلا لهم، وقال له: سر حتى تنزل أرض بني أسد فأغر عليهم قبل أن يتلاقى عليك جموعهم، فأغذّ السير، أي بفتح الهمزة والغين المشددة والذال المعجمتين: أي أسرع، ونكب، أي بفتح الكاف المخففة: عدل عن سيف الطريق، وسار بهم ليلا ونهارا ليستبق الأخبار، فانتهى إلى ماء من مياههم، فأغار على سرح لهم، وأسروا ثلاثة من الرعاة وأفلت سائرهم، ففرق أبو سلمة أصحابه ثلاث فرق: فرقة بقيت معه، وفرقتان أغارتا في طلب النعم والشاء والرجال، فأصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا أحدا، فانحدر أبو سلمة بذلك كله إلى المدينة.

قال: وقيل إنه خرج صفي رسول الله من ذلك عبدا، أي لأنه كان يباح له أخذ الصفي، وهو ما يختاره له أمير السرية قبل القسمة من الفيء أو الغنيمة من جارية أو غيرها كما تقدم. وأخرج الخمس، ثم قسم ما بقي بين أصحابه، فأصاب كل إنسان سبعة أبعرة، أي وطليحة هذا كان يعد بألف فارس، قدم عليه في بعض الوفود وأسلم، ثم ارتد وادعى النبوة، وتوفي رسول الله فقويت شوكته، ثم أسلم بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه، وحسن إسلامه، وحج في زمن عمر رضي الله عنه، ولم يعرف لأخيه سلمة إسلام. بعث عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد الهذلي ثم اللحياني بكسر اللام وفتحها.

وسبب ذلك أنه عليه الصلاة والسلام بلغه أن سفيان المذكور قد جمع الجموع لحرب رسول الله، فبعث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه ليقتله، فقال: صفه لي يا رسول الله، فقال إذا رأيته هبته وفرقت: أي خفت منه وذكرت الشيطان، فقال عبد الله: يا رسول الله ما فِرقت من شيء قط، فقال رسول الله : بلى إنك تجد له قشعريرة إذا رأيته، فقال عبد الله: فاستأذنت رسول الله أن أقول: أي ما أتوصل به إليه من الحيلة فأذن لي: أي قال لي: قل ما بدا لك: أي وقال انتسب إلى خزاعة. قال عبد الله بن أنيس فسرت حتى إذا كنت ببطن عرنة: وهو واد بقرب عرفة لقيته يمشي: أي متوكئا على عصا يهدّ الأرض ووراءه الأحابيش: أي أخلاط الناس ممن انضم إليه، فعرفته بنعت رسول الله، لأني هبته وكنت لا أهاب الرجال، فقلت: صدق الله ورسوله، أي وكان وقت العصر، فخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة يشغلني عن الصلاة فصليت وأنا أمشي نحوه أومىء برأسي. فلما انتهيت إليه، قال لي: من الرجل؟ فقلت: رجل من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك، قال: أجل، إني لأجمع له، فمشيت معه ساعة وحدثته فاستحلى حديثي. أي وكان فيما حدثته به أن قلت له: عجبت لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث. فارق الآباء، وسفه أحلامهم. فقال لي: إنه لم يلق أحدا يشبهني ولا يحسن قتاله.

فلما انتهى إلى خبائه وتفرق عنه صحابه قال لي: يا أخا خزاعة هلم، فدنوت منه. فقال اجلس فجلست معه، حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته فقتلته وأخذت رأسه ثم دخلت غارا في الجبل وصيرت العنكبوت: أي نسجت عليّ، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا. فانصرفوا راجعين، ثم خرجت. فكنت أسير الليل وأتوارى النهار حتى قدمت المدينة. فوجدت رسول الله في المسجد، فلما رآني قال: قد أفلح الوجه. قلت: أفلح وجهك يا رسول الله. فوضعت رأسه بين يديه وأخبرته خبري، فدفع لي عصا وقال: تحضر بهذه في الجنة: أي توكأ عليها فإن المتخصرين في الجنة قليل، فكانت تلك العصا عنده. فلما حضرته الوفاة أوصى أهله أن يدخلوها في كفنه ويجعلوها بين جلده وكفنه ففعلوا. أي وفي القاموس ذو المخصرة: أي كمكنسة بكسر الميم عبد الله بن أنيس.

وهذه القصة وقصة كعب بن الأشرف تردّ على الزهري قوله لم يحمل إلى رسول الله رأس إلى المدينة قط. وحمل إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه رأس فكره ذلك. وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.

وفيه أنه لما قتل الحسين وجماعة من أهل بيته بعث ابن زياد قبحه الله برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية. وابن الزبير رضي الله عنهما لم يبايع بالخلافة إلا بعد موت يزيد. ومضى مدة خلافة ابنه معاوية رضي الله عنه الذي خلع نفسه وهي أربعون يوما. ولعل إرسال رأس الحسين ومن معه كان قبل رأس عبد الله بن أبي الحمق، فلا ينافي قول ابن الجوزي أول رأس حمل في الإسلام ـ أي من المسلمين ـ رأس عبد الله بن أبي الحمق. وذلك أنه لدغ فمات، فخشيت الرسل أن تتهم فقطعوا رأسه فحملوه.

ثم رأيت ابن الجوزي قال: قال ابن حبيب: نصب معاوية رضي الله عنه رأس عمرو بن أبي الحمق. ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه. وقول الزهري إلى المدينة لا يخالف ما في النور ما تقدم في غزوة بدر: كم من رأس حمل بين يدي رسول الله، لأن تلك الرؤوس لم تحمل إلى رسول الله بالمدينة، على أن فيه أنه لم يحمل إليه ذلك اليوم إلا رأس أبي جهل على ما تقدم.


سرية الرجيع

وفي الأصل: بعث الرجيع. بعث رسول الله عشرة، وقيل ستة عيونا إلى مكة يتجسسون أخبار قريش ليأتوه بها، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ويقال له ابن أبي الأفلح بالفاء، وقيل أمر عليهم مرثد الغنوي رضي الله عنه حليف عمه حمزة رضي الله عنه، ومرثد بفتح الميم وإسكان الراء وبالمثلثة. والغنوي بغين معجمة: أي وكان مرثد هذا يحمل الأسرى ليلا من مكة حتى يأتي بهم المدينة، فوعد رجلا من الأسرى بمكة أن يحمله، قال: فجئت به حتى انتهيت به إلى الحائط من حيطان مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق وكانت من جملة البغايا بمكة، فرأت ظلي في جانب الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني قالت: مرثد؟ قلت مرثد، قالت: مرحبا وأهلا هلم تبت عندنا الليلة، فقلت: يا عناق إن الله حرم الزنا، فدلت عليّ، فخرج في أثري ثمانية رجال، فتواريت في كهف الخندمة فجاؤوا حتى وقفوا على رأسي، فأعماهم الله عني، فلما رجعوا رجعت لصاحبي، فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى محل فككت عنه قيده، ثم جعلت أحمله حتى قدمت المدينة، ثم استشرته أن أنكح عناق، فأمسك عني حتى نزلت الآية: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} فدعاني فتلاها عليّ، ثم قال لي: لا تتزوجها.

وفي قطعة التفسير للجلال المحلي أن الآية نزلت في بغايا المشركين لما همّ فقراء المهاجرين أن يتزوجوهن وهن موسرات لينفقن عليهم، فقيل التحريم خاص بهم، وقيل عام، ونسخ بقوله: {وانكحوا الأيامى منكم} الآية.

وفيه أن عند فقهائنا يحرم على المسلم نكاح من تعبد الأوثان وإن لم تكن بغيا.

ومن جملة العشرة عبد الله بن طارق وخبيب بن عدي وخبيب تصغير خب: وهو الماكر من الرجال الخدّاع، وزيد بن الدثنة بفتح الدال المهملة وكسر الثاء المثلثة وقد تسكن ثم نون مفتوحة ثم تاء تأنيث مقلوب من الندثة. والندث: استرخاء اللحم، فخرجوا رضي الله عنهم: أي يسيرون الليل ويكمنون النهار، حتى إذا كانوا بالرجيع: وهو ماء لهذيل لقيهم سفيان بن خالد الهذلي الذي قتله عبد الله بن أنيس وجاء برأسه إلى رسول الله كما تقدم وقومه ـ وهم بنو لحيان ـ فإنهم ذكروا لهم فنفروا إليهم فيما يقرب من مائة رام، أي ولا يخالف ما في الصحيح قريبا من مائة رجل، فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا نوى تمر أكلوا في منزل نزلوه، أي فإن منهم امرأة كانت ترعى غنما فرأت النوى فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أتيتم، فتبعوهم إلى أن وجدوهم في المحل المذكور، فلما أحسوا بهم لجؤوا إلى موضع من جبل هناك: أي صعدوا إليه، فأحاطوا بهم، وقالوا لهم: انزلوا ولكم العهد أن لا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم رضي الله تعالى عنه: أما أنا فلا أنزل على ذمة: أي أمان وعهد كافر، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما، أي وستة منهم، وصار عاصم يرميهم بالنبل وينشد أبياتا منها:

الموت حق والحياة باطل ** وكل ما قضى الإله نازل

بالمرء والمرء إليه آيل ولا زال يرميهم حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم حتى انكسرت رمحه، ثم سل سيفه. وقال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره، ونزل إليهم ثلاثة على العهد وهم: خبيب، وزيد، وعبد الله بن طارق رضي الله تعالى عنهم، فلما أمسكوهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوا خبيبا وزيدا وامتنع عبد الله، وقال: هذا أول الغدر: أي ترك الوفاء بعهد الله، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء يعني القتلى أسوة فعالجوه، فأبى أن يصحبهم أي فقتلوه كما في الصحيح، وقيل صحبهم إلى أن كانوا بمر الظهران يريدون مكة، انتزع عبد الله يده منهم، ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد، أي ودخلوا بهما مكة في شهر القعدة، فباعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة، أي وقيل بيع كل بخمسين من الإبل، أي وقيل بيع خبيب بأمة سوداء، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا، قيل لأنه قتل الحارث يوم بدر كما في البخاري.

وتعقب بأن المعروف عندهم أن قاتل الحارث يوم بدر إنما هو خبيب بن إساف الخزرجي، أي وقيل القاتل له علي كرّم الله وجهه، وخبيب بن عدي هذا أوسي لم يشهد بدرا عند أحد من أرباب المغازي، أي وقيل في هذا تضعيف الحديث الصحيح.

ثم رأيت الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر أنه لزم من هذا رد الحديث الصحيح، ولو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث بن عامر ما كان لاعتناء آل الحارث بشرائه وقتله به معنى، إلا أن يقال لكونه من قبيلة قاتله وهم الأنصار. وابتاع زيدا صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك ليقتله بأبيه، فحبوسهما إلى أن تنقضي الأشهر الحرم، واستعار خبيب رضي الله تعالى عنه وهو محبوس موسى من بنت الحارث. وفي الصحيح من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها: أي يحلق بها عانته، فدرج لها ابن صغير وهي غافلة عنه حتى أتى إلى خبيب رضي الله تعالى عنه، فأجلسه خبيب رضي الله تعالى عنه على فخده والموسى بيده، فلما رأت ابنها على تلك الحالة فزعت فزعة عرفها خبيب رضي الله تعالى عنه، فقال: أتخشين أن أقتله: ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، وبكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنث.

وروي أنه رضي الله عنه أخذ بيد الغلام، وقال: هل أمكن الله منكم، فقالت المرأة ما كان هذا ظني بك، فرمى لها بالموسى، وقال: إنما كنت مازحا، ما كنت لأغدر.

وفي السيرة الشامية أن تلك المرأة قالت: قال لي: تعني خبيبا رضي الله تعالى عنه حين حضره القتل: ابعثي إليّ بحديدة أتطهر بها للقتل: أي وقد كان رضي الله تعالى عنه قال لها: إذا أرادوا قتلي فآذنيني، فلما أرادوا قتله آذنته، فطلب منها تلك الحديدة، قالت: فأعطيت غلاما من الحي الموسى، فقلت له: ادخل بها على هذا الرجل البيت، قالت: فوالله لما دخل عليه الغلام قلت والله أصاب الرجل ثأره بقتل هذا الغلام ويكون رجل برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده، ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليّ؟ ثم خلى سبيله. ويقال إن الغلام ابنها: أي ويرشد إليه قول خبيب رضي الله تعالى عنه: ما خافت أمك.

وكانت بنت الحارث تقول: والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب، قالت: والله لقد وجدته يوما أي وقد اطلعت عليه من شق الباب يأكل قطفا من عنب في يده: أي مثل رأس الرجل، وأنه لموثق بالحديد وما بمكة ثمرة. وفي رواية: لا أعلم في أرض الله عنبا يؤكل.

أي واستدل أئمتنا بقصة خبيب هذه على أنه يستحب لمن أشرف على الموت أن يتعهد نفسه بتقليم أظفاره وأخذ شعر شاربه وإبطه وعانته، ولعل ذلك كان بلغ النبي وأقره، فلما انقضت الأشهر الحرم بانقضاء المحرم خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه في الحل، فلما قدم للقتل قال لهم: دعوني أصل ركعتين، فتركوه فركع ركعتين وقال لهم: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي من جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا: أي متفرقين واحدا بعد واحد، ولا تبق منهم أحدا: أي الكفار، وقد قتلوا في الخندق متفرقين.

قال: ذكر أنهم لما خرجوا به ليقتلوه خرج النساء والصبيان والعبيد، فلما انتهوا به إلى التنعيم أمروا بخشبة طويلة فحفروا لها، فلما انتهوا بخبيب إليها وبعد صلاته للركعتين صلبوه على تلك الخشبة، أي ليراه الوارد والصادر، فيذهب بخبره إلى الأطراف، ثم قالوا له: ارجع عن الإسلام نخلّ سبيلك، وإن لم ترجع لنقتلنك قال: إن قتلي في سبيل الله لقليل، اللهم إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت عني السلام وبلغه ما يصنع بنا.

وعن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما: «أن رسول الله كان جالسا مع أصحابه فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي فسمعناه يقول: و ورحمة الله وبركاته، فلما سري عنه قال: هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام، خبيب قتلته قريش».

وقد جاء: أن المشركين دعوا أربعين ولدا ممن قتل آباؤهم يوم بدر فأعطوا كل واحد رمحا، وقالوا هذا الذي قتل آباءكم، فطعنوه بتلك الرماح حتى قتلوه، ووكلوا بتلك الخشبة أربعين رجلا، فأرسل رسول الله المقداد والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في إنزال خبيب عن خشبته. وفي لفظ قال: «أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ فقال له الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فجاءا فوجدا عندها أربعين رجلا لكنهم سكارى نيام فأنزلاه» وذلك بعد أربعين يوما من صلبه وموته.

وحمله الزبير رضي الله تعالى عنه على فرسه وهو رطب لم يتغير منه شيء فشعر بهما المشركون، أي وكانوا سبعين رجلا فتبعوهما، فلما لحقوا بهما قذفه الزبير رضي الله تعالى عنه، فابتلعته الأرض اهـ. ومن ثم قيل له بليع الأرض، أي وكشف الزبير رضي الله تعالى عنه العمامة عن رأسه وقال لهم: أنا الزبير بن العوام وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يذبان عن شبلهما، فإن شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا عنهما.

وقدما على رسول الله المدينة وكان عنده جبريل ، فقال له جبريل: يا محمد إن الملائكة تباهي بهذين الرجلين من أصحابك، فنزل فيهما: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} الآية، وتقدم أنه قيل إنها نزلت في عليّ كرم الله وجهه لما نام على فراشه ليلة ذهابه إلى الغار.

وقيل إنها نزلت في حق صهيب لما أراد الهجرة ومنعه منها قريش، فجعل لهم ثلث ماله أو كله كما تقدم.

ورأيت بعضهم هنا قال: إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما أخذه المشركون ليعذبوه، فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أو من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني ففعلوا.

وفي كلام ابن الجوزي رحمه الله أن عمرو بن أمية هو الذي أنزل خبيبا، فعنه رضي الله تعالى عنه قال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها فحللته فوقع إلى الأرض، ثم التفت فلم أر خبيبا ابتلعته الأرض، وهذا هو الموافق لما في السيرة الهشامية، وأن ذلك كان حين أرسله والأنصار لقتل أبي سفيان بن حرب كما سيأتي إن شاء الله تعالى: أي كان خبيب رضي الله تعالى عنه تحرك على الخشبة فانقلب وجهه عن القبلة: أي الكعبة فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها، فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي الله لنفسه ولنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين، ودعا عليهم خبيب رضي الله تعالى عنه، فقال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما: فألقى أبو سفيان بنفسه إلى الأرض على جنبه خوفا من دعوة خبيب رضي الله تعالى عنه، لأنهم كانوا يقولون إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زال عنه: أي لم تصبه تلك الدعوة.

وقد ولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سعد بن عامر رضي الله تعالى عنه على بعض أجناد الشام، فقيل له إنه مصاب يلحقه غشي، فاستدعاه، فلما قدم عليه وجد معه مزودا وعكازا وقدحا، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ليس معك إلا ما أرى، فقال له: وما أكثر من هذا يا أمير المؤمنين؟ مزودي أضع فيه زادي، وعكازي أحمل به ذلك، وقدحي آكل فيه، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أبك لمم؟ فقال: لا، فقال: فما غشية بلغني أنها تصيبك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل، وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي فزاده ذلك عند عمر رضي الله تعالى عنهما خيرا، ووعظ عمر، فقال له: من يقدر على ذلك؟ فقال: أنت يا أمير المؤمنين، إنما هو أن يقال فتطاع، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ارجع إلى عملك، فأبى، وناشده الإعفاء، فأعفاه.

وكان خبيب رضي الله تعالى عنه هو الذي سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة، أي لأنه بلغه ذلك عنه فاستحسنه فكان سنة، وهذا يدل على أن واقعة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما متأخرة عن قصة خبيب رضي الله تعالى عنه، لكن في النور: والمعروف أن زيد بن حارثة صلاهما قبل خبيب بزمن طويل.

وفي الينبوع أن قصة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما كانت قبل الهجرة، أي وكان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن الركعتين قبل القتل، قال: صلاهما خبيب رضي الله تعالى عنه وحجروهما فاضلان، ويعني بحجر: حجر بن عدي رضي الله تعالى عنه، فإن زيادا والي العراق من قبل معاوية رضي الله تعالى عنه وشى به إلى معاوية، فأمر معاوية بإحضاره، فلما قدم على معاوية، قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال معاوية رضي الله تعالى عنه: أو أمير المؤمنين أنا اضربوا عنقه، فلما قدم للقتل قال: دعوني أصلي ركعتين، فصلاهما خفيفتين، ثم قال رضي الله تعالى عنه: لولا أن تظنوا بي غير الذي بي لأطلتهما، ثم قتل هو وخمسة من أصحابه.

ولما حج معاوية رضي الله تعالى عنه وجاء المدينة زائرا استأذن على عائشة رضي الله تعالى عنها فأذنت له، فلما قعد، قالت له: أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: إنما قتلهم من شهد عليهم.

وقصة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما رواها الليث بن سعد. قال: بلغني أن زيد بن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف، فمال به ذلك الرجل إلى خربة وقال له: انزل فنزل زيد رضي الله تعالى عنه، فإذا في الخربة المذكورة قتلى كثيرة، فلما أراد أن يقتله، قال له: دعني أصلي ركعتين، أي لأنه رأى أن الصلاة خير ما ختم به عمل العبد، قال صلّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا، وهذا يدل على أن القتلى كلهم كانوا مسلمين، قال: فلما صليت أتاني ليقتلني، فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتا يقول: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج يطلبه، فلم ير شيئا فرجع إليّ، فناديت يا أرحم الراحمين، فعل ذلك ثلاثا، فإذا بفارس على فرس في يده حربة حديد في رأسها شعلة نار فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا. ثم قال لي لما دعوت الأولى «يا أرحم الراحمين» كنت في السماء السابعة، فلما دعوت الثانية « يا أرحم الراحمين» كنت في سماء الدنيا، فلما دعوت الثالثة أتيتك.

أقول: وقد وقع مثل ذلك لرجل من أصحاب رسول الله من الأنصار يكنى أبا معلق، وكان يتجر بمال له ولغيره يسافر به في الآفاق، وكان ناسكا ورعا فخرج مرة في بعض أسفاره، فلقيه لص مقنع في السلاح، فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك، فقال: ما تريد من دمي؟ فشأنك والمال، فقال: أما المال فلي، ولست أريد إلا دمك فقال: ذرني أصلي أربع ركعات، فقال صل ما شئت، فتوضأ ثم صلى أربع ركعات، ثم دعا في آخر سجدة، فقال: يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، وكرر ذلك ثلاث مرات، فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة وضعها من أدنى فرسه، فلما بصر به اللص أقبل نحوه، فطعنه الفارس فقتله، ثم أقبل إلى أبي معلق، فقال: قم، فقال: من أنت بأبي أنت وأمي، فلقد أغاثني الله بك اليوم، قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة، دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت بدعائك الثالث، فقيل لي دعاء مكروب، فسألت الله تعالى أن يوليني قتله، قال أنس رضي الله تعالى عنه: من فعل ذلك استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب.

أي وقد وقع نظير هذه المسألة، أي من حيث إقراره على فعل غيره، وهو أنهم كانوا يأتون الصلاة قد سبقهم النبي ببعضها، فكان الرجل يشير إلى الرجل كم صلى؟ فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما وحده، ثم يدخل مع القوم في صلاتهم، فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه، فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها، ثم قضيت ما سبقني، فجاء وقد سبقه النبي ببعضها فثبت معه، فلما قضى رسول الله صلاته قام فقضى ما عليه، فقال رسول الله : إنه قد سن لكم معاذ، فكذا فاصنعوا، أي وكان هذا قبل قوله: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا».

وأخرج صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه زيدا رضي الله تعالى عنه إلى الحل مع مولى له ليقتله به، واجتمع عند قتله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فلما قدم للقتل، قال له أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: انشدك بالله يا زيد أتحب محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك، فقال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لخالص في أهلي، فقال أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا، ونقل مثل ذلك عن خبيب رضي الله تعالى عنه، أي فإنهم لما وضعوا السلاح في خبيب رضي الله تعالى عنه وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: لا والله ما أحب أن يؤذى بشوكة في قدمه، ثم قتله ذلك المولى. أي طعنه برمح في صدره حتى أنفذه من ظهره، وقيل رمي بالنبل، وأرادوا فتنته عن دينه، فلم يزدد إلا إيمانا.

ولما قتل عاصم رضي الله تعالى عنه الذي هو أمير هذه السرية على ما تقدم، أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار وكلام بعضهم يقتضي أنها أسلمت بعد، فإن عاصما هذا كما تقدم قتل يوم أحد ولديها كلاهما أشعره سهما، وكل يأتي إليها بعد إصابته بالسهم ويضع رأسه في حجرها، فتقول: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا يقول حين رماني: خذها وأنا ابن أبي الأفلح فنذرت إن قدرت على رأسه لتشربن في قحفة الخمر، وجعلت لمن يجيء برأسه مائة ناقة كما تقدم، فحالت الدبر بفتح الدال المهملة وسكون الباء الموحدة: وهي الزنابير بينهم وبين عاصم رضي الله تعالى عنه، كلما قدموا على قحفة طارت في وجوههم ولدغتهم فقالوا: دعوه حتى يمسي فنأخذه، فبعث الله الوادي: أي سال، فاحتمل السيل عاصما فذهب به حيث أراد الله فسمي حمى الدبر وبعث ناس من قريش لما بلغهم قتل عاصم في طلب جسده أو شيء منه يعرفونه: أي ليمثلوا به لأنه قتل عظيما من عظمائهم، قال الحافظ ابن حجر لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصما قتله صبرا بإذن رسول الله بعد أن انصرفوا من بدر أي كما تقدم، قال: وكأنّ قريشا لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الزنابير لهم عن عاصم، أو شعروا بذلك ورجوا أن الزنابير تركته: أي ولم يشعروا بأن السيل أخذه اهـ أي وقد كان عاصم رضي الله تعالى عنه دعا الله أن لا يمس مشركا، ولا يمسه مشرك في حياته، وتقدم هنا أنه دعا الله أن يحمي لحمه فاستجاب الله له، فلم يحصل له ذلك لا في حياته ولا بعد موته.

أي وفي كلام بعضهم: لما نذر عاصم أن لا يمس مشركا ووفى بنذره عصمه الله عن مساس سائر المشركين إياه، فصار عاصم معصوما هذا.

وقيل إن هؤلاء العشرة لم يخرجوا ليأتوا بخبر قريش، وإنما خرجوا مع رهط من عضل والقارة، وهما بطنان من بني الهون قدموا على رسول الله وقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام، فبعث معهم أولئك النفر، فساروا حتى إذا كانوا على الرجيع استصرخوا عليهم هذيلا، فلم يشعروا إلا والرجال بأيديهم السيوف فدعوهم فأخذوا أسيافهم ليقتلوا القوم، فقالوا لهم: والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، فأبوا الحديث، والحافظ الدمياطي رحمه الله اقتصر على هذا الثاني، وأن أميرهم كان مرثدا الغنوي رضي الله تعالى عنه، فقال: سرية مرثد الغنوي إلى الرجيع، قال قدم رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما الحديث، لكنه في سياق القصة قال وأمر عليهم عاصما وقيل مرثدا رضي الله تعالى عنهما، وأخر هذه السرية عن السرية بعدها التي هي سرية القراء إلى بئر معونة.


سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة

لما قدم على رسول الله أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة: أي ويقال له ملاعب الرماح وهو رأس بني عامر. أي ويقال له أيضا أبو براء بالمد لا غير، وهو عم عامر بن الطفيل عدوّ الله، أي وأهدى إليه ترسين وراحلتين فقال له رسول الله: «لا أقبل هدية من مشرك». وفي رواية: «نهيت عن عطايا المشركين».

أقول: وفي كلام السهيلي أنه أهدي إليه فرسا، وأرسل إليه إني قد أصابني وجع فابعث إلي بشيء أتداوى به فأرسل إليه بعكة عسل، وأمره أن يستشفى به، وقال: «نهيت عن زبد المشركين» قال السهيلي: والزبد مشتق من الزبد، لأنه نهي عن مداهنتهم واللين لهم: كما أن المداهنة مشتقة من الدهن، فرجع المعنى إلى اللين، كذا قال، ولعل هذا كان بعد ما تقدم. ويحتمل أن يكون قبله وهو الأقرب والله أعلم.

فلما قدم عليه أبو عامر عرض عليه رسول الله الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام، أي وقال إني أرى أمرك هذا أمرا حسنا شريفا، أي ولم يسلم بعد ذلك على الصحيح، خلافا لمن عده في الصحابة، ثم قال: يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد: أي وهم بنو عامر وبنو سليم، فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله : إني أخشى أهل نجد عليهم، قال أبو براء: أنا لهم جار وهم في جواري وعهدي، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك، وخرج أبو براء إلى ناحية نجد وأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد، فبعث رسول الله المنذر بن عمرو رضي الله تعالى عنه في أربعين، وقيل في سبعين، وعليه اقتصر الحافظ الدمياطي: أي لأنه الذي في الصحيح البخاري، وقيل في ثلاثين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين.

أي وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل وهم، وأنه يمكن الجمع بين كونهم سبعين وكونهم أربعين بأن الأربعين كانوا رؤساء وبقية العدة كانوا أتباعا، ويقال لهؤلاء القراء: أي لملازمتهم قراءة القرآن، فكانوا إذا أمسوا اجتمعوا في ناحية المدينة يصلون ويتدارسون القرآن، فيظن أهلوهم إنهم في المسجد، ويظن أهل المسجد أنهم في أهاليهم، حتى إذا كان وجه الصبح استعذبوا من الماء واحتطبوا وجاؤوا بذلك إلى حجر النبي.

وفي كلام بعضهم أنهم كانوا يحتطبون بالنهار، ويتدارسون القرآن بالليل، وكانوا يبيعون الحطب ويشترون به طعاما لأصحاب الصفة.

وقد يقال: لا منافاة، لجواز أنهم كانوا يفعلون هذا مرة وهذا أخرى، أو بعضهم يفعل أحد الأمرين وبعضهم يفعل الآخر، وكان منهم عامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنه.

وكتب لهم كتابا فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، والحرة: أرض فيها حجارة سود، فلما نزلوها بعثوا حرام، بالحاء المهملة والراء، ابن ملحان وهو خال أنس بن مالك بكتاب رسول الله إلى عدوّ الله عامر بن الطفيل لعنه الله. أي وهو رأس بني سليم. وفي لفظ سيد بني عامر وابن أخي أبي براء عامر بن مالك كما تقدم، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله، أي بعد أن قال: يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم، فآمنوا بالله ورسوله، فجاء إليه رجل من خلفه فطعنه بالرمح في جنبه حتى نفذ من جنبه الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، وقال: بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه، ثم استصرخ عليهم: أي استغاث بني عامر. فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه، وقالوا: إنا لن نخفر بأبي براء: أي لا نزيل خفارته وتنقض عهده، وقد عقد لهم عقدا وجوارا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم. قال الحافظ الدمياطي: عصية ورعلا وذكوان زاد بعضهم: وبني لحيان، قال بعضهم: وليس في محله.

أقول: كان قائله سرى إليه ذلك من كونه جمع بني لحيان في الدعاء عليهم مع من ذكر قبله. وسيأتي أنه إنما جمعهم معهم لأن خبر أصحاب الرجيع وأصحاب بئر معونة جاءه في يوم واحد وبنو لحيان أصحاب الرجيع، فدعا عليهم دعاء واحدا، والله أعلم، فلما دعا تلك القبائل الثلاثة التي هي عصية ورعل وذكوان أجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى أحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم إلا كعب بن زيد رضي الله تعالى عنه، فإنه بقي به رمق، وحمل من المعركة، فعاش بعد ذلك حتى قتل يوم الخندق شهيدا، وإلا عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه ورجلا آخر كانا في سرح القوم، لما أحاطوا بهم قالوا: اللهم إنا لا نجد من يبلّغ رسولك عنا السلام غيرك، فأقرِئه منا السلام، فأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال: وعليهم السلام.

أي وفي لفظ أنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا فلما جاءه الخبر من السماء قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن إخوانكم قد لقوا المشركين، وقتلوهم، وإنهم قالوا: ربنا بلغ قومنا أنا قد لقينا ربنا ورضينا عنه ورضي عنا ربنا. وفي لفظ: فرضي عنا وأرضانا فأنا رسولهم إليكم إنهم قد رضوا عنه ورضي عنهم.

وذكر أنس رضي الله عنه أن ذلك: أي قولهم المذكور كان قرآنا يتلى، ثم نسخت تلاوته، أي فصار ليس له حكم القرآن من التعبد بتلاوته وأنه لا يمسه إلا الطاهر ولا يتلى في صلاة إلى غير ذلك من أحكام القرآن.

ولما رأى عمرو بن أمية والرجل الذي معه الطير تحوم على محل أصحابهما، أي وكانا في رعاية إبل القوم كما تقدم، قالا والله إن لهذا الطير لشأنا، فأقبلا ينظران، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الرجل الذي مع عمرو: ماذا ترى؟ فقال: أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر، فقال له لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، فأقبلا فلقيا القوم، فقتل ذلك الرجل وأسر عمرو، فأخبرهم أنه من مضر. فأخذه عامر بن الطفيل وجز ناصيته. وأعتقه عن رقبة كانت على أمه. فخرج عمرو حتى جاء إلى ظل فجلس فيه. فأقبل رجلان حتى نزلا به معه، فسألهما فأخبراه أنهما من بني عامر، وفي لفظ من بني سليم وكان معهما عهد من رسول الله لم يعلم به عمرو. فأمهلهما حتى ناما فعدا عليهما فقتلهما وهو يرى أي يظن أنه قد أصاب بهما ثأرا من بني عامر، فلما قدم عمرو على رسول الله أخبره الخبر وأخبره بقتل الرجلين، فقال له: لقد قتلت قتيلين لأدينهما: أي لأدفعن ديتهما. ثم قال رسول الله : هذا عمل أبي براء. قد كنت لهذا كارها متخوفا. ولما بلغ أبا براء أن عامر بن الطفيل ولد أخيه أزال خفارته شق عليه ذلك وشق عليه ما أصاب أصحاب رسول الله بسببه فعند ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل، أي الذي هو ابن عمه فطعنه بالرمح فوقع في فخذه ووقع عن فرسه، وقال: إن أنا مت فدمي لعمي يعني أبا براء، وإن أعش فسأرى رأيي، أي وفي لفظ: نظرت في أمري.

وفي الإصابة أن ربيعة جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله أيغسل عن أبي هذه العذرة أن أضرب عامر بن الطفيل ضربة أو طعنة، قال نعم فرجع ربيعة فضرب عامرا ضربة أشواه منها فوثب عليه قومه، فقالوا لعامر بن الطفيل اقتص، فقال قد عفوت. أي وعقب ذلك مات أبو براء أسفا على ما صنع به ابن أخيه عامر بن الطفيل من إزالته خفارته، وعاش عامر بن الطفيل ولم يمت من هذه الطعنة، بل مات بالطاعون بدعائه كما سيأتي في الوفود في وفد بني عامر ( ).

أي وقال بعضهم: قد أخطأ المستغفري في عده صحابيا، ولما قتل عامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنه رفع إلى السماء، فلما رأى قاتله ذلك أسلم، أي وهو جبار بن سلمى، أي لا عامر بن الطفيل كما وقع في بعض الروايات، كما علمت.

وقال أي لما بلغه قتل عامر بن فهيرة: «إن الملائكة وارت جثة عامر بن فهيرة» أي في الأرض: أي بناء على أنه لما وقع إلى السماء وضع كما في البخاري، فقد جاء أن عامر بن الطفيل، قال لعمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه وأشار إلى قتيل من هذا، فقال له عمرو هذا عامر بن فهيرة، فقال لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء وبين الأرض ثم وضع.

وفي بعض الروايات أن عامر بن فهيرة التمس في القتلى يومئذ، أي فلم يوجد فيرون أن الملائكة رفعته، وظاهرها أن الملائكة لم تضعه في الأرض بل رفعته، أي ويؤيده أن عامر بن الطفيل لعنه الله دخل بعمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه في القتلى، وصار يقول له ما اسم هذا، ما اسم هذا، ما اسم هذا؟ ثم قال له هل من أصحابك من ليس فيهم؟ قال نعم، ما رأيت فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، قال له عامر: أي رجل هو فيكم؟ قال: من أفضلنا وأولى، أي ومن أولى المسلمين من أصحاب رسول الله، فقال له عامر: لما قتل رأيته رفع إلى السماء.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه قال: ما رأيت رسول الله وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة، ومكث يدعو عليهم ثلاثين صباحا.

أقول: وفي رواية الشيخين قنت شهرا أي متتابعا يدعو على قاتلي أصحاب بئر معونة، أي بعد الاعتدال في الصلوات الخمس من الركعة الأخيرة وحينئذ يكون المراد بالصباح اليوم وليلته.

وذكر بعض أصحابنا أنه: «كان يرفع يديه في الدعاء المذكور وقاس عليه رفعهما في قنوت الصبح» وروى الحاكم أنه كان يرفع يديه في قنوت الصبح.

واستدل أصحابنا على استحباب القنوت للنازلة في سائر المكتوبات بقنوته ودعائه على قاتلي أصحاب بئر معونة.

وفي بعض السير: فدعا النبي شهرا عليهم في صلاة الغداة. وفي لفظ يدعو في الصبح، وذلك بدء القنوت، وما كان يقنت رواه الشيخان.

وقد سئل الجلال السيوطي هل دعاؤه على من قتل أصحابه كان عقب فراغه من القنوت المشهور أو كان الدعاء هو قنوته؟ فأجاب رحمه الله بأنه لم يقف على شيء من الأحاديث يدل على أنه جمع بين القنوت والدعاء، قال: بل ظاهر الأحاديث أنه اقتصر على الدعاء، أي فيكون قنوته هو الدعاء، وهو الموافق لقول أصحابنا. ويستحب القنوت في اعتدال آخرة صبح مطلقا وآخر سائر المكتوبات أي باقيها للنازلة وهو: اللهم اهدنا الخ في أن أل في القنوت للعهد والله أعلم.

وفي رواية أنه يدعو على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين، أي بئر معونة والرجيع دعاء واحدا، لأنه جاءه خبرهما في وقت واحد كما تقدم، وأدمج البخاري رحمه الله بئر معونة مع بعث الرجيع لقربهما في الزمن، أي ففيه مكث يدعو على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، أي وهو يقتضي أنهما شيء واحد وليس كذلك، وقد علمت أن بني لحيان قتلوا أصحاب الرجيع ومن قبلهم قتلوا أصحاب بئر معونة، والله سبحانه وتعالى أعلم.


سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء

بالقاف المفتوحة وبالطاء المهملة، وهم بنو بكر بن كلاب.

بعث محمد بن مسلمة إلى القرطاء في ثلاثين راكبا أي وأمره أن يسير إلى الليل ويكمن النهار، وأمره أن يشن عليهم الغارة فسار الليل وكمن النهار، قال: وصادف في طريقه ركبانا نازلين، فأرسل إليهم رجلا من أصحابه يسأل من هم؟ فذهب الرجل ثم رجع إليه، فقال: قوم من محارب، فنزل قريبا منهم، ثم أمهلهم حتى عطنوا: أي بركوا الإبل حول الماء، أغار عليهم، فقتل نفرا منهم أي عشرة وهرب سائرهم، واستاق نعما وشاء، ولم يتعرض للظعن أي النساء انتهى ثم انطلق حتى إذا كان بموضع يطلعه على بني بكر بعث عابد بن بشير إليهم وخرج محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه في أصحابه فشن عليهم الغارة، فقتل منهم عشرة واستاقوا النعم والشاء، ثم انحدر رضي الله تعالى عنه إلى المدينة فخمس رسول الله ما جاء به وعدل الجزور بعشرة من الغنم، وكان النعم مائة وخمسين بعيرا، والغنم ثلاثة آلاف شاة، وأخذت تلك السرية ثمامة بن أثال الحنفي من بني حنيفة أي سيد أهل اليمامة وهم لا يعرفونه، وجيء به إلى رسول الله، فقال لهم: أتدرون من أخذتم، هذا ثمامة بن أثال الحنفي، فأحسنوا إساره أي قيده ( ) فربط بسارية من سواري المسجد.

قال: وقيل إن هذه السرية لم تأخذه بل دخل المدينة وهو يريد مكة للعمرة فتحير في المدينة، وقد كان جاء إلى رسول الله رسولا من عند مسيلمة وأراد اغتياله، فدعا ربه أن يمكنه منه، فأخذ وجيء به إلى رسول الله، فربط بسارية من سواري المسجد، فدخل على أهله فقال اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه، وأمر له بناقة يأتيه لبنها مساءً وصباحا، وكان ذلك لا يقع عند ثمامة موقعا من كفايته: أي وجاء إليه رسول الله، فقال: ما لك يا ثمام: هل أمكن الله منك؟ فقال: قد كان ذلك يا محمد. وصار رسول الله يأتيه فيقول: ما عندك يا ثمامة، فيقول: يا محمد عندي خير، إن تقتل تقتل ذا كرم. وفي لفظ: ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ففعل ذلك معه، ثلاثة أيام، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فجعلنا أيها المساكين أي أصحاب الصفة نقول: نبينا ما يصنع بدم ثمامة، والله لأكله جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة.

وفي الاستيعاب أنه انصرف عن ثمامة وهو يقول: اللهم أكلة لحم من جزور أحب إليّ من دم ثمامة، ثم أمر به فأطلق، ثم إن رسول الله في اليوم الثالث قال: أطلقوا ثمامة فقد عفوت عنك يا ثمامة، فأطلق، فانطلق إلى ماء جار قريب من المسجد فاغتسل وطهر ثيابه، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أي وهذا يخالف ما ذكره فقهاؤنا من الاستدلال بقصة ثمامة على أنه يستحب لمن أسلم أن يغتسل لإسلامه، ثم رأيت بعض متأخري أصحابنا أجاب بأنه أسلم أولا، ثم لما اغتسل أظهر إسلامه.

وفي الاستيعاب: فأسلم، فأمر النبي أن يغتسل كما في رواية أخرى أنه قال: يا محمد والله ما على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إليّ، ثم شهد شهادة الحق، فلما أمسى جيء له بما كان يأتيه من الطعام، فلم ينل منه إلا قليلا. ولم يصب من حلاب اللقحة إلا يسيرا، فعجب المسلمون. قال وقال: يا رسول الله إني خرجت معتمرا، وفي لفظ في الصحيح: فإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فأمره أن يعتمر، فلما قدم بطن مكة لبى، فكان أول من دخل مكة ملبيا، فأخذته قريش، فقالوا: لقد اجترأت علينا، أنت صبوت يا ثمامة. قال: أسلمت وتبعت خير دين محمد، والله لا يصل إليكم حبة من حنطة: أي من اليمامة من أرض اليمن، وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله، فقدموه ليضربوا عنقه، فقال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة فخلوا سبيله، فخرج ثمامة إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا حتى أضرّ بهم الجوع، وأكلت قريش العلهز وهو الدم يخلط بأوبار الإبل فيشوى على النار كما تقدم، فكتبت قريش إلى رسول الله : ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا. فكتب رسول الله إلى ثمامة رضي الله تعالى عنه أن يخلي بينهم وبين الحمل. وفي لفظ: خلّ بين قومي وبين ميرتهم، ففعل، فأنزل الله تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب} الآية.

هذا والذي في الاستيعاب أن ثمامة لما دخل مكة وقد سمع المشركون خبره، فقالوا: يا ثمامة صبوت وتركت دين أبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني أقسمت برب هذه البنية يعني الكعبة لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنفعون به حتى تتبعوا محمدا من آخركم، وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج رضي الله تعالى عنه فمنع عنهم ما كان يأتي منها. فلما أضرّ بهم ذلك كتبوا إلى رسول الله : أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحث عليها وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضرّ بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله : أن خل بين قومي وبين ميرتهم.

ولما عجب المسلمون من أكله بعد إسلامه رضي الله تعالى عنه، لكونه دون أكله قبل إسلامه قال لهم رسول الله : مم تعجبون؟ أمن رجل أكل أول النهار في معى كافر وأكل آخر النهار في معى مسلم، إن الكافر ليأكل في سبعة أمعاء، وإن المسلم يأكل في معى واحد انتهى.

أي وقد وقع له ذلك مع جهجاه الغفاري رضي الله تعالى عنه فإنه أكل مع النبي وهو كافر فأكثر، ثم أكل معه وقد أسلم فأقل، فقال النبي: «المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب، ثم رأيت في الجامع الصغير: «إن الكافر ليشرب في ستعة أمعاء والمسلم يشرب في معى واحد» والمراد أنه يأكل ويشرب مثل الذي يأكل ويشرب في سبعة أمعاء.

وكان رضي الله تعالى عنه مقيما باليمامة، ولما ارتد أهل اليمامة ثبت ثمامة في قومه على الإسلام، وكان ينهاهم عن اتباع مسيلمة لعنه الله، ويقول لهم: إياكم وأمرا مظلما لا نور فيه، وإنه لشقاء كتبه الله على من اتبعه منكم.


سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى الغمر

بفتح الغين المعجمة وسكون الميم والراء: ماء لبني أسد: أي جمع من بني أسد:

وجه رسول الله عكاشة بن محصن الأسدي رضي الله تعالى عنه في أربعين رجلا منهم ثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه، وقيل إن ثابتا رضي الله تعالى عنه هو الذي كان الأمير على هذه السرية، فخرج يسرع في السير إلى أن وصل إلى الماء المذكور، فوجد القوم علموا بهم فهربوا ولم يجدوا في دارهم أحدا، فبعث شجاع بن وهب طليعه يطلب خبرا ويرى أثرا فأخبر أنه رأى أثر نعم قريبا، فخرجوا فوجدوا رجلا نائما، فسألوه عن خبر الناس: فقال: وأين الناس، لقد لحقوا بعليات بلادهم، ، قالوا: فالنعم؟ قال: معهم، فضربه به أحدهم بسوط في يده، فقال: تؤمنوني على دمي وأطلعكم على نعم لبني عم له لم يعلموا بمسيركم إليهم، قالوا نعم، فأمنوه فانطلقوا معه، فأمعن: أي بالغ في الطلب حتى خافوا أن يكون ذلك غدرا منه لهم. فقالوا: والله لتصدقنا أو لنضربن عنقك، فقال: تطلعون عليهم من هذا المحل، فلما طلعوا منه وجدوا نعما رواتع، فأغاروا عليها، فاستاقوها، فإذا هي مائة بعير وشردت الأعراب في كل وجه ولم يطلبوهم، وانحدروا إلى المدينة بتلك الإبل، وأطلقوا الرجل الذي أمنوه، والله أعلم.


سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لذي القصة

بفتح القاف والصاد المهملة المشددة، وهو موضع قريب من المدينة.

بعث رسول الله محمد بن مسلمة في عشرة نفر لبني ثعلبة وبني عوال من ثعلبة بذي القصة، فورد عليهم ليلا، فكمن القوم وهم مائة رجل لمحمد بن مسلمة وأصحابه، وأمهلوهم حتى ناموا وأحدقوا بهم: أي فما شعروا إلا وقد خالطهم القوم، فوثب محمد بن مسلمة فصاح في أصحابه: السلاح، فوثبوا وتراموا ساعة، ثم حمل القوم عليهم بالرماح فقتلوهم، ووقع محمد بن مسلمة جريحا، فضربوا كعبه فلم يتحرك فظنوا موته، فجردوه من الثياب وانطلقوا، ومر بمحمد وأصحابه رجل من المسلمين فاسترجع، فلما سمعه محمد رضي الله تعالى عنه يسترجع تحرك له، فأخذه وحمله إلى المدينة. فعند ذلك بعث رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلا إلى مصارعهم فلم يجدوا أحدا. ووجدوا نعما وشاء، فانحدروا بها إلى المدينة.


سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه إلى ذي القصة أيضا

بعث رسول الله أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه في أربعين رجلا إلى من بذي القصة: فإنه بلغه أنهم يريدون أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى يومئذ بمحل بينه وبين المدينة سبعة أميال فصلوا المغرب، ومشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم: فأعجزوهم هربا في الجبال: وأسروا رجلا واحدا، وأخذوا نعما من نعمهم، ورثة: أي ثيابا خَلِقة من متاعهم، وقدموا بذلك إلى المدينة، فخمسه رسول الله، وأسلم الرجل، فتركه.


سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم بالجموح

بفتح الجيم، وهو اسم لناحية من بطن نخل.

بعث رسول الله زيد بن حارثة إلى بني سليم، بالجموح، فسار حتى ورد ذلك المحل. فأصابوا امرأة من مزينة فدلتهم على محلة من محال القوم، فأصابوا في تلك المحلة إبلا وشاء، وأسروا منها جماعة من جملتهم زوج تلك المرأة، وانحدروا بذلك إلى المدينة، فوهب رسول الله لتلك المرأة نفسها وزوجها.


سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى العيص

وهو محل بينه وبين المدينة أربع ليال.

بلغ رسول الله أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب ليعترضها، أي وكان فيها أبو العاص بن الربيع، وقدم به وبتلك العير المدينة، فاستجار أبو العاص بزوجته زينب رضي الله تعالى عنها، فأجارته ونادت في الناس حين صلى رسول الله الفجر: أي دخل في الصلاة هو وأصحابه، فقالت: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع، فقال رسول الله : أي لما سلم وأقبل على الناس وقال: هل سمعتم ما سمعت؟ قالو نعم، قال: أما والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من هذا، أي ثم انصرف فدخل على ابنته وقال: قد أجرنا من أجرت. قال: وقال: «المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم» أي وفي الصحيحين: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما» أي أزال خفارته: أي نقض جواره وعهده «فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ثم دخلت عليه زينب رضي الله تعالى عنها فسألته أن يرد على أبي العاص ما أخذ منه، فأجابها إلى ذلك، وقال لها: «أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له»: أي لتحريم نكاح المؤمنات على المشركين أي كما تقدم في الحديبية.

وبعث للسرية فقال لهم: إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي فاء عليكم، فأنتم أحق به، فقالوا: يا رسول الله بل نرد عليه، فرد عليه ما أخذ منه.

وهذا السياق يدل على أن ذلك كان قبل صلح الحديبية ووقوع الهدنة، لأن بعد ذلك لم تتعرض سرايا رسول الله لقريش، وهو يخالف قوله لها: «لا يخلص إليك، لأن تحريم نكاح المؤمنات على المشركين إنما كان في الحديبية».

وقد ذكر بعضهم أن ذلك كان قبيل الفتح سنة ثمان، ومن ثم ذكر الزهري وتبعه ابن عقبة رحمهما الله تعالى أن الذين أخذوا هذا العير وأسروا من فيها أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما رضي الله تعالى عنهم، لأنهم كانوا في مدة صلح الحديبية، من شأنهم أن كل عير مرت بهم لقريش أخذوها بغير معرفة رسول الله كما تقدم، فلما أخذوا هذه العير خلوا سبيل أبي العاص لكونه صهر رسول الله. وقيل أعجزهم هربا، وجاء تحت الليل فدخل على زوجته زينب رضي الله تعالى عنها فاستجار بها فأجارته، ثم كلمها في أصحابه الذين أسروا، فكلمت رسول الله في ذلك، فخطب الناس وقال: إنا صاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه، وإنه قد أقبل من الشام في أصحاب له من قريش، فأخذهم أبو جندل وأبو بصير وأسروهم، وأخذوا ما كان معهم، وأن زينب بنت رسول الله سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟ فقال الناس: نعم، فلما بلغ أبا جندل وأبا بصير وأصحابهما قول رسول الله ردوا الأسرى، وردوا عليهم كل شيء حتى العقال.

وصوّب في الهدى هذا الذي ذكره الزهري، أي لما علمت أن مما يؤيد ذلك قوله لبنته زينب: ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له، لأن تحريم نكاح المؤمنات على المشركين إنما كان بعد الحديبية.

وذكر أن المسلمين قالوا لأبي العاص: يا أبا العاص إنك في شرف من قريش وأنت ابن عم رسول الله، أي لأنه يلتقي مع النبي في جده عبد مناف، فهل لك أن تسلم فتغنم ما معك من أموال أهل مكة، فقال: بئسما أمرتموني أفتتح ديني بغدرة: أي بالغدر وعدم الوفاء، ثم ذهب أبو العاص إلى أهل مكة فأدى كل ذي حقّ حقه، ثم قام فقال: يا أهل مكة هل بقي لأحد منكم مال لم يأخذه، هل وفيت ذمتي؟ فقالوا اللهم نعم، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما، فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني عن الإسلام عنده إلا خشية أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم.

ثم خرج حتى قدم المدينة على النبي، فرد له رسول الله زينب رضي الله تعالى عنها على النكاح الأول ولم يحدث نكاحا، وذلك بعد ست سنين وقيل بعد سنة واحدة انتهى.

أقول: وفي رواية بعد سنتين. والمتبادر أن السنة أو السنتين من إسلامها دونه، وهو مخالف لما عليه أهل العلم من أنه لا بد أن يجتمع الزوجان في الإسلام والعدة، ومن ثم قالت طائفة منهم الترمذي: هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا يعرف وجهه.

وفي كلام بعض الحفاظ: يمكن أن يقال قوله بعد ست سنين ولم يقل من إسلامها دونه صيره مجهول تاريخ الابتداء فلا يصح الاستدلال به.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله ردّ بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. قال بعضهم: وهذا في إسناده مقال، وقال غيره: هذا حديث ضعيف، وقال آخر: لا يثبت» والحديث الصحيح إنما هو أن النبي أقرهما على النكاح الأول.

وقال ابن عبد البر: حديث أنه أقرهما على النكاح الأول متروك لا يعمل به عند الجميع. وحديث ردها بنكاح جديد عندنا صحيح يعضده الأصول، وإن صح الأول أريد به على الصداق الأول وهو حمل حسن، هذا كلامه.

قال بعضهم: تصحيح ابن عبد البر لحديث إنه ردها بنكاح جديد مخالف لكلام أئمة الحديث كالبخاري وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان والدارقطني والبيهقي وغيرهم، هذا كلامه.

وفي كون زينب رضي الله تعالى عنها كانت مشركة وأسلمت قبل زوجها المشعر به قول بعضهم ولم يقل من إسلامها ـ نظر، لأنها اتبعت ما بعث به أبوها من غير تقدم شرك منها.

لا يقال: فحيث كانت مسلمة فكيف زوّجها من أبي العاص وهو كافر. لأنا نقول على فرض أنه زوّجها له بعد البعث فقد زوجها له قبل نزول قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} لأن تلك الآية نزلت بعد صلح الحديبية كما علمت. على أن ابن سعد ذكر أنه زوّجها له في الجاهلية: أي قبل البعثة، والله أعلم.


سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى بني ثعلبة

أي بالطِرف ككتف: اسم ماء.

بعث رسول الله زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا: أي بالطرف، فأصاب عشرين بعيرا وشاء، واقتصر الحافظ الدمياطي على النعم، ولم يذكر الشاء ولم يجد أحدا، لأنهم ظنوا أن رسول الله سار إليهم، فصبح زيد رضي الله تعالى عنه بالنعم والشاء المدينة، أي وقد خرجوا في طلبه فأعجزهم ( ) وكان شعارهم الذي يتعارفون به في ظلمة الليل «أمت أمت».


سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى جذام

محل يقال له حِسْمى بكسر الحاء المهملة وسكون السين على وزن فعلى. وهو موضع وراء وادي القرى، يقال إن الطوفان أقام بذلك المحل بعد نضوبه: أي ذهابه ثمانين سنة.

وسببها أن دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه أقبل من عند قيصر ملك الروم، أي وكان وجهه إليه() كذا قيل، ولعله من تصرف بعض الرواة، أو أنه أرسله إليه بغير كتاب، وإلا فإرساله إليه بالكتاب كان بعد هذه السرية، لأنه كان بعد الحديبية.

ولما وصل رضي الله تعالى عنه إليه أجازه بمال وكساء فأقبل بذلك إلى أن وصل ذلك المحل، فلقيه الهنيد وابنه في ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق وسلبوه ما معه، ولم يتركوا عليه إلا ثوبا خلقا، فسمع بذلك نفر من جذام من بني الضبيب: أي ممن أسلم منهم فنفروا إليهم، واستنقذوا لدحية رضي الله تعالى عنه ما أخذ منه، وقدم دحية على رسول الله فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل وردّ معه دحية، وكان زيد رضي الله تعالى عنه يسير بالليل ويكمن بالنهار ومعه دليل من بني عذرة فأقبل حتى هجم على القوم: أي على الهنيد وابنه ومن كان معهم مع الصبح، فقتلوا الهنيد وابنه ومن كان معهم، وأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، ومن السبي مائة من النساء والصبيان. قال: ولما سمع بنو الضبيب بما صنع زيد رضي الله تعالى عنه ركبوا وجاؤوا إلى زيد وقال له رجل منهم: إنا قوم مسلمون، فقال له زيد اقرأ أمّ الكتاب فقرأها، ثم قدم منهم جماعة رسول الله وأخبروه الخبر وقال بعضهم: يا رسول الله لا تحرم علينا حلالا، ولا تحل لنا حراما، فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقال: أطلق لنا من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمي هاتين، فقال رسول الله : صدق، فقالوا: ابعث معنا رجلا لزيد رضي الله تعالى عنه، فبعث معهم عليا كرم الله وجهه يأمر زيدا أن يخلي بينهم وبين حرمهم وأموالهم، أي فقال عليّ: يا رسول الله إن زيدا لا يطيعني، فقال: خذ سيفي هذا، فأخذه وتوجه، فلقي علي كرم الله وجهه رجلا أرسله زيد رضي الله تعالى عنه مبشرا على ناقة من إبل القوم، فردها علي كرم الله وجهه على

القوم، وأردفه خلفه، ولقي زيدا فأبلغه أمر رسول الله. قال: وعند ذلك قال له زيد، ما علامة ذلك؟ فقال: هذا سيفه فعرف زيد السيف وصاح بالناس فاجتمعوا، فقال: من كان معه شيء فليرده، فهذا سيف رسول الله، فرد الناس كافة كل ما أخذوه انتهى.

أقول: وهذا السياق يدل على أن جميع ما أخذه من النعم والشاء والسبي كان لمن أسلم من جذام من بني الضبيب، وإن بعض من قتل مع الهنيد وابنه كان مسلما، وفي ذلك من البعد ما لا يخفى، والله أعلم.


سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبني فزارة

كما في صحيح مسلم بوادي القرى

عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فزارة وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشنينا الغارة فوردنا الماء. فقتل أبو بكر: أي جيشه من قتل، ورأيت طائفة منهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فأدركتهم ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا وفيهم امرأة: أي وهي أم قرفة عليها قشع من أدم: أي فروة خلقة معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر رضي الله تعالى عنه ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا، فقدمنا المدينة، فلقيني رسول الله، فقال: يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك: أي أبوك لله خالصا حيث أنجب بك وأتى بمثلك، يقال ذلك في مقام المدح والتعجب: أي وقد كان وصف له جمالها، فقلت: هي لك يا رسول الله، فبعث بها رسول الله إلى مكة ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين.

وفي لفظ: فدى بها أسيرا كان في قريش من المسلمين، كذا ذكر الأصل أن أمير هذه السرية: أي التي أصابت أم قرفة أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وأنه الذي في مسلم.

وذكر في الأصل قبل ذلك عن ابن إسحاق وابن سعد أن أمير هذه السرية، أي التي أصابت أم قرفة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما، وأنه لقي بني فزارة وأصيب بها ناس من أصحابه، وانفلت زيد من بين القتلى: أي احتمل جريحا وبه رمق، فلما قدم زيد رضي الله تعالى عنه نذر أن لا يمس رأسه غسل من الجنابة حتى يغزو بني فزارة، فلما عوفي أرسله إليهم، فكمنوا النهار وساروا الليل حتى أحاطوا بهم، وكبروا وأخذوا أم قرفة وكانت أم قرفة في شرف من قومها، وكان يعلق في بيتها خمسون سيفا كلهم لها محرم، وكان لها اثنا عشر ولدا. ومن ثم كانت العرب تضرب بها المثل في العزة، فتقول: لو كنت أعز من أم قرفة، فأمر زيد بن حارثة أن تقتل أم قرفة، أي لأنها كانت تسب النبي.

وجاء أنها جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها وقالت لهم: اغزوا المدينة واقتلوا محمدا، لكن قال بعضهم: إنه خبر منكر ( ) فربط برجليها حبلين ثم ربطا إلى بعيرين وزجرهما، أي وقيل إلى فرسين، فركضا فشقاها نصفين، وقرفة ولدها هذا الذي تكنى به قتله النبي وبقية أولادها قتلوا مع أهل الردة في خلافة الصديق فلا خير فيها ولا في بنيها، ثم قدموا على رسول الله بابنة أم قرفة، وذكر له جمالها، فقال لابن الأكوع: يا سلمة ما جارية أصبتها، قال: يا رسول الله جارية رجوت أن أفدي بها امرأة منا في بني فزارة: فأعاد رسول الله الكلام مرتين أو ثلاثا، فعرف سلمة أنه يريدها، فوهبها له، فوهبها النبي لخاله حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بمكة، وكان أحد الأشراف، فولدت له عبد الرحمن بن حزن، وإنما قيل لحزن خاله لأن فاطمة أم أبي النبي هي بنت عائذ كما تقدم، وعائذ جد حزن لأبيه، وفي لفظ بنت عمرو بن عائذ.

وفي كلام السهيلي أن رواية الفداء لمن كان أسيرا بمكة أصح من رواية أنه وهبها لخاله حزن.

وجمع الشمس الشامي بين الروايتين حيث قال: يحتمل أنهما سريتان اتفق لسلمة بن الأكوع فيهما ذلك، أي إحداهما لأبي بكر، والأخرى لزيد بن حارثة، ويؤيد ذلك أن في سرية أبي بكر أن رسول الله بعث ببنت أم قرفة إلى مكة ففدى بها أسرى كانوا في أيدي المشركين. أي وفي سرية زيد وهبها لخاله حزن بمكة. قال: ولم أر من تعرض لتحرير ذلك انتهى.

أقول: في هذا الجمع نظر، لأنه يقتضي أن أم قرفة تعددت، وأن كل واحدة كانت لها بنت جميلة، وأن سلمة بن الأكوع أسرهما، وأنه أخذهما منه، وفي ذلك بعد، إلا أن يقال: لا تعدد لأم قرفة وتسميه المرأة في سرية أبي بكر أم قرفة وهم من بعض الرواة. ويدل عليه أن بعضهم أوردها ولم يسم المرأة أم قرفة، بل قال فيهم امرأة من بني فزارة معها ابنة لها من أحسن العرب، فنفلني أبو بكر بنتها فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا، فلقيني رسول الله في السوق مرتين في يومين، فقال: يا سلمة هبني المرأة، فقلت: هي لك، فبعث بها إلى مكة ففدى بها ناسا كانوا أسرى بمكة.

ثم لا يخفى أن ما ذكره الأصل عن ابن إسحاق وابن سعد من أنه أرسل زيد بن حارثة إلى وادي القرى، أي غازيا لبني فزارة، وأنه لقيهم وأصيب بها ناس من أصحابه، وأفلت زيد من بين القتلى جريحا الخ يخالفه ما ذكره عن ابن سعد مما يقتضي أن زيد بن حارثة في هذه لم يكن غازيا، بل كان تاجرا، وأنه لم يرسل لبني فزارة وإنما اجتاز بهم فقاتلوه.

والمذكور عن ابن سعد ما نصه: قالوا: خرج زيد بن حارثة في تجارة إلى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي، فلما كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة فضربوه وضربوا أصحابه، أي فظنوا أنهم قد قتلوا وأخذوا ما كان معهم، فقدموا المدينة، ونذر زيد أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة، فلما خلص من جراحته بعثه رسول الله في سرية لهم، وقال لهم: اكمنوا النهار وسيروا الليل، فخرج بهم دليل من بني فزارة وقد نزر بهم القوم، فكانوا يجعلون له ناظورا حين يصبحون فينظر على جبل يشرف على وجه الطريق الذي يرون أن المسلمين يأتون منه، فينظر قدر مسيرة يوم، فيقول اسرحوا فلا بأس عليكم، فإذا أمسوا أشرف ذلك الناظر على ذلك الجبل فينظر مسيرة ليلة، فيقول ناموا فلا بأس عليكم في هذه الليلة، فلما كان زيد بن حارثة وأصحابه على نحو مسيرة ليلة أخطأ بهم الدليل الفزاري طريقهم، فأخذ بهم طريقا أخرى حتى أمسوا وهم على خطأ، فعاينوا الحاضر من بني فزارة، فحمدوا خطأهم فكمن لهم في الليل حتى أصبحوا فأحاطوا بهم ثم كبر زيد وكبر أصحابه إلى آخر ما تقدم.

ولما قدم زيد بن حارثة المدينة جاء إليه وقرع عليه الباب، فخرج إليه رسول الله عريانا يجر ثوبه واعتنقه وقبله، وسأله فأخبره بما ظفره الله تعالى به.

وحينئذ يشكل قوله في الأصل: ثبت عن ابن سعد لزيد بن حارثة سريتين بوادي القرى. إحداهما في رجب والأخرى في رمضان، فإنه بظاهره يقتضي أنه أرسل غازيا المرتين لبني فزارة بوادي القرى.

وقد علمت أن كلام ابن سعد يدل على أن زيد بن حارثة في السرية الأولى إنما كان تاجرا اجتاز ببني فزارة بوادي القرى فقاتلوه هو وأصحابه وأخذوا ما معهم.

ثم رأيت الأصل تبع في ذلك شيخه الحافظ الدمياطي حيث قال سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب: قالوا: بعث رسول الله زيدا رضي الله تعالى عنه أميرا. ثم قال: سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بناحية وادي القرى في رمضان. وفيه ما علمت.

ثم لا يخفى أن في هذا إطلاق السرية على الطائفة التي خرجت للتجارة ولا يختص ذلك بمن خرج للقتال أو لتجسس الأخبار، وقد تقدم.


سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل

بضم الدال المهملة وبفتحها، وأنكره ابن دريد لبني كلب.

بعث رسول الله عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فأقعده بين يديه وعممه بيده، قال أي بعد أن قال له: تجهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا أو من الغد إن شاء الله تعالى. ثم أمره أن يسري من الليل إلى دومة الجندل في سبعمائة وعسكروا خارج المدينة.

فلما كانت وقت السحر جاء عبد الرحمن بن عوف إلى رسول الله وقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وكان عليه عمامة من كرابيس: أي غليظة قد لفها على رأسه، فنقضها رسول الله بيده ثم عممه بعمامة سوداء وأرخى بين كتفيه منها أربع أصابع أو نحوا من ذلك. ثم قال: هكذا يا بن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف.

ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء فدفعه إليه، وقام فحمد الله، ثم صلى على نفسه، ثم قال: خذه يا بن عوف انتهى، وقال: اغز بسم الله وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغلّ، أي لا تخن في المغنم ولا تغدر، أي لا تترك الوفاء، ولا تقتل وليدا وفي رواية: لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تنكثوا، ولا تملوا، ولا تقتلوا وليدا: أي صبيا، فهذا عهد الله وسنة نبيكم فيكم ثم قال له: إذا استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم، فسار عبد الرحمن بن عوف حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام وهم يأبون ويقولون: لا نعطي إلا السيف. وفي اليوم الثالث أسلم رأسهم وملكهم الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا: قال في النور: لم أجد أحدا ترجمه، والظاهر أنه ما وفد على النبي فهو تابعي، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقر من أقام على كفره بإعطاء الجزية: أي وأرسل رضي الله عنه إلى رسول الله يعلمه بذلك وأنه يريد أن يتزوج فيهم. فكتب إليه رسول الله أن تزوج ببنت الأصبغ، أي فتزوجها رضي الله تعالى عنه، وبنى بها عندهم، وقدم بها المدينة، وهي أم ولده سلمة بن عبد، الرحمن بن عوف، وهي أول كلبية نكحها قرشي، ولم تلد غير سلمة وطلقها عبد الرحمن في مرض موته ثلاثا ومتعها جارية سوداء، ومات وهي في العدة، وقيل بعد انقضاء العدة فورّثها عثمان رضي الله تعالى عنه.

قال: وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «سرت لأسمع وصية رسول الله لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فإذا فتى من الأنصار أقبل يسلم على رسول الله ثم جلس، فقال: يا رسول الله أيّ المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقا، ثم قال: وأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم له استعدادا قبل أن ينزل بهم، أولئك الأكياس. ثم سكت الفتى وأقبل رسول الله، فقال: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلت بكم، وأعوذ بالله أن تدركوهن، إنه لن تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. وما نقص المكيال والميزان في قوم إلا أخذهم الله بالسنين، ونقص من الثمرات، وشدة المؤنة، وجور السلطان لعلهم يذكرون. وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عنهم قطر السماء ولولا البهائم لم يسقوا وما نقض قوم عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذ ما كان في أيديهم. وما حكم قوم بغير كتاب الله إلا جعل الله تعالى بأسهم بينهم» وفي رواية: «إلا ألبسهم الله شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض».

وفي الأصل ذكر ابن إسحاق أن النبي بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه لدومة الجندل في سرية. زاد في السيرة الشامية على ذلك قوله: كما سيأتي.


سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى مدين

قرية سيدنا شعيب صلوات الله وسلامه عليه، وهي تجاه تبوك فأصاب سبيا، وفرقوا في بيعهم بين الأمهات والأولاد، فخرج رسول الله وهم يبكون، فقال: «ما لهم؟ » فقيل: يا رسول الله فرق بينهم: أي الأمهات والأولاد، فقال رسول الله: «لا تبيعوهم إلا جميعا».

قال في الأصل: وكان مع زيد رضي الله تعالى عنه في هذه السرية ضميرة مولى علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وكذا أخوه رضي الله تعالى عنه، وأخ له وهو تابع في ذلك لابن هشام. وردّ بأن مولى عليّ هذا الذي هو ضميره لم يذكر في كتب الصحابة وكذا أخوه.


سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك

وهي قرية بينها وبين المدينة ست ليال، أي وفي لفظ: ثلاث مراحل، وهي خراب الآن. وفي الصحاح: فدك قرية بخيبر.

وسببها أنه بلغه أن لبني سعد جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، وأن يجعلوا لهم تمر خيبر: أي ما يوجد من غلتها، فبعث إليهم عليا كرّم الله وجهه في مائة رجل، فسار الليل وكمن النهار إلى أن نزلوا محلا بين خيبر وفدك، فوجدوا به رجلا فسألوه عن القوم؟ أي فقال: لا علم لي، فشدوا عليه، فأقر أنه عين: أي جاسوس لهم، وقال: أخبركم على أن تؤمنوني؟ فأّمنوه، فدلهم، فأغاروا عليهم وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظعن، فعزل علي كرّم الله وجهه صفيّ رسول الله لقوحا: أي حلوبا ( ) قريبة عهد بنتاج تدعى الحفدة بفتح الحاء وكسر الفاء وفتح الدال المهملة لسرعة سيرها، ومنه في الدعاء: إليك نسعى ونحفد ثم عزل الخمس وقسم الباقي على أصحابه.

أقول: قوله يريدون أن يمدوا يهود خيبر، يقتضي بظاهره أن ذلك كان عند محاصرة خيبر أو عند إرادة ذلك، وفيه ما لا يخفى لما تقدم، والله أعلم.


سرية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه إلى أسير

بضم الهمزة وفتح السين، ويقال أسير بن رزام اليهودي بخيبر.

لما قتل الله أبا رافع بن سلام بن أبي الحقيق عظيم يهود خيبر كما تقدم، أمروا عليهم أسير بن رزام، قال: ولما أمروه عليهم، قال لهم: إني صانع بمحمد ما لم يصنعه أصحابي، فقالوا له: وما عسيت أن تصنع؟ قال: أسير في غطفان فأجمعهم لحربه، قالوا: نعم ما رأيت، وكان ذلك قبل فتح خيبر انتهى.

فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله، فبلغ ذلك رسول الله، فوجه إليه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر سرا يسأل عن خبر أسير وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله فأخبره، فندب رسول الله الناس لذلك، فانتدب له ثلاثون رجلا، وأمرّ عليهم عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، وقيل عبد الله بن عتيك، فقدموا على أسير، فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له. قال: نعم ولي منكم مثل ذلك، فقالوا: نعم، فقلنا إن رسول الله بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك فطمع في ذلك: أي واستشار يهود في ذلك فأشاروا عليه بعدم الخروج وقالوا: ما كان محمد ليستعمل رجلا من بني إسرئيل، قال: بلى قد ملّ الحرب.

قال في النور: هذا الكلام لا يناسب أن يقال قبل فتح خيبر، فالذي يظهر أنها بعد فتح خيبر.

وأقول: يجوز أن يكون المراد باستعماله على خيبر المصالحة وترك القتال، ومن ثم أجاب بقوله إنه: قد ملّ الحرب، والله أعلم.

فخرج، وخرج معه ثلاثون رجلا من يهود مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، قال عبد الله بن أنيس، كنت رديفا لأسير، فكأنّ أسيرا ندم على خروجه معنا، فأهوى بيده إلى سيفي، ففطنت بفتح الطاء له، وقلت أغدر عدّو الله أغدر عدّو الله أغدر عدو الله ثلاثا؟ فضربته بالسيف فأطحت عامة فخذه فسقط، وكان بيده مخدش من شوحط فضربني به على رأسي فشجني مأمومة، وملنا على أصحابه فقتلناهم إلا رجلا واحدا أعجزنا جريا. ثم أقبلنا على رسول الله فحدثناه الحديث، فقال: «قد نجاكم الله من القوم الظالمين وبصق في شجتي فلم تقح عليّ ولم تؤذني».

قال: وفي رواية زيادة على ذلك، وهي وقطع لي قطعة من عصاه، فقال: أمسك هذه معك علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متخضرا، فلما دفن عبد الله بن أنيس جعلت معه على جلده دون ثيابه انتهى.

أقول: تقدم نظير ذلك لعبد الله بن أنيس هذا لما أرسله لقتل سفيان بن خالد الهذلي وجاء برأسه إلى رسول الله، فيحتمل أن هذا وهم من بعض الرواة، ويحتمل تعدد الواقعة: أي أعطاه عصاه أولا في تلك، وأعطاه أخرى ثانيا في هذه، وجعل العصا بين جلده وكفنه، ولا مانع منه، لكن ربما تتشوف النفس للسؤال عن حكمة تكرير ذلك لعبد الله بن أنيس وتخصيصه بهذه المنقبة دون بقية الصحابة، والله أعلم.


سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس رضي الله عنهما

بالحاء المهملة وكسر الراء وسين مهملة، وكل ما في الأنصار حريس بالسين المهملة إلا الحريش فإنه بالشين المعجمة، وقيل بدله جبار بن صخر إلى أبي سفيان بن حرب بمكة ليغتالاه.

وسببها أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قال لنفر من قريش: ألا أحد يغتال لنا محمدا فإنه يمشي في الأسواق وحده، فأتاه رجل من الأعراب، وقال يعني نفسه: قد وجدت أجمع الرجال قلبا، وأشدهم بطشا، وأسرعهم عدوا، فإذا أنت فديتني خرجت إليه حتى أغتاله فإن معي خنجرا بفتح الخاء المعجمة كجناح النسر، وإني عارف بالطريق، فقال له: أنت صاحبنا، فأعطاه بعيرا ونفقة، وقال له: اطو أمرك، وخرج ليلا إلى أن قدم المدينة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله فدل عليه، وكان في مسجد بني عبد الأشهل، فعقل راحلته وأقبل على رسول الله، فلما رآه، قال: إن هذا يريد غدرا، والله حائل بينه وبين ما يريد، فجاء ليجني على رسول الله، فجذبه أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه بداخلة إزاره: أي بحاشيته من داخل، فإذا بالخنجر فأخذ أسيد يخنقه خنقا شديدا، فقال له رسول الله : أصدقني، قال: وأنا آمن؟ قال: نعم، فأخبره بأمره فخلى عنه رسول الله فأسلم، أي وقال: يا رسول الله ما كنت أخاف الرجال، فلما رأيتك ذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم اطلعت على ما هممت به، فعلمت أنك على الحق، فجعل رسول الله يبتسم.

فعند ذلك بعث رسول الله عمرو بن أمية الضمري ومن تقدم إلى أبي سفيان بمكة. أي وذلك بعد قتل خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه وصلبه على الخشبة.

ومضى عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فعرفه، فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه لأنه كان فاتكا في الجاهلية وقالوا: لم يأت عمرو بخير، واشتدوّا في طلبه.

قال: وفي رواية لما قدما مكة حبسا جمليهما ببعض الشعاب، ثم دخلا ليلا، فقال له صاحبه: يا عمرو لو طفنا بالبيت وصلينا ركعتين ثم طلبنا أبا سفيان، فقال له عمرو: إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق، أي وإن القوم إذا تعشوا جلسوا على أفنيتهم، فقال: كلا إن شاء الله، قال عمرو: فطفنا بالبيت وصلينا، ثم خرجنا لطلب أبي سفيان، فلقيني رجل من قريش فعرفني، وقال: عمرو بن أمية فأخبر قريشا بي، فهربت أنا وصاحبي انتهى أي وصعدنا الجبل، وخرجوا في طلبنا، فدخلنا كهفا في الجبل، ولقي عمرو رجلا من قريش فقتله: أي قتل ذلك الرجلَ عمروُ، فلما أصبحنا، غدا رجل من قريش يقود فرسا ونحن في الغار، فقلت لصاحبي: إن رآنا صاح بنا، فخرجت إليه ومعي خنجر أعددته لأبي سفيان فضربته على يده فصاح صيحة أسمع أهل مكة، فجاء الناس يشتدّون فوجدوه بآخر رمق فقالوا: من ضربك؟ قال عمرو بن أمية، وغلبه الموت فاحتملوه، فقلت لصاحبي، لما أمسينا: النجاة، فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة، فمررنا بالحرس الذين يحرسون خشبة خبيب بن عدي رضي الله تعالى عنه، فقال أحدهم: لولا أن عمرو بن أمية بالمدينة لقلت إنه هذا الماشي، فلما حاذيت الخشبة شددت عليها، فحملتها واشتديت أنا وصاحبي فخرجوا وراءنا، فألقيت الخشبة فغيبه الله عنهم، كذا في السيرة الهشامية.

وتقدم أنه أرسل الزبير والمقداد لإنزاله وأن الزبير أنزله فابتلعته الأرض. وتقدم عن ابن الجوزي مثل ما هنا من أن الذي أنزله عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه، فيحتاج إلى الجمع على تقدير صحة الروايتين. ويقال إن عمرا قتل رجلا آخر سمعه يقول:

ولست بمسلم ما دمت حيا ** ولست أدين دين المسلمينا

ولقي رجلين بعثتهما قريش إلى المدينة يتجسسان لهم الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر ثم قدم رضي الله تعالى عنه المدينة، وجعل يخبر رسول الله ورسول الله يضحك.


سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه

وقيل كرز بن جابر رضي الله تعالى عنه وعليه الأكثرون. ومن ثم اقتصر عليه الحافظ الدمياطي، أي وقيل جرير بن عبد الله البجلي. ورد بأن إسلام جرير بن عبد الله المذكور كان بعد هذه السرية بنحو أربع سنين ( ) إلى العرنيين.

وسببها أنه قدم على رسول الله نفر: أي ثمانية من عرينة، وقيل أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، والثامن من غيرهما مسلمين، نطقوا بالشهادتين، كانوا مجهودين قد كادوا يهلكون أي لشدة هزالهم وصفرة ألوانهم وعظم بطونهم، وقالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا، فأنزلهم عنده: أي بالصفة ثم قال لهم: أي بعد أن ذكروا له أن المدينة وبئة وخمة، وأنهم أهل ضرع ولم يكونوا أهل ريف: لو خرجتم إلى ذود لنا: أي لقاح وكانت خمسة عشر فشربتم من ألبانها وأبوالها، أي لأن في لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتفتيحا للسدد، فإن الاستسقاء وعظم البطن إنما ينشأ عن السدد وآفة الكبد. ومن أعظم منافع الكبد لبن اللقاح، لا سيما إن استعمل بحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل مع حرارته التي يخرج بها ففعلوا ثم لما صحت أجسامهم كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعيها وهو يسار مولى النبي، ومثلوا به: أي قطعوا يديه ورجليه، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات واستاقوا اللقاح.

وفي لفظ أنهم ركبوا بعضها واستاقوها، فأدركهم يسار ومعه نفر، فقاتلهم فقطعوا يده ورجله، الحديث.

وبلغه الخبر، فبعث في آثارهم عشرين فارسا، واستعمل عليهم من تقدم، وأرسل معهم من يقص آثارهم، فأدركوهم فأحاطوا بهم فأسروهم ودخلوا بهم المدينة فأمر بهم رسول الله فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم: أي غورت بمسامير محماة بالنار، وألقوا بالحرة: أي وهي أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار، يستسقون فلا يسقون. قال أنس رضي الله تعالى عنه: ولقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش ليجد بردها لما يجده من شدة العطش حتى ماتوا على حالهم ( ) وأنزل الله فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، ولم يقع بعد ذلك أنه سمل عينا. وفي لفظ أنهم لما أسروا ربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة. وكان رسول الله بالغابة، فخرجوا بهم نحوه، فلقوه بمجمع السيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم، وصلبوا هنالك، وأنه فقد من اللقاح لقحة تدعى الحفياء، فسأل عنها، فقيل نحروها، كذا في سيرة الحافظ الدمياطي، وقدم فيها هذه السرية على سرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه.


سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى طائفة من هوازن

بعث رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ثلاثين رجلا إلى عجز بفتح العين المهملة وبضم الجيم وبالزاي: محل بينه وبين مكة أربع ليال بطريق صنعاء، يقال له تربة بضم المثناة فوق وفتح الراء ثم موحدة مفتوحة ثم تاء. وأرسل دليلا من بني هلال فكان يسير الليل ويكمن النهار فأتى الخبر لهوازن فهربوا، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه محالهم، فلم يجد منهم أحدا، فانصرف راجعا إلى المدينة، فلما كان بمحل بينه وبين المدينة ستة أميال قال له الدليل: هل لك جمع آخر من خثعم، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: لم يأمرني رسول الله بهم، إنما أمرني بقتال هوازن.


سرية أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب

عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله أبا بكر وأمّره علينا، فسبى ناسا من المشركين، فقتلناهم، فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات من المشركين، وما زاده الأصل على هذا من قوله إن سلمة بن الأكوع قال: بعث رسول الله أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فزارة الخ نسب فيه للوهم، لأن ذلك كان في سريته لبني فزارة بوادي القرى، وقد تقدمت، فهما قضيتان مختلفتان جمع بينهما، أي وهذا الذي في الأصل تبع فيه شيخه الحافظ الدمياطي، وفيه ما علمت.


سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى بني مرة بفدك

بعث رسول الله بشير بن سعد في ثلاثين رجلا إلى بني مرة بفدك وتقدم أنها قرية بينها وبين المدينة ستة أميال، فخرج فلقي رعاء الشاء، فسأل عن الناس؟ فقيل في بواديهم، فاستاق النعم والشاء، وانحدر إلى المدينة، فخرج الصريخ إليهم فأدركه منهم العدد الكثير عند الليل فباتوا يترامون بالنبل حتى فني نبل أصحاب بشير، أي فلما أصبحوا حملوا على بشير وأصحابه، فقتلوا منهم من قتلوا، وولى من ولى منهم، وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ارتث: أي جرح وصار ما به رمق، وضربت كعبه اختبارا لحياته فلم يتحرك، فقيل مات، فرجعوا بنعمهم وشياههم، وجاء إليه خبرهم ثم جاء بشير رضي الله تعالى عنه إلى المدينة بعد ذلك، أي فإنه استمر بين القتلى إلى الليل، فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك فأقام بفدك عند يهودي أياما حتى قوي على المشي، وجاء إلى المدينة.

أقول: وهذا يدل على أن بني مرة الذين توجه إليهم بشير لم يكونوا بفدك، بل بالقرب منها، فيكون قوله أوّلا لبني مرة بفدك فيه تسمح، وأن بشيرا حصلت له هذه الحالة مرتين، فليتأمل.


سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة

اسم محل وراء بطن نخل

بعث رسول الله غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه في مائة وثلاثين رجلا لبني عوال وبني بن ثعلبة بالميفعة، ودليلهم يسار مولى رسول الله، فهجموا عليهم جميعا ووقعوا في وسط محالهم، فقتلوا جمعا من أشرافهم واستاقوا نعما وشاء، ولم يأسروا أحدا وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، وهو مرداس بن نهيك. وفي سيرة الحافظ الدمياطي نهيك بن مرداس، والأول هو الذي في الكشاف، وقال له النبي: «هلا شققت عن قلبه أصادق هو أم كاذب؟ » فعن أسامة رضي الله تعالى عنه: «بعثنا رسول الله، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما أعييناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا على رسول الله قال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قلت: إنما قالها متعوّذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» أي تمنيت أن أكون أسلمت اليوم فيكفر عني ما صنعت، قال: كذا وقع في الأصل أن قتل أسامة للرجل الذي قال لا إله إلا الله كان في هذه السرية، وقد تبع في ذلك ابن سعد.

وإنما كان ذلك في سرية أسامة بن زيد للحرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف ثم تاء تأنيث بطن من جهينة، وسيأتي عن أسامة «بعثنا رسول الله إلى الحرقة من جهينة، فصبحناها، فكان رجل يدعى مرداس بن نهيك إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان من حاميتهم فهزمناهم، فتبعته أنا ورجل من الأنصار، فرفعت عليه السيف، فقال لا إله إلا الله» وزاد في رواية: «محمد رسول الله، فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، ثم وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى ما أقدر على أكل الطعام، حتى قدمت على رسول الله فقبلني واعتقني» قال بعضهم: «كان إذا بعث أسامة بن زيد يسأل عنه أصحابه، ويحب أن يثنى عليه خيرا، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون رسول الله ويقولون: يا رسول الله لو رأيت ما فعل أسامة ولقيه رجل، فقال الرجل لا إله إلا الله، فشد عليه أسامة فقتله وهو يعرض عنهم، فلما أكثروا عليه رفع رأسه الشريف لأسامة فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله، فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فقال أسامة رضي الله تعالى عنه: إنما قالها خوفا من السلاح» وفي رواية: «إنما كان متعوّذا من القتل، قال أسامة رضي الله تعالى عنه: ولا زال رسول الله يكرر عليّ حتى تمنيت أني لم أسلم إلا يومئذ» انتهى.

والذي في الكشاف في تفسير قوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} أصله أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله وكان عليها غالب بن فضالة الليثي رضي الله تعالى عنه، فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه. فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد، فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه، فأخبر رسول الله بذلك فوجدوا وجدا شديدا وقال: قتلتموه إرادة ما معه، ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول الله استغفر لي، قال: فكيف بلا إله إلا الله؟ فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي وقال: أعتق رقبة، وسيأتي نحو ذلك في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب بشير بن سعد.

ويبعد تعدد هذه الواقعة سيما في مواطن ثلاثة أو أربعة، وكون يسار مولى رسول الله كان دليلا في هذه السرية يقتضي أنها متقدمة على سرية العرنيين، فقد تقدم أنهم قتلوه ثم رأيته في النور قال: ولعل هذا غير ذاك، لكن لم أر له ذكرا في الموالي إلا أن يكون أحد موالي أقاربه عليه الصلاة والسلام فنسب إليه، ومن ثم لم يشهد أسامة رضي الله تعالى عنه مع علي كرم الله وجهه قتالا، وقال له: لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها، ولكنك قد سمعت ما قال لي رسول الله حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إله إلا الله وقلت له: أعطي الله عهدا أن لا أقتل رجلا بقول لا إله إلا الله، والله أعلم.


سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى يمن

بفتح الياء آخر الحروف وقيل بضمها، أو يقال أمن بالهمزة مفتوحة وسكون الميم، وجبار بفتح الجيم: واد قريب من خيبر.

لما بلغ رسول الله أن جمعا من غطفان قد واعدهم عيينة بن حصن: أي قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه، ليكون معهم على رسول الله، دعا رسول الله بشير بن سعد، فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا المحل المذكور، فأصابوا نعما كثيرا، وتفرق الرعاء بكسر الراء والمد، وذهبوا إلى القوم، وأخبروهم فتفرقوا ولحقوا بعليا بلادهم، وعليا بضم العين وسكون اللام مقصورا: نقيض السفلى، فلم يظفر بأحد منهم إلا برجلين أسروهما فرجع بالنعم والرجلين إلى المدينة، فأسلم الرجلان، فأرسلهما قال: والرجلان من جمع عيينة، فإن المسلمين لما قالوا جمع عيينة انهزموا أمامهم وتبعوهم أخذوا منهم ذينك الرجلين انتهى، أي وعيينة بن حصن كان يقال له الأحمق المطاع، لأنه كان يتبعه عشرة آلاف قناة، وقيل له عيينة، قال في الأصل: لأن عينه حجفلت: أي عظمت وكبرت، فلقب بذلك رضي الله تعالى عنه.


سرية ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم

بعث رسول الله ابن أبي العوجاء رضي الله تعالى عنه السلمي في خمسين رجلا إلى بني سليم، فكان لهم جاسوس مع القوم، فخرج إليهم وسبق القوم وحذرهم، فجمعوا لهم جمعا كثيرا، فجاؤوا لهم وهم معدّون لهم فدعوهم إلى الإسلام، فقالوا: أيّ حاجة لنا بما تدعونا إليه؟ فتراموا بالنبل ساعة، وجعلت الأمداد تأتيهم، وأحدقوا بالمسلمين من كل ناحية، فقاتل المسلمون قتالا شديدا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن أبي العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتى أتى رسول الله.


سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني الملوح

بضم الميم وفتح اللام وتشديد الواو مكسورة ثم حاء مهملة بالكديد، بفتح الكاف وكسر الدال المهملة.

بعث رسول الله غالب بن عبد الله الليثي في بضعة عشر رجلا قال: وما نقل عن الواقدي أنهم كانوا مائة وثلاثين رجلا فذلك في سرية لغالب غير هذه انتهى.

أقول: وهي المتقدمة التي توجهت لبني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، والله أعلم. وأمر غالب بن عبد الله وأصحابه أن يشنوا الغارة على القوم، فخرجوا حتى إذا كانوا بقديد لحقوا الحارث الليثي فأسروه، فقال: إنما خرجت إلى رسول الله أريد الإسلام، فقالوا له: إن كنت مسلما لم يضرك ربطنا لك يوما وليلة، وإن كنت غير ذلك استوثقنا منك، فشدوه وثاقا، وخلفوا عنده سويد بن صخر. أي وفي لفظ: خلفوا عليه رجلا أسود منهم، وقالوا له: إن نازعك فاحتز رأسه، وساروا حتى أتوا محل القوم عند غروب الشمس، فكمنوا في ناحية الوادي. قال جندب الجهني: وأرسلني القوم جاسوسا لهم، فخرجت حتى أتيت تلا مشرفا على الحاضر: أي القوم المقيمين بمحلهم، فلما استويت على رأسه انبطحت عليه لأنظر، إذ خرج رجل منهم فقال لامرأته: إني لأنظر على هذا الجبل سوادا ما رأيته قبل، انظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب جرت منها شيئا. فنظرت فقالت: والله ما فقدت من أوعيتي شيئا، فقال: ناوليني قوسي ونبلي، فناولته قوسه وسهمين، فأرسل سهما، فوالله ما أخطأ بين عينيّ، فانتزعته وثبتّ مكاني، فأرسل آخر فوضعه في منكبي، فانتزعنه وثبت مكاني، فقال لامرأته: والله لو كان جاسوسا لتحرك، لقد خالطه سهمان لا أبالك: أي بكسر الكاف: أي لا كافل لك غير نفسك وهو بهذا المعنى يذكر في معرض المدح، وربما يذكر في معرض الذم وفي معرض التعجب لا بهذا المعنى، فإذا أصبحت فانظريهما لا تمضغهما الكلاب ثم دخل، فلما اطمأنوا وناموا شنينا عليهم الغارة، واستقنا النعم والشاء بعد أن قتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، أي ومروا على الحارث الليثي، فاحتملوه واحتملوا صاحبهم الذي تركوه عنده، فخرج صريخ القوم في قومهم، فجاء مالا قبل لنا به، فصار بيننا وبينهم الوادي، فأرسل الله سحابا فأمطر الوادي ما رأينا مثله، فسال الوادي بحيث لا يستطتع أحد أن يجوز به، فصاروا وقوفا ينظرون إلينا ونحن متوجهون إلى أن قدمنا المدينة.

أي وفي لفظ آخر: فقلنا القوم ينظرون إلينا، إذ جاء الله بالوادي من حيث شاء يملأ جنبيه ماء، والله ما رأينا يومئذ سحابا ولا مطرا، فجاء بما لا يستطيع أحد أن يجوزه فوقفوا ينظرون إلينا، وقد وقع نظير ذلك: أي سيل الوادي لقطنة بن عامر حين توجه إلى بني خثعم بناحية تبال كما سيأتي.


سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه

أي في بني مرة بفدك

لما قدم غالب من الكديد مؤيدا منصورا بعثه في مائتي رجل إلى حيث أصيب أصحاب بشير بن سعد، وذلك في بني مرة بفدك، وكان قبل قدوم غالب هيأ الزبير لذلك وعقد له لواء، فلما قدم غالب رضي الله تعالى عنه قال للزبير اجلس، فصار غالب رضي الله تعالى عنه إلى أن أصبح القوم فأغاروا عليهم، وكان غالب رضي الله تعالى عنه قد أوصاهم بعدم مخالفتهم له، وآخى بين القوم، فساقوا نعما وقتلوا منهم.

قال: لما دنا غالب منهم ليلا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله تعالى وحده لا شريك له وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمرا فإنه «لا رأي لمن لا يطاع» وفي رواية: لا تعصوني، فإن رسول الله قال: «من يطع أميري فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني» وإنكم متى تعصوني فإنكم تعصون نبيكم، ثم ألف رضي الله تعالى عنه بين القوم، فقال: يا فلان أنت وفلان، ويا فلان أنت وفلان، لا يفارق رجل منكم زميله، فإياكم أن يرجع الرجل منكم فأقول له أين صاحبك؟ فيقول لا أدري، فإذا كبرت فكبروا، فلما أحاطوا بالقوم كبر غالب رضي الله تعالى عنه وكبروا معه وجردوا السيوف، فخرج الرجال فقاتلوا ساعة، ووضع المسلمون فيهم السيف، وكان شعار المسلمين «أمِت أمِت» وكان في القوم أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، وتفقده غالب رضي الله تعالى عنه فلم يره، وبعد ساعة: أي من الليل أقبل، فلامه غالب وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك، فقال: خرجت في أثر رجل منهم جعل يتهكم بي حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف قال: «لا إله إلا الله» فقال له الأمير: بئسما فعلت وما جئت به، تقتل امرأ يقول: «لا إله إلا الله» فندم أسامة وساق المسلمون النعم والشاء والذرية، فكان سهم كل رجل عشرة أبعرة، وعدل البعير بعشرة من الغنم انتهى، وتقدمت الحوالة على هذه، وتقدم ما فيها.

وقوله هنا حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف قال: «لا إله إلا الله» يقتضي أنه إنما قال: «لا إله إلا الله» بعد ضربه بالسيف. إلا أن يحمل على الإرادة، وتقدم أنه طعنه برمحه، فليتأمل.


سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر

بعث رسول الله شجاع بن وهب رضي الله تعالى عنه في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع هوازن: أي يقال لهم بنو عامر، وأمره أن يغير عليهم، فكان يسير الليل ويكمن بالنهار حتى صبحهم وهم غافلون. أي وقد نهى أصحابه أن يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعما وشاء، واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، فكان سهم كل رجل خمسة عشر بعيرا، وعدل البعير بعشرة من الغنم.


سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه

بعث رسول الله كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من أرض الشام وراء وادي القرى في خمسة عشر رجلا، فوجدوا جمعا كثيرا، أي لأنه لما دنا كعب بن عمير رضي الله تعالى عنه من القوم ذهب عين لهم فأخبروهم بقلة المسلمين ( ) فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا ورشقوهم بالنبل. فقاتلهم المسلمون أشد القتال حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن عمير فإنه ظن قتله، فلما أمسى تحامل حتى أتى رسول الله، فشق ذلك عليه، فهمّ بالبعث إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى محل آخر، فتركهم.

أقول: لم أقف على السبب الذي اقتضى البعث إلى ذلك المحل، والله أعلم.


سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل

أرض بها ماء يقال له السلاسل، بضم السين الأولى وكسر الثانية. أي وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. المشهور أنها بفتح الأولى، قيل سمي المكان بذلك، لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، يقال ماء سلسل وسلسال: إذا كان سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، وتلك الأرض وراء وادي القرى، وقيل لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا.

أقول: ولخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في زمن الصِّديق غزاة مع أهل فارس يقال لها ذات السلاسل، لكثرة من تسلسل فيها من الشجعان خوفي الفرار، فقتلوا آخرهم لأن السلاسل منعتهم الهزيمة. وبعث رسول الله بالسلاسل إلى الصديق رضي الله تعالى عنه، والله أعلم.

بلغ رسول الله أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون المدينة، فدعا رسول الله عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، أي وذلك بعد إسلامه بسنة، وعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا. وأمره أن يستعين بمن يمر عليهم، فسار الليل وكمن النهار حتى قرب من القوم، فبلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن كعب الجهني رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين من سراة المهاجرين والأنصار منهم أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعقد له لواء، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا، فلحق بعمرو أبو عبيدة، وأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس، فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا وأنا الأمير، قال: وعند ذلك قال جمع من المهاجرين الذين مع أبي عبيدة لعمرو: أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه، فقال عمرو: أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، قال: لتعلم يا عمرو أن آخر شيء عهد إليّ رسول الله أن قال: إن قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك، قال: فإني الأمير عليك، فقال: فدونك اهـ ( ) أي لأن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه كان حسن الخلق لين العريكة فكان عمرو يصلي بالناس.

أي وعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، قال: بعث إليّ رسول الله فأمرني أن آخذ ثيابي وسلاحي. فقال: يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك؟ فقلت: إني لم أسلم رغبة في المال، قال: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» ورأوا جمعا كثيرا، فحمل عليهم المسلمون فتفرقوا. قال: وأراد المسلمون أن يتبعوهم، فمنعهم عمرو رضي الله تعالى عنه، وأرادوا أن يوقدوا نارا ليصطلوا عليها من البرد فمنعهم عمرو، أي وقال: كل من أوقد نارا لأقذفنه فيها، فشق عليهم ذلك لما فيه من شدة البرد، فكلمه بعض سراة المهاجرين في ذلك فغالظه عمرو في القول، وقال له: قد أمرت أن تسمع لي وتطيع؟ قال نعم، قال: فافعل. ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غضب وهم أن يأتيه، فمنعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وقال: إن رسول الله لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب فسكت، واحتلم عمرو رضي الله تعالى عنه وكانت تلك الليلة شديدة البرد جدا، فقال لأصحابه ما ترون؟ قد والله احتلمت، فإن اغتسلت مت، فدعا بماء فغسل فرجه وتوضأ وتيمم ثم قام وصلى بالناس اهـ ثم بعث عمرو عوف بن مالك مبشرا للنبي بقدومهم وسلامتهم. قال: قال عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه: جئته وهو يصلي في بيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال: عوف بن مالك؟ فقلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: أخبرني، فأخبرته بما كان من مسيرنا وما كان بين أبي عبيدة بن الجراح وبين عمرو، ومطاوعة أبي عبيدة لعمرو، فقال رسول الله : يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح، وأخبرته بمنع عمرو رضي الله تعالى عنه للمسلمين من اتباع العدو، ومن إيقاد النار، ومن صلاته بأصحابه وهو جنب، فلما قدم عليه عمرو كلمه في ذلك قال: كرهت أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفون عليهم، فحمد رسول الله أمره. قال عمرو: وسألني عن صلاتي فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقلت: والذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمت، لم أجد بردا قط مثله، وقد قال الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} فضحك اهـ.

أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن صلاة الصحابة خلفه، فإني لم أقف على أنه أمرهم بالقضاء.


سرية الخبط

وهو ورق السمر

بعث رسول الله أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار فيهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى حي من جهينة في ساحل البحر، وقيل ليرصدوا عيرا لقريش، أي وعليه فتكون هذه السرية قبل الهدنة الواقعة في الحديبية، لما تقدم أنه بعد الهدنة لم يكن يرصد عيرا لقريش إلى الفتح، وتعدد سرية الخبط بعيد، فلا يقال يجوز أن تكون سرية الخبط مرتين: مرة قبل الهدنة، ومرة بعدها، ومن ثم حكم على هذا القول بأنه وهم. فأقاموا بالساحل نصف شهر، فأصابهم جوع شديد حتى أكلوا الخبط: أي كانوا يبلونه بالماء ويأكلونه حتى تقرحت أشداقهم. فإن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه كان يعطي الواحد منهم في اليوم والليلة تمرة واحدة يمصها ثم يصرها في ثوبه.

أي وعن الزبير رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: كيف كنتم تصنعون بالتمرة؟ قال: نمصها كما يمص الصبي ثدي أمه، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، لأنه زوّدهم جرابا من تمر، فجعل أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه يقوتهم إياه، حتى صار يعدّه لهم عدا، حتى كان يعطي الواحد تمرة كل يوم ثم بعد التمر أكلوا الخبط.

ولما رأى قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما ما بالمسلمين من جهد الجوع أي مشقته، أي وقال قائلهم: والله لو لقينا عدّو ما كان منا حركة إليه لما بالناس من الجهد، قال: من يشتري مني تمرا أوفيه له في المدينة بجزر يوفيها إليّ ههنا؟ فقال له رجل من أهل الساحل: أنا أفعل، لكن والله ما أعرفك، فمن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة، فقال الرجل: ما أعرفني بسعد، إن بيني وبين سعد خلة سيد أهل يثرب، فاشترى خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر. والوسق: بفتح الواو وكسرها ستون صاعا، وجمع الأوّل أوسق، والثاني أوساق، فقال له الرجل: أشهد لي، فقال أشهد من تحب، فأشهد نفرا من المهاجرين والأنصار من جملتهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

وقيل إن عمر رضي الله تعالى عنه امتنع من أن يشهد، وقال: هذا يدّان ولا مال له إنما المال لأبيه. فقال الرجل: والله ما كان سعد ليخني بابنه، أي لا يوفي عن ابنه ما التزمه، فكان بين قيس وعمر كلام حتى أغلظ له قيس الكلام، وأخذ قيس رضي الله تعالى عنه الجزر فنحر لهم منها ثلاثة في ثلاثة أيام، وأراد أن ينحر لهم في اليوم الرابع، فنهاه أبو عبيدة وقال له: عزمت عليك أن لا تنحر، أتريد أن تخفر ذمتك، أي لا يوفى لك بما التزمت ولا مال لك. فقال له قيس رضي الله تعالى عنه: أترى أبا ثابت، يعني والده سعدا يقضي ديون الناس ويطعم في المجاعة ولا يقضي دينا استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟

وفي البخاري أن قيسا رضي الله تعالى عنه نحر لهم تسع جزائر كل يوم ثلاثا، ثم نهاه أبو عبيدة.

أي ومما يؤيد ما ذكر من أن الجزر كانت خمسة، وأنه نحر لهم ثلاثة أيام كل يوم جزروا ما جاء في بعض الروايات أنه بقي معه جزوران قدم بهما المدينة يتعاقبون عليهما فلينظر الجمع.

ثم إنّ البحر ألقى لهم دابة هائلة يقال لها العنبر بحيث إن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه نصب لهم ضلعا من أضلاعها. وفي لفظ: من أضلاعه ومرّ تحته أطول رجل في القوم: أي وهو قيس بن سعد بن عبادة راكبا على أطول بعير لم يطأطىء رأسه.

وعن جابر رضي الله تعالى عنه، أنه قال: دخلت أنا وفلان وفلان وعدّ خمسة نفر عينها ما رآنا أحد. أي وفي لفظ. ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينها، فأكلوا منها أياما: أي نحو شهر وكانوا ثلاثمائة.

فعن بعضهم: لما تقرّحت أشداقنا من الخبط انطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه: ميتة، ثم قال: اضطررتم فكلوا، فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال.

وفي رواية: فأخرجنا من عينه كذا وكذا قلة ودك، وصحبوا من لحمها إلى المدينة، أي وقيل لها العنبر لأنها تبتلع العنبر.

فعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه. قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله، وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من جوفها.

وقيل العنبر اسم لسمكة مخصوصة في البحر هائلة الخلقة طولا وعرضا، وقد أخبرني بعض السفار أن جملا مات على شاطىء البحر، فألقي في البحر، فابتلعته سمكة، فوقفت أخفاف يديه في حلقها، فجاءت سمكة فابتلعت تلك السمكة.

وفي زمن الحاكم بأمر الله وجدت سمكة بدمياط طولها مائتا ذراع وعرضها مائة وستون ذراعا، وكان يقف في حلقها خمس رجال بالمجاريف يجرفون الشحم، وأقام أهل دمياط يأكلون من لحمها خمسة أشهر.

ولما بلغ سعد بن عبادة ما حصل للمسلمين من المجاعة قبل قدومهم قال: إن يكن قيس، يعني ولده كما أعهد فلينحر للقوم. فلما قدم قيس قال له سعد: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال: نحرت، قال أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال أصبت، ثم قال ماذا؟ قال: ثم نهيت، قال: ومن نهاك؟ قال أميري أبو عبيدة، قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، إنما المال لأبيك، فقلت له: أبي يقضي عن الأباعد ويحمل الكل ويطعم في المجاعة ولا يصنع هذا لي؟ فلان لموافقتي، فأبى عليه عمر بن الخطاب إلا التصميم على المنع، فقال سعد لولده قيس ذاك أربع حوائط، أي بساتين، أدناها ما يتحصل منه خمسون وسقا. ثم إن قيسا رضي الله تعالى عنه وفى الرجل صاحب الجزر، وحمله: أي أعطاه ما يركبه، وكساه، فبلغ النبي ما فعل قيس، قال: إنه في بيت جود. إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت.

أي ومن ثم قال بعضهم: لم يكن في الأوس والخزرج مطعمون يتوالدون في بيت واحد إلا قيس وأبوه سعد وأبوه عبادة وأبوه دليم، كان في كل يوم يقف شخص على أطم ينادي: من يريد الشحم واللحم فعليه بدار أبي دليم.

أي وكان أصحاب الصفّة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد والرجل بالاثنين والرجل بالجماعة، وأما سعد فينطلق بالثمانين.

وعن سعد بن عبادة: «زارنا النبي في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم قال: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة».

قال: ويذكر أن سعدا جاء إلى النبي، فقال: من عذيري من ابن الخطاب يبخل عليّ ابني، اهـ.

ويذكر عن سعد بن عبادة أنه كان شديد الغيرة، لم يتزوج إلا بكرا، وما طلق امرأة وقدر أحد أن يتزوجها.

وعن جابر رضي الله تعالى عنه: فلما قدمنا المدينة ذكرنا لرسول الله أمر العنبر، فقال: رزق أخرجه الله تعالى لكم، لعل معكم من لحمه شيء فتطعمونا، فأرسلنا إلى رسول الله منه فأكله أي ولم يكن أروح، بدليل أنه قال: لو نعلم أنا ندركه لم يروّح لأحببنا لو كان عندنا منه، قال ذلك ازديادا منه.


سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب

بعث رسول الله أبا قتادة في خمسة عشر رجلا إلى غطفان، وأمره أن يشن الغارة عليهم، فصار يسير الليل ويكمن النهار، حتى هجم عليهم، وأحاط بهم، وقتلوا من أشراف لهم، واستاقوا الإبل والغنم، فكانت الإبل مائة بعير، والغنم ألفي شاة، وسبوا سبايا كثيرة، فأصاب كل رجل بعد إخراج الخمس اثني عشر بعيرا، وعدل البعير بعشرين من الغنم. ووقع في سهم أبي قتادة رضي الله تعالى عنه جارية حسناء وضيئة، فاستوهبها منه، فوهبها له، ثم وهبها لشخص، أي كان وعده بجارية من أول فيء يفيء الله به، فجاء ذلك الشخص إلى رسول الله وقال: يا رسول الله إن أبا قتادة قد أصاب جارية وضيئة وقد كنت وعدتني جارية من أول فيء يفيء الله به عليك، فأرسل رسول الله إلى أبي قتادة، قال: هب لي الجارية، فوهبها له الحديث.


سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله تعالى عنه إلى الغابة

وهي الشجر الملتف.

قال عبد الله المذكور: تزوجت امرأة من قومي، فجئت رسول الله أستعينه على ذلك، فقال: كم أصدقت؟ قلت: مائتي درهم. فقال: سبحان الله لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واديكم هذا. وفي لفظ: لو كنتم تغرفونها من ناحية بطحان ما زدتم. والله ما عندي ما أعينك، فلبثت أياما، فبلغ رسول الله أن رجلا يقال له رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في جمع عظيم نزل بالغابة يريد حرب رسول الله، فدعاني رسول الله ورجلين من المسلمين، فقال: اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوني منه بخبر، ودفع لنا شارفا عجفاء: أي ناقة مسنة، وقال: تبلغوا عليها، واعتقبوها، فركبها أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفا حتى ضربت، فخرجنا ومعنا سلاحنا النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريبا من القوم عند غروب الشمس، فكنت في ناحية وصاحبي في ناحية أخرى، فقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت فكبرا، فوالله إنا كذلك ننتظر غرة القوم إلا ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة المجمع للقوم خرج في طلب راع لهم أبطأ عليهم وتخوّفوا عليه، فقال له نفر من قومه: نحن نكفيك ولا تذهب أنت، فقال: والله لا يذهب إلا أنا، فقالوا فنحن معك، فقال: والله لا يتبعني أحد منكم، وخرج حتى مر بي، فلما أمكنتني نفحته: أي رميته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلم، ووثبت عليه فاحتززت رأسه، وشددت في ناحية العسكر وكبرت، وشدّ صاحباي وكبرا، فهرب القوم واستقنا إبلاٍ وغنما كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله، وجئت برأسه أحمله معي إلى رسول الله، فأعانني رسول الله من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا في صداقي.

قال: وبعضهم جعل هذه السرية وسرية أبي قتادة إلى غطفان بأرض محارب التي قبل هذه واحدة، أي ومن ثم ذكرتها عقبها خلاف ما صنع في الأصل.

قال: ويدل لكونهما واحدة ما نقل عن عبد الله بن أبي حدرد قال: لما طلبت منه الإعانة في مهر زوجتي، قال لي: ما وافقت عندنا شيئا أعينك به، ولكن قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا في سرية، فهل لك أن تخرج فيها فإني أرجو أن يغنمك الله مهر امرأتك، فقلت: نعم، فخرجنا حتى جئنا الحاضر: أي وهم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرتحلون عنه، أي كما تقدم، فلما ذهبت فحمه العشاء: أي إقباله وأول سواده، خطبنا أبو قتادة، وأوصانا بتقوى الله تعالى، وألف بين كل رجلين، وقال: لا يفارق كل رجل زميله حتى يقفل: أي يرجع، ولا يجيء إليّ الرجل فأساله عن صاحبه، فيقول لا علم لي به، وإذا كبرت فكبروا، وإذا حملت فاحملوا، ولا تمعنوا في الطلب، فأحطنا بالحاضر، فجرد أبو قتادة سيفه وكبر وجردنا سيوفنا وكبرنا معه، وقاتل رجال من القوم وإذا فيهم رجل طويل، فأقبل عليّ قال: يا مسلم هلم إلى الجنة يتهكم بي، فملت إليه فذهب أمامي: أي وصار يقبل عليّ بوجهه مرة ويدبر عني بوجهة مرة أخرى، فتبعته، فقال لي صاحبي: لا تتبعه فقد نهانا أميرنا أن نمعن في الطلب، ولا زال كذلك، وقال: إن صاحبكم لذو مكيدة، وإن أمره هو الأمر، فأدركته فرميته بسهم فقتلته، وأخذت سيفه وجئت صاحبي فأخبرني أنهم جمعوا الغنائم، وأن أبا قتادة تغيظ عليّ وعليك، فجئت أبا قتادة فلامني فأخبرته الخبر، ثم سقنا النعم، وحملنا النساء، وجفون السيوف معلقة بالأقتاب، ثم لما أصبحنا رأيت في السبي امرأة كأنها ظبي تكثر الالتفات خلفها وتبكي، فقلت لها: أي شيء تنظرين؟ قالت: والله أنظر إلى رجل لئن كان حيا ليستنقذنا منكم، فوقع في نفسي أنه الذي قتلته، فقلت لها: والله قد قتلته، وهذا والله سيفه معلق بالقتب، فقالت: فألق إليّ غمده، فقلت: هذا غمد سيفه، فلما رأته بكت ولبثت انتهى، ولا يخفى أن السياق في كل يبعد كونهما واحدة.


سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم

اسم موضع أو جبل.

لما همّ رسول الله بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة رضي الله تعالى عنه في ثمانية نفر من جملتهم محكم بن جثامة الليثي إلى بطن أضم، ليظن ظان أن رسول الله توجه إلى تلك الناحية وتنشر بذلك الأخبار، فمرّ عليهم عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فأمسك عنه القوم، وحمل عليه محكم فقتله، أي لشيء كان بينه وبينه، وسلبه متاعه وبعيره، وعند وصولهم إلى المحل رجعوا، فبلغهم أن رسول الله قد توجه إلى مكة، فمالوا إليه حتى لقوه، قال: وقال رسول الله لمحكم: أقتلته بعد ما قال آمنت بالله؟ وفي رواية: بعد ما قال إني مسلم؟ أي أتى بما لم يأت به إلا مؤمن آمن بالله وكان مسلما، قال: يا رسول الله إنما قالها: أي تحية الإسلام متعوذا، قال: أفلا شققت عن قلبه؟ قال: لِمَ يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أم كاذب. أي وفي رواية فقال: يا رسول الله لو شققت عن قلبه أكنت أعلم ما في قلبه؟ فقال له: فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه، فقال: استغفر لي يا رسول الله، فقال: لا غفر الله لك، فقام يتلقى دمعه ببرده اهـ، وأنزل الله تعالى فيه: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة} إلى آخر الآية.

وذكر ابن إسحاق في خبر محكم: أن النبي صلى بحنين ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها، فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان في عامر بن الأضبط، عيينة بن حصن يطلب دمه، أي ويقول: والله يا رسول الله إني لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي، والأقرع يدافع عن محكم، وارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة، ورسول الله يقول لعيينة ومن معه: بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا، وهو يأبى عليه، فلم يزل به حتى اتفقا على الدية، ثم قالوا: إن محكما يستغفر له رسول الله، فقام محكم وهو رجل آدم طويل: أي عليه حلة قد كان تهيأ للقتل فيها حتى جلس بين يدي رسول الله وعيناه تدمعان، فقال له: ما اسمك؟ قال: أنا محكم، قد فعلت الذي بلغك، وإني أتوب إلى الله تعالى، واستغفر لي يا رسول الله، فرفع رسول الله يديه ثم قال: اللهم لا تغفر لمحكم، قالها ثلاثا بصوت عال، فقام يتلقى دمعه بفضل ردائه، فما مكث إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض مرات حتى ضموا عليه الحجارة وواروه.

أي ولما أخبروا رسول الله بذلك قال لهم: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله يعظكم: أي وفي رواية: إن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة لا إله إلا الله: أي حرمة من يأتي بها.

ولفظ الأرض له يردّ ما قيل إن رسول الله استغفر له بعد دعائه عليه، إلا أن يكون المراد استغفر له بعد موته، ويوافقه ما في بعض الروايات: أراد الله أن يجعله موعظة لكم لكيلا يقدم رجل منكم على قتل من يشهد أن لا إله إلا الله، أو يقول إني مسلم، اذهبوا به إلى شعب بني فلان فادفنوه فإن الأرض ستقبله، فدفنوه في ذلك الشعب، فيجوز أن يكون استغفر له حينئذ، وقيل إن الذي لفظته الأرض غير محكم، لأن محكما مات بحمص أيام ابن الزبير رضي الله تعالى عنه، والذي لفظته الأرض اسمه فليت.


سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى العزى

أرسل رسول الله : أي حين فتح مكة الوليد في ثلاثين فارسا من أصحابه إلى العزى، وهو صنم كان لقريش، وكان معظما جدا، وفي لفظ: العزى نخلات أي سمرات مجتمعة، لأنه كان يهدى إليها كما يهدى إلى الكعبة، لأن عمرو بن لحي أخبرهم أن الرب يشتي بالطائف عند اللات ويصيف عند العزى، فلما وصل إلى محلها أي وكان بناء على ثلاث سمرات، فقطع السمرات، وهدم ذلك البناء، ثم رجع إلى رسول الله فأخبره بذلك، فقال له: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال: فارجع إليها، فرجع خالد وهو متغيظ، فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس: أي شعر رأسها منتشر تحثو التراب على رأسها، فجعل السادن يصيح بها: أي يقول: يا عزى عوّريه، يا عزى خبليه، فضربها خالد فقطعها نصفين: أي وهو يقول:

يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك

ورجع إلى رسول الله وأخبره بذلك، فقال رسول الله : نعم تلك العزى.


سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى سواع

بالعين المهملة: أي سمي باسم سواع بن نوح ، وكان على صورة امرأة وكان لقوم نوح، ثم صار لهذيل. كانوا يحجون إليه: أي قبل فتح مكة، وبعد ذلك أرسل رسول الله عمرو بن العاص في جماعة من أصحابه إلى سواع ليكسره ويهدم محله. قال عمرو رضي الله تعالى عنه: فانتهيت إلى ذلك الصنم وعنده سادنه: أي خادمه، فقال لي: ما تريد؟ فقلت: أمرني رسول الله أن أهدمه، قال: لا تقدر، قلت لم؟ قال: تمنع. قلت: حتى الآن أنت على الباطل، ويحك وهل يسمع أو يبصر؟ فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم نجد فيها شيئا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.


سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة

صنم كان للأوس والخزرج.

أرسل رسول الله سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا إلى مناة ليهدم محله، فلما وصلوا إلى ذلك الصنم قال السادن لسعد: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل سعد إلى ذلك الصنم، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل وتضرب صدرها، فقال لها السادن: مناة دونك بعض عصيانك، فضربها سعد رضي الله عنه فقتلها، وهدم محلها.


سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني جذيمة

بناحية يلملم يدعوهم إلى الإسلام، أي ولم يكن علم بإسلامهم ولم يأمره بمقاتلتهم. أي إذا لم يسلموا.

بعث رسول الله خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار ومن بني سليم، أي وهو عليه الصلاة والسلام مقيم بمكة إلى بني جذيمة، وكانوا في الجاهلية قد قتلوا الفاكه عم خالد، وقتلوا أخا للفاكه أيضا في الجاهلية، وكانوا من أشرّ حي في الجاهلية وكانوا يسمون لعقة الدم، وقتلوا والد عبد الرحمن بن عوف، فلما علموا به وعلموا أن معه بني سليم وكانوا قتلوا منهم مالك بن الشريد وأخويه في موطن واحد خافوه، فلبسوا السلاح، فلما انتهى خالد رضي الله تعالى عنه إليهم تلقوه، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا نحن قوم مسلمون. قال: فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله ما بعد وضع السلاح إلا القتل، ما نحن بآمنين لك ولا لمن معك. قال خالد: فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا، فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرقت بقية القوم.

وفي رواية: لما انتهى خالد إلى القوم فتلقوه، فقال لهم: ما أنتم؟ أي أمسلمون أم كفار؟ قالوا: مسلمون، قد صلينا، وصدّقنا بمحمد، وبنينا المساجد في ساحتنا وأذنا فيها. وفي لفظ: لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين القوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح، قال: فضعوا السلاح فوضعوا، فقال: استأسروا، فأمر بعضهم فكتف بالتخفيف بعضا وفرقهم في أصحابه، فلما كان في السحر نادى منادي خالد رضي الله عنه: من كان معه أسير فليقتله، فقتل بنو سليم من كان معهم، وامتنع المهاجرون والأنصار رضي الله تعالى عنهم، وأرسلوا أسراهم، فلما بلغ النبي ما فعل خالد، أي فإن رجلا من القوم جاء الى النبي وأخبره بما فعل خالد، فقال له النبي : هل أنكر عليه أحد ما صنع؟ قال: نعم، رجل أصفر ربعة، ورجل طويل أحمر، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: والله يا رسول الله أعرفهما، أما الأول فهو ابني فهذه صفته، وأما الثاني فهو سالم مولى أبي حذيفة، فعند ذلك قال النبي : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، أي قال ذلك مرتين، وبعث رسول الله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فودى لهم قتلاهم، قال له: يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، ودفع إليه مالا: أي إبلا وورقا، يدي به قتلاهم، ويعطيهم منه ما تلف عليهم من أموالهم، فودى قتلاهم، وأعطاهم عوض ما تلف عليهم حتى ميغلة الكلب: أي الإناء التي يشرب فيها، حتى إذا لم يبق لهم دم ولا مال، قال: هل بقي لكم دم أو مال؟ قالوا: لا، قال: أعطيكم ما بقي من المال احتياطا بدل ما لا تعلمون: أي مما تلف من أموالكم، ثم رجع إلى رسول الله فأخبره الخبر، فقال له رسول: أصبت وأحسنت أي وزاد.

وفي رواية: والذي أنا عبده لهي أحب إليّ من حمر النعم، ثم قام رسول الله فاستقبل القبلة شاهرا يديه يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات انتهى.

ووقع بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما شر بسبب ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، فقال له: إنما أخذت بثأر أبيك، فقال له عبد الرحمن: كذبت، أنا قتلت قاتل أبي. أي وفي رواية: كيف تأخذ مسلمين بقتل رجل في الجاهلية؟ فقال خالد: ومن أخبركم أنهم أسلموا؟ فقال: أهل السرية كلهم أخبروا بأنك قد وجدتهم بنوا المساجد وأقروا بالإسلام، فقال: جاءني أمر رسول الله أني أغير، فقال له عبد الرحمن بن عوف: كذبت على رسول الله، وإنما أخذت بثأر عمك الفاكه، فقال رسول الله : مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا فأنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل منهم ولا روحته، أي والغدوة: السير في أول النهار إلى الزوال. والروحة: السير من الزوال إلى آخر النهار.

والمراد بأصحابه هنا السابقون إلى الإسلام ومنهم عبد الرحمن بن عوف، بل هو المراد كما تصرح به الرواية الآتية، فقد نزّل الصحابة غير السابقين الذين يقع منهم الرد على الصحابة غير السابقين ـ لكون ذلك لا يليق بهم ـ منزلة غير الصحابة.

قال: ولما عاب عبد الرحمن على خالد الفعل المذكور أعان عبد الرحمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأن رسول الله أعرض عن خالد وقال: يا خالد ذر أصحابي. وفي رواية: «لا تسب أصحابي لو كان لك ذهبا فأنفقته قيراطا قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن» انتهى.

أي ولا يخفى أنه يبعد أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إنما قتلهم لقولهم صبأنا ولم يقولوا أسلمنا، إلا أن يقال: يجوز أن يكون خالد فهم أنهم قالوا ذلك على سبيل الأنفة وعدم الانقياد إلى الإسلام، وأنه إنما أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا، ثم لا يخفى أنه جاء: «لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» ونقل الإمام السبكي عن الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: فإنه كان يحضر مجلس وعظه أن قوله: «لا تسبوا أصحابي كان خطابا لمن يأتي بعده من أمته، لأنه كان له تجليات، فرأى في بعضها سائر أمته الآتين من بعده، فقال خطابا لهم: لا تسبوا أصحابي، وأرتضي منه هذا التأويل ا هـ. فالنهي والخطاب بلا تسبوا أصحابي لغير الصحابة تنزيلا للغائب الذي لم يوجد منزلة الموجود الحاضر. وفيه أن هذا لا يساعد عليه المقام.

وفي الحديث من التنويه برفعة الصحابة وعلو منزلتهم ما يقطع الأطماع عن مداناتهم، فإن كون ثواب إنفاق مثل جبل أحد ذهبا في وجه الخير لا يبلغ ثواب التصديق بنصف المدّ الذي إذا طحن وعجن لا يبلغ الرغيف المعتاد أمر عظيم.

أقول: ووقع لخالد رضي الله تعالى عنه نظير ذلك في زمن خلافة الصديق فإن العرب لما ارتدت بعد موته عين خالدا لقتال أهل الردة وكان من جملتهم مالك بن نويرة، فأسره خالد هو وأصحابه، وكان الزمن شديد البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفنوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد ادفنوا أسراكم: أي اقتلوهم، فقتلوهم، وقتل مالك بن نويرة، فلما سمع خالد بذلك، قال: إذا أراد الله أمرا أمضاه، وتزوج خالد رضي الله عنه زوجة مالك بن نويرة وكانت من أجمل النساء. ويقال إن خالدا استدعى مالك بن نويرة وقال له: كيف ترتد عن الإسلام وتمنع الزكاة؟ ألم تعلم أن الزكاة قرينة الصلاة؟ فقال: كان صاحبكم يزعم ذلك، فقال له: هو صاحبنا وليس هو بصاحبك، يا ضرار اضرب عنقه، وأمر برأسه فجعل ثالث حجرين جعل عليها قدر يطبخ فيه لحم، فعل ذلك إرجافا لأهل الردة، فلما بلغ سيدنا عمر ذلك قال للصديق رضي الله تعالى عنهما اعزله، فإن في سيفه رهقا كيف يقتل مالكا ويأخذ زوجته؟ فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: لا أغمد سيفا سله على الكافرين والمنافقين، سمعت رسول الله يقول: «نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكافرين والمنافقين» وقال الصديق رضي الله تعالى عنه في حق خالد: عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد.

وفي كلام السهيلي أنه روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكر الصديق: إن في سيف خالد رهقا فاقتله، وذلك حين قتل مالك بن نويرة وجعل رأسه تحت قدر حتى طبخ به، وكان مالك ارتد ثم رجع إلى الإسلام ولم يظهر ذلك لخالد، وشهد عنده رجلان من الصحابة برجوعه إلى الإسلام فلم يقبلهما وتزوج امرأته، فلذلك قال عمر لأبي بكر اقتله، فقال: لا أفعل لأنه متأول، فقال: اعزله، فقال: لا أغمد سيفا سله الله تعالى على المشركين، ولا أعزل واليا ولاه رسول الله.

قيل وأصل العداوة بين خالد وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما على ما حكاه الشعبي أنهما وهما غلامان تصارعا، وكان خالد ابن خال عمر، فكسر خالد ساق عمر فعولجت وجبرت.

ولما ولي سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه الخلافة أوّل شيء بدأ به عزل خالدا لما تقدم، وقال: لا يلي لي عملا أبدا. وقيل لكلام بلغه عنه، ومن ثم أرسل إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فهو معزول، فانتزع عمامته وقاسمه ماله نصفين فلم يكذب نفسه، فقاسمه أبو عبيدة ماله حتى إحدى نعليه وترك له الأخرى وخالد يقول: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين.

وبلغه أن خالدا أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف وقد قصده ابتغاء إحسانه، فأرسل لأبي عبيدة أن يصعد المنبر ويوقف خالدا بين يديه وينزع عمامته وقلنسوته ويقيده بعمامته، لأن العشرة آلاف إن كان دفعها من ماله فهو سرف، وإن كان من مال المسلمين فهي خيانة، فلما قدم خالد رضي الله تعالى عنه على عمر رضي الله تعالى عنه قال له: من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟ فقال: من الأنفال والسهمان، قال: ما زاد على التسعين ألفا فهو لك، ثم قوّم أمواله وعروضه وأخذ منه عشرين ألفا، ثم قال له: والله إنك عليّ لكريم، وإنك لحبيب، ولم تعمل لي بعد اليوم على شيء، وكتب رضي الله عنه إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن مبخلة ولا خيانة ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، أي وأن نصر خالد على من قاتله من المشركين ليس بقوته ولا بشجاعته، بل بفضل الله.

فالصِّديق لم يعزل خالد بن الوليد مع فعله ما يكرهه بتأويل له في ذلك، كما أنه لم يعزله مع فعله لما كرهه حيث رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، لكونه كان شديدا على الكفار، لرجحان المصلحة على المفسدة. وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه عزله لخوف افتتان الناس به، فعزله وولى أبا عبيدة بن الجراح.

قال بعضهم: كان الصديق رضي الله تعالى عنه لينا وخالد بن الوليد شديدا، وعمر رضي الله تعالى عنه كان شديدا وأبو عبيدة لينا، فكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه ليحصل التعادل، والله أعلم.

وأخبر النبي أنه كان في القوم رجل قال لهم أنا لست من هؤلاء ولكني عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها ثم افعلوا بي ما بدا لكم، ثم أشار إلى نسوة مجتمعات غير بعيد. قال بعضهم: فقلت: والله ليسير ما طلب، فأخذته حتى أوقفته عليهن فأنشد أبياتا، ثم جئت به، فقدموه فضربت عنقه، فقامت امرأة من بينهن، فجاءت حتى وقفت عليه فشهقت بفتح الهاء شهقة أو شهقتين ثم ماتت. أي وفي رواية فأكبت عليه تقبله حتى ماتت انتهى. أي وفي رواية فانحدرت إليه من هودجها فحنت عليه حتى ماتت، فعند ذلك قال رسول الله: «أما كان فيكم رجل رحيم القلب».


سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس

لما انصرف من حنين وانهزم المشركون عسكر منهم طائفة بأوطاس، فبعث رسول الله أبا عامر الأشعري عم أبي موسى الأشعري في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري. ووقع في الأصل أن أبا عامر ابن عم أبي موسى الأشعري قال في النور وهو غلط، وإنما أبو موسى ابن أخي أبي عامر. فلحقوا بالقوم وتناوشوا القتال: أي تكافؤوا فيه، وبارز أبو عامر تسعة، ويقال إنهم إخوة وهو يقتلهم واحدا بعد واحد، أي وصار كل من برز له منهم يدعوه إلى الإسلام فيأبى فيقول اللهم اشهد ويحمل عليه فيقتله. ثم برز له أخوهم العاشر فقتل أبا عامر، أي فإنه قال له أسلم فأبى، فقال: اللهم اشهد فقال: اللهم لا تشهد وفرش يديه، فظن أبو عامر أنه أسلم فكف عنه، فعاد إلى أبي عامر فقتله ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه، وكان إذا رآه يقول: هذا شريد أبي عامر.

قال: وعن أبي موسى الأشعري قال: جئت لأبي عامر وفيه رمق فقلت: يا عم من رماك؟ فقال: ذاك، وأشار إلى شخص من القوم، فقصدته فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت؟ فثبت، فاختلفنا ضربتين فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قد قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم فنزعته، فقال: يا بن أخي بلغ النبي مني السلام وقل له يستغفر لي، وقال: ادفع فرسي وسلاحي له انتهى، فليتأمل الجمع بين هذا وما قبله.

وقبل أن يموت أبو عامر رضي الله عنه استخلف ابن عمه أبا موسى ودفع الراية له. وفي لفظ: أن أبا عامر رماه واحد فأصاب قلبه، ورماه آخر فأصاب ركبته فقتلاه، وولى الناس أبا موسى فحمل عليهما فقتلهما: أي وفتح الله عليهم، وانهزم المشركون وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا.

ولما رجع أبو موسى رضي الله عنه إلى رسول الله وأخبره بموت أبي عامر استغفر له رسول الله وقال: «اللهم اجعله من أعلى أمتي في الجنة» أي وفي رواية: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس» ودعا لأبي موسى أي فقال: «اللهم اغفر له ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما».


سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه

لما أراد رسول الله المسير إلى الطائف بعث الطفيل رضي الله تعالى عنه لهدم ذي الكفين، وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعا إلى قومه، فهدم ذا الكفين، وجعل يحثي النار في وجهه، وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا رسول الله بالطائف بعد مقدمة بأربعة أيام، فقال لهم رسول الله : يا معشر الأزد من يحمل رايتكم؟ فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية النعمان بن الراوية، قال: أصبتم.


سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي الله تعالى عنه إلى بني تميم

أي وسببها أنه بعث بشر بن سفيان إلى بني كعب لأخذ صدقاتهم وكانوا مع بني تميم على ماء، فأخذ بشر صدقات بني كعب، فقال لهم بنو تميم وقد استكثروا ذلك: لم تعطونهم أموالكم؟ فاجتمعوا وأشهروا السلاح، ومنعوا بشرا من أخذ الصدقة، فقال لهم بنو كعب: نحن أسلمنا ولا بد في ديننا من دفع الزكاة، فقال لهم بنو تميم: والله لا ندع يخرج بعير واحد، ولما رأى بشر رضي الله تعالى عنه ذلك قدم المدينة، وأخبر النبي بذلك.

فعند ذلك بعث رسول الله عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم، وأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة. وفي لفظ: إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فجاء بهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله فحبسوا في دار رملة بنت الحارث، فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم، منهم عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، ورياح بكسر الراء والمثناة تحت ابن الحارث، فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري، فجاؤوا إلى باب النبي، أي بعد أن دخلوا المسجد ووجدوا بلالا يؤذن بالظهر والناس ينتظرون خروج رسول الله، فاستبطؤوه فجاؤوا من وراء الحجرات، فنادوا: أي بصوت جاف: اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك فإن مدحنا زين وذمنا شين، يا محمد اخرج إلينا، فخرج رسول الله أي وقد تأذى من صياحهم، وأقام بلال رضي الله تعالى عنه الصلاة، وتعلقوا برسول الله يكلمونه، فوقف معهم: أي قالوا له: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال لهم النبي : ما بالشعر بعثنا، ولا بالفخار أمرنا، ثم مضى رسول الله فصلى الظهر ثم جلس في صحن المسجد، أي بعد أن قالوا له ما تقدم، ومنه: إن مدحنا لزين، وإن شتمنا لشين، نحن أكرم العرب، فقال لهم رسول الله : كذبتم، بل مدح الله عز وجل الزين وشتمه الشين، وأكرم منكم يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام، ثم قالوا له: فائذن لخطيبنا وشاعرنا، قال: أذنت فليقم. وفي لفظ: إني لم أبعث بالشعر، ولم أومر بالفخر، ولكن هاتوا، فقدموا عطارد بن حاجب.

وفي لفظ قال الأقرع بن حابس لشاب منهم: قم يا فلان فاذكر فضلك وفضل قومك، فتكلم وخطب، أي فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف. وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عددا، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا رؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخر فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو شئنا لأكثرنا، وإنما أقول قولي هذا لأن يأتوا بمثل قولنا أو أمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. أي وفي رواية أنه قال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وأعطانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن خير أهل الأرض، وأكثرهم عددا، وأكثرهم سلاحا، فمن أنكر علينا قولنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا أو بفعال هي أفضل من فعالنا.

فأمر رسول الله ثابت بن قيس بن شماس أن يجيبه، أي قال له: قم فأجب الرجل في خطبته، فقام ثابت رضي الله تعالى عنه فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء قط إلا من فضله، ثم إنه كان من فضله أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبا وأصدقه قلبا، ®وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوو رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس مقالا، ثم كان أول الناس إجابة واستجابه لله حين دعاه رسول الله نحن، فنحن أنصار الله ورسوله؟ نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله منع دمه وماله، ومن كفر جاهدناه في الله، وكان قتله علينا يسيرا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.

أي وفي رواية أنه قال: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه، أحسن الناس وجوها، وأعظم الناس أحلاما فأجابوه. والحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزا لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع منا نفسه وماله، ومن أباها قاتلناه وكان رغمه في الله علينا هينا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.

ثم قال الزبرقان لرجل منهم: فقم يا فلان فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك، فقال أبياتا منها:

نحن الكرام فلا حي يعادلنا ** نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع

إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ** إنا كذلك عند الفخر نرتفع

فقال رسول الله : عليّ بحسان بن ثابت، فحضر، فقال له: قم فأجبه، فقال: يسمعني ما قاله، فأسمعه فقال حسان رضي الله تعالى عنه أبياتا، منها:

نصرنا رسول الله والدين عنوة ** على رغم عات من بعيد وحاضر

وأحياؤنا من خير من وطىء الحصا ** وأمواتنا من خير أهل المقابر

وثابت بن قيس هذا كان يعرف بخطيب رسول الله، افتقده رسول الله يوما، فقال: من يعلم لي علمه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله، فذهب فوجده في منزله جالسا منكسا رأسه؟ فقال له: ما شأنك؟ قال: أخشى أن أكون من أهل النار لأني رفعت صوتي فوق صوت النبي. فرجع الرجل إلى رسول الله فأعلمه. فقال: اذهب إليه فقل له: لست من أهل النار. ولكنك من أهل الجنة، وقال: «نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس» قتل يوم اليمامة، وكان عليه درع نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له: إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إني لما قتلت مربي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس، عند خبائه فرس، وقد كفأ على الدرع برمة وفوق البرمة رحل، فأت خالدا فمره فليأخذها، فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقل له: إن عليّ من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق، فاستيقظ الرجل فأتى خالدا فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها بعد أن وجدها على ما وصف، وحدث أبا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته. قال بعضهم: ولا يعلم أحد حدثت وصيته بعد موته سواه.

ووقعت مفاخرة بين الزبرقان بن بدر وبين حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه كل منهما يذكر قصيدة يذكر فيها فخرا، فمن قصيدة الزبرقان بن بدر وهو مطلعها:

نحن الكرام فلا حي يعادلنا ** منا الملوك وفينا تنصب البيع

ومن قصيدة حسان رضي الله تعالى عنه وهو مطلعها:

إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد ** إنا كذلك عند الفخر نرتفع

وفيه أن هذا البيت من قول بعض بني تميم، وقد أسمعه لحسان كما تقدم فليتأمل.

ووقعت مفاخرة بين الأقرع بن حابس وبين حسان رضي الله تعالى عنه، فقال الأقرع بن حابس: إني والله يا محمد قد قلت شعرا فاسمعه، فقال له: هات، فأنشد:

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ** إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وإنا رؤوس الناس من كل معشر ** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

فقال رسول الله : قم يا حسان فأجبه، فقال:

بني دارم لا تفخروا إن فخركم ** يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم ** لنا خول من بين ظئر وخادم

فقال رسول الله للأقرع: لقد كنت غنيا يا أخا بني دارم أن تذكر ما كنت ترى أن الناس قد نسوه، فكان هذا القول من رسول الله أشد عليهم من قول حسان رضي الله تعالى عنه. وحينئذ قال الأقرع بن حابس: لخطيبه ـ يعني النبي ـ أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، أي ثم دنا من النبي فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال رسول الله : لا يضرك ما كان قبل هذا. ورأى النبي يقبل الحسن رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله لي من الولد عشرة ما قبلت واحدا منهم، فقال رسول الله: «من لا يرحم لا يرحم».

قال ابن دريد رحمه الله: اسم الأقرع نواس، وإنما لقب الأقرع لقرع كان في رأسه، والقرع: انحصاص الشعر. وكان رضي الله تعالى عنه شريفا في الجاهلية والإسلام، ونزل فيهم: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم}.

ووقع أن عمرو بن الأهتم مدح الزبرقان للنبي فقال: إنه لمطاع في أنديته، سيد في عشيرته، فقال الزبرقان: لقد حسدني يا رسول الله لشرفي، وقد علم أفضل مما قال، فقال عمرو: إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، لئيم الخال. وفي لفظ أن الزبرقان قال: يا رسول الله أنا سيد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقوقهم، وأمنعهم من الظلم وهذا يعلم ذلك، يعني عمرو بن الأهتم، فقال عمرو: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في ناديه، مانع لما وراء ظهره، فقال الزبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك؟ والله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مبغض في العشيرة، فعرف عمرو الإنكار في وجه رسول الله، فقال: يا رسول الله، والله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الثانية، رضيت فقلت أحسن ما عملت، وسخطت فقلت أقبح ما علمت. وفي رواية: والله يا رسول الله لقد صدقت فيهما، أرضاني فقلت أحسن ما علمت، وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فعند ذلك قال النبي: «إن من البيان لسحرا» وجاء: «إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا».

قال بعضهم: أما قوله: «إن من البيان سحرا» فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق. وأما قوله: «إن من العلم جهلا» فإن العالم يكلف ما لا يعلم فيجهله ذلك. وأما قوله: «إن من الشعر حكما» فهو هذه المواعظ والأمثال. وأما قوله: «وإن من القول عيا» فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه، هذا كلامه.

وفيه إن هذا بيان للسحر المذموم، وليس المراد هنا وإنما هو من السحر الحلال، ومن ثم أقرّ عمرو بن الأهتم عليه ولم يسخطه منه، فالسحر المذموم أن يصوّر الباطل في صورة الحق ببيانه، ويخدع السامع بتمويهه وهو المراد عند الإطلاق، والسحر غير المذموم فما كان من البيان على حق، لأن البيان بعبارة مقبولة عذبة لا استكراه فيها تستميل القلوب كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إلى ما موّه به.

ثم إنه رد عليهم الأسارى والسبي وأحسن جوائزهم، قال: أي بعد أن أسلموا، وأعطى كل واحد اثني عشر أوقية، قيل إلا عمرو بن الأهتم فإن القوم خلفوه في ظهورهم، لأنه كان أصغرهم سنا فأعطاه خمس أواق.

وقد اختلف في عدد هذا الوفد، فقيل كانوا سبعين رجلا، وقيل كانوا ثمانين، وقيل كانوا تسعين انتهى.

أي والذي في الاستيعاب: ثم أسلم القوم وبقوا في المدينة مدة يتعلمون الدين والقرآن، ثم أرادوا الخروج إلى قومهم فأعطاهم النبي أسراهم ونساءهم، وقال: أما بقي منكم أحد؟ وكان عمرو بن الأهتم في ركابهم، فقال قيس بن عاصم وكان مشاحنا له: لم يبق منا إلا غلام في ركابنا وأزرى به، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطاهم، وبلغ عمرا ما قال قيس في حقه، فأنشد أبياتا تتضمن لومه على ذلك، وكان عمرو خطيبا بليغا شاعرا محسنا، يقال إن شعره كان حللا منثورة، وكان رضي الله تعالى عنه جميلا يدعى الكحيل لجماله، وهو القائل:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ** ولكن أخلاق الرجال تضيق

هذا كلامه، وأنزل الله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} قيل معناه لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا فتؤخروا إجابته بالأعذار التي يؤخر بها بعضكم إجابة بعض، لكم عظموه بسرعة الإجابة.


سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي من خثعم

بعث رسول الله قطبة بن عامر في عشرين رجلا إلى حي من خثعم، وأمره أن يشن الغارة عليهم، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم: أي سكت ولم يعلمهم بالأمر، فجعل يصيح بالحاضر: أي وهم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرتحلون عنه كما تقدم ويحذرهم، فضربوا عنقه، ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنوا الغارة عليهم، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت الجرحى في الفريقين، وساقوا النعم والشاء إلى المدينة، وجاء سهيل فحال بينهم وبين القوم، فلم يجد القوم إليهم سبيلا وتقدمت الحوالة على هذا.


سرية الضحاك الكلابي رضي الله تعالى عنه

في جمع إلى بني كلاب، فلقوهم ودعوهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوهم فهزموهم، وكان من جملة المسلمين شخص لقي أباه في جملة القوم، فدعاه إلى الإسلام فسبه وسب الإسلام فضرب عرقوب فرس أبيه فوقع، فأمسك أباه إلى أن أتى بعض المسلمين فقتله، أي وفي رواية أنه بعث لبني كلاب وكتب إليهم في رق فلم ينقادوا للإسلام، وغسلوا الخط من الرق، وخاطوه تحت دلوهم، فلما بلغ النبي ذلك قال: ما لهم؟ أذهب الله عقولهم، فصار لا يوجد أحد منهم إلا مختل العقل مختلط الكلام بحيث لا يفهم كلامه.


سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما

بضم الميم وفتح الجيم وزايين الأولى مكسورة مشدودة المدلجيّ: أي وهو ولد القائف الذي قاف في حق زيد بن حارثة وأسامة رضي الله تعالى عنهما وقال: إن بعض هذه الأقدام من بعض، فهو صحابي ابن صحابي، إلى جمع من الحبشة، بلغ رسول الله أن ناسا من الحبشة تراءاهم أهل جدة: أي في مراكب، وجدة بضم الجيم وتشديد الدال المهملة: قرية، سميت بذلك لبنائها على ساحل البحر، لأن الجدة شاطىء البحر، فبعث إليهم علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما في ثلاثمائة، فخاض بهم البحر حتى أتوا إلى جزيرة في البحر فهربوا، أي ورجعوا، ولم يلق كيدا. ثم لما كانوا في أثناء الطريق أذن علقمة رضي الله تعالى عنه لجماعة أن يعجلوا وأمر عليهم أحدهم، فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال لهم أميرهم: عزمت عليكم إلا تواثبتم: أي وقعتم في هذه النار، فقام بعض القوم فحجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: اجلسوا إنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك لرسول الله فقال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه».

قال: وعن علي كرم الله وجهه قال: «بعث رسول الله سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوها، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنا فررنا إلى رسول الله من النار، فكان كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا إلى رسول الله ذكروا له ذلك، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا. وقال: «لا طاعة في معصية الله، وإنما الطاعة في المعروف» انتهى، أي والضمير في «دخلوها» للنار التي أوقدت، والضمير في منها لنار الآخرة، لأن الدخول فيها معصية والعاصي يستحق النار، فالمقصود من ذلك الزجر.

وفي رواية: «من أمركم منهم» أي من الأمراء «بمعصية الله فلا تطيعوه» وفي لفظ: «لا طاعة في معصية الله» ولا مانع من تكرر هذه الواقعة.


سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه

إلى هدم الفُلْس بضم الفاء وسكون اللام «صنم طيىء» والغارة عليهم

بعث رسول الله علي بن أبي طالب في خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا معه راية سوداء ولواء أبيض إلى هدم الفلس والغارة عليهم، فشنوا الغارة عليهم مع الفجر، فهدموا الفلس وأحرقوه، واستاقوا النعم والشاء والسبي، وكان في السبي أخت عدي بي حاتم الطائي، أي واسمها سفّانة بفتح السين المهملة وتشديد الفاء وبعد الألف نون مفتوحة ثم تاء تأنيث، والسفانة في الأصل: هي الدرة، وهذه أسلمت رضي الله تعالى عنها. قال بعضهم: ولا يعرف لحاتم بنت إلا هذه، ووجدوا في خزانة الصنم ثلاثة أسياف معروفة عند العرب، وهي: رسوب، والمخذم، واليماني، وثلاثة أدراع. وجعل الرسوب والمخذم صفيا لرسول الله، ثم صار إليه الثالث الذي هو اليماني.

قال: ومر النبي بأخت عدي فقامت إليه، وكانت امرأة جذلة: أي ذات وقار وعقل، وكلمته أن يمن عليها، فمنّ عليها، فأسلمت رضي الله تعالى عنها، وخرجت إلى أخيها عدي فأشارت إليه بالقدوم على رسول الله، فقدم عليه كما سيأتي في الوفود.

ويذكر أنها قالت له: «يا محمد أرأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء من العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيىء، فقال لها النبي : يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق».

أي وفي لفظ: «قالت له: يا محمد أرأيت أن تمنّ عليّ ولا تفضحني في قومي فإني بنت سيدهم، إن أبي كان يطعم الطعام، ويحفظ الجوار، ويرعى الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العريان، ولم يردّ طالب حاجة قط» أنا بنت حاتم الطائي. فقال لها: هذه مكارم الأخلاق حقا، ولو كان أبوك مسلما لترحمت عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، وإن الله يحب مكارم الأخلاق».

وفي رواية: «أنها قالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن عليّ منّ الله عليك. قال: ومن وفدك؟ قالت عدي بن حاتم، قال: الفارّ من الله ورسوله» أي لأنه هرب لما رأى الجيش كما سيأتي في الوفود «قالت: ثم مضى رسول الله وتركني حتى إذا كان من الغد قلت له كذلك وقال لي مثل ذلك، ففي اليوم الثالث أشار إليّ رجل خلفه بأن كلميه فكلمته. فقال رسول الله : قد فعلت فلا تعجلي حتى يجيء من قومك من يكون لك ثقة يبلغك إلى بلادك، فآذنيني أي أعلميني وسألت عن الرجل الذي أشار عليّ بكلامه، فقيل لي إنه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قالت: فصبرت حتى قدم عليّ من أثق به، فجئت رسول الله، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت الشام على أخي» انتهى.


سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج

بفتح الميم وإسكان الذال المعجمة ثم حاء مهملة مكسورة ثم جيم كمسجد: أبو قبيلة من اليمن.

بعث رسول الله عليا كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج من أرض اليمن في ثلاثمائة فارس، وعقد له لواء وعممه بيده وقال: امض ولا تلتفت، فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلونك، فكانت أول خيل دخلت إلى تلك البلاد، ففرق أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فأتوا بنهب بفتح النون وغنائم وأطفال ونساء ونعم وشاء وغير ذلك، وجعل على الغنائم بريدة بن الحُصَيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا بالنبل والحجارة فصف أصحابه، ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان، ثم حمل عليهم فقتل منهم عشرين رجلا فانهزموا وتفرقوا، فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرع إلى إجابته ومتابعته نفر من رؤسائهم وقالوا: نحن على من وراءَنا من قومنا، وهذه صدقاتنا، فخذ منها حق الله تعالى. وجمع عليّ كرم الله وجهه الغنائم فجزأها على خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها لله، وأقرع عليها فخرج أول السهام سهم الخمس، وقسم الباقي على أصحابه، ثم رجع علي كرم الله وجهه فوافى النبي بمكة قدمها للحج، أي حجة الوداع.

وذكر بعضهم أنه بعث عليا كرم الله وجهه في سرية إلى اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إلى رسول الله، فلما قرأ كتابه خر ساجدا ثم جلس، فقال: السلام على همدان، وتتابع أهل اليمن إلى الإسلام. قال في الأصل: إن هذه السرية هي الأولى وما قبلها السرية الثانية.


سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل

وكان نصرانيا

بعث رسول الله خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سنة تسع إلى أكيدر بدومة الجندل وقال له: إنك ستجده يصيد البقر، فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين، وكانت ليلة مقمرة صافية وهو على سطح له ومعه امرأته، فجاءت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فأسرج، وركب معه نفر من أهله فيهم أخ له يقال له حسان، فتلقتهم خيل خالد فاستأسر أكيدر، وقاتل أخوة حتى قتل، وأجار خالد أكيدرا من القتل حتى يأتي به رسول الله على أن يفتح له دومة الجندل، وكان على أكيدر قباء من ديباج مخوصة: أي فيها خوص منسوجة بالذهب مثل خوص النخل، فاستلبه خالد إياها، وأرسلها لرسول الله، فتعجبت الصحابة منها. فقال: «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا» أي وقد تقدم. وصالح على أهل دومة الجندل بألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح.

ثم خرج خالد بأكيدر وأخيه مصاد قافلا إلى المدينة، فقدم بالأكيدر على رسول الله، فصالحه على الجزية، وحقن دمه ودم أخيه، وخلى سبيلهما، وكتب له كتابا فيه أمانهم وختمه يؤمئذ بظفره: أي ومن جملة الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها» إلى آخره، وهذا كما لا يخفى يدل على أن أكيدر أسلم، أي وهو الموافق لقول أبي نعيم وابن منده بإسلامه، وأنه معدود من الصحابة وأهدى إلى النبي حلة، فوهبها لعمر بن الخطاب.

وذكر ابن الأثير: أي في أسد الغابة أن القول بإسلامه غلط فاحش، فإنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير، أي وحينئذ يكون قوله في الكتاب حين أجاب إلى الإسلام أي انقاد إليه. ويبعده قوله: وخلع الأنداد والأصنام فليتأمل، وأنه لما صالحه عاد إلى حصنه وبقي فيه على نصرانيته.

ثم إن خالدا رضي الله تعالى عنه حاصره في زمن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما فقتله لنقضه العهد.

قال ابن الأثير: وذكر البلاذري أن أكيدرا لما قدم على النبي أسلم، ثم بعد موته ارتد، ثم قتله خالد: أي بعد أن عاد من العراق إلى الشام.

قال: وعلى هذا القول لا ينبغي أن يذكر في الصحابة، وإلا كان كل من أسلم في حياته، ثم ارتد، أي ومات مرتدا يذكر في الصحابة، أي ولا قائل بذلك.

ثم رأيت الذهبي قال في عمارة بن قيس بن الحارث الشيباني إنه ارتد، وقتل مرتدا في خلافة أبي بكر، وبهذا خرج عن أن يكون صحابيا بكل حال.


سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى أبنى

بضم الهمزة ثم موحدة، ثم نون مفتوحة مقصورة: اسم موضع بين عسقلان والرملة.

وفي كلام السهيلي رحمه الله: وهي قرية عند مؤنة التي قتل عندها زيد بن حارثة، رضي الله تعالى عنهما.

لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة أمر بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا أسامة ابن زيد فقال: سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فاغز صباحا على أهل أبنى، وحرق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن ظفرك الله عليهم فأقل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع معك.

فلما كان يوم الأربعاء بدأ به وجعه فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، ثم قال: اغز باسم الله وفي سبيل الله، وقاتل من كفر بالله، فخرج رضي الله تعالى عنه بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة، وعسكر بالجرف، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا اشتد لذلك، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم، فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين والأنصار، أي لأن سن أسامة رضي الله تعالى عنه كان ثمان عشرة، وقيل تسع عشرة سنة، وقيل سبع عشرة سنة.

ويؤيد ذلك أن الخليفة المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية الذي ضرب به المثل في الذكاء وهو صبي وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة. فقال المهدي: أف لهذه العثانين، أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث، ثم التفت إليه المهدي وقال: كم سنك يا فتى؟ فقال: سني ـ أطال الله بقاء أمير المؤمنين ـ سن أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم لما ولاه رسول الله جيشا فيه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. فقال: تقدم، بارك الله فيك، وكان سنة سبع عشرة سنة.

ومما يؤثر عنه: من لم يعرف عيبه فهو أحمق، فقيل له ما عيبك يا أبا واثلة؟ قال: كثرة الكلام، وقيل كان عمر أسامة رضي الله تعالى عنه عشرين سنة.

ولما بلغ رسول الله مقالتهم وطعنهم في ولايته مع حداثة سنه غضب غضبا شديدا، وخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وايم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وإنهما مظنة لكل خير، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم، وتقدم أنه رضي الله تعالى عنه كان يقال له الحب ابن الحب. وكان رسول الله يمسح خشمه وهو صغير بثوبه.

ثم نزل فدخل بيته وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله ويخرجون إلى العسكر بالجرف، وثقل رسول الله، فجعل يقول: أرسلوا بعث أسامة، أي واستثنى أبا بكر وأمره بالصلاة بالناس.

أي فلا منافاة بين القول بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان من جملة الجيش وبين القول بأنه تخلف عنه، لأنه كان من جملة الجيش أوّلا، وتخلف لما أمره بالصلاة بالناس.

وبهذا يرد قول الرافضة طعنا في أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه تخلف عن جيش أسامة رضي الله تعالى عنه، لما علمت أن تخلفه عنه كان بأمر منه لأجل صلاته بالناس، وقول هذا الرافضي مع أنه لعن المتخلف عن جيش أسامة مردود، لأنه لم يرد اللعن في حديث أصلا.

فلما كان يوم الأحد اشتد على رسول الله وجعه، فدخل أسامة من عسكره والنبي مغمور، فطأطأ رأسه فقبله وهو لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة رضي الله تعالى عنه. قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لي، ورجع أسامة رضي الله تعالى عنه إلى عسكره، ثم دخل عليه يوم الاثنين. فقال له: اغد على بركة الله تعالى، فودعه أسامة وخرج إلى معسكره وأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذا رسول الله أمه أم أيمن رضي الله تعالى عنها قد جاءه يقول: إن رسول الله يموت.

وفي لفظ: فسار حتى بلغ الجرف فأرسلت إليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول له: لا تعجل، فإن رسول الله ثقيل، فأقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنهم، فانتهوا إلى رسول الله وهو يموت، فتوفي رسول الله حين زاغت الشمس.

أي وفي لفظ أنه رضي الله تعالى عنه لما نزل بذي خشب قبض النبي، فدخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة حتى أتى به إلى رسول الله فغرزه عنده.

فلما بويع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه بالخلافة أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة وأن يمضي أسامة لما أمر به.

فلما مات ارتدت العرب، أي فإنه لما اشتهرت وفاة النبي، ظهر النفاق، وقويت نفوس أهل النصرانية واليهودية، وصارت المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، وارتدت طوائف من العرب وقالوا نصلي ولا ندفع الزكاة وعند ذلك كلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه في منع أسامة من السفر: أي قالوا له كيف يتوجه هذا الجيش إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فأبى أي وقال: والله الذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ما أرد جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده. وفي لفظ: والله لأن تخطفني الطير أحب إلي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله.

أقول: ذكر بعضهم أن أسامة رضي الله تعالى عنه وقف بالناس عند الخندق وقال لسيدنا عمر: ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه أن يأذن لي أن أرجع بالناس، فإن معي وجوه الناس ولا آمن على خليفة رسول الله وثقله وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون، وقالت له الأنصار رضي الله تعالى عنهم: فإن أبى أبو بكر إلا أن يمضي: أي الجيش فأبلغه منا السلام، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة، فقدم عمر على أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: والله لو تخطفني الذئاب والكلاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله. قال عمر رضي الله تعالى عنه: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالسا وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب، استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه، فخرج عمر إلى الناس فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت اليوم بسببكم من خليفة رسول الله خيرا، هذا كلامه.

وفيه أن هذا مخالف لما تقدم من صعوده المنبر وإنكاره على من طعن في ولاية أسامة، إذ يبعد عدم بلوغ ذلك للأنصار رضي الله تعالى عنهم، إلا أن يقال: لعل من قال لسيدنا عمر هذه المقالة جمع من الأنصار لم يكونوا سمعوا ذلك ولا بلغهم، أو جوزوا أن الصديق رضي الله تعالى عنه يوافق على ذلك حيث رأى فيه المصلحة، وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه جوّز ذلك حيث لم يتكفل بالرد عليهم بأنه أنكر على من طعن في ولاية أسامة رضي الله تعالى عنه، فليتأمل، والله أعلم.

وكلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه أسامة في عمر رضي الله تعالى عنه أن يأذن له في التخلف ففعل، ولعل ذلك كان تطبيبا لخاطر أسامة، ومن ثم كان عمر رضي الله تعالى عنه لا يلقى أسامة إلا قال السلام عليك أيها الأمير كما يأتي، فلما كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة خرج أسامة رضي الله تعالى عنه: أي في ثلاثة آلاف فيهم ألف فرس، وودعه سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه بعد أن سار إلى جنبه ساعة ماشيا، وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: والله لستَ بنازل، ولستُ براكب ثم قال له الصديق، رضي الله تعالى عنه: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك.

وقد وقع نظير ذلك لرسول الله لما بعث معاذا رضي الله تعالى عنه إلى اليمن شيعه وهو يمشي تحت راحلة معاذ وهو يوصيه.

ثم إن أسامة رضي الله تعالى عنه سار إلى أهل أُبنَى، فشنّ عليهم الغارة: أي فرق الناس عليهم، وكان شعارهم «يا منصور أمِت» فقتل من قتل وأسر من أسر، وحرق منازلهم وحرق أرضها فأزال نخلها، وأجال الخيل في عرصاتها، ولم يقتل من المسلمين أحد. وكان أسامة رضي الله تعالى عنه على فرس أبيه وقتل قاتل أبيه رضي الله تعالى عنهما، وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهما، وأخذ لنفسه مثل ذلك، فلما أمسى أمر الناس بالرحيل، وأسرع السير، وبعث مبشرا إلى المدينة بسلامتهم.

وخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار ممن لم يكن في تلك السرية يتلقون أسامة ومن معه، وسروا بسلامتهم، ودخل أسامة رضي الله تعالى عنه واللواء بين يديه حتى انتهى إلى باب المسجد ثم انصرف إلى بيته.

أي وكان في خروج هذا الجيش نعمة عظيمة، فإنه كان سببا لعدم ارتداد كثير من الطوائف العرب أرادوا ذلك. وقالوا: لولا قوة أصحاب محمد ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، فثبتوا على الإسلام.

أي وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حتى بعد أن ولي الخلافة إذا رأى أسامة رضي الله تعالى عنه قال: السلام عليك أيها الأمير، فيقول أسامة: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، تقول لي هذا؟ فيقول: لا أزال أدعوك ما عشت الأمير. مات رسول الله وأنت عليّ أمير. وفي السيرة الشامية سرايا أخر تركنا ذكرها تبعا للأصل.

وفي السنة الثامنة أمر عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه أن يحج بالناس وهو بمكة.

وقد كان استعمله عليها لما أراد الخروج إلى حنين، وقيل لما رجع من حنين. واستمر أميرا على مكة حتى توفي رسول الله، فأقره الصديق رضي الله تعالى عنه إلى أن توفي، وكانت وفاته يوم وفاة الصديق رضي الله تعالى عنهما، أي لأنه أطعم سم سنة في اليوم الذي فيه الصديق ذلك، وكان ذلك الحج على ما كانت عليه العرب في الجاهلية من حج الكفار مع المسلمين، لكن كان المسلمون بمعزل عنهم في الموقف.

ولما دخلت سنة تسع استعمل أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه على الحج، فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة، وبعث معه بعشرين بدنة قلدها وأشعرها بيده الشريفة، وساق أبو بكر رضي الله تعالى عنه خمس بدنات، ثم تبعه عليّ كرم الله وجهه على ناقة رسول الله القصواء: أي بفتح القاف والمد. وقيل بالضم والقصر ونسب للخطأ، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه استعملك رسول الله على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس، وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده، وكان العهد بين رسول الله وبين المشركين عاما وخاصا، فالعام أن لايصعد أحد عن البيت جاءه، ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم كما تقدم، والخاص بين رسول الله وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة.

وفي كلام السيهلي رحمه الله تعالى: لما أردف أبو بكر بعليّ رضي الله تعالى عنهما رجع أبو بكر للنبي وقال: يا رسول الله هل أنزل فيّ القرآن؟ قال: لا ولكن أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي، فمضى أبو بكر رضي الله تعالى عنه فحج بالناس: أي في ذي الحجة لا في ذي القعدة كما قيل من أجل النسيء الذي كان في الجاهلية، يؤخرون له الأشهر الحرم، أي فإن براءة نزلت: أي صدرها، وإلا فقد نزل منها قبل ذلك في غزوة تبوك {انفروا خفافا وثقالا} الآيات، وكان نزول صدرها بعد سفر أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي.

ثم دعا عليا كرم الله وجهه، فقال: اخرج بصدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، فقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه براءة يوم النحر: أي الذي هو يوم الحج الأكبر عند الجمرة الأول وقال: «لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان».

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «أمرني علي كرم الله وجهه أن أطوف في المنازل من منى ببراءة فكنت أصيح حتى صحل حلقي، فقيل له: بماذا كنت تنادي؟ فقال: بأربع: أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد فله عهد أربعة أشهر ثم لا عهد له، وأول تلك الأربعة يوم النحر من ذلك العام ـ ومن لا عهد له فعهده إلى انقضاء المحرم».

وكان المشركون إذا سمعوا النداء ببراءة يقولون لعلي كرم الله وجهه: سترون بعد الأربعة أشهر، فإنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب.

وإنما أمر بما ذكر، لأنهم كانوا يحجون مع المسلمين ويرفعون أصواتهم بقولهم: لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. أي وتقدم سبب الاتيان بذلك، ويطوف رجال منهم عراة ليس على رجل منهم ثوب بالليل، فيقول الواحد منهم: أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس عليّ شيء من الدنيا خالطه الظلم: أي وفي لفظ التي قارفنا فيها الذنوب.

وكان لا يطوف الواحد منهم بثوب إلا بثوب من ثياب الحمس وهم قريش، يستعيره أو يكتريه، وإذا طاف بثوب من ثيابه ألقاه بعد طوافه فلا يمسه هو ولا أحد غيره أبدا، فكانوا يسمون تلك الثياب اللعنى.

وفي الكشاف: كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه، لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها. وقيل تفاؤلا بأن يعروا من الذنوب كما يعرون من الثياب.

وكانت النساء يطفن كذلك، وقيل كانت الواحدة تلبس درعا مفرجا. وقد طافت امرأة عريانة ويدها على قبلها وهي تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله ** فما بدا منه فلا أحله

فأنزل الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} فأبطلت ذلك سورة براءة في تلك السنة، أي وقيل الزينة المشط، وقيل الطيب.

وكان بنو عامر في أيام الحج لا يأكلون الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجتهم، فقال المسلمون فإنا أحق أن نفعل ذلك، فقيل لهم: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}.

ويحكى أن بعض الأطباء الحذاق من النصارى، قال لبعض الحكماء: ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان. فقال له: قد جمع الله الطب كله في بعض آية من كتابه، قال له: وما هي، قال: قوله: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}، فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب؟ قال: قد جمع رسول الله الطب في ألفاظ يسيرة. قال: وما هي؟ قال قوله: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودته». فقال ذلك الطبيب: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس شيئا.

وبينت براءة أن من كان له عهد فعهده إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله إلى أربعة أشهر. وفي لفظ: لما لحق علي كرم الله وجهه أبا بكر رضي الله تعالى عنه، قال له أبو بكر: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور.

وزعمت الرافضة أنه عزل أبا بكر عن إمارة الحج بعليّ. وعبارة بعض الرافضة: ولما تقدم أبو بكر بسورة براءة رده بعد ثلاثة أيام بوحي من الله. وكيف يرضى العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة، هذا كلامه.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: وهذا أبين من الكذب، فإن من المعلوم المتواتر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يعزل، وأنه حج بالناس، وكان عليّ كرم الله وجهه من جملة رعيته في تلك السفرة، يصلي خلفه كسائر المسلمين، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج في ذلك العام.

وإنما أردف أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعلي كرم الله وجهه لنبذ العهود، وكان من عادة العرب لا ينبذ العهد إلا المطاع أو رجل من أهل بيته، أي فلو تلا أبو بكر رضي الله عنه ما فيه نقض عهد عاهد عليه رسول الله ربما تعللوا وقال قائلهم: هذا خلاف ما نعرف، فأزاح الله عللهم بكون ذلك على يد رجل من بني أبي رسول الله الأدنى إليه ممن له ذرية وهو عبد المطلب، قال: وهذا غير بعيد من افتراء الرافضة وبهتانهم، أي وعلى عادة العرب بما ذكر جاء قوله: «لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي» كما تقدم. وفي لفظ «إلا رجل مني» أي لا يبلغ عني عقد العقود ولا حلها إلا رجل مني، أي من بني أبي الأدنى ولا أب له ذرية أدنى إليه من عبد المطلب.

ولا يجوز حمل ذلك على تبليغ الأحكام والقرآن، إذ كل أحد من المسلمين مأذون له في تبليغ ذلك عنه.

وفي هذه السنة التي هي سنة تسع تتابعت الوفود على رسول الله حتى قيل لها سنة الوفود.


باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه

أي غير من تقدم، فقد تقدم أنه قدم عليه وفد هوازن بالجعرانة، وكذا وفد عليه بها مالك بن عوف النصري وذلك في آخر سنة ثمان: أي ووفد نصارى نجران، أي قبل الهجرة، ووفد بني تميم في سرية عيينة بن حصن. وذكر ابن سعد أن ذلك كان في المحرم سنة تسع.

ووفد عليه وفد نصارى نجران أيضا بعد الهجرة وكانوا ستين راكبا ودخلوا المسجد النبوي، أي وعليهم ثياب الحبرة وأردية الحرير مختمين بخواتم الذهب، أي ومعهم هدية وهي بسط فيها تماثيل ومسوح، فصار الناس ينظرون للتماثيل فقال: أما هذه البسط فلا حاجة لي فيها، وأما هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها، فقالوا نعم: نعطيكها. ولما رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزي الحسن تشوقت نفوسهم إلى الدنيا، فأنزل الله تعالى: {قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار} الآيات، وأرادوا أن يصلوا بالمسجد بعد أن حان وقت صلاتهم وذلك بعد العصر، فأراد الناس منعهم، فقال: دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم، فعرض عليهم الإسلام تلا عليهم القرآن فامتنعوا وقالوا قد كنا مسلمين قبلك، فقال رسول الله : كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدا: أي لأن أحدهم قال له: المسيح عليه الصلاة والسلام ابن الله لأنه لا أب له. وقال له آخر: المسيح هو الله لأنه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الأدواء كلها، وخلق من الطين طيرا. وقال له أفضلهم: فعلام تشتمه وتزعم أنه عبد؟ فقال: هو عبد الله {وكلمته ألقاها إلى مريم} فغضبوا، وقالوا: إنما يرضينا أن تقول إنه إله، وقالوا له: إن كنت صادقا فأرنا عبد الله يحيي الموتى ويشفي الأكمه والأبرص ويخلق من الطين طيرا فينفخ فيها فتطير؟ فسكت عنهم، فنزل الوحي بقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}

وقوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} ثم قال لهم: إن الله أمرني إن لم تنقادوا للإسلام أن أباهلكم، أي ندعو ونجتهد في الدعاء باللعنة على الكاذب، فقالوا له: يا أبا القاسم نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فخلا بعضهم ببعض، فقال بعضهم: والله علمتم أن الرجل نبيّ مرسل، وما لاعن قوم قط إلا استؤصلوا: أي أخذوا عن آخرهم، وإن أنتم أبيتم إلا دينكم فوادعوه وصالحوه وارجعوا إلى بلادكم، وفي لفظ: أنهم ذهبوا إلى بني قريظة: أي من بقي منهم وبني النضير وبني قينقاع واستشاروهم، فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه.

وفي لفظ: أنهم وادعوه على الغد، فلما أصبح أقبل ومعه حسن وحسين وفاطمة وعلي رضي الله عنهم وقال: اللهم هؤلاء أهلي، أي وعند ذلك قال لهم الأسقف: إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل لهم جبلا لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني، فقالوا: لا نباهلك.

وعن عمر رضي الله عنه: «أنه قال للنبي: لو لاعنتهم يا رسول الله بيد من كنت تأخذ؟ قال: آخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين وعائشة وحفصة» وهذا أي زيادة عائشة وحفصة في هذه الرواية دل عليه قوله تعالى: {ونساءنا ونساءكم} وصالحوه على الجزية، صالحوه على ألف حلة في صفر، وألف في رجب، ومع كل حلة أوقية من الفضة، وكتب لهم كتابا وقالوا له: أرسل معنا أمينا، فأرسل معهم أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، وقال لهم: هذا أمين هذه الأمة، أي وفي رواية: هذا هو القويّ الأمين، وكان لذلك يدعى في الصحابة بذلك.

ويروى عن النبي أنه قال: «أما والذي نفسي بيده لقد تدلى العذاب على أهل نجران، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولأضرم الوادي عليهم نارا، ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولا حال الحول على النصارى حتى يهلكوا».

ووفد عليه قبل الهجرة الداريون أبو الهند الداري وتميم الداري وأخوه نعيم، وأربعة آخرون، وسألوا رسول الله أن يعطيهم أرضا من أرض الشام فقال لهم رسول الله : سلوا حيث شئتم، قال أبو هند: فنهضنا من عنده نتشاور في أي أرض نأخذ؟ فقال تميم الداري رضي الله تعالى عنه نسأله بيت المقدس وكورتهما، فقال أبو هند: هذا محل ملك العجم وسيصير محل ملك العرب، فأخاف أن لا يتمّ لنا، قال تميم: نسأله بيت جيرون وكورتها، فنهضنا إلى رسول الله فذكرنا له، فدعا بقطعة من أدم وكتب لهم كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله للداريين إذا أعطاه الله الأرض وهب لهم بيت عينون وجيرون والمرطوم، وبيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أبد الأبد، شهد بذلك عباس بن عبد المطلب، وخذيمة بن قيس، وشرحبيل ابن حسنة، وكتب: ثم أعطانا كتابنا، وقال: انصرفوا حتى تسمعوا أني قد هاجرت، قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابا آخر، فكتب لنا كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أنطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيكم بيت عينون وجيرون والمرطوم، وبيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام برمتهم وجميع ما فيهم نطية بيت ونفذت، وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد، فمن آذاهم آذاه الله، شهد بذلك أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب نقل ذلك في المواهب وأقره.

وخطب خطبة، قال فيها: حدثني تميم الداري، وذكر خبر الجساسة: أي لأن تميما رضي الله عنه أخبره أنه ركب البحر فتاهت به سفينته. فسقطوا إلى جزيرة فخرجوا إليها يلتمسون الماء فلقي إنسانا يجر شعره، فقال له: من أنت؟ قال: أنا الجساسة، قالوا: فأخبرنا، قال: لا أخبركم ولكن عليكم بهذه الجزيرة فدخلناها، فإذا رجل مقيد، فقال: من أنتم؟ قلنا ناس من العرب، قال: ما فعل هذا النبي الذي خرج فيكم؟ قلنا قد آمن به الناس واتبعوه وصدقوه، قال: فإن ذلك خير لهم، قال: أفلا تخبروني عن عين ذعر ما فعلت؟ فأخبرناه عنها، فوثب وثبة، ثم قال: ما فعل نخل بيسان العرب، هل أطعم بتمر؟ فأخبرناه أنه قد أطعم، فوثب مثلها، فقال: أما لو قد أذن لي في الخروج لوطئت البلاد كلها غير طيبة، فأخرجه رسول الله فحدث الناس، فقال: هذه طيبة وذاك الدجال، قال ابن عبد البر: وهذا أولى ما يخرجه المحدثون في رواية الكبار عن الصغار، أي كما تقدم.

ووفد عليه وهو في خيبر الأشعريون صحبة أبي موسى الأشعري، صحبوا جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وقال فيهم كما تقدم: «أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية» وقال في حق أهل اليمن: «يريد أقوام أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم» والأشعري نسبه إلى أشعر، واسمه نبت بن أدد بن يشجب، وإنما قيل له أشعر، لأن أمه ولدته والشعر على بدنه.

قال: ولما فتحت مكة ودانت له قريش عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله ولا بعداوته، لأن قريشا كانت قادة العرب ودخلوا في دين الله أفواجا.

قال في النهاية: الوفد القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد ا هـ. والوفد رسول القوم يقدمهم، وقد يراد به ما هو أعم من ذلك، فيشمل من قدم غير رسول الله، وحينئذ يكون من ذلك كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه فإنه قدم على رسول الله.

وسبب ذلك أن أخاه بجير بن زهير خرج يوما هو وكعب في غنم لهما، فقال لأخيه كعب اثبت في الغنم حتى آتي هذا الرجل، يعني النبي فأسمع كلامه وأعرف ما عنده، فأقام كعب ومضى بجير، فأتى رسول الله وسمع كلامه وآمن به، وذلك أن أباهما زهيرا كان يجالس أهل الكتاب ويسمع منهم أنه قد آن مبعثه، ورأى زهير والدهما رضي الله تعالى عنهما أنه قد مد بسبب من السماء، وأنه مد يده ليتناوله ففاته، فأوله بالنبي الذي يبعث في آخر الزمان وأنه لا يدركه وأخبر بنيه بذلك وأوصاهم إن أدركوا النبي أن يسلموا، ولما اتصل خبر إسلام بجير بأخيه كعب أغضبه ذلك، فلما كان منصرفه من الطائف كتب بجير رضي الله تعالى عنه إلى أخيه كعب بن زهير ـ وكان ممن يهجو رسول الله ـ يخبره بفتح مكة وأنه قتل بها رجالا ممن كان يهجوه من شعراء قريش، وهرب بعضهم في كل وجه كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب وأنه، قال: من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله: فإن كان لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا، ولا يطالبه بما تقدم الإسلام، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجاتك.

وفي تصحيح الأنساب لابن أبي الفوارس أن زهير بن أبي سلمى قال لأولاده: أني رأيت في المنام سببا ألقي إليّ من السماء، فمددت يدي لأتناوله ففاتني، فأولته أنه النبي الذي يبعث في هذا الزمان وأنا لا أدركه، فمن أدركه منكم فليصدّقه وليتبعه ليهتدي به، فلما بعث الله محمدا آمن به ابنه بجير وأقام كعب ابنه على الشرك والتشبيب بأم هانىء بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها، فبلغ رسول الله ذلك، فقال: لئن وقع كعب في يديّ لأقطعن لسانه الحديث.

أي ولا مانع أن يكون ضم إلى هذا هجاء رسول الله، فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأرجف به أعداؤه، وصاروا يقولون هو مقتول لا محالة، فلم يجد بدا من مجيئه إلى رسول الله، فعمل القصيدة التي مدح بها رسول الله وذكر فيها إرجاف أعدائه به رضي الله تعالى عنه التي مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

ثم خرج رضي الله تعالى عنه حتى قدم المدينة فنزل على رجل كان بينه وبينه معرفة، فغدا به إلى رسول الله حين صلى الصبح، فأشار له ذلك الرجل إلى رسول الله وقال: هذا رسول الله، فقم إليه واستأمنه، فقام إلى أن جلس إلى رسول الله ووضع يده في يده وكان رسول الله أي ومن حضره لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله : نعم، فقال: يا رسول الله أنا كعب بن زهير، فوثب رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال رسول الله : دعه عنك فإنه قد جاء تائبا نازعا، فلما أنشد القصيدة المذكورة ومدح فيها المهاجرين ولم يتعرض للأنصار، قيل حمله على ذلك ما سمعه من ذلك الأنصاري مما غاظه، ولم يسمع من المهاجرين شيئا يغيظه.

وفيه أن هذا واضح إذا كان أنشأ ذلك في ذلك الوقت، وأما إذا كان عمله قبل مجيئه كما هو ظاهر ما تقدم أنه عمل تلك القصيدة التي من جملتها ما ذكر فلا، فعند ذلك غضب الأنصار، فمدحهم بالقصيدة التي مطلعها.

من سره كرم الحياة فلا يزل ** في مقنب من صالح الأنصار

أي ويقال إنه هو الذي حضه على مدحهم وقال له لما أنشد: بانت سعاد، ورآها مشتملة على مدح المهاجرين دون الأنصار: لولا: أي هلا ذكرت الأنصار بخير، فإن الأنصار أهل لذلك؟ أي ولما أنشده بانت سعاد وقال:

إن الرسول لسيف يستضاء به ** مهند من سيوف الله مسلول

ألقى بردة كانت عليه، وقد اشتراها معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما من آل كعب بمال كثير، أي بعد أن دفع لكعب فيها عشرة آلاف، فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله أحدا، فلما مات كعب رضي الله تعالى عنه أخذها من ورثته بعشرين ألفا، وتوارثها خلفاء بني أمية، ثم خلفاء بني العباس. اشتراها السفاح أول خلفاء بني العباس بثلاثمائة دينار بعد انقراض دولة بني أمية، أي وكانوا يطرحونها على أكتافهم جلوسا وركوبا، وكانت على المقتدر حين قتل وتلوثت بالدم.

ويقال إن التي كانت عند بني العباس بردته التي أعطاها لأهل أيلة مع كتابه الذي كتبه لهم أمانا وذلك في غزوة تبوك، وحينئذ تكون بردة كعب رضي الله تعالى عنه فقدت عند زوال دولة بني أمية. وأما هذه البردة فلعل فقدها كان في فتنة التتار.

ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال: إن معاوية رضي الله تعالى عنه اشترى البردة التي كانت عند الخلفاء من أهل كعب بأربعين ألف درهم توارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون حتى أخذها التتر منهم سنة أخذ بغداد. وقال: هذا من الأمور المشهورة جدا، ولكني لم أر ذلك في شيء من الكتب بإسناد أرتضيه. وصار كعب رضي الله تعالى عنه من شعرائه الذين يذبون عن الإسلام كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما الأنصاريين.

ولما قدم المدينة من تبوك في رمضان قدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف. وكان من خبرهم أنه لما انصرف رسول الله عن محاصرتهم تبع أثره عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله : إنهم قاتلوك، فقال له عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم: أي أول أولادهم. وفي رواية: من أبصارهم، فخرج رضي الله تعالى عنه يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمرتبته فيهم، أي لأنه رضي الله تعالى عنه كان فيهم محببا مطاعا، فلما أشرف لهم على علية ودعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل جانب فأصابه سهم فقتله.

وفي لفظ: أنه رضي الله تعالى عنه قدم الطائف عشاء، فجاءته ثقيف يسلمون عليه، فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يغشاه منهم، فخرجوا من عنده حتى إذا كان السحر وطلع الفجر قام على غرفة في داره وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فقيل له قبل أن يموت: ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم، وقال في حقه: «إن مثله في قومه كمثل صاحب يس إنه قال لقومه: {اتبعوا المرسلين} الآيات فقتله قومه» أي المذكورة في سورة يس وهو حبيب بن بري.

وقال السهيلي: يحتمل أن المراد به صاحب إلياس، فإن إلياس يقال في اسمه يس أيضا. وقد قال مثل هذه المقالة في حق شخص آخر يقال له قرة بن حصين أو ابن الحارث، بعثه النبي إلى هلال بن عامر يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه، فقال: «مثله مثل صاحب يس».

ثم إن ثقيفا أقامت بعد قتل عروة شهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد أسلموا. فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله رجلا، فكلموا عبد ياليل بن عمرو وكان في سن عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه في ذلك، فأبى أن يفعل، لأنه خشي أن يفعل به كما فعل بعروة. وقيل كلموا مسعود بن عبد ياليل ونسب قائله إلى الغلط، فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا فبعثوا معه خمسة أنفار منهم شرحبيل بن غيلان أحد أشراف ثقيف، أسلم غيلان بالغين المعجمة على عشر نسوة، وممن أسلم على عشر نسوة أيضا عروة بن مسعود، وكذلك مسعود بن معتب، ومسعود بن عمير، وسفيان بن عبد الله، وأبو عقيل مسعود بن عامر، وكلهم من ثقيف.

ويقال: وفد عليه تسعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغرهم، فلما قربوا من المدينة لقوا المغيرة بن شعبة الثقفي، فذهب مسرعا ليبشر رسول الله بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخبره، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا أحدثه ففعل، فدخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة أي وعلمهم رضي الله تعالى عنه كيف يحيون رسول الله، فأبوا إلا تحية الجاهلية وهي عم صباحا، ثم قدم بهم على رسول الله فضرب لهم قبة في ناحية المسجد: أي ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، وكانوا يغدون إلى رسول الله كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص عند أسبابهم، فكان عثمان إذا رجعوا ذهب إلى النبي يسأله عن الدين ويستقرئه القرآن، وإذا وجد النبي نائما ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله فأحبه وكان فيهم رجل مجذوم، فأرسل يقول له: إنا بايعناك فارجع. وفي المرفوع: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» وجاء: «كلم المجذوم وبينك وبينة قيد رمح أو رمحين» هذا معارض بقوله: «لا عدوى ولا طيرة» وبما جاء في أحاديث أخر: «أنه أكل مع المجذوم طعاما. وأخذ يده وجعلها معه في القصعة وقال: كل بسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه».

وأجيب بأن الأمر باجتناب المجذوم إرشادي، ومؤاكلته لبيان الجواز، أو جواز المخالطة محمولة على من قوي إيمانه وعدم جوازها على من ضعف إيمانه، ومن ثم باشر الصورتين ليقتدى به، فيأخذ القوي الإيمان بطريق التوكل، والضعيف الإيمان بطريق الحفظ والاحتياط.

وعند انصافهم قالوا: يا رسول الله: أمر علينا رجلا يؤمنا، فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام وقراءته للقرآن وتعلم الدين، ولقول الصديق رضي الله تعالى عنه له: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على النفقة في الإسلام وتعلم القرآن.

وفي رواية أن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، وقال لي: إذا أممت فأخف بهم الصلاة، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا، فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله حتى كتب لهم كتابا، وكان الكاتب له خالد المذكور. ومن جملته: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين، إن عضاه وجّ وصيده حرام، لا يعضده شجره، ومن وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه. ووج: واد بالطائف، وقيل هو الطائف. والعضاه: كل شجر له شوك واحه عضة كشفه وشفاه.

وروى أبو داود والترمذي: «ألا إن صيد وجّ وعضاهه حرام محرم» وكانوا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا. وسألوا رسول الله أن يترك لهم الصلاة. فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه. وفي لفظ: لا ركوع فيه. وأن يترك لهم الزنا والربا وشرب الخمر فأبى ذلك. وسألوه أن يترك لهم الطاغية التي هي صنمهم وهي اللات، أي وكانوا يقولون لها الربة، لا يهدمها إلا بعد ثلاث سنين من مقدمهم له، فأبى رسول الله ذلك، فلا زالوا يسألونه سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم وأرادوا بذلك ليدخل الإسلام في قومهم ولا يرتاع سفهاؤهم ونساؤهم بهدمها، فأبى عليهم ذلك رسول الله.

أي وعند خروجهم قال لهم سيدهم كنانة: أنا أعلمكم بثقيف، اكتموا إسلامكم وخوّفوهم الحرب والقتال، وأخبروهم أن محمدا سألنا أمورا عظيمة ما أبيناها عليه، سألنا أن نهدم الطاغية، وأن نترك الزنا والربا وشرب الخمر، فلما جاءتهم ثقيف وسألوهم قالوا: جئنا رجلا فظا غليظا قد ظهر بالسيف ودان له الناس، فعرض علينا أمورا شدادا وذكروا ما تقدم، قالوا: والله لا نطيعه ولا نقبل هذا أبدا، فقالوا لهم: أصلحوا السلاح، وتهيؤوا للقتال، ورموا حصنكم، فمكثت ثقيف كذلك يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله الرعب في قلوبهم وقالوا: والله ما لنا طاقة، فارجعوا إليه وأعطوه ما سأل، فعند ذلك قالوا لهم: قد قاضيناه وأسلمنا، فقالوا لهم: لم كتمتمونا؟ قالوا أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا ومكثوا أياما، فقدم عليهم رسل رسول الله، بعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما لهدم الطاغية.

وفي رواية: لما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة رضي الله تعالى عنه أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه وقال: ادخل أنت على قومك، فلما دخل المغيرة علاها ليضربها بالمعول: أي الفأس العظيمة التي يقطع بها الصخر، وقام قومه دونه خشية أن يرمي كما رمي عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا. أي مكشوفات الرؤوس حتى العواتق من الحجال يبكين على الطاغية.

قال: وفي رواية يظنون أنه لا يمكن هدمها لأنها تمنع من ذلك، وأراد المغيرة رضي الله تعالى عنه أن يسخر بثقيف، فقال لأصحابه: لأضحكنكم من ثقيف، فألقى نفسه لما علا على الطاغية ليهدمها. وفي لفظ: أخذ يرتكض فصاحوا صيحة واحدة، فقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وقالوا: والله لا يستطيع هدمها.

وفي رواية لما أخذ المعول وضرب به اللات ضربة صاح وخرّ لوجهه، فارتجّ الطائف بالصياح سرورا، وإن اللات قد صرعت المغيرة، وأقبلوا يقولون كيف رأيت يا مغيرة؟ دونكها إن استطعت، ألم تعلم أنها تهلك من عاداها؟ فقام المغيرة يضحك منهم ويقول لهم: يا خبثاء، والله ما قصدت إلا الهزء بكم.

وفي رواية: فوثب وقال لهم: قبحكم الله، إنما هي لكاع، حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم أخذ في هدمها اهـ، فهدمها بعد أن بدأ بكسر بابها حتى هدم أساسها وأخرج ترابها لما سمع سادنها يقول: ليغضبن الأساس فليخسفن بهم وأخذ مالها وحليها، فلما قدما على رسول الله أمر رسول الله أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود أخاه من مال الطاغية، فقضاه، فإن أبا مليح بن عروة بن مسعود وقارب ابن عمه بن الأسود أخو عروة بن مسعود سألا رسول الله في ذلك، وكانا قدما على رسول الله مسلمين لما قتلت ثقيف عروة بن مسعود قبل أن تسلم ثقيف كما تقدم، وكان قد أجاب أبا مليح، فقال له نعم، فقال له ابن عمه قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله، فإن عروة والأسود أخوان لأب وأم، فقال: إن الأسود مات مشركا، فقال قارب: يا رسول الله إنما الدين عليّ وأنا الذي أطلب به.

ومن الوفود وفد بني تميم وقد تقدم ذكره: أي في الكلام على سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم، وفي ذلك الوفد عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم والأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر.

وذكر في الاستيعاب أنه كان مع وفد تميم قيس بن عاصم فأسلم، وذلك في سنة تسع، فلما رآه رسول الله قال: هذا سيد أهل الوبر، وكان عاقلا حليما مشهورا بالحلم. قيل للأحنف بن قيس ـ وكان من أحلم الناس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم، رأيته يوما قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدّث قومه، فأتي برجل مكتوف وآخر مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قد قتل ابنك، قال: فوالله ما حل حبوته ولا قطع كلامه، فلما أتمه التفت إلى ابن أخيه، فقال: يا بن أخي بئس ما فعلت، أثمت بربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك، وحل كتاف ابن عمك، وسُقْ إلى أمك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة.

وكان قيس بن عاصم رضي الله تعالى عنه ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وسبب ذلك أنه سكر يوما فغمز عكنة ابنته وسب أبويها، ورأى القمر فصار يخاطبه، وأعطى الخمار مالا كثيرا، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه وقال في ذمها أبياتا كثيرة.

ولما حضرته الوفاة دعا بنيه، فقال لهم: يا بني احفظوا عني فلا أحد أنصح لكم مني، إذا مت فسودوا كباركم، ولا تسودوا صغاركم فيسفه الناس كباركم وتهونوا عليهم. وعليكم بإصلاح المال فإنه منبهة للكريم، ويُستغنى به عن اللئيم. وإياكم ومسألة الناس فإنها آخر كسب الرجل، فإذا مت فلا تنوحوا عليّ، فإن رسول الله لم ينح عليه، وقد قيل فيه من جملة أبيات عند موته:

فما كان قيس هلكه هلك واحد ** ولكنه بنيان قوم تهدما

وتقدم أنهم نادوه من وراء الحجرات: يا محمد اخرج إلينا ثلاث مرات، فخرج إليهم إلى آخر ما تقدم.

ومنها وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى بضم السين وفتحها، وكانوا أي هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم، وكان عامر بن الطفيل عدو الله سيدهم، كان مناديه ينادي بسوق عكاظ: هل من راجل فنحمله، أو جائع فنطعمه، أو خائف فنؤمنه؟ وكان من أجمل الناس، وكان مضمرا الغدر برسول الله، فقال لأريد وهو أخو لبيد الشاعر: إذا قدمنا على هذا الرجل فإني شاغل عنك وجهه؟ فإذا فعلت ذلك فاعله السيف، وقد قال قومه: يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم، فقال: والله لقد كنت آليت: أي حلفت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش، فلما قدموا على رسول الله قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني: أي اجعلني خليلا وصديقا لك، قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، قال: يا محمد خالني، وجعل يكلم النبي وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يأتي بشيء.

وفي رواية لما أتاه عامر وسده: أي ألقى له وسادة ليجلس عليها، ثم قال له: أسلم يا عامر، فقال له عامر: إن لي إليك حاجة، قال: اقرب مني، فقربت منه حتى حنا على رسول الله، وهذا يدل على أن قوله خالني: أي اجعل لي منك خلوة، وهو المناسب لقول عامر لأربد إني أشاغل عنك وجهه.

قال: وذكر أن عامر بن الطفيل قال لرسول الله وقد قال له أسلم يا عامر، فقال: أتجعل لي الأمر بعدك إن أسلمت؟ فقال رسول الله : ليس ذلك لك ولا لقومك: أي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء: أي وقال له: يا محمد أسلم على أن لي الوبر ولك المدر، فقال: لا، فقال: ما لي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، فقال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا، وفي رواية: خيلا جردا ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا، فقال رسول الله : يمنعك الله عز وجل.

قال السيهلي: وجعل أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه يضرب في رؤوسهما ويقول اخرجا أيها الهجرسان: أي القردان، فقال له عامر: ومن أنت؟ فقال: أسيد بن حضير، فقال: أحضير بن سماك؟ قال نعم، قال: أبوك كان خيرا منك، قال: بلى أنا خير منك ومن أبي، لأن أبي كان مشركا وأنت مشرك.

ومكث أياما يدعو الله عليهم ويقول: اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت وابعث له داء يقتله اهـ. أي ثم قال: والذي نفسي بيده لو أسلم وأسلمت بنو عامر لزاحمت قريشا على منابرها، ثم دعا رسول الله وقال: يا قوم آمنوا، ثم قال: اللهم اهد بني عامر، واشغل عني عامر بن الطفيل بما شئت وأنى شئت.

وفي البخاري: «أنه قال للنبي أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل ولي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك من غطفان بألف أشقر وألف شقراء، فلما خرجوا من عند رسول الله قال عامر لأربد: ويلك يا أربد، أين ما كنت أمرتك به، والله ما كان على وجه الأرض من رجل أخافه على نفسي منك أبدا، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا، فقال: لا أبالك، لا تعجل عليّ، والله ما همت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين هذا الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟ أي وفي رواية: إلا رأيت بيني وبينه سورا من حديد. وفي رواية: لما وضعت يدي على قائم السيف يبست فلم أستطع أن أحركها. وفي رواية: لما أردت سل سيفي نظرت فإذا فحل من الإبل فاغر فاه بين يديّ يهوي إليّ، فوالله لو سللته لخفت أن يبتلع رأسي.

ويمكن الجمع بأن ما في الرواية الأولى كان بعد أن تكرر منه الهم، وما في الرواية الثانية كان بعد أن حصل منه هم آخر، وكذا يقال في الثالثة، وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه: أي وفي لفظ حلقه، أي وأوى لبيت امرأة سلولية من بني سلول، وكانوا موصوفين باللؤم.

وفي كلام السيهلي: إنما اختصها بالذكر لقرب نسبها منه لأنها منسوبة إلى سلول بن صعصعة، والطفيل من بني عامر بن صعصعة أي فهي تأسف عليه، وصار يأسف الذي كان موته ببيتها، وصار يمس الطاعون ويقول: يا بني عامر غدة: أي أغد غدة كغدة البعير، وموتا في بيت امرأة من بني سلول، ائتوني بفرسي، ثم ركب فرسه وأخذ رمحه، وصار يجول حتى وقع عن فرسه ميتا.

أي ويذكر أنه صار يقول: ابرز يا ملك الموت. وفي لفظ: يا موت ابرز لي: أي لأقاتلك، وهذا يدل على أن موت عامر لم يتأخر سيما وقد جاء في رواية: فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه فوثب على فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية، فلم يزل على تلك الحالة حتى سقط عن فرسه ميتا.

ويحتاج للجمع بينه وبين قول الأوزاعي قال يحيى: فمكث رسول الله يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا، وقدم صاحباه على قومهما، فقالوا لأربد: ما وراءك يا أربد؟ فقال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أني عنده الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جملة يتبعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة أحرقتهما. أي وذلك في يوم صحو قائظ، وأنزل الله تعالى قوله: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} وأما جبار بن سلمى الذي هو ثالثهم فقد أسلم مع من أسلم من بني عامر.

ومنها وفود ضمام بن ثعلبة، أي وقيل وفد في سنة خمس، بينا رسول الله بين أصحابه متكئا جاءه رجل من أهل البادية قال فيه طلحة بن عبيد الله: جاءنا أعرابي من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويّ صوته ولا نفقه ما يقول، الحديث: أي جاء على جمل وأناخه في المسجد ثم عقله وقال: أيكم ابن عبد المطلب، أي وفي رواية: أيكم محمد؟ قالوا هذا الأمغر المرتفق: أي الأبيض المشرب بحمرة المتكىء على مرفقه، فدنا منه فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة قال: سل عما بدا لك. أي وفي رواية: لمغلظ عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك ما لا أجد في نفسي، فقال: سل ما بدا لك، فقال: يا محمد جاءنا رسولك فذكر لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق، فقال: أنشدك بفتح الهمزة برب من قبلك ورب من بعدك. وفي رواية: بالذي خلق السموات والأرض، ونصب هذه الجبال، قال: اللهم نعم. قال: وفي رواية أنه قال له قبل ذلك: آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ قال: اللهم نعم انتهى. قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة؟ قال اللهم نعم. قال: وأنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا؟ قال: اللهم نعم، قال وأنشدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا؟ قال: اللهم نعم، قال: وأنشدك بالله آلله أمرك أن يحج هذا البيت من استطاع إليه سبيلا، قال: اللهم نعم، قال: فأنا قد آمنت وصدقت وأنا ضمام بن ثعلبة.

أقول: وهذا السياق يدل على أن وفوده كان بعد فرض الحج، وهو يخالف ما سبق أنه كان في سنة خمس ومن ثم استبعده ابن القيم. قال: والظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة.

وفيه أن الذي جزم به إسحاق وأبو عبيدة أنه وفد في سنة تسع وصوبه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، ومن ثم جاء ذكر الحج في مسلم، ويؤيد ذلك قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله فقدم علينا الحديث، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قدم المدينة بعد الفتح، فلما أن ولى ضمام رضي الله تعالى عنه قال رسول الله : فقه الرجل: أي بضم القاف صار فقيها، وبكسرها فهم. وفي لفظ: لئن صدق ليدخلنّ الجنة، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة. أي وفي لفظ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فما سمعنا بوافد وقد كان أفضل من ضمام.

ولما رجع ضمام رضي الله تعالى عنه إلى قومه قال لهم: إن الله تعالى قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه.

قال: وفي رواية أن أول شيء تكلم به أن سب اللات والعزى، فقال له قومه: مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، فقال لهم: ويلكم، والله إنهما لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا إلى آخر ما تقدم، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فلم يبق من القوم رجل ولا امرأة إلا وأسلم.

ومنها وفد عبد القيس وفيهم الجارود، وكان نصرانيا: أي قد قرأ الكتب فقال أبياتا مخاطبا بها النبي، منها:

يا نبي الهدى أتاك رجالا ** قطعت فدفدا وآلا فآلا

تتقي وقع شر يوم عبوس ** أوجل القلب ذكره ثم هالا

الفدفد: المفازة، والآل: ما يرفع الشخوص في أول النهار وفي آخره، وقيل السراب. وقيل وكانوا ستة عشر، فعرض عليهم الإسلام، فقال: يا محمد إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك فتضمن لي ذنبي؟ فقال النبي : نعم أنا ضامن لك أن قد هداك إلى ما هو خير لك منه، فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله أن يحملهم، فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه، فقال: يا رسول الله يحال بيننا وبين بلادنا ضوالّ من ضوال المسلمين أي من الإبل والبقر مما يحمي نفسه أفنتبلغ عليها: أي نركبها إلى بلادنا. قال: لا، إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار أي لهبها كذا في الأصل.

وفي السيرة الهشامية أن الجارود إنما وفد مع حليف له يقال له سلمة بن عياض الأزدي وأن الجارود قال لسلمة: إن خارجا خرج بتهامة يزعم أنه نبي، فهل لك أن تخرج إليه، فإن رأينا خيرا دخلنا فيه، وأنا أرجو أن يكون هو النبي الذي بشر به عيسى ابن مريم، لكن يضمر كل واحد منا له ثلاث مسائل يسأله عنها لا يخبر بها صاحبه، فلعمري إنه إن أخبرنا بها إنه لنبي يوحى إليه، فلما قدما عليه قال له الجارود: بم بعثك به ربك يا محمد؟ قال: بشهادة أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله، والبراءة من كل ند أو دين يعبد من دون الله، وبإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة لحقها، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا بغير إلحاد {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} قال الجارود: يا محمد إن كنت نبيا فأخبرنا عما أضمرنا عليه، فخفق رسول الله خفقة كأنها سنة ثم رفع رأسه الشريف والعرق يتحدر عنه، فقال: أما أنت يا جارود، فإنك أضمرت على أن تسألني عن دماء الجاهلية، وعن حلف الجاهلية، وعن المنيحة. ألا وإن دم الجاهلية موضوع وحلفها مردود، ولا حلف في الإسلام. ألا وإن أفضل الصدقة أن تمنح أخاك ظهر دابة أو لبن شاة، فإنها تغدو برفدة وتروح بمثله. وأما أنت يا سلمة فإنك أضمرت أن تسألني عن عبادة الأوثان، وعن يوم السباسب، وعن عقل الهجين. فأما عبادة الأوثان فإن الله تعالى يقول: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} وأما يوم السباسب فقد أعقبه الله ليلة خيرا من ألف شهر، فاطلبوها في العشر الأواخر من رمضان، فإنها ليلة بلجة سمحة لا ريح فيها، تطلع الشمس في صبيحتها لاشعاع لها. وأما عقل الهجين، فإن المؤمنين إخوة تتكافأ دمائهم، يجير أقصاهم على أدناهم، أكرمهم عند الله أتقاهم، فقالا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله انتهى.

وذكر في السيرة الهشامية في وفد عبد القيس أنه كان قبل فتح مكة، وذكر ما حاصله: «أنه بينما هو يحدّث أصحابه، إذ قال لهم: سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق» وفي رواية: «ليستبين ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام قد أنضوا» أي أهزلوا «الركائب، وأفنوا الزاد، اللهم اغفر لعبد القيس، فقام عمر رضي الله تعالى عنه، فتوجه نحو مقدمهم، فلقي ثلاثة عشر راكبا، وقيل كانوا عشرين راكبا، وقيل كانوا أربعين رجلا، فقال: من القوم؟ قالوا: من بني عبد القيس، فقال: أما إن النبي قد ذكركم آنفا، فقال خيرا، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي، فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم بباب المسجد بثياب سفرهم، وتبادروا يقبلون يده ورجله، وكان فيهم عبد الله بن عوف الأشج، وهو رأسهم، وكان أصغرهم سنا، فتخلف عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع، وذلك بمرأى من النبي، وأخرج ثوبين أبيضين لبسهما، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله فقبلها، وكان رجلا دميما ففطن لنظر رسول الله إلى دمامته، فقال: يا رسول الله إنه لا يستقي أي يشرب في مسوك: أي جلود الرجال، وإنما يحتاج الرجل من أصغريه لسانه وقلبه. فقال له رسول الله: إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: لا، بل الله تعالى جبلك عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله » والأناة على وزن قناة: التؤدة. وقد جاء: «التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة».

وفي رواية: «أنهم لما قدموا على رسول الله قال لهم: من القوم؟ قالوا: من ربيعة» أي وهو المراد بما في بعض الروايات ربيعة، فإنه من التعبير عن البعض بالكل.

وفي البخاري في الصلاة: «إن هذا الحي من ربيعة» أي إن هذا الحي من ربيعة وهو في الأصل اسم لمنزل القبيلة، سميت به القبيلة لأن بعضهم يحيا ببعض، قال: «خير ربيعة عبد القيس، مرحبا بالقوم» أي صادفتم رُحبا بضم الراء: أي سعة. وأول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن، وقد تكررت هذه الكلمة منه، قالها لابنة عمه أم هانىء رضي الله تعالى عنها. وقال لعكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه: «مرحبا بالراكب الهاجر» وقال لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها: «مرحبا بابنتي» وقال لشخص دخل عليه: «مرحبا، وعليك السلام».

ثم قال لهم: «غير خزايا، ولا ندامى» أي حالة كونكم سالمين من الخزي ومن الندم، وفي لفظ: «مرحبا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى، أنا حجيج من ظلم عبد القيس، فقالوا: يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة» أي من سفر بعيد، لأن مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. «وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام» أي وفي لفظ: «إلا في هذا الشهر الحرام» «وهو كمسجد الجامع ونساء مؤمنات» وهو شهر رجب للتصريح به في بعض الروايات.

وقال بعضهم: وفي هذا دليل على أن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت، وقبولها يقع برحمة الله، لأن مضر كانت تبالغ في تعظيم شهر رجب زيادة على بقية الأشهر الحرم ومن ثم قيل رجب مضر: «فأمرنا بأمر فصل» أي فاصل بين الحق والباطل «فقال: آمركم بأربع» أي بخصال أربع أو جمل أربع.

ففي بعض الروايات: «قالوا: حدثنا بجمل من الأمر، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» أي وفيه أن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمة الشهادة.

ووقع في البخاري في الزكاة زيادة واو قبل شهادة وهي زيادة شاذة لم يتابع عليها راويها: «وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس» أي لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، وهذا زائد على الأربع، ومن ثم قال بعضهم هو معطوف على قوله بأربع: أي آمركم بأربع وبأن تعطوا، ومن ثم غاير في الأسلوب.

وفي مسلم: «آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم» ولم يذكر الحج، لأنه لم يكن فرض على الصحيح كما قال الحافظ الدمياطي رحمه الله، وهو بناء على الأصح أنه فرض سنة ست. وقول الواقدي إن قدوم وفد عبد القيس كان في سنة ثمان ليس بصحيح، لكن ذكر بعضهم أن لعبد القيس وفدتين، واحدة كانت قبل فرض الحج، وواحدة بعده. ومن ثم جاء ذكر الحج في مسند الإمام أحمد، وهو «وأن تحجوا البيت» وأنه لم يتعرض في هذه الرواية لعدد: أي لقوله أربع، ثم قال لهم: «وأنهاكم عن أربع، عن الدبا» أي القرع: أي عما ينبذ فيها «والحنتم» وهو جرار مدهونة بدهان أخضر: أي عما ينبذ فيها: أي وقيل الحنتم جرار كانت تعمل من طين وشعر وأدم «والنقير» أصل النخلة ينقر وينبذ فيه التمر، أي ما ينبذ في ذلك «والمزفت» ما طلي بالزفت أي عما ينبذ فيه. وفي رواية زيادة على ذلك «والقير» ما طلي بالقار، وهو نبت يحرق إذا يبس وتطلى به السفن كما تطلى بالزفت، زاد في رواية: «وأخبروا بهن من وراءكم» أي من جئتم من عندهم، ومن يحدث من الأولاد «قالوا: فيم نشرب يا رسول الله؟ قال: في أسقية الأدم» أي الجلود التي يلاث: أي يربط على أفواهها «قالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان»، أي الفيران: أي لا تبقي فيها أسقية الأدم، قال «وإن أكلها الجرذان، قال ذلك مرتين أو ثلاثا» فقال له الأشج «يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة، وإنا إذا لم نشرب هذه الأشربة عظمت بطوننا، فرخص لنا في مثل هذه، فأومأ بكفيه

وقال له: يا أشج إن رخصت لك في مثل هذه شربته في مثل هذه وفرج بين يديه وبسطها» يعني أعظم منها: «حتى إذا ثمل» أي سكر «أحدكم من شرابة قام إلى ابن عمه فضرب ساقه بالسيف» وكان في القوم رجل وقع له ذلك أي وهو جهم بن قثم، قال: لما سمعت ذلك من رسول الله جعلت أسدل ثوبي لأغطي الضربة وقد أبداها الله لنبيه، أي وفي كلام السهيلي: فعجبوا من علم النبي بذلك، وإشارته إلى ذلك الرجل هذا كلامه.

أي وفي رواية: «أنهم سألوه عن النبيذ، فقالوا: يا رسول الله إن أرضنا أرض وخمة لا يصلحها إلا النبيذ، قال: فلا تشربوا في النقير، فكأني بكم إذا شربتم في النقير قام بعضكم إلى بعض بالسيوف، فضرب رجلا منكم ضربة لا يزال يعرج منها إلى يوم القيامة فضحكوا، فقال: ما يضحككم؟ قالوا: ولقد شربنا في النقير فقام بعضنا إلى بعض بالسيوف فضرب هذا ضربة بالسيف فهو أعرج كما ترى، ثم ذكر لهم أنواع تمر بلدهم، فقال: لكم تمرة تدعونها كذا وتمرة تدعونها كذا، فقال له رجل من القوم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو كنت ولدت في جوف هجَر ما كنت بأعلم منك الساعة، أشهد أنك رسول الله، فقال لهم رسول الله: «إن أرضكم رفعت إليّ منذ قعدتم، أي فنظرت من أدناها إلى أقصاها وقال لهم: خير تمركم البرني، يذهب بالداء ولا داء معه» أي وإنما اقتصر في المناهي على شرب الأنبذة في الأوعية المذكورة مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم لكثرة تعاطيهم لها.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها أنه يسرع فيها الإسكار، فربما يشرب منها من لا يشعر بذلك.

وكان في عبد القيس أبو الوازع بن عامر وابن أخته مطر بن هلال، ولما ذكروا للنبي أنه ابن أختهم قال: «ابن أخت القوم منهم» وكان فيهم ابن أخي الوازع وكان شيخا كبيرا مجنونا جاء به الوازع معه ليدعو له، فمسح ظهره ودعا له، فبرأ لحينه وكسي شبابا وجمالا حتى كأن وجهه وجه العذراء.

وجاء: «أنه زودهم الأراك يستاكون به وذكر أنه كان فيهم غلام ظاهر الوضاءة فأجلسه النبي خلف ظهره، وقال: إنما كان خطيئة داود عليه الصلاة والسلام النظر».

ومنها وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب، قيل جاء بنو حنيفة إلى رسول الله ومعهم مسيلمة الكذاب، يسترونه بالثياب، وكان رسول الله جالسا في أصحابه رضي الله تعالى عنهم معه عسيب من عسب النخل في رأسه خويصات، فلما انتهى مسيلمة إلى رسول الله وهم يسترونه بالثياب، كلمه وسأله أن يشركه معه في النبوة، فقال له رسول الله : لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه.

وقيل إن بني حنيفة جعلوه في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبنا في رحالنا يحفظها لنا فأمر له بمثل ما أمر به لواحد من القوم، وهو خمس أواق من فضة، وقال: أما إنه ليس بشركم مكانا، فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه، فقال: إنما قال ذلك لأنه عرف أن لي الأمر من بعده، فلما رجعوا وانتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وكذب، وادعى أنه أشرك معه في النبوة وقال لمن وفد معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: أما إنه ليس بشركم مكانا ما ذاك إلا لما كان يعلم أني أشركت معه في الأمر. أي وهو إنما أراد بذلك أنه حفظ ضيعة أصحابه، هذا.

وفي الصحيحين: «أنه أقبل ومعه ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه وفي يد النبي قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، أي فإنه بلغه عنه أنه قال: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته «وإني لأراك الذي منه رأيت» وهذا قيس يجيبك عني ثم انصرف».

والذي رآه منه أنه رأى في المنام أن في يده سوارين من ذهب قال: فأهمني شأنهما فأوحى الله إلي في المنام: أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي: أي وهما طليحة العبسي صاحب صنعاء، ومسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، فإن كلا منهما ادعى النبوة في حياته. وكان طليحة العبسي يقول: إن ملكا كان يقال له ذو النون يأتيني كما يأتي جبريل محمدا، فلما بلغه ذلك، قال: لقد ذكر ملكا عظيما في السماء يقال له ذو النون. وجمع بعضهم بين هذا الذي في الصحيحين وما هنا بأنه يجوز أن يكون مسيلمة قدم مرتين: الأولى كان تابعا ومن ثم كان في حفظ الرحال، والثانية كان متبوعا ولم يحضر أنفة منه واستكبارا، وعامله معاملة الإكرام على عادته في الاستئلاف فأتى إلى قومه وهو فيهم كذا قيل.

ولا يخفى أن قوله ولم يحضر يقتضي أنه لم يجىء إلى النبي في المرتين، وتقدم أنه جاء إليه وهم يسترونه بالثياب، وهذا: أي ستره بالثياب وهو المناسب لكونه متبوعا ثم صار مسيلمة لعنه الله يتكلم بالهذيان يضاهي به القرآن. فمن ذلك قوله قبحه الله: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمه تسعى من بين شغاف وحشا، وقال: والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. والخابزات خبزا. والثاردات ثردا. واللاقمات لقما. ووضع عنهم الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا. وقيل إنه لعنه الله طلب منه أن يتفل في بئر تبركا ففعل فملح ماؤها. ومسح رأس صبي فصار أقرع قرعا فاحشا. ودعا لرجل في بنين له بالبركة فيهما، فرجع الرجل إلى منزله فوجد أحدهما قد سقط في بئر والآخر أكلة الذئب. ومسح على عيني رجل للاستشفاء بمسحة فابيضت عيناه، فعل ذلك مضاهاة للنبي. وهذا السياق يرشد إلى أنه كان برأس ذلك الصبي قرع يسير فمسح عليه للأستشفاء، ثم أظهر معجزة بزعمه. وهو أنه أدخل بيضة في قارورة وافتضح بأن البيضة بنت يومها إذا ألقيت في الخل والنوشادر يوما وليلة فإنها تمتد كالخيط. فتجعل في القارورة ويصب عليها ماء فتجمد، وبهذا يردّ على من رثاه من بني حنيفة بقوله:

لهفي عليك أبا ثمامة ** كم آية لك فيهمو

كالشمس تطلع من غمامة

فبقال له: كذبت، بل كانت آياته معكوسة.

قال: وكتب مسيلمة قبحه الله إلى النبي كتابا فقال: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد ـ فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأمر، وليس قريش قوما يعدلون، وبعث رجلين. فكتب إليه رسول الله: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى. أما بعد ـ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ثم قال للرجلين: وإنما تقولان مثل ما يقول؟ قالا نعم، قال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما انتهى.

ومنها وفد طيىء، وفيهم زيد الخيل رضي الله تعالى عنه. وفد عليه، وفيهم قبيصة بن الأسود، وسيدهم زيد الخيل. قيل له ذلك، لخمسة أفراس كانت له: أي ولو كان وجه التسمية يلزم اطراده لقيل للزبرقان بن بدر زبرقان الخيل.

فقد قيل: إنه وفد على عبد الملك بن مروان وقاد إليه خمسة وعشرين فرسا، ونسب كل واحدة من تلك الأفراس إلى آبائها وأمهاتها، وحلف على كل فرس يمينا غير اليمين التي حلف بها على غيرها، فقال عبد الملك: عجبي من اختلاف أيمانه أشدّ من عجبي من معرفته بأنساب الخيل.

وكان زيد الخيل شاعرا خطيبا بليغا جوادا، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال في حق زيد الخيل: «ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما قيل فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ أي ما قيل فيه كل ما فيه» وسماه زيد الخير، أي فإنه قال له وهو لا يعرفه: «الحمد لله الذي أتى بك من سهلك وحزنك، وسهل قلبك للإيمان، ثم قبض على يده، فقال: من أنت؟ قال: أنا زيد الخيل بن مهلهل، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، فقال له: بل أنت زيد الخير، ثم قال: يا زيد ما أخبرت عن رجل قط شيئا إلا رأيته دون ما أخبرت عنه غيرك أي وأجاز كل واحد منهم خمس أواق، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشا: أي وأقطعه محلين من أرضه، وكتب له بذلك كتابا، ولما خرج من عند رسول الله متوجها إلى قومه قال رسول الله: «إن ينجو زيد من الحمى» أي ما ينجو منها، ففي أثناء الطريق أصابته الحمى، أي وفي لفظ أنه قال له: يا زيد تقتلك أم ملدم يعني الحمى.

وفي رواية أن زيد الخيل لما قام من عنده وتوجه إلى بلاده، قال: «أيّ فتى إن لم تدركه أم كلبة» يعني الحمى، والكلبة الرعدة.

وفي رواية: «ما قدم عليّ رجل من العرب يفضله قومه إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد، فإن ينج زيد من حمى المدينة فلأمر ما هو».

قال: ولما مات أقام قبيضة بن الأسود الناحة عليه سنة، ثم وجه براحلته ورحله. وفيه كتاب رسول الله الذي أقطعه فيه محلين بأرضه، فلما رأت امرأته الراحلة ضرمتها بالنار، فاحترقت واحترق الكتاب انتهى.

وفي كلام السهيلي: وكتب له كتابا على ما أراد وأطعمه قرى كثيرة منها فدك، هذا كلامه. وقيل بقي إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنهما.

ومنها وفود عدي بن حاتم الطائي. حدث عديّ رضي الله تعالى عنه قال: كنت امرأ شريفا في قومي، آخذ المرباع من الغنائم كما هو عادة سادات العرب في الجاهلية: أي وهو ربع الغنيمة كما تقدم، فلما سمعت برسول الله كرهته، ما من رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله حين سمع به مني، فقلت لغلام كان راعيا لإبلي: لا أبا لك اعزل من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتسبها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني ففعل، ثم إنه أتاني ذات يوم، فقال يا عديّ ما كنت صانعا إذا غشيك محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد. فقلت له قرب لي أجمالي، فقرّبها فاحتملت أهلي وولدي، والتحقت بأهل ديني من النصارى بالشام، وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فأصيبت فيمن أصيب: أي سبيت فيمن أصيب من الحاضر، فلما قدمت في السبايا على رسول الله وبلغ رسول الله هربي إلى الشام منّ عليها رسول الله وكساها، وحملها، وأعطاها نفقة، وخرجت إلى أن قدمت عليّ الشام، فوالله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت إلى ظغينة تؤمنا، فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي. فلما وقعت عليّ قالت: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وقطعت بقية والديك وعورتك، فقلت: أي أخية، لا تقولي إلا خيرا فوالله ما لي من عذر، ولقد صنعت ما ذكرت، ثم نزلت وأقامت عندي. فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فأنت أنت. فقلت والله إن هذا للرأي، أي ولعلها لم تظهر له إسلامها لئلا ينفر طبعه من قولها له إن يكن نبيا أي على الفرض والتنزل تحريضا له على اللحوق به، فخرجت حتى جئته بالمدينة فدخلت عليه. فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم فقام رسول الله

وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لقائدني إليه إذ لقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. فقلت ما هو بملك، ثم مضى رسول الله حتى إذا دخل بيته تناول وسادة بيده من أدم محشوة ليفا فقدمها إليّ وقال: اجلس على هذه. فقلت بل أنت فاجلس عليها، قال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله بالأرض. فقلت والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال لي ما معناه: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم قالها ثلاثا. فقلت: إني على دين، قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت أنت أعلم بديني؟ قال نعم ألست من الركوسية: ألست من القوم الذين لهم دين؟ لأنه تقدم أنه كان نصرانيا. فقلت بلى، فقال: ألم تكن تسير في قومك بالمرباع، أي تأخذ ربع الغنيمة كما هو شأن الأشراف من أخذهم في الجاهلية ربع الغنيمة؟ قلت بلى. قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك. فقلت: أجل والله وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال: لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى، تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب مع حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن تفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك أنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، أتعرف الحيرة؟ قلت لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوالله، وفي لفظ: فوالذي نفسي بيده ليتمن هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد.

وفي رواية: ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية: أي وهي قرية بينها وبين الكوفة نحو مرحلتين ـ على بعيرها حتى تزور البيت، أي الكعبة لا تخاف ـ ولعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم. قال عدي: وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تحج بالبيت وايم الله لتكونن الثانية ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.

ومنها وفود فروة بن مسيك المرادي، وفد على رسول الله فروة مفارقا لملوك كندة، وكان بين قومه مراد وبين همدان قبيل الإسلام وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا في يوم يقال الردم، وقال له رسول الله : هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم. فقال: يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم ولا يسؤوه. فقال له رسول الله : أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا، واستعمله على مراد وزبيد، وبعث معه خالد بن سعيد العاص على الصدقة فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله، وقال فروة عند توجهه إلى رسول الله :

لما رأيت ملوك كندة أعرضت ** كالرجل خان الرجل عرق نسائها

فركبت راحلتي أؤمّ محمدا ** أرجو فواضلها وحسن ثوابها

ومنها وفد بني زبيد بضم الزاي وفتح الموحدة. وفد بنو زبيد على رسول الله، وفيهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وكان فارس العرب مشهورا بالشجاعة، شاعرا مجيدا، قال لابن أخيه قيس المرادي: إنك سيد قومك وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول إنه نبيّ فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى عليك، وإذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه. فركب عمرو رضي الله تعالى عنه حتى قدم على رسول الله مع قومه فأسلم، فلما بلغ ذلك قيسا قال: خالفني وترك أمري ورأيي، وتوعد عمرا، فقال عمرو في قيس أبياتا منها:

فمن ذا عاذري من ذي سفاه ** يريد بنفسه شدّ المزاد

أريد حياته ويريد قتلي ** عذيرك من خليلك من مرادي

أي وبعد موته ارتد عمرو هذا مع الأسود العبسي، ثم أسلم وحسن إسلامه، وشهد فتوحات كثيرة في أيام الصديق وأيام عمر رضي الله تعالى عنهما.

وعن ابن إسحاق: قيل إن عمرو بن معد يكرب لم يأت النبي، وأسلم قيس بعد ذلك، قيل له صحبة، وقيل لا.

ومنها وفد كندة، أي وله جدّة منهم، وهي أمّ جدّه كلاب. وفد عليه ثمانون، أي وقيل ستون من كندة فيهم الأشعث بن قيس، وكان وجيها مطاعا في قومه، وفي الإمتاع وهو أصغرهم. فلما أرادوا الدخول عليه رجلوا: أي سرحوا جممهم. أي شعور رؤوسهم، أي الساقطة على مناكبهم، وتكحلوا، ولبسوا عليهم جبب الحِبَرة أي بوزن عنبة: برود اليمن المخططة، قد كففوها: أي سجفوها بالحرير. فلما دخلوا على رسول الله، أي وعند ذلك قالوا: أبيت اللعن، فقال رسول الله : لست ملكا أنا محمد بن عبد الله. قالوا: لا نسميك باسمك، قال: أنا أبو القاسم. فقالوا: يا أبا القاسم إنا خبأنا لك خبئا فما هو؟ وكانوا خبؤوا لرسول الله عين جرادة في ظرف سمن، فقال رسول الله : سبحان الله، إنما يفعل ذلك بالكاهن، وإن الكاهن والكهانة والمتكهن في النار، فقالوا: كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ رسول الله كفا من حصباء فقال: هذا يشهد أني رسول الله، فسبح الحصى في يده، فقالوا: نشهد أنك رسول الله، قال رسول الله : إن الله بعثني بالحق وأنزل عليّ كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقالوا: أسمعنا منه، فتلا رسول الله: {والصافات صفا} حتى بلغ {رب المشارق} ثم سكت رسول الله وسكن بحيث لا يتحرك منه شيء ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنا نراك تبكي، أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ فقال: إن خشيتي منه أبكتني، بعثني على صراط مستقيم في مثل حد السيف، إن زغت عنه هلكت، ثم تلا: {ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك} الآية، ثم قال لهم: ألم تسلموا؟ قالوا بلى، قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم. فعند ذلك شقوه منها وألقوه.

وفيه أن هذا يخالف ما قاله فقهاؤنا معاشر الشافعية من جواز التسجيف بالحرير، إلا أن يقال الجواز مخصوص، بأن لا يجاوز الحد اللائق بالشخص، ولعل سجفهم جاوزت الحد اللائق بهم وقد قال الأشعث له: نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار، يعني جدته أم كلاب، فقد تقدم أنها من كندة، وقيل إنما قال ذلك الأشعث، لأن عمه العباس بن عبد المطلب كان إذا دخل حيا من أحياء العرب، لأنه كما تقدم كان تاجرا، فإذا سئل من أين؟ قال: أنا ابن آكل المرار ليعظم، يعني انتسب إلى كندة، لأن كندة كانوا ملوكا فاعتقدت كندة أن قريشا منهم لقول العباس المذكور، فقال له: لا، نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو أمنا ولا ننتفي من آبائنا: أي لا ننتسب إلى الأمهات ونترك النسب إلى الآباء.

والأشعث هذا ممن ارتد بعد موت النبي، ثم دعا إلى الإسلام في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي فإنه حوصر، ثم جيء به أسيرا، فقال للصديق حين أراد قتله: استبقني لحروبك وزوّجني أختك، فزوجه أخته أم فروة فدخل سوق الإبل بالمدينة واخترط سيفه، فجعل لا يرى جملا إلا عرقبه، فصاح الناس: كفر الأشعث، فلما فرغ طرح سيفه وقال: والله ما كفرت إلا أن الرجل يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه زوجني أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه وقال: يا أهل المدينة انحروا وكلوا، وأعطى أصحاب الإبل أثمانها، قال: وقال للأشعث: «هل لك من ولد؟ فقال: لي غلام ولد لي عند مخرجي إليك لوددت أن لي به لسبعة، فقال: إنهم لمجبنة مبخلة محزنة، وإنهم لقرة العين، وثمرة الفؤاد» انتهى.

ومنها وفد أزد شنوءة. وفد إلى رسول الله جمع من الأزد وفيهم صرد بن عبد الله الأزدي أي وكان أفضلهم، فأمّره على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فخرج حتى نزل بجُرَش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة وهي مدينة بها قبائل من قبائل اليمن وحاصرها المسلمون قريبا من شهر ثم رجعوا عنها، حتى إذا كانوا بجبل يقال له شَكَر بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين، وقيل بإسكان الكاف، فلما وصلوا ذلك المحل ظن أهل جرش أن المسلمين رضي الله تعالى عنهم إنما رجعوا عنهم منهزمين، فخرجوا في طلبهم حتى إذا أدركوهم عطفوا عليهم فقتلوهم قتلا شديدا.

وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله بالمدينة يرتدان: أي ينظران الأخبار، فينما هما عند رسول الله إذ قال رسول الله : بأيّ بلاد الله شكر؟ فقام إليه رجلان فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له كشر، فقال إنه ليس بكشر ولكنه شكر، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال إن بدن الله لتنحر عنده الآن، وأخبرهما الخبر، فخرجا من عند رسول الله راجعين إلى قومهما فوجد قومهما قد أصيبوا في اليوم والساعة التي قال فيها رسول الله ما قال، وعند إخبارهما لقومهما بذلك وفد وفد جرش على رسول الله فأسلموا، فقال رسول الله : مرحبا بكم أحسن الناس وجوها، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاما، وأعظمه أمانة، أنتم مني وأنا منكم، وحمى لهم حمى حول بلدهم.

ومنها وفد رسول ملوك حمير، وحامل كتابهم إليه، وفد على رسول الله رسول ملوك حمير وحامل كتابهم إليه بإسلام الحارث بن عبد كلال بضم الكاف.

وقد اختلف في كون الحارث له وفادة فهو صحابي أولا، والنعمان ومعافر بالفاء مكسورة وهمدان، أي بإسكان الميم وفتح الدال المهملة وهي قبيلة.

وأما هَمذان بفتح الميم والذال المعجمة فقبيلة بالعجم، فكتب إليهم رسول الله : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال وإلى النعمان ومعافر وهمدان، أما بعد: فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم: أي رجوعنا من غزوة تبوك، فلقيناه بالمدينة فبلغ ما أرسلتم به وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وإن الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم النبي وصفيٌه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة. أما بعد: فإن محمدا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن. وفي الاستيعاب: زرعة بن سيف ذي يزن. وفي كلام الذهبي: زرعة بن سيف ذي يزن أن: إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيرا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرارة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم بالخاء المعجمة جمع مخلاف، وأبلغوها رسلي، وأن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله.

ثم إن مالك بن كعب بن مرارة قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير وقتلت المشركين: فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخونوا، ولا تخاذلوا بضم التاء المثناة الفوقية وكسر الذال. ويجوز أن يكون بفتح المثناة وفتح الدال محذوف إحدى التاءين، فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته إنما هي زكاة يزكي بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ومنها وفد رسول بن عمرو الجذامي: وفد رسول الله فروة إلى رسول يخبره بإسلامه: وأهدى له بغلة بيضاء: أي يقال لها فضة وحمارا يقال له يعفور وفرسا يقال له الظرب وثيابا وقباء مرصعا بالذهب.

وكان فروة رضي الله تعالى عنه عاملا للروم على ما يليهم من العرب، فلما بلغ الروم إسلامه أخذوه وحبسوه، ثم ضربوا عنقه وصلبوه أي بعد أن قال له الملك ارجع عن دين محمد ونحن نعيدك إلى ملكك قال: لا أفارق دين محمد، فإنك تعلم أن عيسى عليه الصلاة والسلام بشَّر به، ولكنك تضنّ بملكك.

ومنها وفد بني الحارث بن كعب بعث رسول الله خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، وقال له: إن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد رضي الله تعالى عنه حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا فأسلموا، فقام فيهم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهم يعلمهم الإسلام، أي شرائعه، وكتب إلى رسول الله بذلك فكتب له رسول الله أن يُقبل ويقبل معه وفدهم. فأقبل رضي الله تعالى عنه ومعه وفدهم، وفيهم قيس بن الحصين ذو الغصة بالغين المعجمة. أي لأنه كان في حلقه غصة لا يكاد يبين الكلام منها. وهي صفة لأبيه الحصين. وربما وصف بها قيس. قال في النور: ويحتمل أن يقال له ذو الغصة وابن ذي الغصة لأنه وأباه كانت بهما الغصة وفيه بعد.

وحين اجتمعوا به قال لهم: بمَ كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم. قال صدقتم. وأمر عليهم زيد بن الحصين، ولم يمكثوا بعد رجوعهم إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله.

ومنها أنه وفد عليه رفاعة بن زيد الخزاعي. وفد رفاعة بن زيد الخزاعي بالخاء المعجمة والزاي على رسول الله، وأهدى لرسول الله غلاما فأسلم وحسن إسلامه، وكتب له رسول الله كتابا إلى قومه «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله وإلى رسوله، فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين» فلما قدم رفاعة رضي الله تعالى عنه على قومه أجابوا وأسلموا.

ومنها وفد همدان. وفد على رسول الله جمع من همدان فيهم مالك بن نمط وكان شاعرا مجيدا، فلقوا رسول الله مرجعه من تبوك، عليهم مقطعات من الحبرات بكسر الحاء المهملة: ثياب قصار. وقيل مخططة من برود اليمن. والعمائم العدنية نسبة إلى عدن مدينة باليمن، سميت بذلك لأن تبعا كان يحبس فيها أرباب الجرائم. وفدوا إليه على الرواحل المهرية والأرحبية. والمهرية: نسبة إلى قبيلة يقال لها مهرة باليمن والأرحبية: نسبة إلى أرحب وصار مالك بن نمط يرتجز: أي يقول الرجز بين يدي رسول الله فيقول:

إليك جاوزنا سواد الريف ** في هبوات الصيف والخريف

مخطمات بجبال الليف ومن شعره:

حلفت برب الراقصات إلى منى ** صوادر بالركبان من هضْب قردد

بأن رسول الله فينا مصدق ** رسول أتى من عند ذي العرش مهتد

فما حملت من ناقة فوق رحلها ** أشد على أعدائه من محمد

وقد أمره على من أسلم من قومه، وأمره بقتال ثقيف، فكان لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه كذا في الأصل.

وفي الهدى: روى البيهقي بإسناد صحيح أن رسول الله بعث خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى من ذكر يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه. ثم إنه بعث عليا كرم الله وجهه وأمر خالدا بالرجوع إليه وأن من كان مع خالد إن شاء بقي مع عليّ وإن شاء رجع مع خالد، فلما دنا من القوم خرجوا إليه، فصف علي كرم الله وجهه أصحابه صفا واحدا، ثم تقدم بين أيديهم وقرأ عليهم كتاب رسول الله فأسلموا جميعا، وكتب بذلك لرسول الله، فلما قرأ رسول الله الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه، ثم قال: السلام على همدان، السلام على همدان وهذا أصح، لأن همدان لم تكن تقاتل ثقيفا، فإن همدان ياليمن وثقيفا بالطائف.

أي وجاء أنه قال: نعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد. وفيهم أبدال وفيهم أوتاد.

ومنها وفد تُجيب أي بضم المثناة فوق وتحتية ويجوز الفتح، وهي قبيلة من كندة. وفد على رسول الله وفد تجيب وقد كانوا ثلاثة عشر رجلا، وقد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسرّ رسول الله بهم وأكرم مثواهم. وقالوا: يا رسول الله إنا سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله : ردوها فاقسموها على فقرائكم، قالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، أي وفضل بفتح الضاد وكسرها، قال أبو بكر: يا رسول الله ما قدم علينا وفد من العرب مثل هذا الوفد، فقال رسول الله : إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله فيهم رغبة، وأرادوا الرجوع إلى أهليهم فقيل له ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤية رسول الله وتلاقينا إياه وما ورد علينا، ثم جاؤوا إلى رسول الله فودعوه، فأرسل إليهم بلالا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، ثم قال لهم رسول الله هل بقي منكم أحد؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنا، قال: فأرسلوه إلينا، فأرسلوه فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله، وقال: يا رسول الله أنا من الرهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم، فاقضِ حاجتي؟ قال: وما حاجتك قال: تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، ويجعل غناي في قلبي، فقال رسول الله : اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه.

ثم إنهم بعد ذلك وافوا رسول الله بمنى في الموسم إلا ذلك الغلام، فقال لهم رسول الله : ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لولا أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها فقال رسول الله : الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا، فقال رجل منهم، أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله؟ فقال رسول الله : تَشَعَب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل الأجل يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبال الله عز وجل في أيها هلك.

ولما توفي رسول الله ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام ذلك الغلام في قومه فذكرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يذكر ذلك الغلام ويسأل عنه، ولما بلغه ما قام به كتب إلى زياد بن الوليد أي وكان واليا على حضرموت يوصيه به خيرا.

ومنها وفد بني ثعلبة. وفد على رسول الله مرجعه من الجعرانة أربعة نفر من بني ثعلبة: أي مقرين بالإسلام، فإذا رسول الله قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء. قال بعضهم: فرمى ببصره إلينا فأسرعنا إليه وبلال يقيم الصلاة، فسلمنا عليه وقلنا يا رسول الله إنا رسل من خلفنا من قومنا، ونحن مقرون بالإسلام وقد قيل لنا إن رسول الله يقول: لا إسلام لمن لا هجرة له، فقال رسول الله : حيثما كنتم واتقيتم الله فلا يضركم، أي ثم صلى رسول الله بنا الظهر ثم انصرف إلى بيته فلم يلبث أن خرج إلينا فدعا بنا، فقال: كيف بلادكم؟ فقلنا مخصبون، فقال: الحمد لله، فأقمنا أياما وضيافته تجري علينا، ثم لما جاؤوا يودعونه قال لبلال أجزهم، فأعط كل واحد منهم خمس أواق فضة أي والأوقية أربعون درهما.

ومنها وفد بني سعد هذيم من قضاعة. عن النعمان رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على رسول الله وافدا في نفر من قومي وقد أوطأ رسول الله البلاد: أي جعلها موطأة قهرا وغلبة، وأزاح العرب: أي استولى عليها والناس صنفان إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فنجد رسول الله يصلي على جنازة في المسجد، أي وهو سهيل بن البيضاء، لأنه لم يصل في مسجده على جنازة إلا عليه رضي الله تعالى عنه. وما وقع له في مسلم أنه صلى فيه على سهيل وأخيه نظر فيه مع أن فقهاءنا ذكروه وأقروه، فقمنا خلفه ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم. وقلنا حتى يصلي رسول الله ونبايعه.

ثم انصرف رسول الله، فنظر إلينا، فدعا بنا فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من بني سعد هذيم، فقال: أمسلمون أنتم؟ قلنا: نعم، فقال: هلا صليتم على أخيكم؟ قلنا: يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، فقال رسول الله : أيما أسلمتم فأنتم مسلمون قال: فأسلمنا وبايعنا رسول الله بأيدينا على الإسلام، ثم انصرفنا إلى رحالنا وقد كنا خلفنا عليها أصغرنا، فبعث رسول الله في طلبنا، فأتى بنا إليه، فتقدم صاحبنا فبايعه على الإسلام. فقلنا: يا رسول الله إنه أصغرنا، وأنه خادمنا فقال «سيد القوم خادمهم، بارك الله عليه» قال النعمان رضي الله تعالى عنه: فكان والله خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء رسول الله له، ثم أمره علينا فكان يؤمنا فلما أردنا الانصراف أمر بلالا فأجازنا بأواق من فضة، لكل رجل منا، فرجعنا إلى قومنا.

ومنها وفد بني فزارة. وفد عليه بضعة عشر رجلا من بني فزارة فيهم خارجة بن حصن أخو عيينة بن حصن وابن أخيه الجد بن قيس بن حصن وهو أصغرهم مقرين بالإسلام وهم مسنتون: أي توالى عليهم الجدب على ركائب عجاف: أي هزال، فسألهم رسول الله عن بلادهم؟ فقال رجل منهم: أي وهو خارجة: أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا: أي ما حولنا وغرثت ( ) أي جاعت عيالنا فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك فقال رسول الله: «سبحان الله ويلك يا هذا أنا أشفع إلى ربي عز وجل، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه! لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه: أي علمه، كذا قيل. وقيل موضع قدميه السموات والأرض: أي أحاط بالسموات والأرض، وهو دون العرش كما جاءت الآثار، فهي تئط: أي تصوت من عظمته وجلاله كما يئط الرحل بالحاء المهملة» الحديث: أي من ثقل الحمل.

وقال رسول الله «إن الله ليضحك من شغفكم وأزلكم: أي شدة ضيقكم وجدبكم، وقرب غياثكم، فقال الأعرابي: لن نعدم من رب يضحك خيرا، فضحك رسول الله من قوله، وصعد المنبر فتكلم بكلمات، وكان لا يرفع يديه: أي الرفع البالغ في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فرفع يديه حتى رُئِيَ بياض إبطيه. أي وفي النور: وقد جوزت وجها وهو أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه في الاستسقاء يعني ظهور كفيه إلى السماء كما في مسلم، أي فيكون التقدير: لا يرفع ظهور كفيه إلى السماء إلا في الاستسقاء.

وأقول: فيه أن هذا يقتضي أنه يفعل ذلك، وإن كان استسقاؤه لطلب حصول شيء كما في دعائه في هذا الاستسقاء فإنه متضمن للحصول.

وقد ذكر في النور أن ما كان الدعاء فيه لطلب شيء كان ببطون الكفين إلى السماء.

والظاهر أن مستند ذلك استقراء حاله في الدعاء في الاستسقاء وغيره فليتأمل، والله أعلم.

ومما حفظ من دعائه: «اللهم أسق» بقطع الهمزة ووصلها «بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا» أي مطرا «مغيثا مُرْبعا» بضم الميم وإسكان الراء، وبالموحدة مكسورة وبالعين المهملة: مسرعا لإخراج الربيع «مرتعا» بالتاء المثناة فوق من رتعت الدابة: إذا أكلت ما شاءت «طبقا» أي مستوعبا للأرض منطبقا عليها، واسعا «عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار. اللهمّ اسقنا رحمة، ولا نسقنا عذابا، ولا هدما، ولا غرقا، ولا محقا. اللهمّ أسقنا الغيث، وأنصرنا على الأعداء. فقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله التمر في المرابد، أي وتكرر ذلك منه ومن أبي لبابة ثلاث مرات، فقال رسول الله: «اللهم أسقنا الغيث حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده، أي المحل الذي يخرج منه ماء المطر بإزاره فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فوالله ما رأينا الشمس سبتا» أي من السبت إلى السبت الآخر، وقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.

وفي بعض الروايات: «فأمطرت السماء وصلى بنا رسول الله، ثم طاف الأنصار بأبي لبابة رضي الله تعالى عنهم يقولون له: يا أبا لبابة إن السماء والله لن تقلع حتى تقوم عريانا تسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله، فقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره فأقلعت السماء» وحينئذ يكون قول الراوي لئلا يخرج منه التمر بحسب ما فهم، ويكون قول الصحابة: فوالله ما رأينا الشمس سبتا كان في قصة غيرها فخلط بعض الرواة: فجاء ذلك الرجل أو غيره. والذي في الصحيح أنه الرجل الأول.

وذكر بعض الحفاظ: «أنه خارجة بن حصن، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فصعد رسول الله المنبر، فدعا ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه» وهو أي بياض الإبط معدود من خصائصه «ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الإكام» بكسر الهمزة، جمع أكمة: وهي التل المرتفع «والظراب» بكسر الظاء المشالة جمع ظرب بفتحها: الروابي الصغار «وبطون الأودية، ومنابت الشجر فانجابت السحابة» أي أقلعت عن المدينة انجياب الثوب.

أقول: لعل هذا المطر كان عاما للمدينة وما حولها حتى وصل إلى محل هؤلاء الوفد، وإلا فهم إنما طلبوا حصول المطر لمحلهم، ولا يلزم من وجوده بالمدينة وجوده بمحلهم إلا إذا كان قريبا بالمدينة بحيث إذا وجد المطر بها يوجد بمحلهم غالبا، وقد أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى إلى هذه القصة بقوله:

ودعا للأنام إذ دهمتهم ** سنة من مخولها شهباء

فاستهلت بالغيث سبعة أيا ** م عليهم سحابة وطفاء

تتحرى مواضع الرعي والسقـ ** ـي وحيث العطاش توهي السقاء

وأتى الناس يشتكون أذاها ** ورخاء يؤذي الأنام غلاء

فدعا فانجلى الغمام فقل في ** وصف غيث إقلاعه استسقاء

ثم أثرى الثرى وقرت عيون ** بقراها وأحييت إحياء

فترى الأرض عنده كسماء ** أشرقت من نجومها الظلماء

يخجل الدر واليواقيت من نو ** ر رباها البيضاء والحمراء

ثم رأيت في الحدائق لابن الجوزي رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «أصابت الناس سنة على عهد رسول الله فبينا رسول الله يخطب على المنبر يوم الجمعة، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله يديه وما في السماء قزعة سحاب، فدار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن المنبر حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته الشريفة، قال: فمطرنا يومنا ذلك. ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، ادع الله لنا، فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا قال: فما جعل يشير بيديه إلى ناحية السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجونة حتى سال الوادي شهرا فلم يجىء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.

ثم رأيت بعضهم قال: أحاديث الاستسقاء ثابتة في الصحيحين. وظاهرها أنه تعدد، ففي بعضها أنه وقع وهو في خطبة الجمعة، وفي بعضها أنه صعد المنبر حين شُكي إليه فخطب ودعا.

وفي بعضها، أنه خرج إلى المصلى بعد أن وعد الناس يوما يخرج فيه ونصب له منبرا واستسقى وأجيبت دعوته ونزل المطر وجاء إليه أعرابي. وقال له: يا رسول الله أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صغير يغط، ثم أنشد شعرا يقول فيه:

وليس لنا إلا إليك فرارنا ** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل

فقام يجر رداءه حتى صعد المنبر فدعا فسقي، ثم قال: لو كان أبو طالب حيا لقرت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام علي كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله كأنك تريد قوله:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

الأبيات

فقال: «أجل».

وفي رواية: «لما جاءه المسلمون: وقالوا: يا رسول الله، قحط المطر، ويبس الشجر، وهلكت المواشي وأسنت الناس، فاستسق لنا ربك، فخرج والناس معه يمشون بالسكينة والوقار حتى أتوا المصلى، فتقدم فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب: و {سبح اسم ربك الأعلى}، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب و{هل أتاك حديث الغاشية}، فلما قضى صلاته استقبل الناس بوجهه وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب، ثم جثى على ركبتيه ورفع يديه وكبر تكبيرة، ثم قال: اللهم اسقنا، وأغثنا غيثا مغيثا رحيما واسعا وجدا، طبقا مغدقا عاما، هنيئا مريئا مربعا مرتعا وابلا، سائلا مسيلا، مجللا دائما، دارّا نافعا، غير ضار، عاجلا غير واب غيثا. اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد. اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل علينا سكنها. اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا، تحيي به بلدة ميتا واسعة، مما خلقت أنعاما وأناسيّ كثيرا، فما برحوا حتى أقبل قزع من السحاب فالتأم بعضه إلى بعض. ثم أمطرت سبعة أيام لا تقلع عن المدينة، فأتاه المسلمون فقالوا: قد غرقت الأرض، وتهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع لله يصرفها عنا، فضحك رسول الله وهو على المنبر حتى بدت نواجذه، تعجبا لسرعة ملالة ابن آدم. ثم رفع يديه، ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا. اللهم على رؤوس الظراب، ومنبت الشجر، وبطون الأودية، وظهور الآكام، فتقشعت عن المدينة ثم قال: لله در أبي طالب لو كان حيا قرت عيناه، من الذي ينشدنا قوله؟ فقام علي كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله كأنك أردت قوله فقال الأبيات.

ومنها وفد بني أسد. وفد على رسول الله رهط من بني أسد، منهم ضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد وطليحة بن عبد الله الذي ادعى النبوة بعد ذلك، ثم أسلم وحسن إسلامه، ومنهم معاذة بن عبد الله بن خلف.

وقد استهدى رسول الله منه ناقة تكون جيدة للركوب والحلب، من غير أن تكون لها ولد معها، فطلبها فلم يجدها إلا عند ابن عم له، فجاء بها إلى رسول الله، فحلبها فشرب منها ثم سقاه، ثم قال: اللهم بارك فيها وفيمن منحها، فقال: يا رسول الله وفيمن جاء بها، فقال: وفيمن جاء بها. ومنهم حضرمي بن عامر ورسول الله جالس في المسجد مع أصحابه، فسلموا عليه، وقال شخص منهم: يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا.

أي وفي لفظ إن حضرمي بن عامر قال: أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء: أي ذات قحط ولم تبعث إلينا. وفي رواية: يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك العرب، فأنزل الله تعالى على رسوله {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}.

وسألوه عما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من العيافة وهي زجر الطير، والتخرص على الغيب، والكهانة، وهي الإخبار عن الكائنات في المستقبل، وضرب الحصباء، فنهاهم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله خصلة بقيت، فقال: وما هي؟ قالوا الخط: أي خط الرمل ومعرفة ما يدل عليه، قال: علمه نبي، فمن صادف مثل علمه علم. أي وفي رواية لمسلم: فمن وافق خطه، أي علم موافق خطه فذاك: أي يباح له وإلا فلا يباح له إلا بتبيين الموافقة.

أي وفي شرح مسلم أن محصل مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه، أي لأنه لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة، وكأنه قال: لو علمتم موافقته، لكن لا علم لكم بها، وأقاموا أياما يتعلمون الفرائض، ثم جاؤوا رسول الله فودعوه وأمر لهم بجوائز ثم انصرفوا إلى أهليهم.

ومنها وفد بني عذرة: قبيلة باليمن، وفد على رسول الله اثنا عشر رجلا من بني عذرة، أي وسلموا بسلام الجاهلية فقال لهم رسول الله : من القوم؟ فقال قائلهم: من بني عذرة: أي أخو قصي لأمه: نحن الذين عضدوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، فلنا قرابات وأرحام، فقال رسول الله : مرحبا بكم وأهلا: أي لقيتم رحبا وأتيتم أهلا، فاستأنسوا ولا تستوحشوا، ما أعرفني بكم، قال: ثم قال لهم: فما يمنعكم من تحية الإسلام؟ قالوا: يا محمد كنا على ما كان عليه آباؤنا، فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولقومنا، وقالوا إلام تدعو؟ فقال رسول الله : أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تشهدوا أني رسول الله إلى الناس كافة، فقال متكلمهم: فما وراء ذلك؟ فقال رسول الله : الصلوات الخمس تحسن طهورهن وتصليهن لمواقيتهن فإنه أفضل العمل، ثم ذكر لهم باقي الفرائض من الصيام والزكاة والحج انتهى فأسلموا، وبشرهم رسول الله بفتح الشام عليهم، وهرب هرقل إلى ممتنع بلاده، ونهاهم عن سؤال الكاهنة: أي فقد قالوا: يا رسول الله إن فينا امرأة كاهنة قريش والعرب يتحاكمون إليها، أفنسألها عن أمور؟ فقال: لا تسألوها عن شيء. ونهاهم عن الذبائح التي كانوا يذبحونها إلى أصنامهم، وقالوا نحن أعوانك وأنصارك، ثم انصرفوا وقد أجيزوا، أي وكسا رسول الله أحدهم بردا.

ومنها وفد بني بليّ على وزن علي مكبرا، وهو حي من قضاعة. وفد على رسول الله وفد من بلي، منهم ـ وهو شيخهم ـ أبو الضبيب تصغير الضب: الدابة المعروفة، نزلوا على رويفع بن ثابت البلوي، وقدم بهم على رسول الله فقال له: هؤلاء قومي، فقال له رسول الله : مرحبا بك وبقومك، فأسلموا، وقال لهم رسول الله : الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فمن مات منكم على غير الإسلام فهو في النار.

قال: وفي رواية عن رويفع رضي الله تعالى عنه قال: قدم وفد قومي، فأنزلتهم عليّ، ثم خرجت بهم حتى انتهينا إلى رسول الله وهو جالس في أصحابه، فسلمنا عليه، فقال: رويفع؟ فقلت: لبيك، قال: من هؤلاء القوم؟ قلت: قومي يا رسول الله، قال: مرحبا بك وبقومك. قلت: يا رسول الله قدموا وافدين عليك مقرّين بالإسلام وهم على من وراءهم من قومهم، فقال رسول الله: «من يرد الله به خيرا يهديه للإسلام» فتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فجلس بين يدي رسول الله فقال: يا رسول الله إنا وفدنا إليك لنصدّقك، ونشهد أنك نبي حق، ونخلع ما كنا نعبد وكان يعبد آباؤنا، فقال: الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار انتهى. وقال له أبو الضبيب: يا رسول الله إن لي رغبة في الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال: نعم، وكل معروف صنعته إلى غنيّ أو فقير فهو صدقة، فقال: يا رسول الله ما وقت الضيافة؟ قال: ثلاثة أيام فما بعد ذلك صدقة، ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحوجك: أي يضيق عليك، أي وفي لفظ: فيؤثمك: أي يعرضك للإثم: أي تتكلم بسيء القول، قال: يا رسول الله أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض؟ قال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. قال: فالبعير؟ قال: ما لك وله؟ دعه يجده صاحبه. قال رويفع: ثم قاموا فرجعوا إلى منزلي، فإذا رسول الله يأتي منزلي يحمل تمرا، فقال: استعن بهذا التمر، فكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم ودعوا رسول الله، وأجازهم ورجعوا إلى بلادهم.

ومنها وفد بني مرة. وفد عليه ثلاثة عشر رجلا من بني مرة، رأسهم الحارث بن عوف، فقال: يا رسول الله إنا قومك وعشيرتك، نحن قوم من بني لؤي بن غالب، فتبسم رسول الله وقال للحارث: أين تركت أهلك؟ فقال: بسلاح وما والاها، فقال: كيف البلاد؟ فقال: والله إنا لمسنتون، وما في المال مح: أي صوت يردده فادع الله لنا، فقال رسول الله : اللهم اسقهم الغيث فأقاموا أياما، ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم، فجاؤوا رسول الله مودعين له فأمر بلالا أن يجيزهم، فأجازهم بعشرة أواق من فضة، وفضل الحارث بن عوف فأعطاه اثني عشر أوقية، أي وهذا يفيد أن كل واحد أعطي عشر أواق، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوا البلاد مطيرة، فسألوا قومهم متى مطرتم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا فيه رسول الله وأخصبت لهم بعد ذلك بلادهم.

ومنها وفد خولان، وهي قبيلة من اليمن. وفد على رسول الله عشرة من خولان، فقالوا: يا رسول الله نحن على من وراءنا من قومنا، ونحن مؤمنون بالله عز وجل، مصدقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباط الإبل وركبنا حزون الأرض وسهولها. وحزون كفلوس: وهو ما غلط منها، والمنة لله ولرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك. فقال رسول الله : أما ما ذكرتم من مسيركم إليّ، فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة. فقالوا: يا رسول الله، هذا السفر الذي لا توَى عليه: أي والتوى بفتح المثناة فوق وفتح الواو مقصورا: هو هلاك المال، ثم قال رسول الله : ما فعل عم أنس؟ وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه، قالوا: بشرّ بدلنا الله تعالى ما جئت به، وقد بقيت منا بعد بقايا شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به، ولو قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى فقد كنا منه في غرور وفتنة، فقال لهم رسول الله : وما أعظم ما رأيتم من فتنة؟ قالوا: لقد رأيتُنا بضم المثناة فوق، أسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه وابتعنا مائة ثور ونحرناها لعم أنس قربانا في غداة واحدة، وتركناها يردها السباع ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا الغيث يواري الرحال ويقول قائلنا أنعم علينا عم أنس، وذكروا لرسول الله ما كانوا يقسمون لهذا الصنم من أموالهم من أنعامهم وحرثهم، فقالوا: كنا نزرع الزرع، فنجعل له وسطه، فنسميه له ونسمي زرعا آخر حجرة: أي ناحية لله، فإذا مالت الريح بالذي سميناه له: أي لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذي سميناه لعم أنس لم نجعله لله، فذكر لهم رسول الله أن الله تعالى أنزل عليّ في ذلك {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} الآية، قالوا:

وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسول الله : تلك الشياطين تكلمكم، وسألوه عن فرائض الله فأخبرهم بها، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار لمن جاوروا، وأن لا يظلموا أحدا، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ثم ودعوه بعد أيام وأجازهم: أي أعطى كل واحد اثنتي عشرة أوقية ونشا، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس.

ومنها وفد بني محارب. وفد على رسول الله عشرة من بني محارب وفيهم خزيمة بن سواد، وكانوا أغلظ العرب وأشدهم على رسول الله أيام عرضه نفسه على القبائل في المواسم يدعوهم إلى الله تعالى، فجلسوا عنده يوما من الظهر إلى العصر، وأدام النظر إلى رجل منهم، وقال له: قد رأيتك، فقال له ذلك الرجل: إي والله لقد رأيتني، وكلمتك بأقبح الكلام، ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس. فقال رسول الله : نعم، ثم قال: يا رسول الله ما كان في أصحابي أشد عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام مني، فأحمد الله الذي جاءبي حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم، فقال رسول الله : إن هذه القلوب بيد الله عز وجل. فقال: يا رسول الله استغفر لي من مراجعتي إياك، فقال رسول الله : إن هذا الإسلام يجب ما قبله: يعني الكفر، أي مسح رسول الله وجه خزيمة بن سواد فصارت له غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفود، ثم انصرفوا إلى أهليهم.

ومنها وفد صداء: حيّ من عرب اليمن. وفد على رسول الله خمسة عشر رجلا من صداء.

وسبب ذلك أنه هيأ بعثا أربعمائة من المسلمين استعمل عليهم قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهم، ودفع له لواء أبيض، ودفع إليه راية سوداء، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء، فقدم على رسول الله رجل منهم، وعلم بالجيش، فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله جئتك وافدا على من ورائي، فاردد الجيش، وأنا لك بقومي، فرد رسول الله قيس بن سعد رضي الله تعالى عنهما وخرج الصدائي إلى قومه، فقدم على رسول الله بأولئك القوم، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله دعهم ينزلون عليّ، فنزلوا عليه فحباهم بالموحدة: أعطاهم وأكرمهم وكساهم، ثم ذهب بهم إلى النبي : فبايعوه على الإسلام، وقالوا له: نحن لك على من وراءنا من قومنا فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله منهم مائة رجل في حجة الوداع، وسمي ذلك الرجل الذي كان سببا في رد الجيش ومجيء الوفد بزياد بن الحارث الصدائي، أي وذكر زياد أنه قال له: يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك، قال: فقلت بلى من منّ الله عز وجل ومنّ رسوله. قال وفي رواية: بل الله هداهم للإسلام، فقال رسول الله : أفلا أؤمرك عليهم؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فكتب لي كتابا بذلك، فقلت: يا رسول الله مر لي بشيء من صدقاتهم، قال: نعم. فكتب لي كتابا آخر انتهى.

قال زياد رضي الله تعالى عنه: وكنت معه في بعض أسفاره، وكنت رجلا قويا، فلزمت غرزه: أي ركابه، وجعل أصحابه يتفرقون عنه، فلما كان السحر قال: أذّن يا أخا صداء، فأذنت على راحلتي، ثم سرنا حتى نزلنا، فذهب لحاجته ثم رجع، فقال: يا أخا صداء هل معك ماء؟ قلت معي شيء في إداوتي: أي وهي إناء من جلد صغير. وفي رواية: لا إلا شيء قليل لا يكفيك، قال: هاته، فجئت به، قال: صب، فصببت ما في الإداوة في العقب، أي وهو القدح الكبير، وجعل أصحابه يتلاحقون، ثم وضع كفه في الإناء فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور، ثم قال: يا أخا صداء لولا أني أستحي من ربي عز وجل لسقينا وأسقينا: أي من غير أصل، ثم توضأ وقال: أذن في أصحابي: من كانت له حاجة في الوَضوء بفتح الواو فليرد، قال: فورد الناس من آخرهم، ثم جاء بلال يقيم، فقال رسول الله : إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم فأقمت، ثم تقدم رسول الله فصلى بنا، فلما سلم: يعني من صلاته قام رجل يشكو من عامله، فقال: يا رسول الله إنه آخذنا بذحول كانت بيننا وبين قومه في الجاهلية: أي وفي رواية آخذنا بكل شيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية، فقال رسول الله : لا خير في الإمارة لرجل مسلم، ثم قام رجل آخر، فقال: يا رسول الله أعطني من الصدقة، فقال رسول الله : إن الله عز وجل لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت جزءا منها أعطيتك، وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن، فقلت: يا رسول الله هذان كتاباك، فقال رسول الله ولم؟ قلت: إني سمعتك تقول: لا خير في الإمارة لرجل مسلم وأنا رجل مسلم، وسمعتك تقول: من سأل الصدقة وهو عنها غنيّ فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن وأنا غني، فقال رسول الله : أما إن الذي قلت كما قلت، ثم قال رسول الله : دلني على رجل من قومك أستعمله، فدللته على رجل منهم فاستعمله. قلت: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها، وإن كان الصيف قلّ علينا فتفرقنا على المياه، والإسلام فينا قليل، ونحن نخاف، فادع الله عز وجل لنا في بئرنا، فقال رسول الله : ناولني سبع حصيات، فناولته ففركهن في يده الشريفة ثم دفعهن إليّ وقال: إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة حصاة وسمّ الله، قال: ففعلت، فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة.

ومنها وفد غسان: اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، ومنهم بنو حنيفة، وقيل غسان قبيلة.

وفد على رسول الله ثلاثة نفر من غسان فأسلموا، وقالوا: لا ندري هل تبعنا قومنا أم لا وهم يحبون بقاء ملكهم وقربهم من قيصر، فأجازهم رسول الله بجوائز، وانصرفوا راجعين إلى قومهم، فلما قدموا عليهم ولم يستجيبوا لهم كتموا إسلامهم.

ومنها وفد سلامان بفتح السين وتخفيف اللام. وفي العرب بطون ثلاثة منسوبون إليه: بطن من الأزد، وبطن من طيىء، وبطن من قضاعة وهم هؤلاء.

وفد على رسول الله سبعة نفر من سلامان، فيهم خبيب بن عمرو السلاماني فأسلموا.

قال: وعن خبيب رضي الله تعالى عنه: صادفنا رسول الله خارجا من المسجد إلى جنازة دعي إليها، فقلنا: السلام عليك يا رسول الله: فقال: وعليكم السلام من أنتم؟ قلنا: نحن من سلامان قدمنا إليك لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا، فالتفت إلى ثوبان غلامه، فقال: أنزل هؤلاء، وسألنا عن أشياء انتهى.

قال خبيب رضي الله تعالى عنه: قلت يا رسول الله ما أفضل الأعمال؟ قال: الصلاة في وقتها، وصلوا معه يومئذ الظهر والعصر، ثم شكوا له جدب بلادهم، فقال رسول الله : اللهم اسقهم الغيث في دارهم، فقلت يا رسول الله ارفع يديك فإنه أكثر وأطيب، فتبسم رسول الله ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قام وقمنا معه، وأقمنا ثلاثة أيام وضيافته تجري علينا، ثم ودعناه، وأمر لنا بجوائز، فأعطينا خمس أواق فضة لكل واحد واعتذر إلينا بلال رضي الله تعالى عنه وقال: ليس عندنا اليوم مال، فقلنا: ما أكثر هذا وأطيبه ثم رجعنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله.

ومنها وفد بني عبس. وفد على رسول الله ثلاثة من بني عبس فقالوا: يا رسول الله قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش هي معاشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا من آخرنا، فقال رسول الله : اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم أي ينقصكم من أعمالكم شيئا وسألهم رسول عن خالد بن سنان هل له عقب؟ فأخبروه أنه لا عقب له كانت له ابنة فانقرضت، وأنشأ رسول الله يحدث أصحابه عن خالد بن سنان وقال: إنه نبي ضيعه قومه، وجاء: «ليس بيني وبين عيسى عليه الصلاة والسلام نبي».

أي وإذا صح شيء من الأحاديث التي ذكر فيها خالد بن سنان أو غيره يكون معناه: لم يكن بينه وبين عيسى نبي مرسل، أي وتقدم ما في ذلك.

ومنها وفد النخع: أي بفتح النون والخاء المعجمة: قبيلة من اليمن، وهم آخر الوفود، وكان وفودهم سنة إحدى عشرة في النصف من المحرم.

وفد على رسول الله مائتا رجل من النخع مقرين بالإسلام وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، فقال رجل منهم يقال له زرارة بن عمرو: يا رسول الله إني رأيت في سفري هذا عجبا: أي وفي رواية: رأيت رؤيا هالتني، قال: وما رأيت؟ قال: رأيت أتانا نركبها في الحي ولدت جديا: أي وهو ولد المعز أسقع أحوى، أي والأسقع الذي سواده مشرب بحمرة، والأحوى: الذي ليس شديد السواد ومن ثم فسر بالأخضر، فقال رسول الله : هل تركت أمة لك مصرة لك على حمل؟ قال نعم، قال فإنها تلد غلاما وهو ابنك قال: يا رسول الله، فما له أسقع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، فقال: هل بك من برص تكتمه؟ قال: فوالذي بعثك بالحق ما علم به أحد ولا اطلع عليه غيرك، قال هو ذاك، قال: يا رسول الله ورأيت النعمان بن المنذر أي وهو ملك العرب وعليه قرطان. والقرط: ما يكون في شحمة الأذن، ودملجان بضم الدال المهملة وضم اللام وفتحها، ومسكتان بضم الميم وسكون المهملة، قال: ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته، قال: يا رسول الله، ورأيت عجوزا شمطاء: أي يخالط شعر رأسها الأبيض شعر أسود خرجت من الأرض، قال: تلك بقية الدنيا، وقال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، وهي تقول لظى لظى، بصير وأعمى أطعموني أكلكم أهلكم ومالكم، قال رسول الله تلك فتنة تكون في آخر الزمان، قال: يا رسول الله وما الفتنة؟ قال: يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس، ويشتجرون بالشين المعجمة وبالجيم: أي يشتبكون في الفتنة اشتباك أطباق الرأس، وخالف رسول الله بين أصبعيه، يحسب المسيء فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن عند المؤمن أسهل. أي وفي لفظ: أحلى من شرب الماء البارد، وإن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك، فقال: يا رسول الله ادع الله أني لا أدركها، فقال له رسول الله : اللهم لا يدركها، فمات وبقي ابنه عمرو، ولم يجتمع به، فهو تابعي وكان ممن خلع عثمان رضي الله تعالى عنه.

قال: وفي رواية أن النخع بعثت رجلين منهم إلى رسول الله بإسلامهم أرطاة بن شرحبيل من بني حارثة والأرقم من بني بكر، فلما قدما على رسول الله وعرض عليهما الإسلام فقبلاه فبايعاه على قومهما، وأعجب رسول الله شأنهما وحسن هيئتهما، وقال لهما رسول الله : هل خلفتما وراءكما من قومكما مثلكما؟ قالا: لا يا رسول الله، قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلا كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء ما يشاء، فدعا لهما رسول الله ولقومهما بخير، وقال: اللهم بارك في النخع.

وعقد لأرطاة لواء على قومه، فكان في يده يوم الفتح، وشهد به القادسية، وقتل يومئذ رضي الله تعالى عنه اهـ.

وقوله وكان في يده يوم الفتح لا يناسب ما تقدم أن وفد النخع كان قدومه في سنة إحدى عشرة، إلا أن يقال هذين وفدا قبل وفود ذلك الجمع.

وقد ترك الأصل التعرض لجملة من الوفود وذكرت في السيرة العراقية والسيرة الهشامية تركناها تبعا للأصل.

منها أن عمرو بن مالك وفد على النبي وأسلم، ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: حتى نصيب من بني عقيل مثل ما أصابوا منا فكان بينهم وبين بني عقيل مقتلة، وكان عمرو بن مالك هذا من جملة من قاتل معهم، فقتل رجلا من بني عقيل، قال عمرو: فشددت يدي في غل وأتيت رسول الله وبلغه ما صنعت، فقال: إن أتاني لأضرب ما فوق الغل من يده، فلما جئت سلمت فلم يرد عليّ السلام وأعرض عني، فأتيته عن يمينه فأعرض عني، فأتيته عن يساره فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، فقلت: يا رسول الله إن الرب عز وجل ليترضى فيرضى، فارض عني رضي الله تعالى عنك، قال: رضيت.

وتقدم أنه قد جاء في الصحيح: «لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» والله أعلم.


باب بيان كتبه التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام

أي في الغالب، وإلا فمنها ما ليس كذلك، وهذه غير كتبه التي كتبها بالأمان التي تقدم ذكرها.

أي ولما أراد أن يكتب للملوك قيل له: يا رسول الله إنهم لا يقرؤون كتابا إلا إذا كان مختوما: أي ليكون في ذلك إشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم. وفيه أن هذا واضح إذا كان الختم عليها بعد طيها، ويجعل عليها نحو شمع ويختم فوق ذلك. والظاهر أن ذلك لم يكن، وحينئذ يكون الغرض من ذلك أمن التزوير لبعده مع الختم، فاتخذ خاتما من فضة، أي بعد أن اتخذ خاتما من ذهب، فافتدى به ذوو اليسار من أصحابه، فصنعوا خواتيم من ذهب. ولما لبس رسول الله ذلك لبس أصحابه رضي الله تعالى عنهم خواتيمهم، فجاءه جبريل بعد من الغد بأن لبس الذهب حرام على ذكور أمتك، فطرح رسول الله ذلك الخاتم، فطرح أصحابه خواتيمهم، وكان نقش خاتمه الفضة ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر.

وفي حديث موضوع: كان نقش خاتمه صدق الله: وفي رواية شاذة أنه بسم الله محمد رسول الله، والأسطر الثلاثة تقرأ من أسفل إلى فوق، فمحمد آخر الأسطر، ورسول في الوسط، والله فوق، كذا قال بعض أئمتنا.

قال في النور: والذي يظهر لي أن هذه الكتابة كانت مقلوبة حتى إذا ختم بها يختم على الاستواء كما في خواتم الكبراء اليوم. وختم بذلك الخاتم الكتب وكان في يده الشريفة، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد عمر، ثم في يد عثمان رضي الله تعالى عنهم، حتى وقع في بئر أريس في السنة التي توفي فيها عثمان رضي الله تعالى عنه، فالتمسوه ثلاثة أيام فلم يجدوه.

وذكر أن هذا الخاتم الذي كان في يده ثم في يد أبي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان رضي الله تعالى عنهم، كان الخاتم الحديد الذي كان ملويا عليه الفضة، وأنه الذي كان في يد خالد بن سعيد، فرآه النبي فقال: ما نقش هذا الخاتم، قال: محمد رسول الله، قال: اطرحه إليّ، فأخذه رسول الله فلبسه، فكان في يده ثم في يد أبي بكر الحديث.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه: «أنه لبس خاتم فضة فصه حبشي أي من جذع» لأنه يؤتى به من بلاد الحبشة. وقيل صنف من الزبرجد، وأنه الذي نقش فيه «محمد رسول الله» وفي لفظ: «فصه منه» وفي لفظ «فصه من عقيق».

أي ولا ينافي ذلك وصفه بأنه حبشي، لأن العقيق يؤتى به من بلاد الحبشة، ولم يرد أنه لبس خاتما كله عقيق. وفي الحديث: «تختموا بالعقيق فإنه مبارك، تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر».

قيل وكان خاتمه في خنصر يده اليسرى، وهو المرويّ عن عامة الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.

وقيل كان في خنصر يمينه، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وطائفة، ومنهم عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي يتختم في يمينه وقبض والخاتم في يمينه، قال بعضهم: وهذا رواه عبيدة بن القاسم وهو كذاب: أي وهو يخالف ما جمع به البغوي بأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم به في يساره، وكان ذلك آخر الأمرين. وروى أشعب الطامع عن عبد الله بن جعفر: «أن رسول الله كان يتختم في اليمنى».

قال الإمام النووي رحمه الله: التختم في اليمين أو اليسار كلاهما صح فعله عن النبي، لكنه في اليمين أفضل، لأنه زينة واليمين بها أولى، هذا كلامه، أي ولأن ابن حاتم نقل عن أبي زرعة أنه كان في يمينه أكثر منه في يساره وكان يجعل فصه مما يلي كفه، وتقدم أن الخاتم الذي لبسه يوما وألقاه كان من الذهب، وقيل كان ذلك الخاتم من حديد.

وقد قال للابس خاتم الحديد: «ما لي أرى عليك حلية أهل النار» فطرحه، ولعله لكون سلاسل أهل النار وأغلالهم وقيودهم من حديد، أي ثم جاء وعليه خاتم من صفر: أي نحاس فقال: «ما لي أجد فيك ريح الأصنام» ولعل الأصنام كانت تتخذ من نحاس غالبا، ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل الجنة» أي المختص إباحتها بأهل الجنة في الجنة قال: «يا رسول الله: من أي شيء أتخذه؟ قال: من ورق ولا تتمه مثقالا» أي وزن مثقال، لكن في رواية أبي دواد: «ولا تتمه مثقالا ولا قيمة مثقال» وهي تفيد أن الخاتم إذا كان دون مثقال وزنا لكن بلغ بالصنعة قيمة مثقال كان منهيا عنه.

وفي الحديث: «ما طهر الله كفا فيه خاتم من حديد» وهو يفيد كراهة لبس الخاتم الحديد.

وفي كلام الشمس العلقمي: ولا يكره كونه من نحو حديد ونحاس، لحديث الشيخين: «التمس ولو خاتما من حديد» فليتأمل.

وعند عزمه على إرسال الكتب وتكلم مع أصحابه في ذلك خرج على أصحابه يوما فقال: «أيها الناس إن الله بعثني رحمة وكافة، فأدوا عني رحمكم الله، ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم ، فقال أصحابه رضي الله تعالى عنهم: وكيف اختلف الحواريون على عيسى يا رسول الله؟ قال: دعاهم لمثل ما دعوتكم له، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وأبى، فشكا ذلك عيسى إلى ربه عز وجل فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذين وجه إليهم».


ذكر كتابه إلى قيصر

المدعو هرقل ملك الروم على يد دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، والدحية: بلسان اليمن الرئيس.

وقيصر معناه في اللغة البقير لأنه شق عنه، لأن أم قيصر ماتت في المخاض فشق عنه وأخرج فسمي قيصر، وكان يفتخر بذلك ويقول: لم أخرج من فرج، أي لأن كل من ملك الروم يقال له قيصر.

كتب كتابا لقيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث به دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، وأمره أن يدفعه إلى قيصر ففعل كذلك، أي بعد أن قال: «من ينطلق بكتابي هذا، فيسير إلى هرقل وله الجنة؟ ».

وقيل أمر دحية أن يدفعه إلى عظيم بصرى وهو الحارث ملك غسان ليدفعه إلى قيصر.

ولما انتهى دحية رضي الله تعالى عنه إلى الحارث أرسل معه عديّ بن حاتم رضي الله تعالى عنه ليوصله إلى قيصر، فذهب به إليه، فقال قومه لدحية رضي الله تعالى عنه: إذا رأيت الملك فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك.

قال دحية رضي الله تعالى عنه: لا أفعل هذا أبدا ولا أسجد لغير الله، قالوا: إذن لا يؤخذ كتابك، فقال له رجل منهم: أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك ولا تسجد له، فقال دحية رضي الله تعالى عنه وما هو؟ فقال: إن له على كل عتبة منبرا يجلس عليه، فضع صحيفتك تجاه المنبر فإن أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ثم يدعو صاحبها ففعل، فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، ثم قال: انظروا لنا من قومه أحدا نسأله عنه، وكان أبو سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنه بالشام، أي بغزة مع رجال من قريش في تجارة زمن هدنة الحديبية، أي وكان أولها في ذي القعدة سنة ست.

وقيل كتب إليه من تبوك، وذلك في السنة التاسعة. وجمع بينهما بأنه كتب لقيصر مرتين، والأول ما هو في الصحيحين، والثاني قاله السهيلي، واستدل له بخبر في مسند الإمام أحمد: أي وأغرب من قال إن الكتابة له كانت سنة خمس.

قال أبو سفيان: فأتانا رسول قيصر: أي وهو والي شرطته، فانطلق بنا حتى قدمنا عليه: أي في بيت المقدس، فإذا هو جالس وعليه التاج وعظماء الروم حوله، فقال لترجمانه: أي وهو المعبر عن لغة بلغة وهو معرّب. وقيل اسم عربي، سلهم أيهم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ أي وفي لفظ: لهذا الرجل الذي خرج بأرض العرب يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان، أنا أقربهم نسبا إليه، لأنه لم يكن في الركب يومئذ من بني عبد مناف غيري: أي لأن عبد مناف هو الأب الرابع له وكذا لأبي سفيان، أي وزاد في لفظ: ما قرابتك منه؟ قلت: هو ابن عمي، فقال له: ادن مني ثم أمر بأصحابي، فجعلوا خلف ظهري ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه إنما قدمت هذا أمامكم كي أسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وإنما جعلتكم خلف ظهره لتردوا عليه كذبا إن قاله: أي حتى لا تستحيوا أن تشافهوه بالتكذيب إذا كذب، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء يومئذ أن يردوا عليّ كذبا لكذبت، ولكني استحيت، فصدقت وأنا كاره، أي وفي رواية: لولا مخافة أن يؤثر عني الكذب لكذبت: أي لولا خفت أن ينقل عني الكذب إلى قومي ويتحدثوا به في بلادي لكذبت عليه، لبغضي إياه ومحبتي نفصه، وبه يعلم أن الكذب من القبائح جاهلية وإسلاما. ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ قلت: هو منا ذو نسب. قال: قل له هل قال هذا القول أحد منكم قبله؟ قلت: لا قال: قل له هل كنتم تتهمونه بالكذب على الناس قبل أن يقول ما قال؟ قلت لا. أي وفي رواية: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره لعله يطلب ملكا وشرفا كان لأحد من أهل بيته قبله. قال: هل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا، أي وزاد في رواية: كيف عقله ورأيه؟ قال لم نعب عليه عقلا ولا رأيا قط. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، أي والمراد بأشراف الناس أهل النخوة وأهل التكبر، فلا يرد مثل أبي بكر وعمر وحمزة رضي الله تعالى عنهم ممن أسلم قبل هذا السؤال.

وعند ابن إسحاق رحمه الله تعالى: تبعه منا الضعفاء والمساكين والأحداث، وأما ذوو الأحساب والشرف فما تبعه منهم أحد، وهو محمول على الأكثر الأغلب: أي الأكثر والأغلب أن أتباعه ضعفاء. قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه: أي كراهة له وعدم رضا به بعد أن يدخل فيه؟ قلت لا. ولا يقال هذا منقوض بما لعبد الله بن جحش حيث ارتد ببلاد الحبشة لأنه يرتد كراهية للإسلام بل لغرض نفساني كما تقدم. قال: فهل يغدر إذا عاهد؟ قلت لا ونحن الآن منه في ذمة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم. قال: فكيف حربكم وحربه؟ قلت دول وسجال، ندل عليه مرة أي كما في أحد، ويدال علينا أخرى أي كما في بدر، وقد تقدم في أحد أن أبا سفيان رضي الله تعال عنه قال يوم أحد يوم بيوم بدر والحرب سجال: أي نوب.

وفي لفظ قال أبوسفيان: انتصر علينا مرة يوم بدر وأنا غائب ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وبجدع الآذان والأنوف والفروج، وأشار بذلك إلى يوم أحد.

قال: فما يأمركم به؟ قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا أي والذي في البخاري يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة. وفي لفظ: والزكاة. وفي لفظ جمع بين الصدق والصدقة والعفاف أي ترك المحارم وخوارم المروءة، ويأمرنا بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

فقال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل هذا القول قاله أحد منكم قبله فزعمت أن لا فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت هو يأتم بقول قيل قبله. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى. وسألتك: هل كان من آبائه ملك فقلت لا فلو كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل: أي لأن الغالب أن أتباع الرسل أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار. وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، إذا حصل به انشراح الصدور والفرح به لا يسخطه أحد. وسألتك: هل قاتلتموه؟ قلت نعم، وإن حربكم وحربه دول وسجال يدال عليكم مرة وتدالون عليه أخرى، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون له العاقبة. وسألتك ماذا يأمركم به فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. أي وفي البخاري: وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر: أي لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يناله طالبه إلا بالغدر، فعلمت أنه نبي. وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه فيكم، وإن كان ما حدثتني به حقا فيوشك: أي يقرب أن يملك موضع قدمي هاتين.

أي وذكر بعضهم أن هذا يدل على أن هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل كانت عنده في الكتب القديمة من علامات نبوته.

وفيه أن هذا لا يأتي مع قوله ما تقدم إذ هو يقضي أن ذلك علامة على رسالة كل رسول ثم قال قيصر: ولو أعلم أني أخلص أي أصل إليه لتجشمت: أي تكلفت مع المشقة لقيه. أي وفي لفظ آخر: لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ولا عذر له في هذا، لأنه قد عرف صدق النبي وإنما شح بالملك، فطلب الرياسة وآثرها على الإسلام، ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لو تفطن هرقل لقوله في الكتاب إليه: «أسلم تسلم» وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم لو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله.

ثم قال: ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه: أي مبالغة في خدمته والتعبد له، ولا أطلب منه ولاية ولا منصبا.

قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب النبي فقرىء عليه، فإذا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى» أي ومن لم يتبع الهدى فلا سلام عليه، فليس في هذا بداءة الكافر بالسلام «أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام» أي بالكلمة الداعية للإسلام وهي كلمة التوحيد أي إليها، فالباء موضع إلى «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» أي لإيمانك بعيسى ثم بمحمد، أو لإيمان أتباعك بسبب إيمانك «فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين» أي فلاحي القرى: أي ومن ثم جاء في رواية: «إثم الفلاحين» وفي رواية «إثم الأكارين» والأكار: الفلاح، لأن أهل السواد وما والاهم أهل فلاحة، والمراد إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك. وخص هؤلاء بالذكر لأنهم أسرع انقيادا من غيرهم، لأن الغالب عليهم الجهل والجفاء وقلة الدين، والمراد عليك مع إثمك إثم رعاياك، لأنه إذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا، فهو متسبب في عدم إسلامهم، والفاعل لمعصية المتسبب لارتكاب غيره لها عليه الإثم من جهتين: جهة فعله وجهة تسببه {ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} والواو في قوله: «ويا أهل الكتاب» عاطفة على مقدر معطوف على قوله أدعوك. والتقدير أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك يا أهل الكتاب.

قيل وهذه الآية كتبها قبل نزولها لأنها إنما نزلت في وفد نجران، وذلك في سنة تسع. وهذه القصة كانت في سنة ست، وقيل بعد نزولها لأن نزولها كان في أول الهجرة في شأن اليهود. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: وجوز بعضهم نزولها مرتين وهو بعيد كذا قال فليتأمل.

قال أبو سفيان رضي الله تعالى عنه: فلما قضى مقالته وفرغ من الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم: أي أصواتهم التي لا نفهم.

وفي البخاري: كثر عنده الصخب: وارتفاع الأصوات. والصخب. اختلاط الأصوات عند المخاصمة. زاد البخاري: فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا، فلما خرجت أنا وأصحابي وخلصنا قلت لهم لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة: أي عظم أمره، هذا ملك بني الأصفر يخافه، فما زلت موقنا أن سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام، أي فأظهرت ذلك اليقين لأنه ارتفع. وفي لفظ: فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت.

وقد تقدم الكلام على كبشة، وهو أن جد وهب لأمه أبو آمنة أم النبي كان يكنى أبا كبشة. قال في شرح مسلم: وهو الذي كان يعبد الشعرى، وأبو سلمة أم جده عبد المطلب كان يكنى أبا كبشة، وزوج مرضعته كان يكنى أبا كبشة، وتقدم الكلام أيضا على بني الأصفر.

ويروى أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قال لقيصر لما سأله: هل كنتم تتهمونه بالكذب؟ فقال: لا لكن أخبرك عنه أيها الملك خبرا تعرف به أنه قد كذب، قال: وما هو؟ قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح، فقال بطريق: أي قائد من قواد الملك كان واقفا عند رأس قيصر: صدق أيها الملك، فنظر إليه قيصر، فقال: ما أعلمك بهذا؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول جبلا، فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا: لا نستطيع أن نحركه حتى نصبح، فلما أصبحت جئت إليه فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب. قال في النور: الذي يظهر لي أنه الصخرة: أي المراد بالصخرة في بعض الروايات كما قدمناه، وإذا فيه أثر مربط الدابة فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا لهذا الأمر، فقال قيصر لقومه: يا قوم ألستم تعلمون أن بين يدي الساعة نبيا بشركم به عيسى ابن مريم ترجون أن يجعله الله فيكم؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله قد جعله في غيركم، وهي رحمة الله عز وجل يضعها حيث يشاء، أي وأمر بإنزال دحية وإكرامه.

وذكر أن ابن أخي قيصر أظهر الغيظ الشديد وقال لعمه: قد ابتدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، ألق به: يعني الكتاب، فقال له: والله إنك لضعيف الرأي، أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر؟ هو حق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق، أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه. أي وفي لفظ أن أخا قيصر لما سمع الترجمان يقرأ: «من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم ضرب في صدر الترجمان ضربة شديدة، ونزع الكتاب من يده، وأراد أن يقطعه، فقال له قيصر: ما شأنك؟ فقال: تنظر في كتاب رجل قد بدأ بنفسه قبلك وسماك قيصر صاحب الروم وما ذكر لك ملكا؟ فقال له قيصر: إنك أحمق صغير أو مجنون كبير، أتريد أن تمزق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه؟ ولعمري إن كان رسول الله كما يقول لنفسه أحق أن يبدأ بها مني، ولئن سماني صاحب الروم لقد صدق، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم، ولكن الله سخرهم لي، ولو شاء لسلطهم عليّ كما سلط فارس على كسرى فقتلوه.

ولما جاءه الخبر عن قيصر قال: «ثبت ملكه» وفي لفظ: «سيكون لهم بقية، ولقد صدق الله ورسوله».

فقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أن الملك المنصور قلاوون أرسل بعض أمرائه إلى ملك المغرب بهدية فأرسله ملك المغرب إلى الفرنج في شفاعة فقبله وأكرمه وقال له لأتحفنك بتحفة سنية فأخرج له صندوقا مصفحا بالذهب وأخرج منه مقلمة، وفي لفظ قصبة من الذهب.

فعن السيهلي رحمه الله تعالى قال: بلغني أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيما له، فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصق عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وذكر لنا آباؤنا عن آبائهم أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزول الملك عنا فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه، ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا، أي ولا ينافيه ما جاء: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده» لأن المراد إذا زال ملكه عن الشام لا يخلفه فيه أحد، وكان كذلك لم يبق إلا ببلاد الروم.

أي ويروى أن قيصر لما رجع من بيت المقدس إلى محل دار ملكه وهي حمص، أي فإنه لما ظهر على الفرس وأخرجهم من بلاده نذر أن يأتي بيت المقدس ماشيا شكرا لله، فلما أراد الذهاب إلى بيت المقدس ماشيا بسط له البسط وطرح له عليها الرياحين، ولا زال يمشي على ذلك إلى أن وصل إلى بيت المقدس كما سيأتي، فلما رجع إلى حمص كان له فيها قصر عظيم، فأغلق أبوابه وأمر مناديا ينادي: ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه، فدخلت الأجناد في سلاحها وطافت تريد قتله فأرسل إليهم: إني أردت اختبار صلابتكم في دينكم، فقد رضيت فرضوا عنه.

والذي في البخاري أن قيصر لما سار إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع، فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد أغلقت، فلما رأى قيصر نفرتهم وأيس من الإيمان منهم أي وقالوا له اتدعونا أن نترك النصرانية ونصير عبيدا لأعرابي، فقال ردوهم عليّ وقال: إني قلت مقالتي أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه. وعند ذلك كتب كتابا وأرسله مع دحية إلى رسول الله يقول فيه إني مسلم ولكنني مغلوب، وأرسل بهدية، فلما قرىء عليه الكتاب قال: كذب عدو الله، ليس بمسلم، وقبل هديته وقسمها بين المسلمين، ومصداق قوله: أن قيصر بعد هذه القصة بدون سنتين قاتل المسلمين بغزوة مؤتة.

وفي صحيح ابن حبان عن أنس رضي الله تعالى عنه: «أن النبي كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه وأنه قارب الإجابة ولم يجب» وفي مسند الإمام أحمد: «أنه كتب من تبوك إلى النبي إني مسلم، فقال النبي : كذب إنه على نصرانيته». وفي لفظ: «كذب عدو الله والله إنه ليس بمسلم».

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن: أي أظهر التصديق، لكنه لم يستمر عليه ولم يعمل بمقتضاه، بل شح بملكه، وآثر العافية على العاقبة لعنة الله عليه، أي لأنه تحقق كفره أي وقد ذكر حامل كتابه إليه قال جئت تبوك فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: هو هذا، فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره، ثم قال: من أنت؟ قلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الإسلام دين الحنيفية ملة إبراهيم؟ قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم، فضحك وقال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} فلما فرغ من قراءة كتابي قال: إن لك حقا، وإنك رسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا قوم سفر، فقال رجل: أنا أجوزه، فأتى بحلة فوضعها في حجري، فسألت عنه؟ فقيل لي: إنه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.


ذكر كتابه إلى كسرى ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة

أي لأنه كان يتردد عليه كثيرا

بعث رسول الله عبد الله بن حذافة السهمي، وقيل أخاه خنيسا، وقيل أخاه خارجة، وقيل شجاع بن وهب، وقيل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم إلى كسرى، وبعث معه كتابا مختوما فيه «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس» أي الذين هم أتباعك. قال عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه: فأتيت إلى بابه وطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله، فقرىء عليه، فأخذه ومزقه.

أي وفي رواية: «أن كسرى لما علم بكتاب رسول الله، فأذن بحامل الكتاب أن يدخل عليه، فلما وصل أمر كسرى أن يقبض منه الكتاب، فقال: لا، حتى أدفعه إليك كما أمرني رسول الله، فقال كسرى ادنه، فدنا فناولته الكتاب، فدعا من يقرؤه، فقرأه فإذا فيه: من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، فأغضبه حين بدأ رسول الله بنفسه وصاح ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بإخراج حامل ذلك الكتاب فأخرج، فلما رأى ذلك قعد على راحلته وسار، فلما ذهب عن كسرى سورة غضبه، بعث فطلب حامل الكتاب فلم يجده، فلما وصل إليه وأخبره الخبر قال: مزق كسرى ملكه».

وكتب كسرى إلى بعض أمرائه باليمن يقال له باذان: إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إليّ برأسه، يكتب إليّ هذا الكتاب: أي الذي بدأ فيه بنفسه وهو عبدي، أي وفي رواية: إن تكفيني رجلا خرج بأرضك يدعوني إلى دينه وإلا فعلت فيك كذا يتوعده، فابعث إليه برجلين جلدين فيأتياني به، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي مع قهرمانه، وبعث معه رجلا آخر من الفرس، وبعث معهما إلى رسول الله يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فخرجا وقدما الطائف، فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف. فسألاه عنه، فقال: هو بالمدينة. فلما قدما عليه المدينة قالا له: شاهنشاه ملك الملوك كسرى بعث إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك، وقد بعثنا إليك فإن أبيت هلكت وأهلكت قومك وخربت بلادك، وكانا على زي الفرس من حلق لحاهم وإعفاء شواربهم، فكره النظر إليهما، ثم قال لهما: ويلكما، من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله : ولكن أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي، ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتياني غدا، وأتى رسول الله الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه يقتله في شهر كذا في ليلة كذا، فلما كان الغد دعاهما وأخبرهما الخبر، وكتب رسول الله إلى باذان: إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى يوم كذا من شهر كذا. فلما أتى الكتاب باذان توقف، وقال إن كان نبيا فسيكون ما قال، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله على يد ولده شيرويه، قيل قتله ليلا بعد ما مضى من الليل سبع ساعات فيكون المراد باليوم في تلك الرواية مجرد الوقت: أي وفي رواية: قال لرسول باذان: اذهب إلى صاحبك وقل له إن ربي قد قتل ربك الليلة، ثم جاء الخبر بأن كسرى قتل تلك الليلة فكان كما أخبر، فلما جاءه هلاك كسرى قال: «لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس ثم العرب».

وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما أنه قال: «لتفتحن عصابة من المسلمين أو المؤمنين أو رهط من أمتي كنوز كسرى التي في القصر الأبيض» فكنت أنا وأبي فيهم، وأصبنا من ذلك ألف درهم وقدم على باذان كتاب ولد كسرى شيرويه، فيه: أما بعد، فقد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضبا لفارس فإنه قتل أشرافهم. فتفرق الناس، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى يكتب إليك فيه فلا تزعجه حتى يأتيك أمري فيه، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله، هذا.

وفي رواية أنه قيل له: إن كسرى قد استخلف ابنته. فقال: «لا يفلح قوم تملكهم امرأة».


ذكر كتابه للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه

بعث رسول الله عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، سلم أنت: أي أنت سالم» لأن السلم يأتي بمعنى السلامة «فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن. وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة»: أي العفيفة: أي المنقطعة عن الرجال التي لا شهوة لها فيهم، أو المنقطعة عن الدنيا وزينتها، ومن ثم قيل لفاطمة بنت النبي البتول «فحملت بعيسى. حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والمولاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى» فلما وصل إليه الكتاب وضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض، ثم أسلم ودعا بحق من عاج، أي وهو عظم الفيل، وجعل فيه كتاب رسول الله وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذا الكتاب بين أظهرهم.

أي وفي كلام بعضهم: بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فكان أول رسول، وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، وفي الآخر يأمره أن يزوجه أم حبيبة، فأخذ الكتابين وقبلهما ووضعهما على رأسه وعينيه، ونزل عن سريره تواضعا، ثم أسلم وشهد شهادة الحق.

وكتب إليه النجاشي: أي جواب الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي أصحمة، السلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته الذي لا إله إلا هو. زاد في لفظ: الذي هداني للإسلام. أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فورب السماء والأرض إن عيسى عليه الصلاة والسلام لا يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعث به إلينا. وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابه، يعني جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين رضي الله عنهم، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، أي جعفر بن أبي طالب، وأسلمت على يده لله رب العالمين. أي وعند ذلك قال: «اتركوا الحبشة ما تركوكم».

وذكر أن عمرو بن أمية رضي الله عنه قال للنجاشي. أي عند إعطائه الكتاب: يا أصحمة إن عليّ القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا من وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نحفظك على شرّ قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم، والإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يردّ، وقاض لا يجور، في ذلك موقع الخير وإصابة الفضل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد فرق النبي رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف وأجر ينتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله إنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى عليه الصلاة والسلام براكب الحمار كبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر. زاد بعضهم: ولكن أعواني من الحبشة قليل، فأنظرني حتى أكثر الأعوان وألين القلوب.

أقول: كذا في الأصل، وهو صريح في أن هذا المكتوب إليه هو الذي هاجر إليه المسلمون سنة خمس من النبوة، ونعاه يوم توفي وصلى عليه بالمدينة منصرفه من تبوك، وذلك في السنة التاسعة.

والذي قاله غيره كابن حزم أن هذا النجاشي الذي كتب إليه الكتاب وبعث به عمرو بن أمية الضمري لم يسلم، وأنه غير النجاشي الذي صلى عليه النبي الذي آمن به وأكرم أصحابه، وفي صحيح مسلم ما يوافق ذلك.

ففيه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النجاشي الذي كتب إليه ليس بالنجاشي الذي صلى عليه. ويردّ بأنه يجوز أن يكون كتب للنجاشي الذي صلى عليه وللنجاشي الذي تولى بعده على يد عمرو بن أمية فلا مخالفة.

ومن ثم قال في النور: والظاهر أن هذه الكتابة متأخرة عن الكتابة لأصحمة الرجل الصالح الذي آمن به وأكرم أصحابه هذا كلامه.

وفيه أن رد الجواب على النبي بالكتاب المذكور ورده على عمرو بن أمية بقوله أشهد بالله إنّه النبي الذي ينتظره أهل الكتاب إلى آخره إنما يناسب الأوّل الذي هو الرجل الصالح ويكون جواب الثاني لم يعلم، وقد تقدم عن ابن حزم أنه لم يسلم.

وقال بعضهم: إنه الظاهر، وحينئذ يكون الراوي خلط فوهم أن المكتوب إليه ثانيا هو المكتوب إليه أوّلا كما أشار إلِيه في الهدى، والله أعلم.


ذكر كتابه للمقوقس ملك القبط

وهم أهل مصر والإسكندرية وليسوا من بني إسرائيل ـ على يد حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.

بعث رسول الله حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس، أي فإنه عند منصرفه من الحديبية، قال: أيها الناس، أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله، فوثب إليه حاطب رضي الله عنه، وقال، أنا يا رسول الله، قال: بارك الله فيك يا حاطب، قال حاطب رضي الله عنه: فأخذت الكتاب وودّعته، وسرت إلى منزلي، وشددت على راحلتي، وودعت أهلي وسرت.

زاد السهيلي: وأنه أرسل مع حاطب جبيرا مولى أبي رهم الغفاري، فإن جبيرا هو الذي جاء بمارية من عند المقوقس.

واعترض بأن هذا لا يلزمه أن يكون أرسل جبيرا مع حاطب للمقوقس، لجواز أن يكون المقوقس أرسل جبيرا مع حاطب. والمقوقس لقب، وهو لغة: المطول للبناء، واسمه جريج بن مينا. وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتّين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط» أي الذين هم رعاياك، و{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} وختم الكتاب، وجاء به حاطب رضي الله عنه حتى دخل على المقوقس بالإسكندرية: أي بعد أن ذهب إلى مصر فلم يجده فذهب إلى الإسكندرية، فأخبر أنه في مجلس مشرف على البحر، فركب حاطب رضي الله عنه سفينة وحاذى مجلسه، وأشار بالكتاب إليه، فلما رآه أمر باحضاره بين يديه، فلما جيء به نظر إلى الكتاب وفضه وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه: أي من قومه، وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلط عليهم، فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله؟ فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله تعالى حتى رفعه الله إليه؟ قال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم، ثم قال له حاطب رضي الله عنه: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى يعني فرعون {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك، إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي. ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به. فقال: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضالّ ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة النبوّة بإخراج الخبء بفتح الخاء المعجمة وهمز في آخره: أي الشيء الغائب المستور، والإخبار بالنجوى، أي يخبر بالمغيبات وسأنظر، وأخذ كتاب النبي وجعله في حق عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له.

ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبي: «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك. أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك»، أي فإنه قد دفع له مائة دينار وخمسة أثواب «وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم» أي وهما مارية وسيرين بالسين المهملة مكسورة «وبثياب: أي وهي عشرون ثوبا من قباطي مصر» قال بعضهم: وبقيت تلك الثياب حتى كفن في بعضها.

وفي كلام هذا البعض: وأرسل له عمائم وقباطي وطيبا وعودا وندا ومسكا مع ألف مثقال من الذهب ومع قدح من قوارير، فكان يشرب فيه، أي لأنه سأل حاطبا رضي الله عنه فقال: أي طعام أحب إلى صاحبكم؟ قال: الدباء: يعني القرع، ثم قال له: في أي شيء يشرب؟ قال: في قعب من خشب، ثم قال «وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك»، ولم يزد على ذلك، ولم يسلم.

ولا يخفى أنه سيأتي أنه أهدى إليه زيادة على الجاريتين جارية أخرى اسمها قيسر، وهي أخت مارية، ولعله إنما اقتصر على ذكر الجاريتين دون هذه الثالثة مع أنها أخت مارية لأنها دونهما في الحسن.

وذكر بعضهم أن سيرين أيضا أخت مارية، فالثلاث أخوات.

وفي ينبوع الحياة لابن ظفر: فأهدى إليه المقوقس جواري أربعا، أي ويوافقه قول بعضهم: وأرسل إليه جارية سوداء اسمها بريرة.

وفي كلام بعضهم أنه أهدى إحدى الجاريتين لأبي جهم بن قيس العبدي، فهي أم زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر. وأخرى أهداها لحسان بن ثابت، وهي أم عبد الرحمن بن حسان كما تقدم في قصة الإفك. وأهدى إليه المقوقس زيادة على ذلك خصيا: أي مجبوبا: أي غلام أسود يقال له مأبور بإثبات الراء، وقيل بحذفها، وقيل هابو أي بالهاء بدل الميم وإسقاط الراء ابن عمّ مارية. وكونه كان مجبوبا عند إرساله وكان المهدي له المقوقس هو المشهور.

وفي كلام بعضهم أن المهدي له جريح بن مينا القبطي الذي كان على مصر من قبل هرقل، وأنه لم يكن حال الإرسال مجبوبا، وأنه قدم مع مارية فأسلم وحسن إسلامه، وكان يدخل عليها، وأنه رضي من مكانه من دخوله على سرية النبي أن يجبّ نفسه فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق منه شيء فليتأمل، وسيأتي ما وقع له. وأهدى إليه المقوقس زيادة على البغلة وهي الدلدل، وكانت شهباء. والدلدل في اللغة: اسم للقنفذ العظيم، وكانت أنثى، ولا يستدل بلحوق التاء لها لأنها للوحدة.

وفي كلام بعضهم: أجمع أهل الحديث على أن بغلة النبي كانت ذكرا لا أنثى، وأول من استنتج البغال قارون. قالوا: والبغل أشبه بأمه منه بأبيه.

قيل: ولم يكن يومئذ في العرب بغلة غيرها. وقد قال له سيدنا علي رضي الله عنه: لو حملنا الحمر على الخيل لكان لنا مثل هذه، فقال رسول الله : إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون. قال ابن حبان: أي الذين لا يعلمون النهي عنه.

وفيه أن الله امتن بها كالخيل والحمير، ولا يقع الامتنان بالمكروه. وحمارا أشهب يقال له يعفورا وعفير بالعين المهملة مضمومة. وضبطه القاضي عياض بالمعجمة وغلط في ذلك، مأخوذ من العفرة: وهي لون التراب، وفرسا وهو اللزاز، أي فإن المقوقس سأل حاطبا رضي الله عنه ما الذي يحب صاحبك من الخيل؟ فقال له حاطب: الأشقر، وقد يركب عنده فرسا يقال له المرتجز، فانتخب له فرسا من خيل مصر الموصوفة، فأسرج وألجم، وهو فرسه الميمون.

وأهدى له عسلا من عسل بنها بكسر الباء الموحدة: قرية من قرى مصر، وأعجب به ودعا في عسل بنها بالبركة، لأنه حين أكل منه قال: إن كان عسلكم أشرف فهذا أحلى، ثم دعا فيه بالبركة.

وأهدى إليه مربعة يضع فيها المكحلة وقارورة الدهن والمشط والمقص والمسواك، ومكحلة من عيدان شامية ومرآة ومشطا، أي فإن المقوقس سأل حاطبا عن النبي هل يكتحل؟ فقال له: نعم، وينظر في المرآة، ويرجل شعره، ولا يفارق خمسا في سفر كان أو في حضر، وهي: المرآة، والمكحلة، والمشط، والمدرى، والمسواك والمدرى: شيء كالمسلة يفرق به بين شعر الرأس ويحك به لأن حكه بالأصبع يشوش الشعر ويلوي بها قرون شعر الرأس.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «سبع لم تفارق رسول الله في سفر ولا حضر: القارورة التي يكون فيها الدهن، والمشط، والمكحلة، والمقراض»، أي المقص والمسواك، والمرآة. زاد بعضهم «والإبرة، والخيط» ولعل عدم ذكر ذلك في الكتاب أنه لم يره شيئا ينبغي ذكره.

أي وقد قال بعضهم: إن المقوقس أرسل مع الهدية طبيبا، فقال له النبي: «ارجع إلى أهلك نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع».

واعترض كون الحمار الذي أرسله المقوقس يسمى يعفورا، بأن الحمار الذي يسمى يعفورا أهداه له فروة بن عمرو الجذامي عامل قيصر.

وأهدى إليه أيضا بغلة شهباء يقال لها فضة. وفرسا يقال له الظرب كما تقدم.

ثم رأيت بعضهم سمى الحمار الذي أهداه عامل قيصر عفيرا أيضا، وعليه فتسمية حمار المقوقس عفيرا أيضا كما في الأصل أن الحمار الذي أهداه المقوقس يقال له يعفورا وعفير من خلط بعض الرواة فلا منافاة. وفي هذا قبول هدية المشركين. وقد تقدم رده لهداياهم وقال: لا أقبل زبد المشركين.

ومما يشكل عليه أيضا أنه في هدنة الحديبية أهدى لأبي سفيان عجوة، واستهداه أدما فأهداه إليه أبو سفيان وهو على شركه.

وذكر أن المقوقس قال لحاطب رضي الله عنه: القبط لا يطاوعوني في اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك، وأنا أضنّ: أي أبخل بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده أي وكان كذلك، فإن المسلمين فتحوا مصر سنة ست عشرة ونزلها الصحابة. فارجع إلى صاحبك، وارحل من عندي، ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا. قال حاطب رضي الله عنه: فرحلت من عنده، أي وبعث معه جيشا إلى أن دخل جزيرة العرب ووجد قافلة من الشام تريد المدينة فردّ الجيش وارتفق بالقافلة.

قال حاطب: وذكرت قوله للنبي، فقال: «ضنّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه».

ومن ثم ذكر بعضهم أن هرقل لما علم ميل المقوقس إلى الإسلام عزله، ويخالفه قول بعضهم: وبعث أبو بكر رضي الله عنه حاطبا هذا إلى المقوقس بمصر فصالح القبط، إلا أن يقال: يجوز أن يكون المقوقس عاد لولايته بعد عزله.

وذكر بعضهم أن باني الإسكندرية لما أراد بناءها قال: أبني مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس فدامت، وبنى أخوه مدينة قال عند إرادة بنائها: أبني مدينة فقيرة إلى الناس غنية عن الله، فسلط الله عليها الخراب في أسرع وقت.

ولما فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر وقف على بعض ما بقي من آثار تلك المدينة فسأل عن ذلك، فأخبر بهذا الخبر.


ذكر كتابه للمنذر بن ساوي العبدي بالبحرين على يد العلاء بن الحضرمي

بعث رسول الله العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي، وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية» أي وهذا جواب كتاب أرسله المنذر جوابا لكتاب أرسله له قبل ذلك يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وحسن إسلامه.

أقول: ولم أقف على ذلك الكتاب ولا على حامله. والظاهر أنه العلاء المذكور، فقد ذكر السهيلي رحمه الله أن العلاء قدم على المنذر بن ساوي، فقال له: يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرنّ عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، ينكح فيها ما يُستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكره من أكله، وتعبدون في الدنيا نارا تأكلكم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا أن لا نصدقه، ولمن لا يخون أن لا نأتمنه، ولمن لا يخلف أن لا نثق به، فإن كان هذا هكذا فهذا هو النبيّ الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به. فقال المنذر: قد نظرت في هذا الذي في يديّ فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فرأيته للآخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت؟ ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده. وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر والله أعلم.

ومن جملة كتاب المنذر، أي الذي هذا الكتاب جوابه «أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحبّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود فأحدث لي في ذلك أمرك».

وذكر ابن قانع أن المنذر المذكور وفد على النبي فهو من الصحابة. قال أبو الربيع: ولا يصح ذلك.


ذكر كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان

أي بضم العين المهملة وتخفيف الميم: بلدة من بلاد اليمن على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه.

بعث رسول الله عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى» أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحقّ القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل: أي تنزل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما» وختم رسول الله الكتاب.

قال عمرو: ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان، فعمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إني رسول رسول الله إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم عليّ بالسن والملك، وأنا أوصلك به حتى يقرأ كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحده. وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك؟ يعني العاص بن وائل، فإن لنا فيه قدوة؟ قلت: مات ولم يؤمن بمحمد، ووددت له لو كان آمن وصدق به، وقد كنت قبل على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام فقال: متى تبعته؟ قلت: قريبا، فسألني أين كان إسلامي؟ فقلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه قال: والأساقفة: أي رؤساء النصرانية والرهبان، قلت نعم؟ قال: انظر يا عمرو ما تقول؟ إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له: أي أكثر فضيخة من كذب. قلت: وما كذبت وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي. قلت له بلى، قال: بأي شيء علمت ذلك يا عمرو؟ قلت: كان النجاشي رضي الله عنه يخرج له خراجا. فلما أسلم النجاشي وصدّق بمحمد قال لا والله، ولو سألني درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خراجا ويدين دينا محدثا. فقال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه ما أصنع به؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع، قال: انظر ما تقول يا عمرو. قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني: ما الذي يأمر به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبرّ وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. فقال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا: أي تابعا.

قلت: إنه إن أسلم ملّكه رسول الله على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم، قال: إن هذا الخلق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله من الصدقات في الأموال. أي ولما ذكرت المواشي قال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى في الشجر وترد المياه: فقلت نعم، فقال؟ والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا.

قال عمرو: فمكث أياما بباب جيفر وقد أوصل إليه أخوه خبري، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي: أي عضدي، قال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه، فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه كتابا مختوما، ففض خاتمه، فقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه، ثم قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: اتبعوه، إما راغب في الدين وإما راهب مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال مبين، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الخرجة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه تطؤك الخيل وتبيد خضراءك: أي جماعتك فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال: دعني يومي هذا وارجع إليّ غدا. فلما كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فرجعت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله ألفت: أي وجدت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت وأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه، فأصبح فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا، وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونا على من خالفني.


ذكر كتابه إلى هوذة

بالذال المعجمة، وقيل بالدال المهملة. قال في النور: ولا أظنه إلا سبق قلم ـ صاحب اليمامة ـ أي وزاد بعضهم: وإلى ثمامة بن أثال الحنفيين ملكي اليمامة، وفيه نظر، لأن ثمامة رضي الله تعالى عنه كان مسلما حينئذ على يد سليط بفتح السين المهملة بن عمرو العامري أي لأنه كان يختلف إلى اليمامة، وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى. واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر: أي حيث تقطع الإبل والخيل، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله مختوما أنزله وحياه، وقرأ عليه الكتاب فردّ ردا دون ردّ. فكتب إلى النبي : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر أتبعك، وأجاز سليطا رضي الله تعالى عنه بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبي فأخبره، وقرأ النبي كتابه، وقال: لو سألني سيابة، أي بفتح السين المهملة وتخفيف المثناة من تحت وموحدة مفتوحة: أي قطعة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما في يديه.

فلما انصرف رسول الله من الفتح جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام. فأخبره بأن هوذة قد مات، فقال: أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي، أي فقال قائل: يا رسول الله من يقتله؟ فقال له رسول الله : أنت وأصحابك، فكان كذلك.

أقول: هذا يدل على أن القائل له ذلك هو خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه وجهه أميرا على الجيش الذي أرسله لمقاتلة مسيلمة لعنه الله، وتقدم الخلاف في قاتله. والمشهور أنه وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما، وكان سن هوذة مائة وخمسين سنة.

ويذكر أن هوذة هذا كان عنده عظيم من عظماء النصارى حين قال للنبي ما قال، فقال له: لم لا تجيبه؟ قال: أنا ملك قومي، ولئن اتبعته لم أملك، فقال: بلى والله لئن اتبعته ليملكنك، وإن الخيرة لك في اتباعه، وإنه النبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله الحديث.

أي وذكر السهيلي رحمه الله تعالى أن سليطا قال له: يا هوذة إنه سودتك أعظم حائلة: أي بالية، وأرواح في النار يعني كسرى، لأنه الذي كان توجه، وإنما السيد من متع بالإيمان، ثم تزود بالتقوى. وإن قوما سعدوا برأيك فلا تشقينّ به، وأنا آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهي عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن في عبادة الله الجنة، وفي عبادة الشيطان النار. فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع، فقال هوذة: يا سليط سوّدني من لو سودك تشرفت به، وقد كان لي رأي أختبر به الأمور ففقدته، فاجعل لي فسحة ليرجع إليّ رأيي فأجيبك به إن شاء الله تعالى.


ذكر كتابه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني

أي وكان بدمشق: أي بغوطتها: أي وهو محلّ معروف كثير المياه والشجر.

بعث رسول الله شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك» وختم الكتاب.

قال شجاع رضي الله تعالى عنه: فخرجت حتى انتهيت إلى بابه، فأقمت يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه: فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا، وجعل حاجبه يسألني عن رسول الله وما يدعو إليه، فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبيّ بعينه فكنت أراه: أي أظنه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض القرظ: أي وهو ورق، أو ثمر السلم، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني، فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي، ويخبرني عن الحارث باليأس منه. ويقول: هو يخاف قيصر، فخرج الحارث يوما وجلس وعلى رأسه التاج وأذن لي عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله فقرأه، ثم رمى به، ثم قال: من ينزع مني ملكي، أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته. عليّ بالناس. فلم يزل جالسا يعرض عليه حتى الليل وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره الخبر وصادف أن كان عند قيصر دحية الكلبي رضي الله عنه، بعثه إليه رسول الله ، فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه أن لا تسر إليه واله عنه، أي لا تذكره، واشتغل بإيلياء: أي بيت المقدس، ومعنى إيلياء بالعبرانية بيت الله، والمراد باشتغاله بذلك أن يهيىء لقيصر الإنزال ببيت المقدس، فإنه نذر المشي من حمص، وقيل من قسطنطينية إلى بيت المقدس ماشيا شكرا لله تعالى حيث كشف عنه جنود فارس، وأظهر الله تعالى الروم على فارس، ففرشوا له بسطا ونثروا عليها الرياحين وهو يمشي عليها حتى بلغ بيت المقدس فجاء إليه كتاب قيصر: أي والذي فيه أنه يلهو عنه ولا يذكره وأنا مقيم فدعاني وقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت: غدا، فأمر لي بمائة مثقال ذهبا، ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال لي ذلك الحاجب: اقرأ على رسول الله مني السلام وأخبره أني متبع دينه.

قال شجاع: فقدمت على النبي فأخبرته بما كان من الحارث، قال باد: أي هلك ملكه، وأقرأته السلام من الحاجب وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صدق.

وفي كلام بعضهم وبعض أهل السير على أن الحارث أسلم، ولكن قال: أخاف أن أظهر إسلامي فيقتلني قيصر. وذكر ابن هشام وغيره أن شجاع بن وهب إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم.

ويقال إن شجاع بن وهب أرسل إلى الحارث وإلى جبلة بن الأيهم، وإن شجاعا قال له: يا جبلة إن قومك نقلوا هذا النبي من داره إلى دارهم، يعني الأنصار، فآووه ومنعوه ونصروه، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك ولكنك ملكت الشام وجاورت الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا وكانت لك الآخرة، وقد كنت استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجمع بالشعانين، وكان ما عند الله خير وأبقى. قال جبلة: إني والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبي اجتماعهم على من خلق السموات والأرض، وقد سرّني اجتماع قومي له، وقد دعاني قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه، ولكني لست أرى حقا ولا باطلا وسأنظر.

وفي كلام بعضهم أنه أسلم ورد جواب كتاب رسول الله، وأعلمه بإسلامه، وأرسل الهدية، وكان ثابتا على إسلامه لزمن عمر رضي الله عنه فإنه حج في خلافته.

أي وفي كلام بعضهم: لما أسلم جبلة بن الأيهم في أيام عمر رضي الله عنه وكتب إليه يخبره بإسلامه ويستأذنه في القدوم عليه، فسرّ عمر بذلك، وأذن له، فخرج في خمسين ومائتين من أهل بيته، حتى إذا قارب المدينة عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل، وقلدها بقلائد الذهب والفضة، وألبسها الديباج وسرف الحرير، ووضع تاجه على رأسه، فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إليه وإلى زيه وزينته. فلما دخل على عمر رضي الله تعالى عنه رحب به وأدنى مجلسه، وأقام بالمدينة مكرما، فخرج عمر رضي الله تعالى عنه حاجا فخرج معه وحين تطوف بالبيت وطىء رجل من فزارة إزاره فانحل، فلطم الفزاري لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه، أي ويقال فقأ عينه، فشكا الفزاري ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فاستدعاه وقال له: لم هشمت أنفه، أو قال لم فقأت عينه؟ فقال: يا أمير المؤمنين تعمد حلّ إزاري، ولولا حرمة البيت، لضربت عنقه بالسيف، فقال له عمر: إما أنت فقد أقررت، أما أن ترضيه وإلا أقدته منك. وفي رواية: وحكم إما بالعفو أو بالقصاص، فقال جبلة فتصنع بي ماذا؟ قال: مثل ما صنعت به. وفي رواية: أتقتص له مني سواء وأنا ملك وهذا سوقي؟ فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: الإسلام سوى بينكما، ولا فضل لك عليه إلا بالتقوى، فقال: إن كنت أنا وهذا الرجل سواء في الدين فأنا أتنصر، فإني كنت أظن يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعزمني في الجاهلية، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: إذا أضرب عنقك، فقال فأمهلني الليلة حتى أنظر في أمري، قال: ذلك إلى خصمك فقال الرجل: أمهلته يا أمير المؤمنين، فأذن له عمر رضي الله تعالى عنه في الانصراف، ثم ركب في بني عمه وهرب إلى القسطنطينية أي فدخل على هرقل وتنصر هناك ومات على ذلك. وقيل عاد إلى الإسلام ومات مسلما.

وكان جبلة رجلا طوالا طوله اثنا عشر شبرا، وكان يمسح الأرض برجليه وهو راكب، فسرّ هرقل به، وزوجه ابنته، وقاسمه ملكه، وجعله من سماره، وبنى له مدينة بين طرابلس واللاذقية سماها جبلة باسمه يقال إن فيها قبر إبراهيم بن أدهم.

وقيل المحاكمة كانت عند أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه. أي فقد ذكر بعضهم أن جبلة لم يزل مسلما حتى كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فبينما هو في سوق دمشق إذ وطىء رجلا من مزينة فوثب المزني فلطم خدّ جبلة، فأرسله مع جماعة من قومه إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة، قال: فليلطمه، قالوا: ما يقبل، قال: لا، يقبل، قالوا: إنما تقطع يده، قال: لا، إنما أمر الله بالقود، فلما بلغ جبلة ذلك، قال: أتروني أني جاعل وجهي ندا لوجه؟ بئس الدين هذا، ثم ارتد نصرانيا وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم على هرقل.


حجة الوداع

ويقال لها حجة البلاغ، وحجة الإسلام، لأنه ودّع الناس فيها ولم يحج بعدها، ولأنه ذكر لهم ما يحل وما يحرم. وقال لهم: هل بلغت، ولأنه لم يحج من المدينة غيرها، قيل لإخراج الكفار الحج عن وقته، لأن أهل الجاهلية كانوا يؤخرون الحج في كل عام أحد عشر يوما حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في هذه الحجة: «إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض» فإن هذه الحجة كانت في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته وكانت سنة عشر.

قال الجمهور: فرض الحج كان سنة ست من الهجرة أي وصححه الرافعي في باب السير وتبعه النووي.

وقيل فرض سنة تسع. وقيل سنة عشر انتهى، وبه قال أبو حنيفة، ومن ثم قال إنه على الفور. وقيل فرض قبل الهجرة واستغرب.

خرج رسول الله يريد الحج وأعلم الناس بذلك، ولم يحج منذ هاجر إلى المدينة غير هذه الحجة، قال: وأما بعد النبوة قبل الهجرة فحج ثلاث حجات، أي وقيل حجتين: أي وهما اللتان بايع فيهما الأنصار عند العقبة.

وفي كلام ابن الأثير: كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وفي كلام ابن الجوزي: حج قبل النبوة وبعدها حججا لا يعلم عددها، أي وكان قبل النبوة يقف بعرفات ويفيض منها إلى مزدلفة، مخالفا لقريش توفيقا له من الله، فإنهم كانوا لا يخرجون من الحرم، فإنهم قالوا: نحن بنو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأهل الحرم، وولاة البيت وعاكفو مكة فليس لأحد من العرب منزلتنا فلا تعظموا شيئا من الحل أي كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فليس لنا أن نخرج من الحرم نحن الحمس، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منه إلى المزدلفة، ويرون ذلك لسائر العرب: قال بعض الصحابة: لقد رأيت رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه واقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها توفيقا له من الله عز وجل.

وعند خروجه للحج أصاب الناس بالمدينة جُدري بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما أو حصبة، منعت كثيرا من الناس من الحج معه، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى، قيل كانوا أربعين ألفا، وقيل كانوا سبعين ألفا، وقيل كانوا تسعين ألفا، وقيل كانوا مائة ألف وأربعة عشر ألفا، وقيل وعشرين ألفا، وقيل كانوا أكثر من ذلك. وقد قال: أي عند ذهابه: عمرة في رمضان تعدل حجة، أو قال حجة معي، أي قال ذلك تطبيبا لخواطر من تخلف. وصوب بعضهم أن هذا إنما قاله بعد رجوعه ( ) أي إلى المدينة، قاله لأم سنان الأنصارية لما قال لها: ما منعك أن تكوني حججت معنا؟ وقالت: لنا ناضحان حج أبو فلان: تعني زوجها وولدها على أحدهما، وكان الآخر نسقي عليه أرضا لنا. وقال ذلك أيضا لغيرها من النسوة، قاله لأم سليم ولأم طلق ولأم الهيثم. ولا مانع أن يكون قال ذلك مرتين: مرة عند ذهابه لما ذكر، ومرة عند رجوعه لمن ذكر.

وكان خروجه يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة أي وقيل يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة ورجحه بعضهم وأطال في الاستدلال له وذلك سنة عشر نهارا بعد أن ترجل وادهن، وبعد أن صلى الظهر بالمدينة، وصلى عصر ذلك اليوم بذي الحليفة ركعتين، وطاف تلك الليلة على نسائه، أي فإنهن كن معه في الهوداج وكن تسعة، ثم اغتسل، ثم صلى الصبح أي والظهر، ثم طيبته عائشة رضي الله تعالى عنها بذريرة: هي نوع من الطيب مجموع من أخلاط الطيب وبطيب فيه مسك، ثم أحرم أي وذلك بعد أن () اغتسل لإحرامه غير غسله الأول، وتجرد في إزاره وردائه، أي فقد روى الشيخان أنه أحرم في رداءه وإزار، ولم يغسل الطيب بل كان يرى وبيص المسك في مفارقه ولحيته الشريفة، أي فإنه لبد شعر رأسه بما يلزق بعضه ببعض فلا يشعت.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «طيبته لحرمه وحله» وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أطيب رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، رواه الشيخان. وعنها قالت: «كنت أطيب رسول الله ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضح طيبا» وبه ردّ على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قوله: لأن أصبح مطيبا بقطران أحب إليّ من أن أصبح محرما أنضح طيبا. ويؤيد ما قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما تقدم في الحديبية: من أمره من تطيب قبل إحرامه بغسل الطيب وتقدم ما فيه، أي وصلى كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ركعتين أي قبل أن يحرم، وبه يردّ قول ابن القيم رحمه الله تعالى: لم ينقل عنه أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر ( ) وأهلّ حيث انبعثت به راحلته أي وهي القصواء ( ) أي وهو يردّ ما روي عن ابن سعد رحمه الله تعالى، حج النبي وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم، ومن ثم قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إنه حديث منكر ضعيف الإسناد، وإنما كان راكبا وبعض أصحابه مشاة: ولم يعتمر في عمره ماشيا، وأحواله أشهر من أن تخفى على الناس، بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله وكان على راحلته رحل رث يساوي أربعة دارهم وفي رواية: «حج على رحل وقطيفة تساوي أو لا تساوي أربعة دراهم، وقال: اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة وذلك عند مسجد ذي الحليفة، وأحرم بالحج والعمرة معا فكان قارنا.

قال: وقيل أحرم بالحج فقط فكان مفردا، وقيل بالعمرة فقط، أي ثم أحرم بالحج بعد فراغه من أعمال العمرة فكان متمتعا، أخذا من قول بعض الصحابة إنه أحرم متمتعا، وقيل أطلق إحرامه.

وفي كلام السهيلي رحمه الله: واختلفت الروايات في إحرامه، هل كان مفردا، أو قارنا، أو متمتعا وكلها صحاح إلا من قال كان متمتعا وأراد أنه أهلّ بعمرة.

قال الإمام النووي: وطريق الجمع أي بين من يقول إنه أحرم قارنا، ومن يقول إنه أحرم مفردا، ومن يقول إنه أحرم متمتعا أنه أحرم أولا مفردا: أي بالحج ثم أدخل العمرة، أي وذلك: أي دخول الأضعف وهي العمرة على الأقوى الذي هو الحج من خصائصه فصار قارنا، ويدل لذلك حديث البخاري «أنه أهلّ بالحج، فلما كان بالعقيق أتاه آت من ربه فقال له: صل بهذا الوادي المبارك، وقل لبيك بحجة وعمرة معا فصار قارنا بعد أن كان مفردا.

فمن روى القران اعتمد آخر الأمر، أي ومنه سيدنا أنس رضي الله عنه: «سمعت رسول الله يقول لبيك عمرة وحجا».

ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق بالقران انتهى: أي بالقران المذكور الذي هو إدخال العمرة على الحج، لأنه يكتفي فيه الاقتصار على عمل واحد في النسكين، أي فلا يأتي بطوافين ولا بسعيين، أي وليس مراده التمتع الحقيقي، بأن أحرم بعمرة فقط، ثم بعد فراغه من أعمالها أحرم بالحج كما هو حقيقة التمتع. ومن ثم قال بعضهم: أكثر السلف يطلقون المتعة على القران.

ومن روى الإفراد اعتمد أول الأمر، ومنه قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد سئل عن ذلك «لبى بالحج وحده» أو أن ابن عمر سمعه يقول: لبيك بحج ولم يسمع قوله وعمرة فلم يحك إلا ما سمع، وأنس رضي الله عنه سمع ذلك: أي سمع الحج والعمرة، أي فإن ابن عمر رضي الله عنه قيل له عن أنس بن مالك «أنه سمع النبي يلبي بالحج والعمرة فقال ابن عمر لبى بالحج وحده، فقيل لأنس عن ابن عمر ذلك، فقال أنس رضي الله عنه: ما يعدونا إلا صبيانا، سمعت رسول الله يقول: لبيك لبيك عمرة وحجا» أي يصرح بهما جميعا وقال: «إني لرديف لأبي طلحة وإن ركبتي لتمس ركبة رسول الله وهو يلبي بالحج والعمرة، وذلك مثبت لما قاله ابن عمر وزائد عليه فليس مناقضا له. أي ودليل من قال إنه أحرم مطلقا ما رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنه: «خرج هو وأصحابه رضي الله عنهم مهلّين: أي محرمين إحراما مطلقا ينتظرون القضاء» أي نزول الوحي لتعيين ما يصرفون إحرامهم المطلق إليه أي بإفراد أو تمتع أو قران» أي فجاءه الوحي أن يأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة فيكون متمتعا، ومن معه هدي أن يجعله حجا فيكون مفردا، لأن من معه هدي أفضل ممن لا هدي معه، والحج أفضل من العمرة.

ويدل لكون الصحابة أطلقوا إحرامهم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: «خرجنا نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة» لكن أجيب عن ذلك بأنهم لا يذكرون ذلك مع التلبية وإن كانوا سموه حال الإحرام هذا.

وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله فقال: من أراد منكم أن يهِلَّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل» فلينظر الجمع بين هذا وما قبله.

وجاء أنه قال لهم: «من لم يكن معه هدي وأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا» أي فلا يجعلها عمرة بل يجعل إحرامه حجا، ولم يذكر القران. وجاء في بعض الطرق: «أنه أمر من كان معه هدي أن يحرم بالحج والعمرة معا».

وفي بعض الروايات: «خرج من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم أهلّ بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة».

وفي الهدى: الصواب أنه أحرم بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام، فهو قارن، ولم يحل حتى حل منهما جميعا وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترات تواترا يعلمه أهل الحديث. وما ورد أنه طاف طوافين وسعى سعيين لم يصح.

قال: وغلط من قال لبى بالحج وحده ثم أدخل عليه العمرة: أي الذي تقدم في الجمع بين الروايات عن النووي رحمه الله تعالى. ومن قال لبى بالعمرة ثم أدخل عليها الحج: أي وهذا لم يتقدم. ومن قال أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم عينه بعد إحرامه أي وهو ما تقدم عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه. ومن قال أفرد الحج، أراد به أنه أتى بأعمال الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا، وهذا محمل ما في بعض الروايات، وأفرد رسول الله الحج ولم يعتمر. على أن بعض الحفاظ قال: إنه حديث غريب جدا، وفيه نكارة شديدة.

ثم لبى أي بعد أن استقبل القبلة ( ) فقال: لبيك اللهم لبيك، ® لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

وروي أنه زاد على ذلك لبيك إله الخلق لبيك: أي وروي أنه زاد: لبيك حقا، تعبدا ورقا على تلبيته المذكورة والناس معه يزيدون فيها وينقصون لم ينكر عليهم، وبه استدل أئمتنا على عدم كراهة الزيادة على تلبيته المشهورة المتقدمة ( ) فكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها: لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.

وأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية من شعائر الحج، فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله قال: «أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج».

واستعمل على المدينة أبا دجانة رضي الله عنه، وقيل سباع بن عرفطة رضي الله عنه ( ) وولدت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ولدها محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم في ذي الحليفة، وأرسلت إليه فأمرها أن تغتسل وتستثفر، أي بخرقة عريضة بعد أن تحشو بنحو قطن، وتربط طرفي تلك الخرقة في شيء تشده في وسطها لتمنع بذلك سيلان الدم كما تفعل الحائض وتحرم.

ثم حاضت سيدتنا عائشة رضي الله عنها في أثناء الطريق بمحل يقال له سرف بكسر الراء، وكانت قد أحرمت بعمرة، ففي البخاري: «أنها قالت: وكنت فيمن أهلّ بعمرة فأمرها رسول الله أن تغتسل وتدخل الحج على العمرة».

أقول: وقد جاء: «أنها قالت: دخل علي رسول الله وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟ » وفي لفظ «ما يبكيك يا هنتاه؟ لعلك نفست: أي حضت، قلت: نعم: والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر، قال: لا تقولي ذلك، فهذا شيء كتبه الله على بنات آدم».

أي استدل البخاري رحمه الله بهذا على أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال إن الحيض أول ما وقع في بني إسرائيل، وفي لفظ: «قال: ما شأنك؟ قلت: لا أصلي، قال: لا صبر عليك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، أهلي بالحج» وفي رواية: «ارفضي عمرتك»، أي لا تشرعي في شيء من أعمالها «وأحرمي بالحج فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج» أي تفعلين كل ما يفعل الحاج وأنت حائض «إلا أنك لا تطوفين بالبيت، ففعلت ذلك؟ أي أدخلت الحج على العمرة، ووقفت المواقف» فوقفت بعرفة وهي حائض حتى إذا طهرت: أي وذلك يوم النحر، وقيل عشية عرفة طافت بالبيت وبالصفا والمروة «فقال رسول الله : قد حللت من حجك وعمرتك جميعا».

وذكر بعضهم أن في هذه الحجة كان جمل عائشة رضي الله عنها سريع المشي مع خفة حمل عائشة، وكان جمل صفية بطيء المشي مع ثقل حملها، فصار يتأخر الركب بسبب ذلك فأمر أن يجعل حمل صفية على جمل عائشة، وأن يجعل حمل عائشة على جمل صفية، فجاء لعائشة رضي الله عنها يستعطف خاطرها، فقال لها: يا أم عبد الله، حملك خفيف وجملك سريع المشي، وحمل صفية ثقيل وجملها بطيء، فأبطأ ذلك بالركب، فنقلنا حملك على جملها، وحملها على جملك ليسير الركب، فقالت له: إنك تزعم أنك رسول الله، فقال: أفي شك أني رسول الله أنت يا أم عبد الله؟ قالت فما لك لا تعدل؟ قال: فكان أبو بكر رضي الله عنه فيه حدة، فلطمني على وجهي، فلامه رسول الله، فقال: أما سمعت ما قالت؟ فقال: دعها فإن المرأة الغيراء لا تعرف أعلى الوادي من أسفله.

قالوا: ولما نزلوا بمحل يقال له العرج فقد البعير الذي عليه زاملته وزامله أبي بكر، أي زادهما، وكان ذلك البعير مع غلام لأبي بكر. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه للغلام: أين بعيرك؟ قال: ضللته البارحة. فقال أبو بكر وقد اعترته حدة: بعير واحد تضله، وأخذ يضربه بالسوط ورسول الله يقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ويتبسم لا يزيد على ذلك، فلما بلغ بعض الصحابة أن زاملة رسول الله ضلت جاء بحيس ووضعه بين يديه، فقال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو يغتاط على الغلام: هون عليك يا أبا بكر، فإن الأمر ليس لك ولا إلينا. وقد كان الغلام حريصا على أن لا يضل بعيره، وهذا غذاء طيب قد جاء الله به، وهو خلف عما كان معه، فأكل وأبو بكر ومن كان يأكل معهما حتى شبعوا، فأقبل صفوان بن المعطل رضي الله تعالى عنه وكان على ساقة القوم، أي لأن هذا كان شأنه كما تقدم في قصة الإفك والبعير معه وعليه الزاملة حتى أناخه على باب منزله، فقال رسول الله لأبي بكر: انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟ فقال: ما فقدت شيئا إلا قعبا كنا نشرب فيه، فقال الغلام: هذا القعب معي. ولما بلغ سعد بن عبادة وابنه قيسا رضي الله تعالى عنهما أنّ زاملته قد ضلت جاءا بزاملة وقالا: أي كل واحد منهما: يا رسول الله بلغنا أن زاملتك ضلت الغداة، وهذه زاملة مكانها، فقال رسول الله قد جاء الله بزاملتنا. فارجعا بزاملتكما. بارك الله لكما اهـ ثم نزل بذي طوى فبات بها تلك الليلة وصلى بها الصبح أي بعد أن اغتسل بها. أي ثم سار ونزل بالمسلمين ظاهر مكة ودخل مكة نهارا: أي وقت الضحى من الثنية العليا التي هي ثنية كداء بفتح الكاف والمد. قال أبو عبيدة: لا ينصرف، وهي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة مكة، وهي التي يقال لها الآن الحجون التي دخل منها رسول الله يوم فتح مكة كما تقدم، ودخل

المسجد الحرام صبحا من باب عبد مناف، وهو باب بني شيبة المعروف الآن بباب السلام. وكان إذا أبصر البيت. قال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا.

وفي مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخبرنا سعيد بن سالم عن جريح عن النبي: «كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: اللهم زد هذا البيت» الخ. وفي رواية: «كان إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام. اللهم زد هذا البيت» الخ.

وعند دخوله المسجد طاف بالبيت: أي سبعا ماشيا، فعن جابر بن عبد الله رضي تعالى عنهما قال: «دخلنا مكة عند ارتفاع الشمس، فأتى النبي باب المسجد فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا، فلما فرغ قبل الحجر ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه» رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناد جيد.

وقيل طاف على راحلته الجدعاء، أي لأنه قدم مكة وهو يشتكي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته، فلما أتى الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين» رواه أبو داود، ورد بأن هذا الحديث تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.

على أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يذكر أن ذلك كان في حجة الوداع ولا في الطواف الأول من طوافاتها الثلاثة التي هي: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، فينبغي أن يكون ذلك في غير الطواف الأول، بأن يكون في طواف الإفاضة أو طواف الوداع، فلا ينافي ما تقدم عن جابر ولا ما في مسلم عنه أنه قال: «طاف رسول الله في حجة الوداع على راحلته بالبيت ليراه الناس فيسألوه» وقوله: «ورمل في ثلاث منها» أي يسرع المشي مع تقارب الخطأ، ومشى: أي على هينته في أربع يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة، وابتداء الرمل كان في عمره القضاء لما قال المشركون: غدا يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله بذلك ليرى المشركون جلدهم» ومن ثم قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا كما تقدم، فلما كانت هذه الحجة فعلوا كذلك فصارت سنة.

قال: وثبت أنه قبل الحجر الأسود وثبت أنه استلمه بيده ثم قبلها. وثبت أنه استلمه بمحجنه فقبل المحجن، ولم يثبت أنه قبل الركن اليماني ولا قبل يده حين استلمه ا هـ.

وعند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه يستحب أن يقبل ما استلمه به. روى إمامنا الشافعي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «استقبل رسول الله الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلا، وكان إذا استلم الحجر قال: بسم الله والله أكبر، وقال بينهما: أي بين الركن اليماني والحجر {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} ولم يثبت عنه شيء من الأذكار في غير هذا المحل حول الكعبة، ولم يستلم الركنين المقابلين للحجر، أي لأنهما ليسا على قواعد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقال لعمر رضي الله تعالى عنه: «إنك رجل قويّ لا تزاحم على الحجر» أي الأسود تؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» ( ) وأخذ منه بعض فقهائنا أن من شق عليه استلام الحجر الأسود يسن له أن يهلل ويكبر.

ثم بعد الطواف ركعتين عند مقام سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، جعل المقام بينه وبين الكعبة: أي استقبل جهة باب المحل الذي به المقام الآن، وهو المراد بخلف المقام، قرأ فيهما مع أم القرآن {قل يا أيها الكافرون}: و {قل هو الله أحد} ودخل زمزم، فنزع له دلو فشرب منه، ثم مج فيه، ثم أفرغها في زمزم، ثم قال: لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت. أي وتقدم في فتح مكة أنه قال: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لانتزعت منها دلوا، وانتزع له العباس. ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، وقرأ: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ابدؤوا بما بدأ الله به، فسعى بين الصفا والمروة سبعا راكبا على بعيره».

وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، أن سعيه الذي طاف لقدومه كان على قدميه لا على بعير، أي فذكر البعير في هذا السعي غلط من بعض الرواة.

ثم رأيت بعضهم قال: بعض الروايات عن جابر وغيره يدل على أنه كان ماشيا بين الصفا والمروة. ولعل بين الصفا والمروة مدرجة، أو أنه سعى بين الصفا والمروة بعض المرات على قدميه، فلما ازدحم الناس عليه ركب في الباقي. ويدل لذلك أنه قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن قومك يزعمون السعي بين الصفا والمروة راكبا سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، فقيل: كيف صدقوا وكذبوا؟ فقال: صدقوا في أن أن السعي سنة، وكذبوا في أن الركوب سنة، فإن السنة المشي، فإن رسول الله مشى في السعي، فلما كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث الدالة على أنه مشى بين الصفا والمروة، والأحاديث الدالة على أنه ركب فيه وصار في السعي يخب ثلاثا ويمشي أربعا، ويرقى الصفا، ويستقبل الكعبة، ويوحد الله ويكبره ويقول: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، أي من غير قتال «ثم يفعل على المروة مثل ذلك».

واعترض بأن كونه كان يخب ثلاثا ويمشي أربعا كان في الطوف بالبيت لا في السعي بين الصفا والمروة، وهذا السياق يقتضي أنه سعى بعد طواف القدوم.

وقد جاء أنه حج، فأول شيء بدأ به حين قدم مكة «أنه توضأ ثلاثا ثم طاف بالبيت ولم يذكر السعي» أي وفي مسلم في سبب نزول قوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}أن المهاجرين في الجاهلية كانوا يهلون بصنمين على شط البحر يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاءهم الإسلام كرهوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، يرون أن ذلك من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}.

وقيل إن سبب نزولها «أن الأنصار كانوا في الجاهلية يهلون لمناة، وكان من أحرم بمناة لا يطوف بين الصفا والمروة، وأنهم سألوا رسول الله عن ذلك حين أسلموا، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية، ثم أمر من لا هدي معه بالإحلال، أي وإن لم يكن أحرم بالعمرة بأن لم يكن سمع أمره بأن من لا هدي معه يحرم بالعمرة، فأحرم بالحج قارنا أو مفردا، قال السهيلي رحمه الله: ولم يكن ساق الهدي معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلا طلحة بن عبد الله، وكذا علي كرم الله وجهه جاء من اليمن وقد ساق الهدي معه، ويأتي ما فيه. أي وأمره من ذكر بالإحلال كان بعد الحلق والتقصير، لأنه أتى بعمل العمرة فحل له كل ما حرم على المحرم من وطء النساء والطيب والمخيط، وأن يبقى كذلك إلى يوم التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة فيهل: أي يحرم بالحج.

وقيل له يوم التروية لأنهم كانوا يتروون فيه الماء ويحملونه معهم في ذهابهم من مكة إلى عرفات لعدم وجدان الماء بها ذلك الزمن. وأمر من معه الهدي أن يبقى على إحرامه أي بالحج قارنا أو مفردا، حتى قال بعضهم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي. قال: ويروى أن قائل ذلك هو، فعن جابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه لما تم سعيه قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة» قال ذلك جوابا لقول بلغه عن جمع من الصحابة، ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر. وفي لفظ: وفرجه يقطر منيا، أي قد جامع النساء. أي وفيه أنهم لا ينطلقون إلى منى إلا بعد الإحرام بالحج، لأنهم يحرمون من مكة إلا أن يقال مرادهم أنا كيف نجامع النساء بعد إحرامنا بالحج وكيف نجعلها عمرة بعد الإحرام بالحج كما سيأتي في بعض الروايات.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «دخل عليّ رسول الله وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار، فقال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون؟ ».

وقوله: «لو استقبلت الخ» تأسف على فوات أمر من أمور الدين ومصالح الشرع، كذا قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، لأنه يرى أن التمتع أفضل. وردّ بأنه لم يتأسف على التمتع لكونه أفضل، وإنما تأسف عليه لكونه أشق على أصحابه في بقائه محرما على إحرامه وأمره لهم بالإحلال. وقوله في الحديث الصحيح: «لو تفتح عمل الشيطان» محمول على التأسف على فوات حظ من حظوظ الدنيا فلا تخالف.

ويروى «أنه لما بلغه تلك المقالة قام خطيبا فحمد الله تعالى، فقال: أما بعد، فتعلمون أيها الناس لأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ولا حللت» وفي رواية: «قالوا: كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج؟ فقال: اقبلوا ما أمرتكم به، واجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ففعلوا وأهلوا، ففسخوا الحج إلى العمرة» وكان من جملة من ساق الهدي أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وعلي رضي الله تعالى عنهم، فإن عليا كرم الله وجهه قدم إلى مكة من اليمن ومعه هدي. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: «لم يكن أحد معه هدي غير النبي وطلحة» وفي رواية: «أن رسول الله قال لعلي كرم الله وجهه: انطلق وطف بالبيت وحل كما أحل أصحابك، فقال: يا رسول الله أهللت كما أهللت، فقال له: ارجع فأحل كما أحل أصحابك، قال: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إن أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد، فقال: هل معك من هدي؟ قال لا، فأشركه رسول الله في هديه وثبت على إحرامه، وهذا صريح في أن إحرامه كان بالحج.

ويمكن الجمع بين رواية أن عليا قدم من اليمن ومعه هدي، وبين رواية أنه لم يكن معه هدي بأن الهدي تأخر مجيئه تعده، لأنه تعجل إلى رسول الله واستخلف على الجيش رجلا من أصحابه.

ويؤيد ذلك قول بعضهم: كان الهدي الذي قدم به علي كرم الله وجهه من اليمن والذي أتى به النبي مائة، أي وإلا فالذي أتى به النبي ثلاثة وستون بدنة، والذي قدم به من اليمن لعلي كان سبعة وثلاثين بدنة، ولا يخالف ذلك إشراكه له في الهدي لأنه يجوز أن يكون فعل ذلك لاحتمال تلف ذلك الهدي وعدم مجيئه، والذي في البخاري لما قدم علي كرم الله وجهه من اليمن قال له النبي : بم أهللت يا علي؟ قال: بما أهل به النبي. قال: فأهدوا مكث حراما كما أنت، أي فإنه تقدم أنه كان أرسل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى اليمن لهمدان يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء رضي الله تعالى عنه: فكنت ممن خرج مع خالد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن رسول الله بعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأمره أن يقفل خالد بن الوليد ويكون مكانه، وقال: مر أصحاب خالد، من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقفل، فكنت ممن أعقب مع علي كرم الله وجهه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، وصلى بنا علي كرم الله وجهه، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله بإسلامهم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان السلام على همدان.

وكان من جملة من لم يسق الهدي أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: «فإنه لما قدم من اليمن قال له: بم أهللت؟ قال: أهللت كإهلال النبي، قال له: هل معك من هدي؟ قال: قلت لا، فأمرني فطفت بالبيت والصفا والمروة» ورواية الشيخين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: «أنه قال: له بم أهللت؟ فقلت: لبيت بإهلال كإهلال النبي قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل» أي بعد الحلق أو التقصير.

وفيه أنه كان مهلا بالحج فقط أو مع العمرة، إلا أن يقال جوز لأبي موسى الفسخ من الحج إلى العمرة كما فعل ذلك مع غيره من الصحابة الذين أحرموا بالحج ولا هدي معهم. ومن جملة من لم يسق الهدي أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن فأحللن، أي لأنهن أحرمن إحراما مطلقا ثم صرفنه للعمرة، أو أحرمن متمتعات أي بالعمرة، إلا عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تحل أي لأنها أدخلت الحج على العمرة كما تقدم.

وممن أحلت سيدتنا فاطمة بنت النبي، أي لأنها لم يكن معها هدي وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، وشكا عليّ كرم الله وجهه فاطمة رضي الله تعالى عنها للنبي إذ أحلت، أي فإنه وجدها لبست صبيغا واكتحلت، فأنكر عليها، فقالت رضي الله تعالى عنها: أمرني أبي بذلك، فذهب إلى النبي محرشا له عليها رضي الله تعالى عنها، فصدقها عليه الصلاة والسلام في أنه أمرها بذلك، أي فإنه قال له: صدقت صدقت صدقت، أنا أمرتها بذلك يا علي.

وسأله سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد: فشبك أصابعه فقال: بل لأبد الأبد «دخلت العمرة في الحج هكذا إلى يوم القيامة» أي وفي رواية: «فشبك بين أصابعه واحدة في أخرى وقال: دخلت العمرة في الحج هكذا مرتين بل لأبد الأبد» بالإضافة أي إلى آخر الدهر، وهذا الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج يدل على أن المراد السائل بالتمتع القران لا حقيقته الذي هو الإحرام بالحج بعد الفراغ من عمل العمرة، لكن قول بعضهم: لما كان آخر سعيه على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد» الحديث، يدل على أن مراده بالتمتع حقيقته، لكن لا يحسن الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج، إلا أن يقال المراد حصلت العمرة مع الإحرام بالحج لقلب الإحرام بالحج إلى العمرة لأن هذا كله يدل على أنه أمر من أحرم بالحج ممن لا هدي معه أن يقلب إحرامه عمرة.

وأجاب عنه أئمتنا بأن ذلك: أي فسخ الحج إلى العمرة كان من خصائص الصحابة في تلك السنة ليخالفوا ما كان عليه الجاهلية: من تحريم العمرة في أشهر الحج ويقولون إنّه من أفجر الفجور، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وإمامنا الشافعي وجماهير العلماء من السلف والخلف رضي الله عنهم.

وفي مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: «لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد » وخالف الإمام أحمد رضي الله عنه وطائفة من أهل الظاهر فقالوا: بل هذا ليس خاصا بالصحابة في تلك السنة، أي بل باق لكل أحد يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها.

وبعضهم قال: إن قول سراقة رضي الله تعالى عنه معناه أن جواز العمرة في أشهر الحج خاصة بهذه السنة أو جائزة إلى يوم القيامة، وفيه أنه لا يحسن الجواب عنه بما تقدم من قوله: «دخلت العمرة في الحج».

ثم نهض ونهض معه الناس يوم التروية الذي هو اليوم الثامن إلى منى وأحرم بالحج كل من كان أحل، فصلى رسول الله الظهر بمنى، والعصر والمغرب والعشاء، وبات بها تلك الليلة أي وكانت ليلة الجمعة وصلى بها الصبح ثم نهض بعد طلوع الشمس إلى عرفة. وأمر أن تضرب له قبة من شعر بنمرة، فأتى عليه الصلاة والسلام عرفة ونزل في تلك القبة حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء بفتح القاف والمد، وقيل بضم القاف والقصر، وهو خطأ كما تقدم.

وفي كلام الأصل أن القصواء والعضباء والجدعاء اسم لناقة واحدة وفيه ما لا يخفى. فرحلت ثم أتى بطن الوادي فخطب على راحلته خطبة ذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأغراض، ووضع ربا الجاهلية، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس رضي الله تعالى عنه. ووضع الدماء في الجاهلية، وأوّل دم وضعه دم ابن عمه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قتلته هذيل فقال: هو أوّل دم أبدأ به من دماء الجاهلية، موضوع فلا يطالب به في الإسلام وأوصى بالنساء خيرا، وأباح ضربهنّ غير المبرح إن أتين بما لا يحل. وقضى لهن بالرزق والكسوة بالمعروف على أزواجهن. وأمر بالاعتصام بكتاب الله عز وجل، أي وسنة رسول، وأخبر إنه لا يضل من اعتصم به، وأشهد الله عز وجل على الناس أنه قد بلغهم ما يلزمهم، فاعترف الناس بذلك. وأمر أن يبلّغ ذلك الشاهد والغائب.

ومن ذلك قوله: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فزوجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنكم لتسألون عني فما أنتم قائلون؟ فالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس، اللهم فاشهد ثلاث مرات».

وجاء أنه أمر مناديا صار ينادي بكل ما قاله من ذلك: أي وهو ربيعة بن أمية بن خلف أخو صفوان بن أمية وكان صّيتا. وصار يقول له: يا ربيعة قل: يا أيها الناس إن رسول الله يقول كذا كما تقدم، فيصرخ به وهو واقف تحت صدر ناقته.

وربيعة هذا ارتد في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه شرب الخمر، فهرب منه إلى الشام، ثم هرب إلى قيصر فتنصر ومات عنده.

وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنه طاف ليلة هو وعمر رضي الله تعالى عنهما للحرس بالمدينة فرأوا نورا في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فإذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الرحمن: تدري بيت من هذا؟ قال: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن شرب، فما ترى؟ قال: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه {ولا تجسسوا} فانصرف عمر. ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه غرب ربيعة إلى خيبر فكان ما تقدم. وقد رأى ربيعة قبل ذلك في المنام كأنه في أرض معشبة مخصبة وخرج منها إلى أرض مجدبة كالحة. ورأى أبا بكر ضي الله تعالى عنه في جامعة من حديد عند سرير إلى الحشر، فقص ذلك على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال إن صدقت رؤياك تخرج من الإيمان إلى الكفر، وأما أنا فإن ذلك ديني جمع لي في أشد الناس إلى يوم الحشر.

وبعثت إليه أم الفضل زوجة العباس أم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم لبنا في قدح شربه أمام الناس، فعلموا أنه: لم يكن صائما ذلك اليوم الذي هو التاسع، أي لأنهم تماروا عندها في صيامه ذلك اليوم الذي هو يوم عرفة.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله: «أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» أي وبهذا استدل أئمتنا أنه لا يستحب للحاج يصوم يوم عرفة الذي هو التاسع من ذي الحجة.

فلما تم خطبته أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا فصلاهما مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين: أي لأنه لم يقم بمكة إقامة تقطع السفر لأنه دخلها في اليوم الرابع وخرج يوم الثامن، فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر يوم الرابع إلى عصر الثامن يقصر تلك الصلوات، فالجمع للسفر كما يقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه كالجمهور لا للنسك كما يقول غيرهم.

أقول: وفيه أن فقهاءنا ذكروا أنه لم يصل الجمعة في حجة الوداع مع عزمه على الإقامة أياما: أي تقطع السفر لعدم استيطانه.

ويردّ بأنه من أين أنه عزم على الإقامة بمكة المدة التي تقطع السفر هذه دعوى تحتاج إلى دليل. وأيضا عزمه على ذلك إنما هو بعد عوده إلى مكة بعد فراغه من الوقوف والرمي، ولا ينقطع سفره إلا بوصوله إلى مكة.

والأولى استدلال فقهائنا على وجوب الاستيطان في إقامة الجمعة بعد أمره لأهل مكة بإقامة الجمعة مع أنهم غير مسافرين لعدم استيطانهم للمحل. فما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن الجمع للسفر لا للنسك في محله.

وقد رأيت أن مالكا رضي الله تعالى عنه سأل أبا يوسف وقد كان حج مع هارون الرشيد وذلك بحضرة الرشيد، فقال له: ما تقول في صلاة النبي بعرفات يوم الجمعة، أصلى جمعة أم صلى ظهرا مقصورة؟ فقال أبو يوسف: صلى جمعة، لأنه خطب لها قبل الصلاة، فقال مالك: أخطأت، لأنه لو وقف يوم السبت لخطب قبل الصلاة، فقال أبو يوسف: ما الذي صلى؟ فقال مالك: صلى الظهر مقصورة، لأنه أسرّ بالقراءة فصوبه هارون في احتجاجه على أبي يوسف، والله أعلم.

ثم ركب راحلته إلى أن أتى الموقف، فاستقبل القبلة، ولم يزل واقفا للدعاء من الزوال إلى الغروب. وفي الحديث: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، أي في يوم عرفة» كما في بعض الروايات: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

وجاء أن من جملة دعائه في ذلك اليوم: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن وسوسة الشيطان، ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذي شر».

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «كان فيما دعا به رسول الله في حجة الوداع: اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضريع، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه. اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما. يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» واستمر كذلك حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة.

أي وخطب على ناقته في ذلك اليوم. فعن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم قال: «بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله في حاجة ورسول الله واقف بعرفة فبلغته ثم وقفت تحت ناقة رسول الله وإن لعابها ليقع على رأسي، فسمعته يقول: أيها الناس إن الله قد أدى إلى كل ذي حق حقه. وإنه لا تجوز وصية لوارث والولد للفراش، وللعاهر الحجر. ومن دعي إلى غير أبيه أو مولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا، وجاءه جماعة من نجد فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادي: الحج عرفة. من جاء ليلة جمع، أي المزدلفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» وجَمْع بفتح الجيم وسكون الميم أيام منى ثلاثة {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه}، أي وقال «وقفت ههنا وعرفة كلها موقف» زاد مالك في الموطأ «وارفعوا عن بطن عرفة».

وفي كلام بعضهم نزلت: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} يوم الجمعة بعد العصر والنبي واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة يندق من ثقل الوحي.

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اتفق في ذلك اليوم أربعة أعياد: عيد للمسلمين وهو يوم الجمعة. وعيد لليهود. وعيد للنصارى. وعيد للمجوس، ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم قبله ولا بعده.

ولما نزلت بكى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له النبي: «ما يبكيك يا عمر؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبكاني أنا كنا في زيادة، أما إذا كمل فإنه لا يكمل شيء إلا نقص، فقال: صدقت». فكانت هذه الآية نعي رسول الله فإنه لم يعش بعدها إلا ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، ولم ينزل بعدها شيء من الأحكام.

ثم أردف رسول الله أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه خلفه ودفع إلى مزدلفة وقد ضم زمام راحلته القصواء التي خطب عليها في نمرة حتى إن رأسها ليصيب طرف رجليه، يسير العنق، حتى إذا وجد فسحة سار النص وهو فوق العنق، وهو يأمر الناس بالسكينة في السير، فلما كان في الطريق عند الشعب الأبتر نزل فيه فبال وتوضأ وضوءا خفيفا، ثم ركب حتى أتى المزدلفة التي هي جمع، أي وتقدم أن وقوفه بعرفات وإفاضته إلى مزدلفة قبل أن يبعث كان مخالفا في ذلك لقوله: «وصلى المغرب والعشاء مجموعتين في وقت العشاء» أي مقصورتين بأذان واحد وإقامتين، ثم اضطجع وأذن للنساء والضعفة: أي الصبيان أن يرموا ليلا، أي أن يذهبوا من مزدلفة إلى منى بعد نصف الليل بساعة ليرموا جمرة العقبة قبل الزحمة.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «فجعل رسول الله يوصيهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس» فليتأمل ذلك. فعن عائشة رضي الله عنها «أن سودة رضي الله عنها: أفاضت في النصف الأخير من مزدلفة بإذن النبي ولم يأمرها بالدم ولا النفر الذين كانوا معها» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أنا ممن قدم النبي في ضعفه أهله وروى ذلك الشيخان. ولم يأذن للرجال في ذلك إلا لضعفائهم ولا لغير ضعفائهم، أي فالمراد بالضعفة الصبيان كما تقدم، وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى أي وأن يبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مغسلين.

وفي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنه: «أنها قالت: فلأن أكون استأذنت رسول الله كما استأذنت سودة أحب إليّ من مفروح به، أي لأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس» وفي لفظ: «قبل حطمة الناس» لأن سودة رضي الله عنها كانت امرأة ضخمة ثقيلة، فاستأذنت رسول الله أن تفيض من مزدلفة مع النساء والضعفة.

وفي مسلم: «مضت أم حبيبة من جمع بليل» أي في نصف الليل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال «أرسلني مع ضعفة أهله، فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة، فلما كان وقت الفجر قام وصلى بالناس أي بالمزدلفة الصبح مغلسا ثم أتى المشعر الحرام فوقف به: أي وهو راكب ناقته، واستقبل القبلة، ودعا الله، وكبر، وهلل ووحد، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا» وجاء: «أنه دعا بالمغفرة لأمته يوم عرفة، فأجيب بأنه يغفر لها ما عدا المظالم، ثم دعا بذلك أي بالمغفرة لأمته بمزدلفة، فأجيب إلى ذلك: أي إلى غفران المظالم، فجعل إبليس لعنه الله يحثو. التراب على رأسه، فضحك من فعله» وجاء ما بين أن المراد بالأمة من وقف بعرفة.

ثم إنه دفع: أي من المشعر الحرام قبل أن تطلع الشمس: أي قال جابر رضي الله تعالى عنه: وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وأردف خلفه الفضل بن العباس. وجاءته امرأة تسأله، فقالت له: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. وفي لفظ آخر: «فوضع يده على وجه الفضل فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر» وفي لفظ آخر: «أنه لوى عنق الفضل، فقال له أبوه العباس رضي الله عنهما: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان، فلما وصل إلى محسر حرّك ناقته قليلا وسلك الطريق التي تسلك على جمرة العقبة، فرمى بها أسفلها سبع حصيات، التقطها له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من موقفه الذي رمى فيه مثل حصى الخذف» بفتح الخاء المعجمة وإسكان الذال المعجمة، وهذا لا يخالف ما عليه أئمتنا من أن الأولى أن يلتقط حصى الرمى من مزدلفة.

ويكره أخذه من المرمى لجواز أن يكون التقط له ذلك من مزدلفة ثم سقط منه عند جمرة العقبة، فأمر ابن عباس بالتقاطه.

لكن الذي في مسلم: «أنه لما دخل محسرا: أي الوادي المعروف، وهو أول منى قال: عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة، وهو يدل على أن أخذ الحصى من ذلك أولى، إلا أن يقال يجوز أن يكون قال ذلك لجماعة تركوا أخذ ذلك من مزدلفة، وأمر بمثلها ونهى عن أكبر منها، وقطع التلبية عند الرمي، وصار يكبر عند رمي كل حصاة وهو راكب ناقته». وفي رواية «على بغلة». قال بعضهم: وهو غريب جدا: «وبلال وأسامة أحدهما آخذ بخطامها والآخر يظله بثوبه، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك».

وفي رواية: «فرأيت بلالا رضي الله عنه يقود براحلته، وأسامة بن زيد رضي الله عنه رافعا عليه ثوبه من الحر حتى رمى جمرة العقبة» وخطب على بغلته الشهباء، وقيل على بعير بمنى خطبة قرر فيها تحريم الزنا والأموال والأغراض، وذكر حرمة يوم النحر، وحرمة مكة على جميع البلاد، فقال: «يا أيها الناس أيّ يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا، قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا» أعادها مرارا «ثم رفع رأسه وقال: اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وأمرهم بأخذ مناسكهم عنه لعله لا يحج بعد عامه ذلك، وكان وقوفه بين الجمرات والناس بين قائم وقاعد.

وجاء: «أنه خطب في اليوم الأول واليوم الثاني من أيام التشريق وهو أوسطها، ويقال له يوم النفر الأول لجواز النفر فيه كما يقال لليوم الثالث في أيام التشريق يوم النفر الآخر.

ثم انصرف إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة، أي وهي التي قدم بها من المدينة وذلك بيده الشريفة لكل سنة بدنة. قال بعضهم. وفي ذلك إشارة إلى منتهى عمره، لأن عمره كان في ذلك اليوم ثلاثا وستين سنة، فنحر بيده الشريفة لكل سنة بدنة، وطبخ له اللحم من لحمها، وأكل منه: أي أخذ من كل بدنة بضعة، فجعل ذلك في قدر وطبخ، فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقته، ثم أمر عليا كرّم الله وجهه فنحر ما بقي وهو تمام المائة، أي ولعله الذي أتى به عليّ كرم الله وجهه من اليمن هذا.

وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «أهدى رسول الله في هذه حجة الوداع مائة بدنة نحر منها ثلاثين بدنة، ثم أمر عليا فنحر ما بقي منها وقال له اقسم لحومها وجلودها وجلالها بين الناس، ولا تعط جزارا منها شيئا، وخذ لنا من كل بعير جذية من لحم واجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحمها ونحثو من مرقها ففعل، وأخبر أن منى كلها منحر، وأن فجاج مكة كلها منحر. ثم حلق رسول الله رأسه الشريف: أي حلقه معمر بن عبد الله وقال له: هنا وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فبدأ بشقه الأيمن فحلقه ثم بشقه الأيسر، وقسم شعره فأعطى نصفه لأبي طلحة الأنصاري»: أي شعر نصف رأسه الأيسر «بعد أن قال: ههنا أبو طلحة» وقيل أعطاه لأم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما، وقيل لأبي كريب: «وأعطى من نصفه الثاني» أي الذي هو الأيمن: «الشعرة والشعرتين للناس».

وفي رواية: «ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناول الحلاق الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة، وقال: اقسمه بين الناس».

قال في النور: والحاصل أن الروايات اختلفت في مسلم. ففي بعضها أنه أعطاه الأيسر، وفي بعضها أنه أعطاه الأيمن. ورجح ابن القيم أن الذي اختص به أبو طلحة هو الشق الأيسر.

أقول: الذي في مسلم قال للحلاق: «ها وأشار بيده إلى جانبه الأيمن، فقسم شعره بين من يليه» وفي رواية: «فوزعه الشعرة والشعرتين، ثم أشار إلى الحلاق وإلى جانبه الأيسر فحلقه فأعطاه لأم سليم» وفي رواية «قال ههنا أبو طلحة» وفي لفظ: «أين أبا طلحة فدفعه إلى أبي طلحة».

وفي رواية: «ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة، فقال اقسم بين الناس» والجمع ممكن بين هذه الروايات، والله أعلم.

وعن بعضهم قال، شقت قلنسوة خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك وهو في الحرب فسقطت فطلبها طلبا حثيثا فعوقب في ذلك، فقال: إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها.

وعن أنس رضي الله عنه، قال: «رأيت رسول الله والحلاق يحلقه وقد طاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل».

ثم تطيب، طيبته عائشة رضي الله عنها بطيب فيه مسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة، ويقال له طواف الركن، ويقال له طواف الصدر، والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع. وحلق بعض أصحابه وقصر بعض آخر. وعند ذلك قال «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين، فأعاد: وأعادوا ثلاثا، وقال في الرابعة والمقصرين».

والصحيح المشهور أنه قال ذلك في هذه الحجة التي هي حجة الوداع كما قال ذلك في الحديبية كما تقدم، وقيل لم يقله إلا في الحديبية، وبه جزم إمام الحرمين في النهاية. وقال النووي: ولا يبعد أن يكون وقع ذلك منه في الموضعين. قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتضافر الروايات بذلك في الموضعين، أي فإن في مسلم في حجة الوداع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين، قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين، قال. وللمقصرين، ثم نهض راكبا إلى مكة فطاف في يومه ذلك طواف الإفاضة قبل الظهر وشرب من نبيذ السقاية».

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: «مر النبي على راحلته وخلفه أسامة رضي الله عنه فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ»: أي من سقاية العباس رضي الله عنه، فإنهم كانوا يضعون في السقاية التمر والزبيب كما تقدم، فشرب وسقى فضله لأسامة رضي الله تعالى عنه، وقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصنعوا. ثم شرب من ماء زمزم بالدلو، قيل وهو قائم، وقيل وهو على بعير، والذي نزع له الدلو عمه العباس بن عبد المطلب» أي وفعل ذلك عند فتح مكة أيضا كما تقدم، وقيل لما شرب صب منه على رأسه الشريف. وعن ابن جريح: «أنه نزع الدلو لنفسه».

وقيل إن هذا يخالف ما تقدم من قوله: «لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت» ومن قوله يوم فتح مكة: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر» كما اتفق عليه الشيخان، وقيل صلاة بمكة وبه انفرد مسلم ورحج بأمور.

وجمع بينهما بأنه يجوز أن يكون صلى الظهر بمكة أول الوقت ثم رجع إلى منى فصلاها مرة أخرى بأصحابه، أي الذين تخلفوا عنه بمنى، فإنه وجدهم ينتظرونه، فهي له معادة. قال بعضهم: وهذا مشكل على من لم يجوّز الإعادة.

وعورض هذا بأنه في ذلك اليوم رمى جمرة العقبة ونحر ثلاثا وستين بدنة، ونحر علي كرّم الله وجهه بقية المائة، وأخذ من كل بدنة بضعة، ووضعت في قدر وطبخت حتى نضجت، فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقه، وحلق رأسه، ولبس وتطيب وخطب فكيف يمكن أن يكون صلى الظهر بمكة أول الوقت، ويعود إلى منى في وقت الظهر.

على أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «أفاض رسول الله من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى» رواه أبو داود.

وأجيب بأن النهار كان طويلا فلا يضر صدور أفعال منه كثيرة في صدر ذلك اليوم.

على أن ابن كثير رحمه الله، قال: لست أدري أن خطبته ذلك اليوم أكانت قبل ذهابه أو بعد رجوعه إلى منى؟ .

وأما رواية عائشة رضي الله تعالى عنها المقتضية لكونه صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت. فأجاب بعضهم عنها بأنها ليست نصا في ذلك بل تحتمل فليتأمل.

فإن قيل: روى البخاري وأهل السنن الأربعة: «أن النبي أخرَّ الزيارة الى الليل» وفي لفظ: «زار ليلا» قلنا المراد بالزيارة زيارة مجيئه، لا طواف الزيارة الذي هو طواف الإفاضة.

فقد روى البيهقي: «أنه كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى» وهو قول عروة بن الزبير إن رسول الله أخر الطواف يوم النحر إلى الليل، فقد أخذه من قول عائشة المتقدم، وقد علمت ما فيه.

وقد قال بعضهم: الصحيح. من الروايات وعليه الجمهور أنه طاف يوم النحر بالنهار. والأشبه أنه كان قبل الزوال هذا كلامه.

وطافت أم سلمة رضي الله عنها في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس. قالت: «وطفت ورسول الله يصلي إلى جانب البيت وهو يقرأ {بالطور وكتاب مسطور}».

أي وعورض ذلك «بأنه أرسل أم سلمة رضي الله عنها ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت» فكيف يلتئم هذا مع طوافه قبل الظهر؟ لأنه لم يكن ذلك الوقت بمكة.

ويجاب بأنه يجوز أن تكون أم سلمة أخرت طوافها لذلك الوقت وإن كانت قدمت مكة قبل الفجر.

وعورض بأنه لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور ولا جهر بالقراءة في النهار بحيث تسمعه أم سلمة من وراء الناس، هذا من المحال.

ويجاب بأن كونه لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور شهادة نفي على من يثبت. وأم سلمة رضي الله عنها لم تدّع أنها سمعت قراءته. ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال: والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصبح يومئذ، أي عند قدومه مكة لطواف الوداع عند الكعبة وأصحابه، وقرأ في صلاته (والطور) بكمالها. قال: ويؤيد ذلك ما روي عن أم سلمة قالت: «شكوت إلى رسول الله أني أشتكي، قال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، ومضت ورسول الله يصلي حينئذ إلى جنب البيت وهو يقرأ {والطور وكتاب مسطور}».

أي وحينئذ يكون ما تقدم من قول الراوي: «وطافت أم سلمة في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر» وقوله في الرواية الأخرى: «أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل النحر ثم مضت فأفاضت» أي طافت طواف الافاضة. وما جاء عن أم سلمة: «أن رسول الله أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة» قال بعضهم: ذكر يوم النحر غلط من الراوي أو من الناسخ، وإنما هو يوم النفر. ويقال بمثل ذلك فيما قبله فليتأمل، فإنه سيأتي في بعض الروايات أنه طاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح.

إلا أن يقال إنه مكث بعد الطواف لصلاة الصبح حتى صلاها وفيه أن بعضهم ذكر أنه طاف بالبيت، أي طواف الوداع بعد صلاة الصبح، والله أعلم، وطافت في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر عائشة رضي الله عنها بعد أن طهرت من حيضها وكانت حائضا يوم عرفة، أي كما تقدم. وطافت أيضا صفية رضي الله عنها في ذلك اليوم.

وسئل في ذلك اليوم عما تقدم بعضه على بعض من الرمي والحلق والنحر والطواف، فقال: لا حرج: أي لا إثم.

ففي مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «وقف رسول الله في حجة الوداع بمنى على راحلته للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر أن التحلل قبل النحر فحلقت قبل أن أنحر، فقال: اذبح ولا حرج، ثم جاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج وجاءه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج، قال: فما سئل عن شيء قدم ولا آخر إلا قال افعل ولا حرج» ولذلك قال أيضا في تقديم السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت «أي فمن شاء قدم السعي عقب طواف القدوم، ومن شاء أخره عن طواف الإفاضة» وقد تقدم أنه أتي بالسعي عقب طواف القدوم.

وأقام بمنى ثلاثة أيام يرمي الجمار: أي ماشيا في ذهابه وإيابه وأمر شخصا أن ينادي في الناس بمنى إنها أيام أكل وشرب وباءة. ورمى لكل جمرة من الجمرات الثلاث بعد الزوال، أي قبل الصلاة للظهر سبع حصيات، يبدأ بالتي تلي مسجد منى: أي الخيف ويقف عندها للدعاء، ثم التي تليها وهي الوسطى ثم يقف للدعاء ثم جمرة العقبة، ولم يقف عندها للدعاء: أي وكان أزواجه يرمين بالليل. وخطبهم أي الناس في اليوم الأول من أيام منى كما تقدم» ويقال لذلك اليوم يوم القر لأنهم يقرون فيه في منى وهو يوم الرؤوس لأكلهم الرؤوس في ذلك اليوم، وفي اليوم الثاني من أيام منى وهو يوم النفر الأول، أي ويقال له يوم الأكارع: أي لأكلهم الأكارع في ذلك اليوم.

وأوصى بذي الأرحام خيرا. فقد خطب في الحج خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة. والثانية يوم عرفة. والثالثة يوم النحر بمنى. والرابعة يوم القر بمنى. والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضا.

ثم نهض من منى في اليوم الثالث الذي هو يوم النفر الآخر ونفر معه المسلمون بعد الزوال أي وبعد الرمي.

واستأذنه عمه العباس رضي الله عنه في عدم المبيت بمنى في الليالي الثلاث من أجل السقاية فرخص له في ذلك.

وضربت له قبة بالمحصب وهو الأبطح، أي ضربها له أبو رافع رضي الله عنه، وكان على ثقله ولم يأمره بذلك. فعن أبي رافع رضي الله عنه: «لم يأمرني رسول الله أن أنزل بالأبطح، ولكني جئت فضربت قبة، فجاء فنزل، وكان قال لأسامة رضي الله عنه: غدا ننزل بالمحصب إن شاء الله» وهو المحل الذي تحالف فيه قريش وكنانه على منابذه بني هاشم وبني المطلب حتى يسلموا إليهم النبي ليقتلوه، أي وكان ذلك سببا لكتابة الصحيفة.

وفيه أنه تقدم في فتح مكة أنه نزل بالحجون عند شعب أبي طالب المكان الذي حصرت فيه بنو هاشم وبنو المطلب وأنه خيف بني كنانة الذي تقاسمت قريش فيه جملتهم.

وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: «منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر».

ولما نزل بالمحصب صلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة، ثم إن عائشة رضي الله عنها قالت له: يا رسول الله أأرجع بحجة ليس معها عمرة، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقال: اخرج بأختك من الحرم، ثم افرغا من طوافكما حتى تأتياني ههنا بالمحصب، قالت: فقضى الله العمرة، وفي لفظ: «فاعتمرنا من التنعيم مكان عمرتي التي فاتتني، وفرغنا من طوافها في جوف الليل، فأتيناه بالمحصب فقال: فرغتما من طوافكما، قلنا نعم، فأذن في الناس بالرحيل» وفي رواية: «فلقيني رسول الله وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة إليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها».

واعترض كيف يأتي قولها عمرتي التي فاتتني مع قوله: «قد حللت من حجتك وعمرتك» وكيف أقرّها على ذلك.

وأجيب بأنها لما رأت صواحبها أتينَ بعمرة ثم بحج وهي لم تأت إلا بحج أحبت أن تأتي بعمرة أخرى زائدة على الحج وإن كانت العمرة مندرجة فيه، وأقرها تطييبا لخاطرها، لأنه كان معها إذا هويت الشيء الذي لا مخالفة فيه للشرع تابعها عليه. وبهذا استدل أئمتنا على جواز الإحرام بالعمرة قبل طواف الوداع.

وأمر الناس أن لا ينصرفوا: أي إلى بلادهم حتى يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت: أي الذي هو طواف الوداع.

ورخص في ترك المؤمنين ذلك للحائض التي قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضها كصفية أم المؤمنين رضي الله عنها، فإنها حاضت بعد طواف الإفاضة ليلة النفر من منى. أي وقالت: ما أراني إلا حابستكم لانتظار طهري وطواف الوداع، فقال لها: أوما كنت طفت يوم النحر؟ أو في لفظ: «ما كنت طفت طواف الإفاضة يوم النحر؟ قالت بلى، قال: لا بأس انفري معنا» وفي رواية: «قال يكفيك ذلك» أي لأنه هو طواف الركن الذي لا بد لكل أحد منه، بخلاف طواف الوداع لا يجب على الحائض ولا يلزمها الصبر لتطهر وتأتي به، ولا دم عليها في تركه.

قال الإمام النووي رحمه الله: وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض السلف وهو شاذ مردود.

ثم إنه دخل مكة في تلك الليلة، وطاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح، ثم خرج من الثنية السفلى ثنية كدى بضم الكاف والقصر: وهو عند باب شبيكة متوجها إلى المدينة: أي التي خرج منها لما فتح مكة كما تقدم.

وكان خروجه من المسجد من باب الحزورة، ويقال له باب الحناطين. وجاء عن جابر رضي الله عنه: «أن خروجه من مكة كان عند غروب الشمس فلم يصلّ حتى أتى سرف» قال بعضهم: لعل هذا كان في غير حجة الوداع، فإنه طاف بالبيت بعد صلاة الصبح فماذا أخره إلى وقت الغروب هذا غريب جدا هذا كلامه. وما روي أنه رجع بعد طواف الوداع إلى المحصب غير محفوظ.

أقول: هذا جمع به الإمام النووي رحمه الله بين الروايات المتقدمة عن عائشة حيث قال: ووجه الجمع أنه بعث عائشة مع أخيها بعد نزوله المحصب، وواعدها أن تلحقه بعد اعتمارها، ثم خرج هو بعد ذهابها فقصد البيت ليطوف طواف الوداع، ثم رجع بعد فراغه من طواف الوداع فلقيها وهو صادر وهي داخله لطواف عمرتها، ثم لما فرغت لحقته وهو في المحصب.

قال: وأما قولها فأذن في أصحابه فخرج ومر بالبيت وطاف فمتأول بأن في الكلام تقديما وتأخيرا، وإلا فطوافه كان بعد خروجها إلى العمرة وقبل رجوعها، وأنه فرغ قبل طوافها للعمرة هذا كلامه فليتأمل، فكانت مدة دخوله إلى مكة وخروجه منها عشرة أيام، وهذا السياق يدل على أنه لم يأت بعمرة بعد حجه، وهو لا يناسب القول بأنه أحرم مفردا بالحج، بل يدل للقول بأنه أحرم قارنا أو نواهما بعد إطلاق الإحرام، أو أدخل الحج على العمرة.

وفي كلام بعضهم لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده ولو جعل حجه منفردا لكان خلاف الأفضل، أي لأنه لم يقل أحد إن الحج وحده من غير اعتمار في سنته أفضل من القران.

وفي كلام بعض آخر: أجمعوا على أنه لم يعتمر بعد الحج، فتعين أن يكون متمتعا تمتع قران.

وقد يطلق الإفراد على الإتيان بأعمال الحج فقط وإن كان قد أحرم بهما معا كما أن القران قد يطلق على الإتيان بطوافين وسعيين. فمن روى عنه أنه أفرد الحج أراد به أنه أتى بأعمال الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا.

ولم أقف على أنه دخل الكعبة في هذه الحجة التي هي حجة الوداع.

ولما طاف سبعا وقف في الملتزم بين ركن الحجر وبين باب الكعبة فدعا الله وألزق جسده: أي صدره الشريف ووجهه بالملتزم.

أي ولما وصل إلى محل بين مكة والمدينة يقال له غدير خمّ بقرب رابغ جمع الصحابة وخطبهم خطبة بين فيها فضل علي كرم الله وجهه، وبراءة عرضه مما تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وبخلا، والصواب كان معه كرم الله وجهه في ذلك فقال «أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب» أي وفي لفظ في الطبراني «فقال: يا أيها الناس إنه قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا نصف عمر الذي يليه من قبله، وإني لأظن أن يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول، وإنكم مسؤولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيرا، فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: اللهم اشهد» الحديث «ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته، أي فقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن تتفرقا حتى تردا عليّ الحوض»، وقال في حق علي كرم الله وجهه لما كرر عليهم: ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا، وهم يجيبونه بالتصديق والاعتراف، ورفع يد علي كرم الله وجهه وقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار» وهذا أقوى ما تمسكت به الشيعة والإمامية والرافضة على أن عليا كرم الله وجهه أولى بالإمامة من كل أحد، وقالوا هذا نص صريح على خلافته سمعه ثلاثون صحابيا وشهدوا به، قالوا: فلعلي عليهم من الولاء ما كان له عليهم، بدليل قوله: «ألست أولى بكم» وهذا حديث صحيح ورد بأسانيد صحاح وحسان، ولا التفات لمن قدح في صحته كأبي داود وأبي حاتم الرازي. وقول بعضهم إن زيادة اللهم وال من والاه إلى آخره موضوعة مردود، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيرا منها.

وقد جاء أن عليا كرم الله وجهه قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أنشد الله من ينشد يوم غدير خمّ إلا قام، ولا يقوم رجل يقول أنبئت أو بلغني إلا رجل سمعت أذناه ووعى قلبه، فقام سبعة عشر صحابيا وفي رواية ثلاثون صحابيا، وفي المعجم الكبير ستة عشر. وفي رواية اثنا عشر، فقال: هاتوا ما سمعتم، فذكروا الحديث، ومن جملته «من كنت مولاه فعلي مولاه» وفي رواية« فهذا مولاه» وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه: وكنت ممن كتم، فذهب الله ببصري، وكان علي كرم الله وجهه دعا على من كتم.

قال بعضهم: ولما شاع قوله «من كنت مولاه فعليّ مولاه» في سائر الامصار وطار في جميع الأقطار، بلغ الحارث بن النعمان الفهري، فقدم المدينة فأناح راحلته عند باب المسجد، فدخل والنبي جالس وحوله أصحابه، فجاء حتى جثا بين يديه، ثم قال: يا محمد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا اله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ذلك منك، وإنك أمرتنا أن نصلي في اليوم والليلة خمس صلوات ونصوم شهر رمضان ونزكي أموالنا ونحج البيت فقبلنا ذلك منك، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء من الله أو منك؟ فاحمرت عينا رسول الله وقال: والله الذي لا إله إلا هو إنه من الله وليس مني، قالها ثلاثا، فقام الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك» وفي رواية «اللهم إن كان ما يقول محمد حقا {فأرسل علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}، فوالله ما بلغ باب المسجد حتى رماه الله بحجر من السماء فوقع على رأسه فخرج من دبره فمات، وأنزل الله تعالى {سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع} الآية، وكان ذلك اليوم الثامن عشر من ذي الحجة» وقد اتخذت الروافض هذا اليوم عيدا فكانت تضرب فيه الطبول ببغداد في حدود الأربعمائة في دولة بني بوية. وما جاء: من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهرا. قال بعضهم قال الحافظ الذهبي هذا حديث منكر جدا أي بل كذب.

فقد ثبت في الصحيح ما معناه: «أن صيام شهر رمضان بعشرة أشهر» فكيف يكون صيام يوم واحد يعدل ستين شهرا هذا باطل، هذا كلامه فليتأمل.

وقد رددتُ عليهم في ذلك بما بسطته في كتابي المسمى بالقول المطاع في الرد على أهل الابتداع لخصت فيه الصواعق للعلامة ابن حجر الهيتمي، وذكرت أن الرد عليهم في ذلك من وجوه:

أحدها: أن هؤلاء الشيعة والرافضة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلون به على الإمامة من الأحاديث، وهذا الحديث مع كونه آحاد طعن في صحته جماعة من أئمة الحديث كأبي داود وأبي حاتم الرازي كما تقدم، فهذا منهم مناقضة، ومن ثم قال بعض أهل السنة: يا سبحان الله من أمر الشيعة والرافضة إذا استدللنا عليهم بشيء من الأحاديث الصحيحة قالوا هذا خبر واحد لا يعني، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموا أتوا بأخبار باطلة كاذبة لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد التي منها أنه قال لعلي أخي ووصي وخليفتي في ديني بكسر الدال وخبر: أنت سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. وخبر: سلموا على عليّ بإمرة الناس، فإنها أحاديث كاذبة موضوعة مفتراة عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام.

ثانيها: أن اسم المولى يطلق على عشرين معنى، منها: أنه السيد الذي ينبغي محبته ويجتنب بغضه، ويؤيد إرادة ذلك «أن سبب إيراد ذلك أن عليا كرم الله وجهه تكلم فيه بعض من كان معه باليمن من الصحابة وهو بريدة، قدم هو وإياه عليه في تلك الحجة التي هي حجة الوداع، وجعل يشكوه له لأنه حصل له منه جفوة، فجعل يتغير وجه رسول الله وقال: يا بريدة لا تقع في علي، فإن عليا مني وأنا منه، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فقال ذلك لبريدة خاصة. ثم لما وصل إلى غدير خم أحب أن يقول ذلك للصحابة عموما أي فكما عليهم أن يحبوني فكذلك ينبغي أن يحبوا عليا. وعلى تسليم أن المراد أنه أولى بالإمامة، فالمراد في المآل لا في الحال قطعا، وإلا لكان هو الإمام مع وجوده، والمآل لم يعين له وقت، فمن أين أنه عقب وفاته، وجاز أن يكون بعد أن يعقد له البيعة ويصير خليفة، ويدل لذلك أنه كرم الله وجهه لم يحتج بذلك إلا بعد أن آلت إليه الخلافة ردا على من نازعه فيها كما تقدم. فسكوته كرم الله وجهه عن الاحتجاج بذلك إلى أيام خلافته، قاض على كل من له أدنى عقل فضلا عن فهم بأنه لا نص في ذلك على إمامته عقب وفاته.

ثالثها: أنه تواتر النقل عن علي كرم الله وجهه، أنه لم ينص عند موته على خلافة أحد لا هو ولا غيره، فقد قيل له كرم الله وجهه كما يأتي: حدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدّق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك ولو لم أجد إلا بردتي هذه. وفي رواية: ما تركت أخا بني تيم وعدي يعني أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ينوبان على منبره ولقاتلتهما بيدي.

رابعها: أن لو كان هذا الحديث نصا على إمامته لم يسعه الامتناع من متابعة عمه العباس رضي الله تعالى عنه لما قال له العباس: اذهب بنا إلى رسول الله، فإن كان هذا الأمر فينا علمنا. وأيضا لو كان الحديث نصا لكان لما قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير، واحتج عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه بأن الأئمة من قريش قالوا له: قد ورد النص بخلافة علي كرم الله وجهه، ولم يكن بين ذكر الحديث في غدير خم وبين ذلك إلا نحو شهرين، فاحتمال النسيان على عليّ والعباس وعلى جميع الأنصار رضي الله تعالى عنهم من أبعد البعيد. على أنه ورد أنه لما قيل لعلي إن الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير قال كرم الله وجهه: هلا ذكرت الأنصار قول النبي «يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم» فكيف يكون الأمر فيهم مع الوصاية بهم، ودعوى الرافضة والشيعة أن الصحابة رضوان الله عليهم علموا هذا النص ولم يعملوا به عنادا غير مسموعة إذا هي ظاهرة البطلان، لأن في ذلك تضليلا لجميع الصحابة وهم رضي الله تعالى عنهم معصومون عن أن يجتمعوا على ضلالة.

ومن العجب العجيب أن بعض غلاة الرافضة يقول بتكفير الصحابة بسبب ذلك، وأن عليا كرم الله وجهه كفر لأنه أعان الكفار على كفرهم.

وأما دعواهم أن عليا إنما ترك النزاع في أمر الخلافة تقية وامتثالا لوصيته أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاٌ فكذب وافتراء، إذ كيف يجعله إماما على الأمة ويمنعه أن يسل سيفا على من امتنع من قبول الحق؟ وكيف منع سل السيف على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم مع قلة أتباعهم وكثرة أتباعه، وسله على معاوية رضي الله تعالى عنه مع وجود من معه من الألوف، ولما ساغ له أن يقول كما تقدم، لو كان عندي من النبي عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم وعدي ينوبان على منبره، ولما بين سبب تركه لمقاتلة أبي بكر وعمر وعثمان ومقاتلته لمعاوية بأن أبا بكر اختاره لديننا فبايعناه فولاها عمر فبايعناه وأعطيت ميثاقي لعثمان، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل المصرين البصرة والكوفة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابتي ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي وكنت أحق بها منه: يعني معاوية رضي الله تعالى عنه كما سيأتي. ومن ثم لما قيل للحسن المثنى ابن الحسن السبط إن خبر «من كنت مولاه فعلي مولاه» نص في إمامة علي كرم الله وجهه قال: أما والله لو يعني النبي بذلك الإمارة والسلطان لأفصح لهم ولقال لهم: يا أيها الناس هذا والٍ بعدي والقائم عليكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، ووالله لو كان رسول الله عهد إليه في ذلك ثم تركه كان أعظم خطيئة.

وقد سئل الإمام النووي رحمه الله: هل يستفاد من قول النبي «من كنت مولاه فعليّ مولاه» أنه كرم الله وجهه أولى بالإمامة من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. فأجاب إنه لا يدل على ذلك، بل معنى ذلك عند العلماء الذين هم أهل هذا الشان وعليهم الاعتماد في تحقيق ذلك «من كنت ناصره ومواليه ومحبه ومصافيه فعليّ كذلك».

وقد قيل في سبب ذلك أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى قال لعلي كرم الله وجهه: لست مولاي، وإنما مولاي رسول الله، فقال رسول ذلك. ولما وصل إلى ذي الحليفة بات بها، أي لأنه كان كره أن يدخل المدينة ليلا.

ولما رأى المدينة كبر ثلاث مرات وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دخل عليه الصلاة والسلام المدينة نهارا من طريق المعرَّس بفتح الراء المشددة.


باب ذكر عمره

قد اعتمر: أي بعد الهجرة أربع عمر. فقد قال بعضهم: لا خلاف أن عمره لم تزد على أربع أي كلهن في ذي القعدة، مخالفا للمشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور أي كما تقدم.

وأول تلك الأربعة عمرة الحديبية، أي وكانت في ذي القعدة التي صده فيها المشركون عن البيت.

وثانيها: عمرته من العام المقبل، أي وهي عمرة القضاء، وكانت في ذي القعدة كما تقدم. وعن قتادة رضي الله تعالى عنه «كان المشركون فجروا عليه حيث ردوه في الحديبية وكان في ذي القعدة، فاقتص الله منهم وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي هو ذو القعدة، وأنزل الله {الشهر الحرام بالشهر الحرام}.

وثالثها: عمرته حين قسم غنائم حنين، وكانت من الجعرانة، وكانت في ذي القعدة، ودخل مكة ليلا، فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت بها. ومن ثم خفيت على الناس كما تقدم.

ورابعها: عمرته مع حجة الوداع: أي التي دخلت في الحج بناء على أنه أحرم قارنا أو التي أدخلها على الحج بناء على أنه أحرم بالحج خصوصية له، أو عينهما بعد أن أحرم مطلقا على ما تقدم فإنه أحرم لخمس بقين من ذي القعدة. وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «اعتمر رسول الله ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع».

وأخرج البخاري ومسلم «أنه اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته» أي فإنه لم يوقعها في ذي القعدة، بل أوقعها في ذي الحجة تبعا للحج. وأما إحرامه بها فكان في ذي القعدة في خمس بقين منه كما تقدم.

وأخرجا أيضا أن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها وإنا لنسمع صوتها بالسواك تستن، فقلت: يا أبا عبد الرحمن اعتمر رسول الله في رجب؟ قال نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر رسول الله في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهدها، وفي رواية إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط، أي وإنما اعتمر في ذي القعدة.

ولكن روى الدارقطني رحمه الله عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت «خرجت مع رسول الله في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت» قال في الهدى إنه غلط عليها وهو الأظهر، فإنه ما اعتمر في رمضان قط. أقول: وزاد بعضهم أنه اعتمر أيضا عمرتين عمرة في رجب وعمرة في شوال فيكون اعتمر ستة، إلا أن يقال: يجوز أن يكون مستند القائل اعتمر في رجب قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المتقدم، وقد تقدم رده وجاز أن يكون قوله اعتمر في شوال أي خرج للعمرة في شوال وهي العمرة التي كانت في ضمن حجة الوداع، والله أعلم.


باب ذكر نبذ من معجزاته

التي يمكن التحدي بها، سواء تحدى بها بالفعل كالقرآن وتمنى اليهود الموت أولا. وتلك المعجزة اصطلاحا هي الحاصلة له بعد البعثة إلى وفاته. وأما الأمور الحاصلة له بين يدي أيام مولده وبعثته، وقبل ذلك من الأمور الخارقة للعادة الغربية الموهنة للكفر، التي يعجز عن بلوغها قوى البشر، ولا يقدر عليها إلا خالق القوى والقدر، لأنها في الاصطلاح يقال لها إرهاصات وتأسيسات للرسالة، ولا تسمى في الاصطلاح معجزات.

وهي إذا تليت على قلب المؤمن زادته إيمانا، وإذا تفكر فيها ذو البصيرة واليقين زادته إيقانا، فإن كل من أرسله الله عز وجل لم يخله من آية أيده بها مخالفة للعادات، لكون ما يدعيه من الرسالة مخالفا لها، فيستدل بتلك الآية على صدقه فيما يدعيه، لأن اقترانها بدعواه الرسالة تصديق له فيها.

وقد كانت للأنبياء: أي الرسل معجزات مختلفة، أي وهو أكثر الرسل معجزة، وأعظمهم آية، وأظهرهم برهانا فقد جاء «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن عليه البشر»: أي آمنوا بسبب إظهاره «وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله عز وجل إليّ» وهو القرآن لأنه الذي تحداهم به «فأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة».

أي فإنه لما غلب السحر في زمن موسى عليه الصلاة السلام جاءهم بجنسه في معجزاته، فألقى العصا، وفلق البحر. ولما غلب الطب في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام جاءهم بجنسه، فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص. ولما غلبت الفصاحة وقول الشعر في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام جاءهم بالقرآن. وهذا السياق يدل على أن المعجزة خاصة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، ويوافق ذلك قول صاحب المواقف وشرحه، وهي: أي المعجزة بحسب الاصطلاح عبارة عما قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله.

لكنه قال في شروط المعجزة: الرابع أن يكون أي الأمر الخارق للعادة ظاهرا على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له انتهى. فيحتمل أنه أراد بالنبوة الرسالة. ويحتمل أنه أراد بها ما يعم الرسالة للشخص نفسه، لأن النبي غير الرسول مرسل لنفسه، ودعواه النبوة متضمنة لدعواه الرسالة لنفسه، فهو رسول إلى نفسه، فتكون المعجزة عامة في حق الرسول والنبي الذي ليس برسول.

ومما يؤيد هذا الثاني قول النسفي رحمه الله في عقائده: وأيدهم، قال السعد رحمه الله: أي الأنبياء بالمعجزات الناقضات للعادات.

ثم قال: وقد روي بيان عددهم في بعض الأحاديث. قال السعد على ما روي «أن النبي سئل عن عدد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. وفي رواية، مائتا ألف وأربعة وعشرون الفا» ويؤيده أيضا قول الإمام السنوسي في شرح عقيدته الكبرى: إن معجزة النبي غير الرسول، يجوز أن تتأخر بعد موته، بخلاف معجزة الرسول فإن فيها خلافا إلى آخر ما ذكر. ومما يؤيد هذا الثاني أيضا ما نقله في الخصائص الصغرى عن بعضهم وأقره: فرض الله على الأنبياء إظهار المعجزات ليؤمنوا بها، وفرض على الأولياء كتمان الكرامات لئلا يفتتنوا بها انتهى. فقد قابل بين المعجزة والكرامة. وفيه تصريح بأنه يجب على النبي غير المرسل إظهار المعجزة.

وعن القرافي المالكي رحمه الله أنه يجب على النبي أنه يخبر بنبوته، وذكر في الأصل أن الغرض ذكر نبذة من معجزاته، وإلا فمعجزاته كالبحر المتدافق بالأمواج.

وقد ذكر بعض العلماء أن معجزاته لا تنحصر. وفي كلام بعض آخر أنه أعطى ثلاثة آلاف معجزة: أي غير القرآن، فإن فيه ستين، وقيل سبعين ألف معجزة تقريبا.

قال في الخصائص: قال الحليمي: وليس في شيء معجزات غيره ما ينجو نحو اختراع الأجسام، فإن ذلك من معجزات نبينا خاصة، هذا كلامه.

وفيه أن هذا معارض بقول الله تعالى حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام {إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير} الآية. والغرض ذكر تلك النبذة مجموعة وإن كان أكثرها قد سبق لكنه مفرق، أي وأنبه على ما تقدم بقولي أي كما تقدم، وأسكت عن ذلك فيما لم يتقدم.

فمن معجزاته وهو أعظمها القرآن، أي لأنه تعالى أتى به مشتملا على أخبار الأمم السالفة وسير الأنبياء الماضية التي عرفها أهل الكتاب، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا عرف بمجالسة الكهان والأحبار، لأنه قد نشأ بين أظهرهم في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار القرون الماضية والأمم السالفة التي اشتمل عليها، أي ومن كان من العرب يكتب ويقرأ ويجالس الأحبار لم يدرك علم ما أخبر به من القرآن خصوصا عن المغيبات المستقبلة الدالة على صدقه، لوقوعها على ما أخبر به. وقد أعجز الفصحاء البلغاء، أي لحسن تأليفه والتآم كلماته، بهرت العقول بلاغته، وظهرت على كل قول فصاحته، أحكمت آياته وفصلت كلماته، فحارت فيه عقولهم، وتبلدت فيه أحلامهم، وهم رجال النظم والنثر، وفرسان السجع والشعر.

وقد جاء على وصف مباين لأوصاف كلامهم النثر، لأن نظمه لم يكن كنظ الرسائل والخطب، ولا الأشعار وأسجاع الكهان.

وقد تحداهم ودعاهم إلى معارضته والإتيان بأقصر سورة منه، أي وهو دليل قاطع على أنه لم يقل له ذلك إلا وهو واثق مستيقن أنهم لا يستطيعون ذلك، لكونه من عند الله، إذا يستحيل أن يقول ذلك وهو يعلم أنه الذي تولى نظمه ولم ينزل عليه من عند الله، إذ لا يأمن أن يكون في قومه من يعارضه وهم أهل فصاحة وشعر وخطابة قد بلغوا الدرجة العليا في البلاغة، وهو من جنس كلامهم، فيصير كذابا، ولو كان في استطاعة أحد منهم ذلك لما عدلوا عن ذلك إلى المحاربة التي فيها قتل صناديدهم ونهب أموالهم وسبى ذراريهم، أي لأن النفوس إذا قرعت بمثل هذا استفرغت الوسع في المعارضة، فهو ممتنع في نفسه عن المعارضة، خلافا لمن قال إنما لم تقع المعارضة منهم لأن الله تعالى صرفهم عنها مع وجود قدرتهم عليها، لأنه وإن كان صرفهم عنها فيه إعجاز لكن الإعجاز في الأول أكمل وأتم، وهو اللائق بعظيم فضل القرآن.

ومن ثم لما جاءه الوليد بن المغيرة وكان المقدم في قريش بلاغة وفصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش كما تقدم، وقال له: اقرأ عليّ، فقرأ {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقال له أعده، فأعاد ذلك قال: والله إن له الحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه. وفي رواية قرأ عليه {ح?م تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب} الآيات فانطلق حتى أتى منزل أهله بني مخزوم فقال: والله كلام محمد ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إلى آخر ما تقدم، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: قد صبأ الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلها، فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أكفيكموه، فقعد على هيئة الحزين فمر به الوليد، فقال له: مالي أراك كئيبا؟ قال: وما يمنعني أن أحزن، وهذه قريش قد جمعوا لك نفقة ليعينوك على أمرك، وزعموا أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه، فغضب الوليد وقال: أوليس قد علمت قريش أني من أكثرهم مالا وولدا، وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام؟ فانطلق مع أبي جهل حتى أتى مجلس بني مخزوم فقال: هل تزعمون أن محمدا كذاب فهل رأيتموه كذبكم قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: فتزعمون أنه مجنون فهل رأيتموه خرفكم قط؟ أي أتى بالخرافات من القول؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل سمعتموه يخبر بما تخبر به الكهنة؟ قالوا لا، فعند ذلك قالت له قريش، فما هو يا أبا المغيرة؟ فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر.

وقد سمع أعرابي رجلا يقرأ {فاصدع بما تؤمر} فسجد، فقيل له في ذلك؟ فقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام. وسمع آخر رجلا يقرأ {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} فقال: أشهد أن مخلوقا لن يقدر على مثل هذا الكلام.

أي ولما سمع الأصمعي من جارية خماسية أو سداسية فصاحة فعجب منها، فقالت له: أو تعدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} الآية فجمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟

ولما أراد بعضهم معارضة بعض سوره وقد أوتي من الفصاحة البلاغة الأوفى، فسمع صبيا في المكتب يقرأ {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر} رجع عن المعارضة ومحا ما كتبه. وقال والله ما هذا من كلام البشر. قال بعضهم: ولم يتحدّ بشيء من معجزاته إلا بالقرآن. قال لعضهم: كل جملة من القرآن معجزة، وخفظ من التبديل والتحريف على ممر الدهور، وقارئه لا يمله، وسامعه لا يمجه، بل لا يزال مع تكريره وترديده غضا طريا، تتزايد حلاوته، وتتعاظم محبته، وغيره من الكلام ولو بلغ الغاية يمل من الترداد ويعادى، إذا أعيد يؤنس به في الخلوات ويستراح بتلاوته من شدائد الأزمات، واشتمل على جميع ما اشتملت عليه جميع الكتب الإلهية وزيادة.

وقد قال بعض بطارقة الروم لما أسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: إن آية {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه} جمعت جميع ما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام من أحوال الدنيا والآخرة.

قال الحليمي في منهاجه: ومن عظم قدر القرآن أن الله خصه بأنه دعوة وحجة، ولم يكن هذا النبي قط، إنما يكون لكل منهم دعوة، ثم يكون له حجة غيرها، وقد جمعهما الله تعالى لرسوله في القرآن، فهو دعوة وحجة، دعوة بمعانيه، حجة بألفاظه.

وكفى الدعوة شرفا أن تكون حجتها معها، وكفى حجتها شرفا أن لا تنفصل دعوتها عنها. وجمع كل شيء أي خصوصا الإخبار بالمغيبات، وتوجد على طبق ما أخبر به، والإخبار عن القرون السالفة، كقصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام، وقصة أهل الكهف، وقصة ذي القرنين. والأمم الماضية كقصص الأنبياء مع أممهم، وتيسره للحفظ، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، ولا تزيع به الأهواء.

ومنها شق صدره الشريف، أي والتآمه من غير حصول أدنى ضرر ولا مشقة مع تكرر ذلك أربعا أو خمسا كما تقدم.

ومنها إخباره عن صفة بين المقدس: أي لما أخبر قريشا بأنه أسري به إلى بيت المقدس كما تقدم.

ومنها إخباره بموت النجاشي يوم موته، وصلاته عليه مع أصحابه، فقال المنافقون: انظروا هذا يصلي على علج نصراني: أي لم يره قط، فأنزل الله تعالى {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم} الآية.

ومنها انشقاق القمر كما تقدم.

ومنها أن الملأ من قريش لما تعاقدوا على قتلة في دار الندوة، جاؤوا إلى منزله، وقعدوا إلى بابه، فخرج عليهم وقد خفضوا أبصارهم، وسقطت ذقونهم في صدورهم، وأقبل حتى قام على رؤوسهم قبضة من تراب، والقبضة بضم القاف: الشيء المقبوض، وبفتحها: المرة الواحدة، وقال «شاهت الوجوه» أي قبحت، وألقاها على رؤوسهم، فكل من أصابه شيء من ذلك قتل يوم بدر كما تقدم.

ومنها أنه هزم القوم يوم حنين بقبضة من تراب رمى بها في وجوههم كما تقدم له في بدر مثل ذلك.

ومنها نسج العنكبوت عليه في الغار، أي وعلى بعض أتباعه كما تقدم.

ومنها ما وقع لسراقة رضي الله تعالى عنه، من غوص قوائم فرسه في الأرض الجلد كما تقدم في خبر الهجرة.

ومنها در الشاة التي لم ينز الفحل عليها كما تقدم في قصة شاة أم معبد. وفي قصة أخرى عن أبي العالية قال: «بعث النبي إلى أبياته التسعة يطلب طعاما وعنده ناس من أصحابه فلم يجد، فنظر إلى عناق في الدار ما نتجت قط، فمسح مكان ضرعها، فدفقت بضرع مدلى بين رجليها، فدعا بقعب فحلب فيه، فبعث إلى أبياته قعبا، ثم قعبا، ثم حلب فشرب وشربوا».

ومنها دعوته لعمر رضي الله تعالى عنه أن يعز به الإسلام فكان كذلك كما تقدم.

ومنها دعوته لعليّ أن يذهب عنه الحر والبرد فلم يشك واحدا منهما وكان كرم الله وجهه يلبس ثياب الشتاء في الصيف وثياب الصيف في الشتاء ولا يتأثر كما تقدم.

أي ومن ذلك ما حدّث به بلال رضي الله تعالى عنه قال: «أذنت في غداة باردة فخرج النبي فلم ير في المسجد أحدا، فقال: أين الناس؟ فقلت: حبسهم البرد. فقال: اللهم أذهب عنهم البرد، قال: فلقد رأيتهم يتروّحون في الصلاة».

ومنها دعاؤه لعلي كرم الله وجهه وقد أصابه مرض واشتد به وسمعه يقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني، وإن كان بلاء فصبرني، فقال له النبي : كيف قلت؟ فأعاد ذلك عليه، فمسح بيده المباركة الشريفة، ثم قال: اللهم اشفه، فما عاد ذلك المرض إليه.

أي ومنها دعاؤه لحذيفة رضي الله تعالى عنه في الخندق ليلة انهزام الأحزاب، بأن الله يذهب عنه البرد، فكان كأنه يمشي في حمام كما تقدم.

ومنها أنه تفل في عيني علي كرم الله وجهه وهو أرمد، فعوفي من ساعته كما تقدم في خيبر.

أي ومنها أنه بصق في نحر كلثوم بن الحصين وقد رمي فيه بسهم يوم أحد فبرأ كما تقدم.

ومنها تفل على أثر سهم في وجه أبي قتادة في غزاة ذي قرد، فما ضرب عليه ولا قاح كما تقدم.

ومنها أنه تفل على شجة عبد الله بن أنيس فلم تؤلمه كما تقدم.

ومنها أنه نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه يوم خيبر فبرئت كما تقدم.

أي ومنها أنه نفث على رجل ورأس زيد بن معاذ رضي الله تعالى عنه حين أصابهما السيف عند قتل كعب بن الأشرف فبرآ كما تقدم.

ومنها أنه نفث على ساق بن علي الحكم يوم الخندق وقد انكسرت، فبرأ مكانه ولم ينزل عن فرسه كما تقدم.

ومنها أنه نفث على يد معوذ بن عفراء وقد قطعها عكرمة بن أبي جهل يوم بدر، وجاء يحملها فألصقها رسول الله فالتصقت كما تقدم.

ومنها أن محمد بن حاطب يحدث عن أمه أنها ولدته بأرض الحبشة وأنها خرجت به، قالت: حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طعاما ففني الحطب، فذهبت أطلب، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فقدمت المدينة، فأتيت بك رسول الله، فقلت: يا رسول الله هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي بك: أي بعد الإسلام قالت: فتفل رسول الله في فيك ومسح على ذراعك ودعا لك ثم تفل على يدك، ثم قال: «أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما» قالت: فما قمت من عنده حتى برئت يدك.

ومنها أنه نفث على عاتق خبيب وقد أصيبت يوم بدر بضربة على عاتقه حتى مال شقه فرده رسول الله مكانه، فالتصق كما تقدم.

ومنها رد عين قتادة بعد أن سالت على خده، فكانت أحسن عينيه كما تقدم.

ومنها أن ضريرا شكا إليه ذهاب بصره وأنه لا قائد له، فقال له: توضأ وصلّ ركعتين ولقنه دعاء فدعا به فأبصر لوقته.

أي ومنها أن رجلا ابيضت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئا، فنفث رسول الله في عينيه فأبصر. قال بعضهم: رأيته وهو ابن ثمانين يدخل الخيط في الإبرة.

ومنها أن عتبة بن فرقد السلمي كان يشم منه رائحة الطيب ولا يمس طيبا، لكونه نفث في يده الشريفة ومرّ بها على جسده. قال بعض نساء عتبة: كنا أربع نسوة مامنا امرأة إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها وما يمس عتبة الطيب، وإذا خرج إلى الناس، قالوا: ما شممنا ريحا أطيب من ريح عتبة، فقلن له يوما: إنا لنجهد في الطيب ولأنت أطيب ريحا منا فممّ ذلك؟ فقال: أخذني الشرا على عهد رسول الله، فشكوت إليه ذلك، فأمرني أن أتجرد فتجردت وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده الشريفة ودلك بها الأخرى ثم مسح ظهري وبطني بيديه فعبق هذا الذيب من يديه يومئذ، وإلى ذلك أشار صاحب الأصل بقوله رحمه الله ورحمنا به:

وعتبة لما مسه راح عاطرا ** يضوع الشذا منه بأعطر ما يحوي

ومنها دعوته لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأن الله يعلمه التأويل والفقه في الدين، فعن ابن عباس رضي الله عنهما «ضمني رسول الله إلى صدره، وقال: اللهم علمه الكتاب»، وفي لفظ «الحكمة» وعنه رضي الله عنه، قال: «أتى النبي الخلاء فوضعت له وضوءا، فلما خرج قال: من وضع هذا؟ فأخبر، فقال: اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل».

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «دعا رسول الله لعبد الله بن عباس، قال: اللهم بارك فيه، وانشر منه فكان كما دعا».

ومنها دعاؤه لجمل جابر رضي الله عنهما، فصار سابقا بعد أن كان مسبوقا كما تقدم.

ومنها دعاؤه لأنس بطول العمر وكثرة المال والولد فكان كما دعا. فقد ذكر أنه عاش فوق المائة، وأخبر عن نفسه أنه أكثر الأنصار مالا، ولم يمت حتى رأى مائة ولد من صلبه، وقد كان دفن مائة وعشرين من أولاده حين قدم الحجاج البصرة، وولد له بعد ذلك.

أي ومنها دعاؤه لأم أبي هريرة رضي الله عنهما بالإسلام فأسلمت. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كنت أدعو أمي للإسلام وهي مشركة فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله قد كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أمّ أبي هريرة، فقال رسول الله : اللهم اهد أم أبي هريرة للإسلام، فخرجت مستبشرا بدعوة النبي، فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مجاف: أي مردود، فسمعت أمي حسّ قدمي، فقالت: على رسلك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فخرجت إلى رسول الله فأتيته وأنا أبكي من الفرح، فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أمّ أبي هريرة، فحمد الله وقال خيرا.

ومنها دعاؤه في تمر حائط جابر رضي الله عنه بالبركة، فأوفى منه ما عليه وهو ثلاثون وسقا بسبب دين استدانه والده من يهودي، وفضل بعد ذلك ثلاثة عشر وسقا. وفي رواية: سبعة عشر وسقا، أي مع قلة ما كان فيه من التمر حتى قال جابر رضي الله عنه: كنت أود أن يؤدي الله دين والدي ولا أرجع إلى إخوتي بتمرة واحدة فإن النخل في ذلك العام لم يحمل إلا القليل، وصار رسول الله يكلم اليهودي في أن يصبر إلى عام قابل وهو يأبى ويقول: يا أبا القاسم لا أنظره، فقام رسول الله فطاف في النخيل، ثم قال: يا جابر جذّ، أي اقطع واقض، فأخذت في الجذاذ ووفيته ثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا، فجئته فأخبرته فضحك، وقال: أخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذهبت فأخبرته فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركنّ فيها.

وفي لفظ آخر عن جابر: توفي أبي وعليه دين فعرضت على غرمائه أن يأخذوا النخل بما عليه. فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء، فأتيت النبي فذكرت له ذلك، فقال: إذا جذذته ووضعته في المربد فأعلمني فجذذته، فلما وضعته في المربد آذنت رسول الله، فجاء ومعه أبو بكر وعمر فجلس عليه ودعا بالبركة، أي وهذا محمل رواية: ودعا في تمر جابر بحذف حائط.

وقد يقال: يجوز أن يكون طاف في النخل أوّلا ودعا، ثم لما قطع التمر ووضع في المربد جاء وجلس عليه ودعا فلا مخالفة، ثم قال: ادع غرماءك فأوفهم، فما تركت أحدا له دين إلا قضيته وفضل مثله، فجئت رسول الله فبشرته، فقال: أشهد أني رسول الله.

ومنها استسقاؤه فأمطرت السماء أسبوعا، ثم شكي من كثرة المطر فاستصحى لهم فانجاب السحاب كما تقدم.

ومنها أنه دعا على عتيبة بالتصغير ابن أبي لهب بأن يسلط عليه كلب فافترسه الأسد من بين القوم كما تقدم، أي والأسد إنما يسمى كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله، ومن ثم قيل: إن كلب أهل الكهف كان أسدا. وحكي أنه كان رجلا يسمى بالكلب لملازمته للحراسة. ويرده ما جاء ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أهل الكهف، وحمار العزير، وناقة صالح، وتقدم ذلك مع زيادة. وأما عتبة مكبرا فقد أسلم يوم فتح مكة هو وأخوه معتب هذا هو المشهور وبعضهم عكس، فقال: عتبة المكبر هو عقير الأسد، وعتيبة المصغر هو الذي أسلم يوم الفتح.

ومنها شهادة الشجرة له بالرسالة في خبر الأعرابي الذي دعاه إلى الإسلام، فقال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال: نعم هذه الشجرة ادعها، فدعاها فأقبلت فاستشهدها فشهدت أنه كما قال ثلاثا ثم رجعت إلى منبتها.

ومنها أمره للشجرتين اللتين كانتا بشاطىء الوادي أن يجتمعا ليستتر بهما عند قضاء الحاجة، فاجتمعا ثم افترقتا وذهبتا إلى محلهما كما تقدم في غزاة خيبر.

ومنها أمره أنسا أن يتلطف إلى نخلاته يقول لهن، أمركن رسول الله أن تجتمعن ليقضي حاجته بينكن، فلما قضى حاجته أمره أن يأمرهن بالعود إلى أماكنهن فعدن كما تقدم.

ومنها مجيء الشجرة إليه لتظله وتسلم عليه. فقد جاء أنه نام: أي في الشمس فجاءت شجرة تشق الأرض حتى قامت عليه، فلما استيقظ ذكر له ذلك. فقال: هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلم عليّ فأذن لها.

ومنها حنين الجذع إليه كما تقدم. ومنها تسبيح الحصا في كفه كما تقدم.

أي ومنها تأمين أسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه آمين آمين آمين كما تقدم.

ومنها تسبيح الطعام بين أصابعه الشريفة. ومنها إعلام الشاة المسمومة له بأنها مسمومة كما تقدم. ومنها شكوى البعير له قلة العلف وكثرة العمل كما تقدم.

أي ومنها شكوى بعض الطيور له بسبب أخذ بيضه أو فراخه. فقد جاء: «أن حمرة جاءت فوق رأسه، فقال: أيكم فجع هذه؟ فقال رجل من القوم: أنا أخذت بيضها، فقال: رده رده رحمة لها». وفي لفظ: «من فجع هذه بفرخيها؟ فقلنا: نحن، فقال: ردوهما إلى موضعهما» ولا مانع من وجود البيض مع الفراخ.

ومنها سجود البعير له الذي استصعب على أهله وصار كالكلب الكلب لا يقدر أن يقرب إليه كما تقدم.

ومنها سجود الغنم له في بعض حوائط الأنصار كما تقدم.

ومنها تكليم الجمل له كما تقدم.

ومنها تكليم الحمار له في خيبر، وهو اليعفور كما تقدم.

ومنها شهادة الجمل عنده أنه لصاحبه الأعرابي دون من ادعاه. ففي المعجم الكبير للطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: «كنا مع رسول الله فبصرنا بأعرابي أخذ بخطام بعيره حتى وقف على النبي ونحن حوله، فقال: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، فرد عليه النبي السلام. وجاء رجل آخر كأنه حرسي، فقال الحرسي: يا رسول الله هذا الأعرابي سرق سرب البعير، فرغا البعير ساعة وحنّ فأنصت له رسول الله ساعة فسمع رغاءه وحنينه، فلما هدأ البعير أقبل على النبي فقال للرجل: انصرف عنه فإن البعير شهد عليك أنك كاذب فانصرف، وأقبل النبي على الأعرابي؟ فقال: أي شيء، قلت حين جئت لي، قال: قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلّ على محمد حتى لا تبقى صلاة، وبارك على محمد حتى لا تبقى بركة، اللهم سلم على محمد حتى لا يبقى سلام، اللهم وارحم محمدا حتى لا يبقى رحمة، فقال رسول الله : إن الله عز وجل أبداها لي والبعير ينطق بعذرك وإن الملائكة قد سدوا الأفق.

أي ومنها سؤال الظبية له، أن يخلصها لترضع ولدها وتعود، فخلصها، وعادت وتلطفت بالشهادتين. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «مرّ رسول الله على ظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله خلصني حتى أذهب فأرضع خشفي ثم أرجع فتربطني، فقال لها: صيد قوم وربيطة قوم، ثم استحلفها أن ترجع، فحلفت له، فحلها فمكثت قليلا ثم جاءت وقد نفضت ضرعها، فربطها رسول الله، ثم أتى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له فحلّها.

وعن زيد بن أرقم نحو هذا، وزاد فأنا والله رأيتها لتسبح في البرية وتقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وذكر بعضهم أن حديث الغزالة موضوع:

أي ومنها شهادة الذئب له بالرسالة كما تقدم.

ومنها شهادة الضبّ له بالرسالة كما تقدم.

ومنها إخباره عن مصارع المشركين ببدر، فلم يعد أحد منهم من مصرعه كما تقدم.

ومنها إخباره بأن طائفة من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بالراء المهملة بنت ملحان منهم، فكان كذلك كما تقدم.

ومنها إخباره لعثمان بن عفان رضي الله عنه بأنه تصيبه بلوى شديدة فأصابته وقتل فيها.

ومنها قوله للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني» والأثرة: بضم الهمزة وسكون الثاء المثلثة: أي يستأسر عليكم غيركم بأمور الدنيا، فكان ما وقع في زمن معاوية في وقعة الجمل وصفين، وفي زمن ولده يزيد في وقعة الحرة كما تقدم.

ومنها إخباره بأنه لا يبقى أحد من أصحابه بعد المائة: أي من الهجرة. والذي ينبغي أن تكون المائة من حين وفاته، لأن أبا الطفيل رضي الله عنه آخر من مات من الصحابة فكان موته بعد المائة من الوفاة.

وعن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: «وضع رسول الله يده على رأسي، وقال: يعيش هذا الغلام قرنا فعاش مائة سنة».

ومنها إخباره بالمغيبات وهو باب واسع جدا.

فمن ذلك أنه جيء إليه برجل سرق، فقال: اقتلوه، فقيل له أنه سرق. فقال: اقطعوه، ثم أتي به بعد إلى أبي بكر رضي الله عنه وقد سرق فقطع، ثم ثالثة ورابعة إلى أن قطعت قوائمه، ثم جيء به إلى أبي بكر وقد سرق، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: لا أجد لك شيئا إلا ما قضى به فيك رسول الله يوم أمر بقتلك، فإنه كان أعلم بذلك، ثم أمر بقتله.

ومنها قوله لقيس بن خرشة العبسي رضي الله عنه وقد قال له: «يا رسول الله أبايعك على ما جاء من الله، وعلى أن أقول الحق: يا قيس عسى إن مرّ بك الدهر أن يليك ولاة لا تستطيع أن تقول معهم الحق، فقال قيس: لا والله لا أبايعك على شيء إلا وفيت به، فقال له رسول الله : إذن لا يضرك شيء» وكان قيس رضي الله عنه يعيب زيادا وابنه عبيد الله بن زياد ومن بعده، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فأرسل إليه فقال له: أنت الذي تفتري على الله وعلى رسوله؟ فقال: لا والله ولكن إن شئت أخبرك بمن يفتري على الله ورسوله؟ قال: ومن هو؟ قال: من ترك العمل بكتاب الله وسنة رسوله، قال: ومن ذلك؟ قال: أنت وأبوك ومن أمركما. قال: وأنت الذي تزعم أنك لا يضرك بشر؟ قال نعم. قال: لتعلمنّ اليوم أنك كاذب، ائتوني بصاحب العذاب، فمال قيس عند ذلك فمات.

ومن ذلك قوله لزوجاته: «أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟ وأيتكن صاحبة الجمل الأديب» بالدال المهملة والفك لغة في الأدب بالإدغام: وهو كثير الشعر «يقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعدما كادت» فكانت تلك عائشة رضي الله عنها، فإنه لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت عائشة بمكة، لأنها خرجت إلى مكة وهو محاصر وكلمها مروان بن الحكم في عدم الخروج، وقال لها: لا تخرجي يا أماه، فجاء إليها طلحة والزبير رضي الله عنهما بعد أن بايعا عليا على كره، واستأذنا عليا كرم الله وجهه في العمرة فأذن لهما فقدما مكة، وخرجت بنو أمية من المدينة ولحقت بمكة قبل المبايعة لعليّ، فخرج مروان وغيره من أهل المدينة، وجاء إلى عائشة رضي الله عنها يعلى بن أمية رضي الله عنه وكان عاملا لعثمان باليمن. فلما بلغه حصار عثمان قدم لنصرته فسقط من على بعيره في أثناء الطريق فكسر فخذه، وبلغه قتل عثمان، فلا زالوا بعائشة حتى وافقت على الخروج إلى العراق في طلب دم عثمان رضي الله عنه، ودفع لها ذلك الجمل يعلى بن أمية اشتراه بمائتي دينار، وأعان الزبير بأربعمائة ألف دينار، وصار يقول: من خرج في طلب دم عثمان فعليّ جهازه، فحمل سبعين رجلا من قريش، وطلبت عائشة رضي الله عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يكون معها. فقال: معاذ الله أن أدخل في الفتنة، ويقال إن طلحة والزبير دعوا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم إلى الخروج معهم، فقال لهم: أما تخافون الله أيها القوم، وتدعوا هذا الأباطيل عنكم؟ وكيف أضرب في وجه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بالسيف وقد عرفت فضله وسابقته ومكانته من رسول الله، وإنكما بايعتماه وسألتماه القيام بهذا الأمر ثم نكثتما بعد أن جعل الله عليكما شهيدا، وإنه ما بدل ولا غير. والقاتل لعثمان رضي الله تعالى عنه أخو زعيمتكم ورئيستكم يعني بعائشة وأخوها محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فإنه أخذ بلحيته فضربها حتى تقلقلت أضراسه وضربه بالمشقص، فلما كانت عائشة رضي الله عنها في أثناء الطريق سمعت كلابا تنبح، فسألت عن ذلك المحل، فقيل لها: هذا الحوأب، فأرادت الرجوع لما تذكرت ما قال لها رسول الله. أي فإنها صرخت وأناخت بعيرها، وقالت: والله أنا صاحبة الحوأب، ردوني ردوني ردوني. فعند ذلك يقال إن طلحة والزبير أحضرا خمسين رجلا شهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب، وأن المخبر لها كذاب.

قال الشعبي: وهي أول شهادة زورت في الإسلام، وقال لها الزبير رضي الله عنه: ولعل الله أن يصلح بك بين الناس، فلما بلغ عليا كرم الله وجهه توجه عائشة ومن ذكر معها إلى العراق توجه إلى العراق بعد أن كان أراد الذهاب إلى الشام وقام في الناس، وقال: ألا إن طلحة والزبير وأم المؤمنين قد تمالؤوا على سخط إمارتي، وإني خارج إليهم، ثم جاءه الخبر أن ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان، وهو منصوب على منبر دمشق ومعلق فيه أصابع زوجة عثمان، فقال: أمني يطلبون دم عثمان؟

ولما أراد الخروج جاءه عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها: أي المدينة، فوالله لئن خرجت منها لا يرجع إليها سلطان المسلمين فسبوه، وقالوا له: يا ابن اليهودية ما لك ولهذا الأمر؟ فقال لهم علي كرم الله وجهه: دعوا الرجل، فنعم الرجل من أصحاب محمد.

ثم إن طلحة والزبير وأم المؤمنين وصلوا إلى البصرة ووقع بينهم وبين أهل البصرة مقتلة كبيرة، بعد أن افترقوا فرقتين إحداهما تقول صدقت وبرت، يعني عائشة وجاءت بالمعروف. وقالت الأخرى كذبت. ثم انحازت الأخرى إلى عسكر أم المؤمنين وقهروا أهل البصرة، ونادى منادي الزبير وطلحة: ألا من كان عنده أحد ممن غزا المدينة فليأت به، فجيء بهم كما يجاء بالكلاب وكانوا ستمائة فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة إلا حرقوص بن زهير. وكتب طلحة والزبير إلى أهل الشام: إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب الله، فوافقنا خيار أهل البصرة وخالفنا شرارهم، ولم يفلت من قتلة أمير المؤمنين عثمان من أهل البصرة إلا حرقوص بن زهير، والله مقيده إن شاء الله. وكتبوا لأهل الكوفة بمثله وكتبوا إلى أهل اليمامة بمثل ذلك، وكتبوا إلى أهل المدينة بمثل ذلك.

ثم سار علي كرم الله وجهه إلى البصرة، ثم أرسل إلى أهل الكوفة يستنفرهم إليه فنفروا إليه بعد أمور يطول ذكرها، وكانوا سبعة آلاف. والتقى الجيشان جيش علي كرم الله وجهه وجيش عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، بعد أن كتب لطلحة والزبير: أما بعد، فقد علمتما أني لم أرد البيعة حتى أكرهت عليها، وأنتما ممن رضي ببيعتي وألزمني إياها، فإن كنتما بايعتما طائعين فتوبا إلى الله وارجعا عما أنتما عليه فإنك يا طلحة شيخ المهاجرين، وأنت يا زبير فارس قريش، لو دفعتما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه لكان أوسع لكما من خروجكما منه والسلام.

وكتب لعائشة رضي الله عنها: أما بعد، فإنك قد خرجت من بيتك تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين المسلمين، وطلبت بزعمك دم عثمان وأنت بالأمس تؤلبين عليه فتقولين في ملأ من أصحاب رسول الله اقتلوا نعثلا فقد كفر، قتله الله، واليوم تطلبين بثأره، فاتقي الله وارجعي إلى بيتك وأسبلي عليك سترك قبل أن يفضحك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فلما قرؤوا الكتابين عرفوا أنه على الحق.

وعند ذلك خرج طلحة والزبير رضي الله عنهما على فرسين وخرج إليهما علي كرم الله وجهه، ودنا كل واحد من الآخر. فقال لهما عليّ: لعمري لقد أعددتما خيلا ورجالا وسلاحا، فاتقيا الله ولا تكونا{كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}ألم تكونا: أخويّ في الله تحرمان دمي وأحرم دمكما؟ فقال له طلحة رضي الله عنه: ألبت الناس على عثمان، فقال له علي كرم الله وجهه: أنتما خذلتماه، حتى قتل، فسلط الله اليوم على أشرنا على عثمان ما يكره، ثم توافقوا على الصلح، وقتل من كان له دخل في قتل عثمان رضي الله عنه.

وبات الفريقان على ذلك. وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وباتوا يتشاورون. ثم اتفقوا على إنشاب الحرب، فلما كان وقت الغلس ثاروا ووضعوا السلاح، فثار الناس، فخرج طلحة والزبير في وجوه الناس. وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا جيش عليّ فقالا: علمنا أن عليا غير سفيه حتى يسفك الدماء، ويستحل الحرمة: فقام علي كرم الله وجهه في وجوه الناس. وقال: ما هذا، قالوا: طرقنا جيش عائشة. فقال: لقد علمت أن طلحة والزبير غير سفيهين حتى يستفكا الدماء ويستحلا الحرمة، ونشبت الحرب فألبسوا هودج عائشة رضي الله عنها الدروع، ووقفت على الجمل، وصار كل من أخذ زمامه قتل، وقتل طلحة رضي الله عنه جاءه سهم غرب يقال أرسله له مروان بن الحكم وهو كان في جيش أم المؤمنين. وفر الزبير رضي الله عنه لما قال له علي كرم الله وجهه: يا زبير أتذكر لما قال لك رسول الله : إنك تقاتلني وأنت ظالم لي؟ فقال: والله لو ذكرت ذلك ما قاتلتك ولا سرت سيري هذا، ولكن رجوعي عين العار فقال له علي كرم الله وجهه: ترجع بالعار ولا ترجع بالنار، فترك وذهب، وصار الهودج مثل القنفذ من كثرة النشاب. فعند ذلك عقروا الجمل، ووقع الهودج على الأرض، وجعلت تقول عائشة رضي الله عنها: يا بني اتبعنه اتبعنه.

وعند ذلك قال علي كرم الله وجهه لمحمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، انظر أختك هل أصابها شيء؟ فلما جاءها وأدخل يده، قالت: من أنت؟ قال: ابن الخثعمية، قالت: محمد؟ قال نعم. قالت: بأبي أنت وأمي، الحمد لله الذي عافاك. وفي رواية قال لها: أخوك محمد البار، فقالت: بل مذمم العاق فضرب عليها فسطاطا، فلما كان من آخر الليل خرج بها، وأدخلها البصرة وأنزلها في دار صفية بنت الحارث أم طلحة الطلحات، وبكت عائشة رضي الله عنها بكاء كثيرا وقالت: وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وقد قال علي كرم الله وجهه مثل ذلك لما رأى من كثرة القتلى، فقد قيل: إن القتلى بلغت عشرة آلاف، وقيل ثلاثة عشر ألفا.

ثم إن عليا كرم الله وجهه صلى على القتلى من الفريقين، ثم دخل البصرة على بغلته متوجها لعائشة رضي الله عنها، فلما دخل عليها سلم عليها وقعد عندها ثم جهزها بكل شيء ينبغي لها، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وأمرهن بلبس العمائم وتقليد السيوف، ثم قال لهن: لا تعلمنها بأنكن نسوة وتلثمن مثل الرجال وكن حولها من بعيد ولا تقربنها، وقال لأخيها محمد: تجهز معها. وفي رواية جهز معها أخاها عبد الرحمن في جماعة من شيوخ الصحابة. فلما كان يوم خروجها جاء إليها علي كرم الله وجهه ووقف الناس وخرجت فودعها وودعتهم، وقالت: يا بني والله ما كان بيني وبين علي في القدم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه على معتبتي عليه عندي لمن الأخيار، فقال علي: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وذهب معها نحو سبعة أميال: ثم ذهبت إلى مكة حتى حجت، ثم رجعت إلى المدينة وعلمت عند وصولها إلى مكة أن هؤلاء الرجال حولها نساء فإنهن كشفن عن وجوههن وعرفنها الحال فشكرت وقالت: والله لا يزداد ابن أبي طالب إلا كرما.

وقيل إن كعب بن سعد أتى عائشة رضي الله تعالى عنها وقال: لعل الله أن يصلح بك، والأولى الصلح والسكون والنظر في قتلة عثمان بعد ذلك، فوافقت وركبت هودجها وقد ألبسوه الأدراع ثم بعثوا جملها وذهب إلى علي كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، فقال له: قد أحسنت، وأشرف القوم على الصلح، فخافت قتلة عثمان رضي الله عنه فأشار عليهم ابن السوداء الذي هو السبائي الذي هو أصل الفتنة أن يفترقوا فرقتين تكون كل فرقة في عسكر من العسكرين، فإذا جاء وقت السحر ضربت كل فرقة منهما إلى العسكر الذي فيه الفرقة الأخرى فنادت كل فرقة في العسكر الذي هي فيه غررنا، ففعلوا ذلك، فنشبت الحرب وحصل ما تقدم.

ومن ذلك قوله في الحسن رضي الله عنه: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فصالح معاوية رضي الله عنهما، وحقن دماء الفئتين من المسلمين. أي فإن الحسن رضي الله عنه لما بويع له بالخلافة يوم مات أبوه كان في الخلافة سبعة أشهر، وقيل ستة أشهر. ولما سار إلى قتال معاوية كان معه أكثر من أربعين ألفا، فلما سار عدا عليه شخص وضربه بخنجر في فخذه ليقتله، فقال الحسن: قتلتم أبي بالأمس، ووثبتم عليّ اليوم، تريدون قتلي، زهدا في العادلين، ورغبة في القاسطين، لتعلمن نبأً بعد حين.

أي ويذكر أنه بينما هو يصلي إذ وثب عليه شخص فطعنه بخنجر وهو ساجد، ثم خطب الناس، فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم ونحن أهل البيت الذين قال الله فيهم: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يبكي.

ثم كتب إلى معاوية رضي الله عنهما بتسليم الأمر: أي بعد أن أرسل إليه معاوية رضي الله عنه رجلين يكلمانه في الإصلاح، فإن عمرو بن العاص لما رأى الكتائب مع الحسن أمثال الجبال، قال لمعاوية: إني لأرى هذه الكتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فخلع الحسن رضي الله عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية، تورعا وزهدا، وقطعا للشر، وإطفاء لثائرة الفتنة، وتصديقا لرسول الله في قوله المتقدم، وغض منه شيعته حتى قال له بعضهم: يا عار المؤمنين سوّدت وجوه المؤمنين، فقال: العار خير من النار. وقال له بعضهم: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال له: لا تقل ذلك كرهت أن أقتلكم في طلب الملك، وعند ذلك: أي لما انبرم الصلح طلب منه معاوية رضي الله عنهما أن يتكلم بجمع من الناس ويعلمهم أنه سلم الأمر إلى معاوية، فأجابه إلى ذلك وصعد المنبر وحمد الله إلى أن قال في خطبته: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا، إلا أن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت أنا ومعاوية فيه إما أن يكون أحق به مني أو يكون حقي، فأن كان حقي فقد تركته لله ولصلاح أمة محمد وحقن دمائهم، ثم التفت رضي الله عنه إلى معاوية وقال {إن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين}، أي ثم انتقل من الكوفة إلى المدينة وأقام بها، وكان من جملة ما اشترطه على معاوية رضي الله عنه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعده، ولا يعهد إلى أحد من بعده عهدا. وقيل على أن يكون الأمر للحسن بعده فلما سم الحسن اتهم بذلك زوجته بنت الأشعث بن قيس، وأن ذلك بدسيسة من يزيد ولد معاوية، ووعدها أن يتزوجها، وبذل لها مائة ألف درهم حرصا على أن يكون الأمر له، فإن معاوية عرّض بذلك في حياة الحسن ولم يكشفه إلا بعد موته. ولما جاء الخبر لمعاوية بموته رضي الله عنه قال: يا عجبا من الحسن بن علي شرب شربة مع عسل بماء رومة، يعني بئر رومة فقضى نحبه. وأتى ابن عباس رضي الله عنهما معاوية وهو لا يعلم الخبر، فقال له معاوية: هل عندك خبر المدينة؟ قال لا، فقال معاوية: يا بن عباس احتسب الحسن، لا يحزنك الله ولا يسؤك، فأظهر عدم التشوش وقال: أما ما أبقاك الله لي يا أمير المؤمنين فلا يحزنني الله ولا يسوؤني، فأعطاه على تلك الكلمة ألف ألف.

وذكر بعضهم قال: كنا عند الحسن رضي الله عنه ومعنا الحسين رضي الله عنه، فقال الحسن: لقد سقيت السم مرارا وما سقيته مثل هذه المرة، ولقد لفظت طائفة من كبدي، فقال له الحسين: أي أخي ومن سقاك؟ قال: وما تريد؟ أتريد أن تقتله؟ قال نعم. قال: لئن كان الذي أظن فالله أشد نقمة، ولئن كان غيره ما أحب أن يقتل بي بريئا.

وكان الحسن رضي الله عنه رجلا حليما لم يسمع منه كلمة فحش، وكان مروان وهو وال على المدينة يسبه ويسب عليا كرم الله وجهه كل جمعة على المنبر، فقيل له في ذلك؟ فقال: لا أمحو عنه شيئا بأن أسبه، ولكن موعدي وموعده الله، فإن كان صادقا جازاه الله بصدقه، وإن كان كاذبا فالله أشد نقمة.

وأغلظ عليه رضي الله تعالى عنه مروان يوما وهو ساكت، ثم امتخط مروان بيمينه، فقال له الحسن رضي الله تعالى عنه: أف لك، لك علمت أن اليمين لها شرف، فخجل مروان. وبكى مروان في جنازته، فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟ فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا وأشار إلى الجبل.

ومن ثم لما وقع بين الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعض الشحناء فتهاجرا، ثم أقبل الحسن على الحسين فأكب على رأسه يقبله، فقال له الحسين: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا أنك أحق بالفضل مني، وكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به مني، وقد تقدم ذلك.

ومن شعر الحسن رضي الله تعالى عنه:

من ظن أن الناس يغنونه ** فليس بالرحمن بالواثق

ومن ذلك إخباره بقتل الأسود العنسي الكذاب: أي الذي ادعى النبوة ليلة قتله بصنعاء وبمن قتله كما تقدم.

أي ومنها إخباره بأن رجلا من أمته يتكلم بعد الموت، فكان كذلك وهو زيد بن حارثة. وتكلم غيره أيضا، فعن ابن المسيب أن رجلا من الأنصار توفي، فلما كفن أتاه القوم يحملونه تكلم، فقال: محمد رسول الله، فلعل المراد بالرجل جنس الرجل.

ومنها إخباره بأن أمته تتخذ الخصيان، وأمرهم أن يستوصوا بهم خيرا، فقال: «سيكون قوم ينالهم الخصاء، فاستوصوا بهم خيرا» وهو يقتضي أن الخصاء لم يكن في غير هذه الأمة.

ومن ذلك إخباره بذهاب الأمانة والعلم والخشوع وعلم الفرائض أي قرب قيام الساعة.

ومن ذلك قوله لثابت بن قيس: «تعيش حميدا، وتقتل شهيدا»، فقتل رضي الله تعالى عنه يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب لعنه الله.

وإخباره بالمغيبات باب واسع. منه الإخبار بالحوادث الكائنة بعده إلى آخر الزمان. والإخبار عن أحوال يوم القيامة من القضاء والحشر والحساب، والإخبار عن الجنة والنار.

فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: «لقد حدثني رسول الله بما يكون حتى تقوم الساعة» وصلى رسول الله الصبح يوما وصعد المنبر فخطب حتى حضرت الظهر فنزل فصلى الظهر، ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر، ثم صعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس فأخبر بما كان وبما هو كائن.

ومن ذلك أيضا قوله لمعاذ لما بعثه إلى اليمن في جماعة من المهاجرين والأنصار: «يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي غدا وقبري» وكان كذلك، توفي رسول الله ومعاذ باليمن، ولم يتقدم إلا في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

ومن ذلك قوله: «سنفتح عليكم مصر، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم رحما وصهرا، والمراد بالرحم، أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام جده فإنها كانت قبطية، والمراد بالصهر أم ولده إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنها كانت قبطية كما علمت.

ومنها إجابة دعائه غير ما تقدم: فمن ذلك دعاؤه لثعلبة بن حاطب الأنصاري أي غير البدري، لأن ذاك قتل بأحد، وهذا تأخر إلى زمن عثمان رضي الله تعالى عنه كما سيأتي خلافا لمن وهم في ذلك، لأن من شهد بدرا لا يدخل النار: وكثيرا ما يقع الاشتراك في الاسم واسم الأب كما قال بعض الصحابة، وهو طلحة بن عبيد الله: لئن مات محمد لأتزوجن عائشة من بعده، فأنزل الله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} الآية، ظن بعضهم أن المراد بطلحة هذا أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحشاة من ذلك، وهو أجلّ مقاما من أن يصدر منه مثل ذلك.

ولما قال ثعلبة بن حاطب له: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له: ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثل رسول الله، فوالذي نفسي بيده، لو سألت ربي أن يسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت، فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه، فقال النبي : اللهم ارزق ثعلبة مالا، فاتخذ غنما فصارت تنمى كما تنمى الدود، وضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها، فكان يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك الجماعة فيما سواهما، ثم نمت وكثرت حتى ترك الجماعة فيما سوىّ الجمعة فإنه كان يشهدها مع النبي، ثم ترك الجمعة فقال النبي : ما فعل ثعلبة؟ فأخبروه بخبره، فقال: يا ويح ثعلبة قالها ثلاثا، فلما نزل قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} الآية بعث النبي رجلين على الصدقة وكتب لهما فرائض الصدقة وأسنانها وقال لهما مرا بثعلبة، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب النبي، فقال: انطلقا حتى تفرغا، ثم تعودا إليّ فانطلقا ثم مرّا عليه، فقال: أرياني كتابكما أنظر فيه، فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخية الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي، فلما رآهما قال قبل أن يكلماه: يا ويح ثعلبة، فلما أخبراه بالذي صنع ثعلبة، أنزل الله تعالى: {ومنهم من عاهد الله} الآيات، وكان عند النبي رجل من أقارب ثعلبة، فأرسل إليه بأن الله قد أنزل فيك قرآنا وهو كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي فسأله أن يقبل منه الصدقة فقال: إن الله منعني أن أقبل صدقتك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له النبي : هذا عملك وقد أمرتك فلم تطعني، وأبى أن يقبل منه شيئا، فأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين استخلف فسأله قبول صدقته، فقال له: لم يقبلها رسول الله فأنا لا أقبلها، ثم فعل كذلك مع عمر رضي الله تعالى عنه، ثم مع عثمان رضي الله تعالى عنه، وكل يأبى أن يقبل صدقته، ومات في خلافة عثمان.

ومن ذلك قوله في رجل ارتد ولحق بالمشركين: اللهم اجعله آية. فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رجل من بني النجار حفظ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي، فارتد ولحق بأهل الكتاب، وكان يقول ما يدري محمد إلا ما كتب له، فقال اللهم اجعله آية، فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوه وألقوه فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا مثل الأول، فحفروا وأعمقوا، فلفظته الأرض في المرة الثالثة، فعلموا أنه ليس من فعل الناس.

ومن ذلك قوله لرجل يأكل بشماله: «كل بيمينك، فقال: لا أستطيع» أي قال ذلك تكبرا وعنادا «فقال له: لا استطعت، فلم يطق أن يرفعها إلى فيه بعد».

أي ومن ذلك المرأة التي خطبها فقال له أبوها إن بها برصا ولم يكن بها برص، وإنما قال ذلك امتناعا من خطبته، فقال: فلتكن كذلك، فبرصت.

ومن ذلك «أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت إليه فنظر إليها وقد ذهب الدم من وجهها وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فقال لها: ادن مني يا فاطمة، فدنت منه، فرفع يده فوضعها على صدرها وفرج بين أصابعه، وقال: اللهم مشبع الجاعة، ورافع الوضيعة، ارفع فاطمة بنت محمد، فذهبت الصفرة عنها حالا، ولم تشك بعد ذلك جوعا».

ومن ذلك ما حدّث به وائلة بن الأسقع قال: «حضر رمضان ونحن في أهل الصفّة فصمنا. فكنا إذا أفطرنا أتى كل رجل منا رجلا من أهل الصفة فأخذه فانطلق به فعشاه فأتت علينا ليلة فلم يأتنا أحد، فأصبحنا صياما، ثم أتت علينا الليلة القابلة فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل امرأة من نسائه يسألها هل عندها شيء؟ فما بقيت امرأة إلا أرسلت تقسم ما أمسى في بيتها ما يأكل ذو كبد، فقال لهم رسول الله : اجتمعوا فدعا رسول الله، وقال: اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك فإنهما بيدك لا يملكهما أحد غيرك، فلم يكن إلا مستأذن يستأذن، فإذا بشاة مصلية ورطب، فأمر بها رسول الله فوضعت بين أيدينا فأكلنا حتى شبعنا».

ومنها تساقط الأصنام حول الكعبة بإشارته إليها، أو طعنة فيها بقضيب كان في يده قائلا: {جاء الحق وزهق الباطل} كما تقدم.

ومنها تكثير الطعام، وقد وقع له ذلك في مواطن كثيرة.

فمن ذلك إطعام ألف من صاع شعير في حفر الخندق فشبعوا والطعام أكثر مما كان كما تقدم.

ومن ذلك إطعام أهل الخندق من تمر يسير كما تقدم.

ومن ذلك جمع ما فضل من الأزواد ودعاؤه فيها بالبركة وقسمتها في العسكر، فقامت بهم كما تقدم في الحديبية وتبوك.

ومن ذلك دعاؤه لأبي هريرة في تمرات قد صفهن في يده، وقال ادع لي فيهن بالبركة، أي فدعا له بذلك، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فأخرجت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل منه ونطعم حتى انقطع في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، أي بانقطاع المزود الذي أمره أن يكون به التمر. والمزود: وعاء من جلد يوضع فيه الزاد وقال له: إذا أردت شيئا فأدخل يدك ولا تكفأ فيكفأ عليك، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وكان لا يفارق حقوي، فلما قتل عثمان انقطع حقوي فسقط. وفي رواية: كان معلقا خلف رحلي فوقع في زمن عثمان: أي في زمن محاصرته وقتله فذهب. وفي رواية: فلما قتل عثمان انتهب بيتي وانتهب المزود: أي بعد سقوطه من حقوه فلا يخالف ما سبق.

وقد جاء في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أتيت النبي بتمرات، فقلت: يا رسول الله ادع لي فيهن بالبركة، فصفهن ثم دعا فيهن بالبركة وقال: خذهن واجعل في مزودك ما أردت منهن، أي إذا أردت أخذ شيء منهن أدخل يدك فيه فخذه ولا تنثره نثرا. أي وفي لفظ: «غزونا مع رسول الله فأصاب الناس مجاعة، فقال النبي : يا أبا هريرة هل من شيء؟ قلت: نعم شيء من تمر في المزود، فقال: ائتني به فأتيته به فأدخل يده فأخرج قبضة فبسطها، ثم قال لي: ادع لي عشرة، فدعوت عشرة فأكلوا حتى شبعوا، فما زال يصنع ذلك حتى أطعم الجيش كلهم، ثم قال: خذ ما جئت به أدخل يدك فاقبض ولا تكفأه، قال: فقبضت على أكثر ما جئت به، ثم أكلت منه حياة رسول الله وحياة أبي بكر وأطعمت، وحياة عثمان وأطعمت، وحياة عمر وأطعمت فلما قتل عثمان انتهب مني.

ومن ذلك تكثير الطعام الذي وضعه رسول الله على أصابعه، فقد جاء: «أنه دعا أهل الصفة لقصعة ثريد، فأكلوا حتى لم يبق إلا اليسير في نواحيها، فجمعه فصار لقمة، فوضعها على أصابعه وقال لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه» أي لأنه كان من أهل الصفة «كل بسم الله. قال أبو هريرة: فوالذي نفسي بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت كما تقدم» قيل وكان أصحاب الصفة حينئذ تسعين، وقيل مائة ونيفا، وقيل أربعمائة.

ومن ذلك تكثير الطعام الذي جاء به أنس رضي الله تعالى عنه للنبي. فعنه رضي الله تعالى عنه قال «تزوج رسول الله فدخل بأهله. فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب به إلى رسول الله، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول لك: إن هذا لك منّا قليل، قال: فذهبت به إلى رسول الله وقلت له: إن أمي تقرئك السلام وتقول لك: إن هذا منا لك قليل، فقال: ضعه، ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا وفلانا ومن لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت. قيل لأنس: كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، وقال لي رسول الله : يا أنس هات التور، ثم قال رسول الله : ليحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال: يا أنس ارفع فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت».

ومن ذلك تكثير الطعام الذي صنعه أبو أيوب الأنصاري، فعنه رضي الله تعالى عنه قال: «صنعت لرسول الله وأبي بكر رضي الله تعالى عنه طعاما قدر ما يكفيهما فأتيتهما به، فقال رسول الله : اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار، قال فشق ذلك عليّ، ما عندي ما أزيده، فقال: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار. قال أبو أيوب رضي الله تعالى عنه: فدعوتهم فقال لهم رسول الله اطعموا، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، ثم قال: اذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار، فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، ثم قال: اذهب فادع لي تسعين من الأنصار، فدعوتهم فأكلو حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله قبل أن يخرجوا، فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا كلهم من الأنصار.

قال: ومنها تكثير اللبن في القدح. فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أنه اشتد به الجوع يوما، قال: فمر عليّ أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقمت إليه وسألته عن آية من كتاب الله ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مر عليّ عمر ففعلت معه وفعل معي كذلك، ثم مر، فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي، ثم قال: يا أبا هريرة» وفي لفظ: «يا أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، فتبعته إلى أن دخل بيته وأذن لي، فدخلت فوجدت لبنا في قدح، فقال » أي لأهل بيته «من أين هذا اللبن؟ فقيل: أهدي لك، فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله، قال: ادع لي أهل الصفة، فساءني ذلك، فقلت: ما هذا اللبن في أهل الصفة، وما أظن أن ينالني من هذا اللبن شيء» أي لأنهم كانوا أربعمائة على ما تقدم «فدعوتهم، فأقبلوا وأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: يا أبا هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروى، حتى لم يبق إلا أنا ورسول الله فقال لي: اقعد فاشرب، فشربت فقال لي: اشرب فشربت، فما زال يقول لي اشرب فأشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، فأعطيته القدح، فحمد الله عز وجل وسمى وشرب الفضلة» ا. هـ أي وتقدم ذلك. وفي لفظ: «حتى إذا لم يبق إلا أنا وهو فأخذ القدح على يده ونظر إليّ وتبسم، فقال: يا أبا هريرة، قلت لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب» الحديث. وقد جاء: «أنه لما قال لأبي هريرة: يا أبا هر، قال إنما أنا أبو هريرة، فقال: الذكر خير من الأنثى».

ولما وقع القتال بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يصلي خلف علي كرم الله وجهه، ويحضر طعام معاوية، وعند القتال يصعد على تل فقيل له في ذلك فقال: الصلاة خلف عليّ أقوم، وطعام معاوية أدسم، والقعود على هذا التل أسلم.

ومن ذلك ما حدثت به بنت خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنهما قالت: «خرج خباب في سرية فكان رسول الله يتعهدنا وكان لنا عنز، فكان يحلبها فيملأ حلابها جفنة لنا، فلما جاء خباب عاد حلابها لما كان عليه أولا. فقلت لأبي: كان رسول الله يحلبها فتمتلىء جفنتنا، فلما حلبتها رجع حلابها».

ومن ذلك ما حدث به بعض الصحابة أنه قال: «كنا زهاء أربعمائة رجل فنزلنا في موضع ليس فيه ماء فشق ذلك على أصحابه، فجاءت شويهة لها قرنان فقامت بين يدي رسول الله فحلبها، فشرب حتى روي وسقى أصحابه حتى رووا ثم قال لي: املكها الليلة وما أراك تملكها، فأخدتها فوتدت لها وتدا ثم ربطتها بحبل، ثم قمت في بعض الليل، فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا فجئت إلى النبي فأخبرته فقال: ذهب بها الذي جاء بها».

ومنها: «أن امرأة كانت أهدت للنبي سمنا في عكة فقبله، وترك في العكة قليلا ونفخ فيه ودعا بالبركة، فكان يأتيها بنوها يسألونها الأدم، فتعمد إلى تلك العكة فتجد فيها سمنا، فما زالت تقيم بها أدم بيتها بقية حياته وأبي بكر وعمر وعثمان، حتى كان من أمر على ومعاوية رضي الله تعالى عنهما ما كان» وفي رواية «أنها عصرتها فأتت رسول الله فقال لها: عصرتيها؟ قالت نعم قال: لو تركتيها ما زال دائما» ويحتمل أن الواقعة تعددت.

وعن أم سليم أم أنس رضي الله تعالى عنهما، قالت: «كان لي شاة، فجمعت من سمنها ما ملأت به عكة وأرسلت بها إلى رسول الله فقبلها، وأمر ففرغوها وردوها فارغة وكنت غائبة عن المنزل، فلما جئت رأيت العكة مملوءة سمنا، قالت: فقلت للتي أرسلتها معها: كيف الخبر؟ فأخبرتني الخبر فما صدقتها، وذهبت إلى رسول الله فسألته، وقلت له: يا رسول الله وجهت إليك عكة سمن، قال: قد وصلت. فقلت: بالذي بعثك بالهدى ودين الحق لقد وجدتها مملوءة سمنا تقطر، قال: أفتعجبين أن أطعمك الله كما أطعمت نبيه: اذهبي فكلي واطعمي» الحديث.

أي ومنها دعاؤه لفرس جعيل الأشجعي. فعنه رضي الله تعالى عنه قال: «خرجت مع النبي في بعض غزواته وأنا على فرس عجفاء ضعيفة فكنت في آخر الناس، فلحقني رسول الله فقال: سر يا صاحب الفرس. فقلت: يا رسول الله عجفاء ضعيفة فرفع محقنة كانت معه فضربها بها. وقال: اللهم بارك له فيها، فلقد رأيتني ما أملك رأسها قدام القوم. ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا».

ومنها أن جليبيبا على وزن قنيديل الأنصاري، وكان قصيرا دميما، أراد رسول الله أن يزوجه، فقال: يا رسول الله إذا تجدني كاسدا، فقال: إنك عند الله لست بكاسد، فخطب له جارية من أولاد الأنصار، فكره أبو الجارية وأمها ذلك، فسمعت الجارية بما أراد رسول الله، فقالت قبلت: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وقالت: رضيت وسلمت لما رضي لي رسول الله به، فدعا لها رسول الله، وقال: اللهم اصبب الخير عليها صبا ولا تجعل عيشها كدا، فكانت من أكثر الأنصار نفقة ومالا مع كونها أيما، فإنه رضي الله تعالى عنه قتل عنها في بعض غزواته معه بعد أن قتل سبعة من المشركين، ووقف عليه ودعا له، وقال: هذا مني وأنا منه، وحمله على ساعديه، ماله سرير غير ساعديه، ثم حفروا له فوضعه في قبره ولم يغسله ولم يصل عليه.

ومنها نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، حتى شرب القوم وتوضؤوا وهم ألف وأربعمائة. قال: وفي رواية ألف وخمسمائة. وفي رواية: فشربوا وسقوا وملؤوا قرابهم، وكان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، والخيل اثنا عشر ألف فرس، أي وهذه في غزوة تبوك، وقد تكرر ذلك منه عدة مواطن عظيمة تقدمت، وتكررت الروايات بحسب تكرر الوقائع، وهو أشرف المياه كما قاله السراج البلقيني ولم يسمع بمثل هذه المعجزة التي هي خروج الماء من بين الأصابع عن غير نبينا، وهي أبلغ من نبع الماء من الحجر الذي ضربه موسى عليه الصلاة والسلام، لأن خروج الماء من الحجر معهود، بخلاف خروجه من بين اللحم والدم والعظم والعصب كما تقدم ا هـ.

ومنها: أن الماء فار بغرز سهم من كنانته في محله. وقع له ذلك في الحديبية، وفي تبوك، فقد جاء: «أنه ورد في منصرفه من غزوة تبوك على ماء قليل لا يروي واحدا، وشكوا إليه العطش، فأخذ سهما من كنانته وأمر أن يغرز فيه، ففار الماء، وارتوى القوم، وكانوا ثلاثين ألفا» كما تقدم.

قال: ومنها ما تقدم له مع عمه أبي طالب بذي المجاز من ضربه الأرض أو صخرة برجله حين عطش فخرج الماء كما تقدم.

ومنها: ركوبه الفحل الذي قطع الطريق على من يمر لما سافر مع عمه الزبير بن عبد المطلب إلى اليمن كما تقدم.

ومنها: انقلاب الماء الملح عذبا ببركة ريقه الشريف. فقد جاء: «أن قوما شكوا إليه ملوحة في ماء بئرهم، فجاء في نفر من أصحابه حتى وقف على ذلك البئر، فتفل فيه، فتفجر بالماء العذب المعين».

ومنها: «أنه كان باليمن ماء يقال له زعاق من شرب منه مات، فلما بعث وجه إليه: أيها الماء أسلم فقد أسلم الناس، فكان بعد ذلك من شرب منه حم ولا يموت».

ومنها: زوال القرّاع بمرور يده الشريفة. فقد جاء: «أن امرأة أتته بصبي لها أقرع، فمسح رأسه فاستوى شعره وذهب داؤه».

ومنها: إحياء الموتى له وسماع كلامهم. فمن ذلك: «أنه دعا رجلا للإسلام فقال: لا أومن بك حتى تحيي لي بنتي، فقال: أرني قبرها، فأراه قبرها فقال: «يا فلانة، فقالت: لبيك وسعديك، فقال: أتحبين أن ترجعي إلى الدنيا؟ فقالت: لا والله يا رسول الله، إني وجدت الله خيرا لي من أبويّ، ووجدت الآخرة خيرا من الدنيا».

ومنها: إبراء الأبرص، فقد روي: «أن امرأة معاوية ابن عفراء كان بها برص فشكت ذلك إلى رسول الله فمسح عليه بعصا، فأذهبه الله».

ومنها: إبراء الرئة واللقوة والقرحة والسلعة والحرارة والدبيلة والاستسقاء، فإن ابن ملاعب الأسنة أصابه استسقاء، فبعث إلى النبي، فأخذ بيده الشريفة حثوة من الأرض فتفل عليها ثم أعطاها رسوله، فأخذها متعجبا يرى أنه قد هزىء به، فأتاه بها وهو على شفا، فشربها فشفاه الله وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية بقوله:

وبكف من تربة الأرض داوي ** من تشكي من مؤلم استسقاء

ومنها: أن أخت إسحاق الغنوي هاجرت من مكة تريد المدينة هي وأخوها إسحاق المذكور، حتى إذا كانت في بعض الطريق قال لها أخوها: اجلسي حتى أرجع إلى مكة، فأخذ نفقة أنسيتها، قالت له: إني أخشى عليك الفاسق أن يقتلك: تعني زوجها فذهب أخوها إلى مكة وتركها، فمر عليها راكب جاء من مكة، فقال لها: ما يقعدك ههنا؟ قالت: أنتظر أخي، قال لا أخ لك، قد قتله زوجك بعد ما خرج من مكة، قالت: فقمت وأنا أسترجع وأبكي حتى دخلت المدينة فدخلت على رسول الله وهو يتوضأ في بيت حفصة، فأخبرته الخبر، فأخذ ملء كفه ماء فضربني به، فمن يومئذ لم ينزل من عيني دمعة، وكانت تصيبني المصائب العظام، غايته أن ينفر الدمع على مقلتي ولا يسيل على وجنتي.

ومنها: إبراء الجراحة كما تقدم.

ومنها: إبراء الكسر «فقد مسح على رجل ابن عتيك رضي الله تعالى عنه وقد انكسرت فأنها لم تكسر قط» كما تقدم.

ومنها: إبراء الجنون. أي ومنها أن امرأة جاءته بابن لها لا يتكلم وقد بلغ أوان الكلام، فأتي بماء فمضمض وغسل يديه ثم أعطاها إياه وأمرها أن تسقيه وتمسه به، ففعلت ذلك، فبرىء وعقل عقلا يفضل عقول الناس.

ومنها: «أن بعض الصحابة ثبتت في كفه سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكا ذلك له، فما زال يطحنها بكفه الشريفة حتى زالت ولم يبق لها أثر.

ومنها: «أنه أعطى جذلامن الحطب فصار سيفا» وقع ذلك لعكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه يوم بدر كما تقدم. ووقع ذلك لعبد الرحمن بن جحش أيضا يوم أحد كما تقدم.

أي ومنها: انقلاب الماء لبنا وزبدا. ومنها: «أنه عرضت كدية بالخندق ولم يقدر أحد على إزالة شيء منها فضربها فصارت كثيبا» كما تقدم.

أي ومن إجابة دعائه ما روي عن النابغة الجعدي رضي الله تعالى عنه قال: أنشدت رسول الله أبياتا منها:

فلا خير في حلم إذا لم يكن له ** بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له ** حليم إذا ما أورد الأمر أصدارا

فقال النبي: «أجدت، لا أفضض الله فاك من هذه إشارة إلى أسنانه» قال النابغة رضي الله تعالى عنه: فلقد أتت علي نيف ومائة سنة وما ذهب لي سن. قيل عاش مائة واثنتي عشرة سنة، وقيل مائة وثمانين سنة، أي كما تقدم. وفي لفظ: كان من أحسن الناس ثغرا، وكان إذا سقطت له سن نبت له أخرى. أي وعلى هذا الأخير فالمراد لا أخلى الله فاك من الأسنان.

ومن ذلك: أن امرأة بابن لها صغير، فقالت: «يا رسول الله إن بابني هذا جنونا، وإنه يأخذه عند غذائنا وعشائنا فيفسد علينا، فمسح رسول الله رأسه ودعا له، فخرج من جوفه مثل الجرو الأسود فشفي».

ومنها: إبراء وجع الضرس. فقد جاء: «أن بعض الصحابة شكا إليه وجع ضرسه، فقال له: أدن مني، فوالذي بعثني بالحق لأدعون لك بدعوة لا يدعو بها مؤمن مكروب إلا كشف الله عنه كربه، فوضع رسول الله يده على الخد الذي فيه الوجع وقال: اللهم أذهب عنه سوء ما يجد وفحشه بدعوة نبيك المبارك المكين عندك سبع مرات، فشفاه الله تعالى قبل أن يبرح» هذا ما يتعلق ببعض معجزاته التي يمكن التحدي بها، والحمد لله وحده.


باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم

أي ما اختص به عن سائر الناس من الأنبياء وغيرهم

، وما اختص به عن غير الأنبياء، وفيما اختصت به أمته عن سائر الناس من الأنبياء وغيرهم، وفيما اشتركت فيه مع الأنبياء دون أممهم.

لا يخفى أن ذكر خصائصه مندوب. قال في الروضة: ولا يبعد القول بوجوب ذلك ليعرف، فلا يتأسى به جاهل في ذلك. ثم لا يخفى أن الذي من خصائصه عن سائر الناس إما أن يكون اختص بوجوبه عليه لأن الله علم أنه أقوم به وأصبر عليه من غيره، ولأن ثواب الفرض أفضل من ثواب النفل غالبا.

وقد جاء: «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه» أو اختص بتحريمه عليه، لأن الله علم أنه أصبر على تركه ولمزيد فضل تركه، أو اختص بإباحته له تسهيلا عليه، أو اختص باتصافه به ولمزيد فضله وشرفه.

فمن القسم الأول صلاة الضحى: أي بما هو أقلها، وهو ركعتان، وركعتا الفجر وصلاة الوتر. قال: «ثلاث علي فرائض ولكم تطوع: الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى».

أي وفي الإمتاع أن هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه ومع ذلك ففي ثبوت خصوصية هذه الثلاثة برسول الله نظر. فإن الذي ينبغي ولا يعدل عنه إلى غيره أن لا تثبت خصوصيته إلا بدليل صحيح.

وفي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «ما سبح رسول الله سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها» وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: «كان النبي يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» وهذا يدل بظاهرة، ويقتضي عدم الوجوب، إذ لو كانت واجبة في حقه لكان مداومته عليها أشهر من أن تخفى هذا كلامه.

وفيه أنه لما صلى الضحى يوم الفتح في بيت أم هاني واظب عليها إلى أن مات، وأنه صلى ثمان ركعات. وجاء في حديث مرسل «كان يصلي ركعتين وأربعا وستا وثمانيا» وهل المراد بالوتر أقله أو أكثره أو أدنى كماله؟ والسواك قال في الإمتاع: وهل هو بالنسبة إلى الصلاة المفروضة أو في كل الأحوال المؤكدة في حقنا أو فيما هو أعم من ذلك. وغسل الجمعة والأضحية واستدل لوجوبهما بقوله تعالى: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي} إلى قوله: {وبذلك أمرت} قال في الإمتاع: والأمر على الوجوب، هذا كلامه؟ وفيه نظر، لأن أمر للوجوب والندب، والذي للوجوب إنما هو صيغة أفعل.

قال في الإمتاع: إن الآمدي وابن الحاجب رحمهما الله عدا ركعتي الفجر من خصائصه ولا سلف لهما في ذلك إلا حديث ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

واعترض كون الوتر واجبا عليه، بأنه كما في الصحيحين صلاة على البعير، إذ لو كان واجبا لما صلاه على الراحلة. وأجاب النووي رحمه الله بأن جواز هذا الواجب على الراحلة من خصائصه وأجاب القرافي المالكي رحمه الله بأن الوتر لم يكن واجبا عليه إلا في الحضر، ووافقه على ذلك من أئمتنا الحليمي والعز ابن عبد السلام.

والعقيقة وأنه يجب عليه أن يؤدي فرض الصلاة كاملة لا خلل فيها، وأنه يجب عليه أن يصلي في كل يوم وليلة خمسين صلاة على وفق ما كان في ليلة الإسراء، كذا في الخصائص الصغرى للسيوطي.

والمشاورة في أمر الدين والدنيا لذوي الأحلام من الأمور الاجتهادية. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما نزلت هذه الآية: {وشاورهم في الأمر} قال النبي: «إن الله ورسوله غنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة في أمتي، فمن شاور منهم لم يعدم رشدا، ومن ترك المشورة منهم لم يعدم غيا» وقد وقيل: الاستشارة حصن من الندامة ومصابرة العدو وإن كثر.

وفي الحاوي للماوردي: «أنه كان إذا بارز رجلا لا ينفك عنه قبل قتله» هذا كلامه، ولم أقف على أنه بارز أحدا.

وقضاء دين من مات معسرا من المسلمين، وأداء الجنايات والكفارات عن من لزمته وهو معسر، وتخيير نسائه بين الدنيا والآخرة أي بين زينة الدنيا ومفارقته، بين اختيار الآخرة والبقاء في عصمته، وأن من اختارت الدنيا يفارقها ومن اختارت الآخرة يمسكها ولا يفارقها: أي لأن الله تعالى قال لنبيه: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما}.

قيل اختلف سلف هذه الأمة في سبب نزول هذه الآية على تسعة أقوال: فقد قيل نزلت لما طلبن منه زيادة في النفقة، فاعتزلهن شهرا، ثم أمر بتخييرهن فيما ذكر كما تقدم.

عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: جاء أبو بكر رضي الله تعالى عنه يستأذن على النبي فوجد الناس جلوسا ببابه ليأذن لهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجدا النبي جالسا حوله نساؤه، أي قد سألنه النفقة وهو حاجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لأقولن شيئا أضحك النبي فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر رضي الله تعالى عنه إلى حفصة فوجأ عنقها، وكل يقول: تسألن رسول الله ما ليس عنده، ثم أقسم رسول الله أن لا يجتمع بهن شهرا.

فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلا ودق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم. فقلت ماذا؟ أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، كنت أظن هذا كائنا، حتى إذا صليت الصبح شددت عليّ ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلا في هذه المشربة، أي لأن نساءه لما اجتمعن عليه في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهنّ، قال عمر رضي الله تعالى عنه: لأقولنّ من الكلام شيئا أضحك به النبي فأتيت غلاما له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني، فقال: أدخل، قد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله فإذا هو متكيء على زمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت: الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساءهم، فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني فأنكرت عليها، فقالت تنكر عليّ أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي لتراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها بغضب زوجها، فتبسم رسول الله، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله؟ فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله؟ لا تراجعي رسول الله ولا تسألينه شيئا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك أحب إلى رسول الله منك؟ يعني عائشة، فتبسم أخرى، فقلت، استأنس يا رسول الله قال نعم، فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك زمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله () فلما مضى تسع وعشرون يوما أنزل الله تعالى عليه أن يخبر نساءه في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية، فنزل ودخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوما أعددهن، قال: إن الشهر تسع وعشرون، وفي رواية: يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه، وفي الثالثة حبس إبهامه ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. فقالت: وما هو يا رسول الله، فقرأ: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية. قلت، أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله، ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية «أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ » بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم قلت له: لا تخبر امرأة من نساءك بالذي قلت. فقال رسول الله : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما بشيرا. ثم فعل أزواجه مثل ما فعلت عائشة رضي الله تعالى عنهن. وقد ذكر الأقوال التسعة في الإمتاع وذكر فيه أن التخيير كان بعد فتح مكة، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يقدم المدينة إلا بعد الفتح مع أبيه العباس رضي الله تعالى عنهما، وذكر أنه حضر الواقعة.

ومن القسم الثاني تحريم أكل الصدقة واجبة أو مندوبة، وكذا الكفارة والمنذورة والموقوف عليه إلا على جهة عامة كالآبار الموقوفة على المسلمين، ويشاركه في الصدقة الواجبة آلة دون صدقة التطوع على الجهة الخاصة دون الجهة العامة، والصدقة الواجبة هي المعنية بقوله: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» ولما سأله عمه العباس رضي الله تعالى عنه أن يستعمله على الصدقات قال: «ما كنت لأستعملك على غسلات ذنوب الناس» ولما أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه قال له النبي : كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» وفي رواية: «إن آل محمد لا يأكلون الصدقة».

واختلف علماء السلف هل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تشارك النبي في ذلك؟ فذهب الحسن رحمه الله تعالى إلى أن الأنبياء تشاركه في ذلك. وذهب سفيان بن عيينة إلى اختصاصه بذلك دونهم، وأن يعطي شيئا لأجل أن يأخذ شيئا أكثر منه، وأن يتعلم الكتابة أو الشعر وإنشاءه وروايته لا التمثل به، وأنه إذا لبس لامته للقتال لا يدعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، وهذا الأخير مما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وخائنة الأعين، وهي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يظهر كما تقدم. وإمساك من كرهته، ونكاح الكتابية، قيل والتسري بها والراجح خلافه. ونكاح الأمة المسلمة لأنه لا يخشى العنت، أي الزنا.

ومن القسم الثالث القبلة في الصوم مع وجود الشهوة. فقد كان يقبل عائشة رضي الله تعالى عنها وهو صائم ويمص لسانها، ولعله لم يكن يبلع ريقه المختلط بريقها. والخلوة بالأجنبية، وأنه إذا رغب في امرأة خلية كان له أن يدخل بها من غير لفظ نكاح أو هبة ومن غير ولي ولا شهود، كما وقع له في زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها كما تقدم، ومن غير رضاها، وأنه إذا رغب في امرأة متزوجة يجب على زوجها أن يطلقها له، وأنه إذا رغب في أمة وجب على سيدها أن يهبها له. وله أن يتزوج المرأة لمن يشاء بغير رضاها، وله أن يتزوج في حال إحرامه، ومن ذلك نكاح ميمونة على ما تقدم. وأن يصطفي من الغنيمة ما شاء قبل القسمة من جارية أو غيرها.

ومن صفاياه صفية وذو الفقار كما تقدم، وأن يتزوج من غير مهر كما وقع لصفية رضي الله تعالى عنها. وقد قال المحققون: معنى ما في البخاري وغيره أنه جعل عتقها صداقها أنه أعتقها بلا عوض وتزوّجها بلا مهر، فقول أنس رضي الله تعالى عنه أمهرها نفسها معناه أنه لما لم يصدقها شيئا كان العتق كأنه المهر وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، وأن يدخل مكة بغير إحرام اتفاقا، وأن يقضي بعلمه ولو في حدود الله تعالى.

قال القرطبي في تفسيره: أجمع العلماء على أنه ليس لأحد أن يقضي بعلمه إلا النبي.

قال الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وجمع له بين الحكم بالظاهر والباطن معا وجمعت له الشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء إلا إحداهما بدليل قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، وقوله: إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه وأنت على علم لا ينبغي لي أن أعلمه هذا كلامه.

وكتب عليه الشهاب القسطلاني رحمه الله: هذه غفلة كبيرة وجراءة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ يلزم منه خلو بعض أهل العزم عليهم الصلاة والسلام من علم الحقيقة الذي لا يجوز خلو بعض آحاد الأولياء عنه وإخلاء الخضر بل بقية بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم الشريعة. وأعجب من ذلك أنه بين له وجه الخطأ، فأجاب بقوله: مرادي الجمع بين الحكم والقضاء هذا كلامه.

وأقول: ذكر السيوطي في كتابه (الباهر في حكم النبي بالباطن والظاهر) هل يقول مسلم إن الذي خص به نبينا، أي عن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورث نقصا في حق سائر الأنبياء؟ معاذ الله، وكل مسلم يعتقد أن نبينا أفضل من سائر الأنبياء على الإطلاق، وذلك لا يورث نقصا في حق أحد منهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وهذا الاعتراض كان لا يحتاج إلى جواب عنه، لكن خشيت أن يسمعه جاهل فيؤديه ذلك إلى إنكار خصائص النبي التي فضل بها على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، توهما منه أن ذلك يورث نقصا فيهم، فيقع والعياذ بالله في الكفر والزندقة هذا كلامه.

ومما حكم فيه بالظاهر والباطن معا، قوله في ولد وليدة زمعة والد سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها لما اختصم فيه سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وعبد بن زمعة، فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي، عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه به، وقال عبد بن زمعة، هذا أخي ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة، ثم قال: «هو لك يا عبد الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة» زاد في رواية: «فليس بأخ لك» فقد جعله أخا لسودة عملا بظاهر الشرع، ونفى أخوته عنها بمقتضى الباطن. فقد حكم في هذه القصة بالظاهر والباطن معا.

وأما حكمه بالباطن فقد جاء في أمور متكثرة.

من ذلك قتله الحارث بن سويد بقتله المجذر بن زياد غيلة من غير دعوى وارث ولا قيام بينة ولا قبل الدية كما تقدم.

ومن ذلك أنه قال لرجل مات أخوه: «إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه، فقال يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال أعطها فإنها محقة».

ومن ذلك أن امرأة جاءت إلى أخرى وقالت لها: فلانة تستعيرك حليك وهي كاذبة فأعارتها إياه، فبعد مدة جاءت للمرأة تطلب حليها فقالت: لم أطلب حليك فجاءت للمرأة التي أخذته فأنكرت أخذه، فجاءت النبي وأخبرته القصة فدعاها، فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا، فقال: «اذهبوا فخذوه من تحت فراشها فأخذ وأمر بها فقطعت».

وأن يقضي لنفسه ولولده، وأن يشهد لنفسه ولولده وأن يقبل الهدية ممن يريد الحكومة عنده، وأن يقضي في حال غضبه، وأن يقطع الأرض قبل أن يفتحها.

ومما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في هذا القسم أن له أن يصلي بعد نومه غير متمكن، أي في النوم الذي تنام فيه عينه وقلبه، بناء على أنه كان له نومان، وحينئذ يكون قوله: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» والمراد به غالبا، إذ يبعد أن يكون بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس لهم إلا نوم واحد وله نومان.

وإباحة ترك إخراج زكاة المال، لأنه كبقية الأنبياء لا ملك لهم مع الله، وما في أيديهم من المال وديعة لله عندهم يبذلونه في محله ويمنعونه في غير محله، ولأن الزكاة طهرة وهم مبرؤون من الدنس كذا في الخصائص الصغرى نقلا عن سيدي الشيخ تاج الدين بن عطاء الله.

وفيها بعد ذلك أنه اختص بأن ماله باق بعد موته على ملكه ينفق منه على أهله في أحد الوجهين، وصححه إمام الحرمين، والذي صححه النووي الوجه الآخر، وهو خروجه عن ملكه، لكنه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة، وما قاله ابن عطاء الله بناه مذهب إمامه سيدنا مالك، ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى خلافه. ففي الخصائص الصغرى قبل هذا: وذكر مالك رضي الله تعالى عنه، من خصائصه أنه كان لا يملك الأموال، إنما كان له التصرف وأخذ قدر كفايته. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه وغيره أنه يملك هذا كلام الخصائص.

ومن القسم الرابع أنه أول من أخذ عليه الميثاق يوم {ألست بربكم} وأنه أول من قال بلى، أي وأنه خص بالبسملة: وفيه ما تقدم أن ذلك على وجه وأن الأصح خلافه لما في القرآن في سورة النمل وفي المرفوع: «أنزل علي آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري {بسم الله الرحمن الرحيم} وجاء: «بسم الله فاتحة كل كتاب» وفيه أن الإنجيل من جملتها وهو كتاب عيسى ابن مريم وهو بعد سليمان عليهما السلام، وقد قدمنا ذلك عند الكلام على أوائل البعث وبفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة {آمن الرسول} إلى ختامها وآية الكرسي أعطيها من كنز تحت العرش وكذا الفاتحة والكوثر.

فقد جاء: «أربع نزلت من كنز تحت العرش لم ينزل منه شيء غيرهن أم الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة والكوثر».

وذكر الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الصغرى، أن مما خص به أعطى من كنز تحت العرش ولم يعط منه أحد غيره والسبع الطوال والمفصل.

وأن دار هجرته التي هي المدينة آخر الدنيا خرابا، وأن جميع ما في الكون خلق لأجله، وأنه تعالى كتب اسمه على العرش وعلى كل سماء، وما فيها كما تقدم وعلى بعض الأحجار وورق الأشجار وبعض الحيوانات كما تقدم، قال بعضهم: بل وعلى سائر ما في الملكوت وذكر الملائكة له في كل ساعة، وذكر اسمه في الأذان في عهد آدم والملكوت الأعلى كما تقدم.

ومما اختص به عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه يحرم نكاح أزواجه بعد موته حتى على الأنبياء بخلاف زوجات الأنبياء بعد موتهم لا يحرم نكاحهن على المؤمنين. قال شيخنا الشمس الرملي والأقرب عدم حرمتهن على الأتقياء من أممهم.

وفيه أنه إذا لم يحرمن على آحاد المؤمنين فعلى الأتقياء بطريق الأولى، إلا أن يقال الفرق ممكن، يدل عليه قوله: والأقرب وإلا فهذا مما يتوقف فيه على النقل.

وقيل ومن ذلك أنه يجب على أزواجه من بعده الجلوس في بيوتهن ويحرم عليهن الخروج منها ولو لحج أو عمرة والراجح خلاف ذلك، فقد حججن مع عمر رضي الله تعالى عنه وعنهن إلا سودة وزينب فخرجن في الهوداج عليهن الطيالسة الخضر. وعثمان رضي الله تعالى عنه يسير أمامهن يقول لمن أراد أن يمر عليهن إليك إليك. وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه خلفهن يقول لمن أراد أن يمر عليهن مثل ذلك، ولا ترى هوادجهن إلا مد البصر، ولما ولي عثمان رضي الله تعالى عنه حج بهن أيضا إلا سودة وزينب.

وأنه يحرم أيضا رؤية أشخاص زوجاته في الأزر، وسؤالهن مشافهة أي من غير حجاب.

ولا يجوز كشف وجوههن لشهادة بلا خلاف، وأن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على سائر النبيين آدم فمن بعده أن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوه وأن يأخذوا العهد على أممهم بذلك كما تقدم، وأنه يحشر على البراق، فقد جاء: «تبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الدواب ويبعث صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة رضي الله تعالى عنهم على ناقته العضباء والقصوى، ويبعث بلال رضي الله تعالى عنه على ناقة من نوق الجنة، وأن في كل يوم ينزل على قبره الشريف سبعون ألف ملك يضربونه بأجنحتهم ويحفون به، ويستغفرون له، ويصلون عليه إلى أن يمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك كذلك حتى يصبحون لا يعودون إلى أن تقوم الساعة» وأنه شق صدره الشريف عند ابتداء الوحي، وأنه تكرر له ذلك خمس مرات على ما تقدم، وأن خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره. وخاتم الأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام كان في يمينهم كما تقدم، وتقدم ما فيه، وأن له ألف اسم، ونقل عن تفسير الفخر الرازي أن له أربعة آلاف اسم، وأنه تسمى من أسماء الله تعالى بنحو سبعين اسما، وأنه رأى جبريل على الصورة التي خلق عليها مرتين كما تقدم، وغيره لم يره كذلك، وأنه عليه الصلاة والسلام يحكم بالظاهر والباطن كما تقدم، وأنه أحلت له مكة ساعة من نهار، وأنه حرّم ما بين لابتي المدينة كما تقدم، وأنه لم تر عورته قط، وأن من رآها طمست عيناه كما تقدم، وأنه إذا مشى في الشمس أو في القمر لا يكون ظل لأنه كان نورا وأنه إذا وقع شيء من شعره في النار لا يحترق، وأن وطأة أثر في الصخر على ما تقدم، وأن الذباب لا يقع على ثيابه فضلا عن جسده الشريف، ولا يمتص نحو البعوض والقمل دمه كما تقدم، وهذا لا ينافي كون القمل يكون في ثوبه، ومن ثم جاء: «كان يفلي ثوبه» وأن عرقه أطيب من ريح المسك كما تقدم.

وكان إذا ركب دابة لا تبول ولا تروث وهو راكبها، ولو بنى مسجده إلى صنعاء اليمن كان مسجده أي في المضاعفة خلافا لجمع منهم ابن حجر الهيتمي.

وقد قال الحافظ السيوطي: نص العلماء على أن المسجدين: أي المكي والدني، ولو وسعا لم تختلف أحكامهما الثابتة لهما.

وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لو مدّ مسجد رسول الله إلى ذي الحليفة لكان منه، فهذا الأثر مصرح بأن أحكام مسجد رسول الله ثابتة له، فالتوسعة لا تمنع استمرار الحكم، وتقدم ما في ذلك، وأنه يجب على أمته أن تصلي وتسلم عليه في التشهد الأخير وعند كل ما يذكر عند بعضهم، وأن القمر شق له كما تقدم، وأن الحجر والشجر سلما عليه، وشهادة الشجر له بالنبوة وإجابتها دعوته، وكلام الصبيان المراضع، وشهادتهم له بالنبوة كما تقدم، وأن الجذع اليابس حن إليه كما تقدم، وأنه أرسل للناس كافة الإنس والجن إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر جاحد ذلك، وقد يتوقف في كفر العامي بجحد إرساله للجن وإلى الملائكة على ما هو الراجح كما تقدم.

قال بعضهم والقول بمقابله مبني على تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهو قول مرجوح ذهب إليه المعتزلة والفلاسفة وجماعة من أهل السنة الأشاعرة. واستدلوا بأمور كلها مردودة وتقدم عن البارزي رحمه الله أنه أرسل إلى الحيوانات والجمادات، لكن استدل له بشهادة الضب والشجر له بالرسالة. وقد يتوقف في الاستدلال بذلك.

وتقدم عن الحافظ السيوطي رحمه الله أنه أرسل لنفسه، وتقدم الفرق بين عموم رسالته عليه الصلاة والسلام وعموم رسالة نوح، وأنه بعث رحمة للبر والفاجر، ورحمة للكفار بتأخير العذاب، وعدم معاجلتهم بالعقوبة بنحو الخسف والمسخ والغرق كسائر الأمم المكذبة كما تقدم، وأن الله تعالى لم يخاطبه باسمه كما خاطب غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل خاطبه: {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول} {يا أيها المدثر} {يا أيها المزملّ} وقال: {يا آدم} {يا نوح} {يا إبراهيم} {يا داود} {يا زكريا} {يا يحيى} {يا عيسى} وأن الله أقسم بحياته، قال تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}.

وروى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد » وأقسم الله على رسالته بقوله: {ي?س والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} وأن إسرافيل أهبط إليه ولم يهبط إلى نبي قبله كما تقدم، وأنه أكرم الخلق على الله، وأنه يحرم نكاح مواطوآته من الزوجات والسراري إلا من باعه أو وهبه من السراري في حياته إن فرض ذلك، وذهب الماوردي إلى تحريمها.

وفي كلام بعضهم: وتحرم زوجاته على غيره ولو قبل الدخول ولو مختارة للفراق، خلافا لما في الشرح الصغير للرافعي من حل المختارة للفراق، وأنه يحرم التزوّج على بناته، وقيل على فاطمة خاصة رضي الله تعالى عنها. وأما التسري عليهنّ فلم أقف على حكمه، وما علل به منع التزويج عليهنّ حاصل في التسري إلا أن يفرق.

وأوتي قوة أربعين رجلا من أهل الجنة في الجماع، وقوة الرجل من أهل الجنة كمائة من أهل الدنيا، فيكون أعطي قوة أربعة آلاف رجل، وسليمان صلوات الله وسلامه عليه أعطى قوة مائة رجل. وقيل ألف رجل أي من رجال الدنيا، وأن فضلاته طاهرة كما تقدم، وأنه كان له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين، لأن النبي ابتاع فرسا من أعرابي فاستبقه النبي ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي وتباطأ الأعرابي والفرس معه فساومه في الفرس رجال لا يعرفون أن النبي اشتراه بزيادة عما اشتراه به فقال الأعرابي للنبي: إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه وإلا بعته، فقال النبي وقد سمع نداء الأعرابي: أو ليس قد ابتعته منك، فقال الأعرابي: لا، فقال النبي : بلى قد ابتعته منك، فقال الأعرابي: شاهدان يشهدان أني بعتك، فلما سمع خزيمة رضي الله تعالى عنه ذلك، قال: أنا أشهد أنك بعته، فقال النبي لخزيمة: كيف تشهد ولم تكن معنا؟ فقال: يا رسول الله إنا نصدقك بخبر السماء أفلا نصدقك بما تقول، فجعل شهادته رضي الله تعالى عنه في القضايا بشهادة رجلين. ومنه أخذ جواز الشهادة له بما ادعاه.

وترخيصه لأم عطية رضي الله تعالى عنها، ولخولة بنت حكيم رضي الله تعالى عنها في النياحة لجماعة مخصوصين.

وترخيصه لأسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها في عدم الإحداد لما قتل زوجها سيدنا جعفر بن أبي طالب حيث قال لها تسلي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت.

وتجويز التضحية بالعناق لأبي بردة ولعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهما. وزاد بعضهم ثلاثة آخرين.

وتزويجه لشخص امرأة على سورة من القرآن وقال: {لا تكون لأحد غيرك مهرا ولعل المراد مجهولة}، فلا يخالفه ذلك ما عند أئمتنا من جواز ذلك على معين من السور القرآنية.

وتزويجه أم سليم أبا طلحة رضي الله تعالى عنهما على إسلامه كما تقدم وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل.

وتخصيصه نساء المهاجرين بأن يرثن دور أزواجهن دون بقية الورثة وقد ألغز في ذلك بعضهم بقوله:

سلم على مفتي الأنام وقل له ** هذا سؤال في الفرائض مبهم

قوم إذا ماتوا تحوز ديارهم ** زوجاتهم فلغيرها لا تقسم

وبقية المال الذي قد خلفوا ** يجري على أهل التوارث منهم

وأنه أول من ينشق عنه القبر، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله، قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم أهل البقيع فيخرجون معي ثم أنتظر أهل مكة»، أي وفي رواية: «وأنا أول من تنشق عنه الأرض فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بوسى عليه الصلاة والسلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله».

وفيه أن الاستثناء إنما هو من نفخة الفزع التي هي النفخة الأولى التي يفزع بسببها أهل السموات والأرض، وتمر الجبال مر السحاب، وترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة في البحر تضربها الأمواج المعنية بقوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} والمعنية بقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} الآية. قال: «والأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا يا رسول الله فمن استثنى الله في قوله: إلا من شاء الله: قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء وهم {أحياء عند ربهم يرزقون}، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه».

وفيه أن هذا يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يفزعون لأنهم أحياء، ولم يذكرهم مع الشهداء، والقياس قد يمنع لأنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. وأنه من يكسي في الموقف أعظم الحلل من الجنة، وأنه يقوم في المقام المحمود على يمين العرش، وأنه الذي يشفع في فصل القضاء بين أهل الموقف، وأنه له شفاعات في ذلك اليوم وهي إحدى عشرة شفاعة ذكرها في (مزيل الخفاء) وأنه صاحب لواء الحمد في ذلك اليوم، آدم فمن دونه تحت لوائه، وأنه خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإمامهم في ذلك اليوم كما تقدم.

وأول من يؤذن له في السجود. وأول من ينظر إلى الرب عز وجل، وأنه يسجد أوّلا فيقول له الرب جل جلاله، ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم ثانيا، ثم ثالثا كذلك فيشفع.

وأنه أول من يفيق من الصعقة. وفيه أن نفخة الصعقة، وهي النفخة الثانية التي هي نفخة الموت لأهل السموات والأرض، إلا أن يقال المراد بالصعقة هنا نفخة رابعة أثبتها ابن حزم.

فقد قال الحافظ الجلال السيوطي رحمه الله: وأغرب ابن حزم رحمه الله تعالى، فادعى أن النفخ في الصور يقع أربع مرات، فعليه تكون هذه النفخة ليست هي المذكورة في القرآن، وأنها تكون في الموقف بعد النفخة الثالثة التي هي نفخة البعث التي بسببها يكون القيام من القبور إلى المحشر المعنية بقوله تعالى: {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وهذه النفخة الرابعة تسمى نفخة الصعق أيضا، لأن بها يحصل لجميع أهل السموات والأرض في ذلك الوقت غشي وهو شبيه بالموت، ويكون أول من يفيق من تلك الصعقة هو، وحينئذ يجد موسى عليه الصلاة والسلام آخذا بقائمة من قوائم العرش، ويكون قوله: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكون أنا أول من رفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» من تخليط بعض الرواة. وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب بأنه أخبر بقوله لا أدري قبل أن أعلمه الله تعالى بأنه أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق، وأن موسى عليه الصلاة والسلام سبقه إلى العرش لأنه بعد خروجه من الأرض ينتظر خروج أهل البقيع، ومجيء أهل مكة فليتأمل ذلك.

وأول من يمر على الصراط، وأول من يدخل الجنة ومعه فقراء المسلمين، وأن له الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة.

وقيل إنه في الجنة لا يصل لأحد شيء إلا بواسطته، وأنه لا يقرأ في الجنة إلا كتابه، ولا يتكلم في الجنة إلا بلسانه.

ومما شارك فيه الأنبياء في هذا القسم، أن من دعاه، في الصلاة تجب عليه الإجابة قولا وفعلا ولو كثيرا، ولا تبطل صلاته بالنسبة لنبينا بخلاف غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنها تبطل.

ومنه أيضا العصمة من الذنب مطلقا كبيرا أو صغيرا عمدا أو سهوا، وعدم التثاؤب والاحتلام، لأن كلا من الشيطان، ولم ير أثر لقضاء حاجته، بل كانت الأرض تبتلعه ويشم من مكانه رائحة المسك. قال: وأنه كان ينظر بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء.

واستشكل بما جاء: «أنه لما ابتنى بأم سلمة رضي الله عنها دخل عليها في الظلمة، فوطيء على ابنتها زينب فبكت، فلما كانت الليلة القابلة دخل في ظلمة أيضا فقال: «أنظروا ربائبكم لا أطأ عليها» وزينب هذه ولدتها من أبي سلمة بالحبشة، ودخلت على رسول الله وهو يغتسل وهي إذ ذاك طفلة فنضح وجهها بالماء، فلم يزل ماء الشباب بوجهها حتى عجزت وقاربت المائة سنة.

وكان ينظر من خلفه كما ينظر أمامه، أي وعن يمينه وعن شماله، فقد جاء: «إني لأنظر إلى ما وراء ظهري كما أنظر إلى أمامي» فقيل كان له بين كتفيه عينان كسم الخياط يبصر بهما لا تحجبهما الثياب، وقيل كانت تنطبع صورة المحسوسات التي خلفه في حائط قبلته كما تنطبع الصور في المرآة. وهذا يدل على أن ذلك خاص بالصلاة، وهو ظاهر أكثر الروايات أي وكانت تلك الصلاة إلى حائط فليتأمل.

وكان يرى الثريا اثنا عشر نجما وغيره لا يزيد على تسعة ولو أمعن النظر.

واختصت هذه الأمة المحمدية بأمور لم يشاركها فيه من قبلهم من الأمم، وهي أنها خير الأمم، وأكرم الخلق على الله. قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.

وفي الحديث: «إن الله اختار أمتي على سائر الأمم. وإن الله ينظر إليها في أول ليلة من رمضان» وأعطيت الاجتهاد في الأحكام، وأظهر الله ذكرها في الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل، وأثنى عليها، وأعطيت الصلوات الخمس: أي جمعت لهم على ما تقدم، وأعطيت صلاة العشاء.

فقد أخرج أبو داود والبيهقي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إنكم فضلتم بها» أي بصلاة العشاء «على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم» وفيه ما تقدم.

وأعطيت افتتاح الصلاة بالتكبير. وأعطيت التأمين: أي قول آمين عقب الدعاء، فقد جاء: «أعطيت آمين ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا أن يكون الله أعطاها هارون فإن موسى كان يدعو ويؤمن هارون عليهما الصلاة والسلام» وتقدم أن آمين عقب الفاتحة ليس من القرآن اتفاقا.

وأعطيت الاستنجاء بالحجر. وأعطيت الأذان والإقامة والركوع في الصلاة، وأما قوله تعالى لمريم: {واركعي مع الراكعين} فالمراد بالركوع الخضوع كما تقدم، ويلزمه أنها أعطيت في الرفع منه «سمع الله لمن حمده». وفي الاعتدال «اللهم ربنا لك الحمد» إلى آخره. وأعطيت تحريم الكلام في الصلاة دون الصوم عكس من قبلهم. وأعطيت الجماعة في الصلاة. وأعطيت الاصطفاف فيها كصفوف الملائكة. وأعطيت صلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء والوتر. وأعطيت قصر الصلاة في السفر، والجمع بين الصلاتين فيه على ما تقدم وفي المطر والمرض على قول اختاره جمع من العلماء ومنهم والدي رحمه الله. وأعطيت صلاة الخوف وصلاة شدته. وأعطيت شهر رمضان على ما تقدم. وأعطيت فيه أمورا منها تصفيد الشياطين.

وقد سئلت: ما فائدة تصفيد الشياطين في رمضان مع وجود الفساد والشر وقتل الأنفس فيه؟ وقد أجبت عنه أربعة أجوبة، حاصلها أن فائدة ذلك قلة الشر لا نفيه بالكلية، وقد ذكرت ذلك في كتابي (إسعاف الإخوان في شرح غاية الإحسان) وهو كتاب ألفته في الصوم وما يتعلق به.

ومنها صلاة الملائكة عليهم حين يفطروا. ومنها أن ريح فمهم بعد الزوال أطيب عند الله من ريح المسك، وفيه أن هذا لا يختص بصوم رمضان. ومنها أن الجنة تزين فيه من رأس الحول إلى رأس الحول، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، وتفتح أبواب السماء في أول ليلة منه.

ومنها أنه يغفر لهم في آخر ليلة منه. وأعطيت العقيقة عن الأنثى. وأعطيت العذبة في العمامة. وأعطيت الوقف، والوصية بالثلث عند الموت. وأعطيت غفران الذنوب بالاستغفار، وجعل الندم توبة. وأعطيت صلاة الجمعة. وأعطيت ساعة الإجابة في يومها. وأعطيت ليلة القدر. وأعطيت السحور وتعجيل الفطر. وأعطيت الاسترجاع عند المصيبة. وأعطيت الحوقلة: أي لا حول ولا قوة إلا بالله. وأعطيت رفع الإصر عنها، ومنه وجوب القصاص في الخطأ والمؤاخذة بحديث النفس والنسيان وما وقع عليه الإكراه، وأن إجماعها حجة لأنها لا تجتمع على ضلالة: أي محرم. وأعطيت أن اختلاف علمائها رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذابا، والمراد بعلماء الأمة المجتهدون، كما أن المراد ذلك بما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال قال رسول الله «اختلاف أصحابي رحمة» أي ويقاس بأصحابه غيرهم ممن بلغ رتبة الاجتهاد. قال بعضهم: وما ذكره بعض الأصوليين والفقهاء أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة» لا يعرف من خرّجه بعد البحث الشديد، وإنما يعرف عن القاسم بن محمد بلفظ: «اختلاف أمة محمد رحمة» قال الحافظ السيوطي: ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا، وأن الطاعون لهم رحمة وكان على من قبلهم عذابا. وأعطيت الإسناد للحديث. قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام من يحفظون آثار الرسل، أي ويأخذها واحد عن الآخر إلا في هذه الأمة، أي حتى إن الواحد منهم يكتب الحديث الواحد من ثلاثين طريقا أو أكثر، وأن فيها الأقطاب والإنجاب والأوتاد، ويقال لهم العمد والأبدال والأخيار والعصب، فالأبدال بالشام، واختلفت الروايات في عددهم: فأكثر الروايات أنهم أربعون رجلا، وفي بعض الروايات أربعون رجلا، وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة.

وعن الفضل بن فضالة قال: الأبدال بالشام في حمص خمسة وعشرون رجلا، وفي دمشق ثلاثة عشر، وفي بيسان اثنان. وفي رواية عن حذيفة بن اليمان: «الأبدال بالشام ثلاثون رجلا على منهاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام».

وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: «لا يزال أربعون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال.

وعن الحسن البصري رحمه الله: لن تخلو الأرض من سبعين صدّيقا وهم الأبدال: أربعون بالشام، وثلاثون في سائر الأرض.

وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: «ثلاث من كن فيه فهو من الأبدال الذين بهم قوام الدنيا وأهلها: الرضا بالقضاء، والصبر عن محارم الله، والغضب في ذات الله».

وجاء في وصف الأبدال: «إنهم لم ينالوا ما نالوا بكثرة صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكن بسخاء النفس، وسلامة القلوب، والنصيحة لأئمتهم» وفي لفظ: «لجميع المسلمين».

وعن أبي سليمان: الأبدال بالشام والنجباء بمصر. وفي لفظ: الأبدال من الشام والنجباء من أهل مصر. وفي رواية عن علي كرم الله وجهه أيضا: والنجباء بالكوفة، والعصب باليمن، والأخيار بالعراق. وفي لفظ: والعصب بالعراق.

وعن بعضهم: النقباء ثلاثمائة وسبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث: أي الذي هو القطب واحد، فمسكن النقباء الغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سائحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمد، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فما تتم مسألته حتى يجاب.

وجاء عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله: «لم يكن نبي قط إلا أعطي سبعة نجباء وزراء رفقاء، وإني أعطيت خمسة عشر: حمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وعلي، والحسن، والحسين، وعبد الله بن مسعود، وسلمان، وعمار بن ياسر، وحذيفة، وأبو ذر، والمقداد، وبلال، ومصعب» وأسقط الترمذي حذيفة وأبا ذر والمقداد.

وأنهم: أي أمته يخرجون من قبورهم بلا ذنوب يمحصها الله عنهم باستغفار المؤمنين لهم، وأنها أول من يحاسب، وأنها أول من تنشق عنها الأرض، وأنها في الموقف تكون على مكان عال مشرف على الأمم، وأنها أول من يدخل الجنة من الأمم، وأن لكل منها نورين كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنها تمر على الصراط كالبرق الخاطف وأنها تشفع في بعضها، وأن لها ما وسعت وما سعى لها، وأنها اختصت عن من الأمم ما عدا الأنبياء بوصف الإسلام على الراجح كما تقدم لأنه لم يوصف بالإسلام أحد الأمم السالفة سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد شرفت بأن توصف بالوصف الذي توصف به الأنبياء تشريفا لها وتكريما لها، فقد قال زيد بن أسلم أحد أئمة السلف العالمين بالقرآن والتفسير: لم يذكر الله بالسلام غير هذه الأمة، أي وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول.

وقد خصت هذه الأمة بخصائص لم تكن لأحد سواها إلا للأنبياء فقط، فمن ذلك الوضوء، فإنه لم يكن أحد يتوضأ إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا، في التوراة والإنجيل وصف هذه الامة أنهم يوضؤون أطرافهم.

وفي بعض الآثار: افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء لكن تقدم في الحديث: «أنه توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين فقال: هذا وضوء الأمم من قبلكم، من توضأ مرة آتاه الله أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، فقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» وهذا الحديث كما ترى يقتضي مشاركة الأمم مع هذه الأمة في أصل الوضوء، والاختصاص إنما هو بالتثليث، وتقدم الكلام على ذلك، أي والغسل من الجنابة.

ففيما أوحى الله إلى داود عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأمة: «وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأن منها سبعين ألفا، مع كل واحد من هؤلاء السبعين ألفا سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، أي وبإجلال الله تعالى توقير المشايخ منهم، وأنهم اذا حضروا القتال في سبيل الله حضرتهم الملائكة لنصرة الدين، وأن الملائكة عليهم تنزل هليهم في كل سنة ليلة القدر تسلم عليهم، وأكل صدقاتهم في بطونهم، وإثابتهم عليها، وتعجيل الثواب في الدنيا مع ادخاره في الآخرة، كصلة الرحم فإنها تزيد في العمر ويثاب عليها في الآخرة وما دعوا به استجيب لهم.

روى الترمذي رحمه الله: «أعطيت هذه الأمة ما لم يعط أحد بقوله تعالى {ادعوني أستجبْ لكم}» وإنما يقال هذا للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأمة «إن دعوني استجبت لهم، فإما أن يكون عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما أن أدخر لهم في الآخرة» ومخالطة الحائض سوى الوطء وما ألحق به، وهو مباشرة ما بين سرتها وركبتها، وتقدم وصفهم في الكتب القديمة بما لا ينبغي إعادته هنا لطوله.


باب ذكر أولاده

ولد له من خديجة رضي الله تعالى عنها قبل البعثة: القاسم، وهو أول أولاده، وبه كان يكنى، قيل عاش سنتين، وقيل سنة ونصفا، وقيل حتى مشى، وقيل بلغ ركوب الدابة، وقيل عاش سبع ليال. وهو أول من مات من ولده قبل البعثة، ثم ولدت قبل البعثة أيضا زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم رضي الله تعالى عنهن. وقيل أول بناته رقية، ثم فاطمة، ثم أو كلثوم رضي الله تعالى عنهن. وقيل أكبر بناته رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم ثم فاطمة. وقيل أول بناته زينب، ثم رقية، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة. وبعض الناس ذكر رقية بعد فاطمة.

وبعد البعثة ولد له عبد الله، ويسمى الطيب الطاهر. وقيل الطيب والطاهر غير، عبد الله المذكور ولدا في بطن واحدة قبل البعثة.

أي وقيل اللذان ولدا في بطن واحدة قبل البعثة الطاهر والمطهر. وقيل ولد له أيضا قبل البعثة في بطن واحد الطيب والمطيب. وقيل ولد له قبل البعثة عبد مناف، مات هؤلاء قبل البعثة وهم يرضعون، أما عبد الله الذي ولد له بعد بعثته فكان آخر الأولاد من خديجة رضي الله تعالى عنها.

وبهذا يظهر التوقف في قول السهيلي رحمه الله كلهم ولدوا بعد النبوة. وأجاب بعضهم بأن المراد بعد ظهور دلائل النبوة.

وفيه أن دلائل النبوة وجدت قبل تزويجه بخديجة رضي الله تعالى عنها.

وعند موت عبد الله هذا قال العاص بن وائل والد عمرو بن العاص. وقيل أبو لهب قد انقطع ولده: أي لا ولد له ذكر لأن ما عدا الذكر عند العرب لا يذكر فهو أبتر، فأنزل الله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر}.

أقول: في مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «بينا نحن عند رسول الله إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله، فقال: أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر} ولا يخفى أن هذا يقتضي أن السورة المذكورة مدنية، ثم رأيت الإمام النووي رجح ذلك لما ذكر.

وقد يقال: يجوز أن يكون {إن شانئك هو الأبتر} نزل بمكة وما عداه نزل بالمدينة وقد يعبر عن معظم السورة بالسورة. ثم رأيته في الإتقان ذكر أن مما نزل دفعة واحدة سورا منها الفاتحة والإخلاص والكوثر. ثم رأيت الإمام الرافعي رحمه الله قال: فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة، وقالوا: من الوحي ما كان يأتيه في النوم، لأن رؤيا الأنبياء وحي، وهذا غير صحيح، لكن الأشبه أن يقال: القرآن كله نزل يقظة، وكان خطر له في النوم سورة كوثر المنزل عليه في اليقظة: أي قبل ذلك.

وفيه أن قوله آنفا لا يناسبه، قال: أو يحمل الإغفاء على الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي. ثم رأيت الجلال السيوطي في الإتقان نظر في جواب الرافعي الأول بما ذكرته واستحسن الجواب الثاني.

وفي المواهب أن العاص بن وائل اجتمع هو ورسول الله في باب من أبواب المسجد فتحدثا وصناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاص المسجد قالوا له: من ذا الذي كنت تتحدث معه؟ قال: ذاك الأبتر، يعني النبي، وقد كان توفي أولاده من خديجة رضي الله تعالى عنها أي الذكور، فرد الله سبحانه وتعالى عليه وتولى جوابه بقوله: {إن شانئك هو الأبتر} أي عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير: أي باغضك هو الأبتر: أي المقطوع عن كل خير، أو المقطوع رحمه بينه وبين ولده، لأن الإسلام حجزهم عنه فلا توارث بينهم. فلا يقال العاص وأبو لهب لهما أولاد ذكور؟ فالأول له عمرو وهشام رضي الله تعالى عنهما. والثاني له عتبة ومعتب رضي الله تعالى عنهما.

قيل وكان بين كل ولدين لخديجة سنة. وكانت رضي الله تعالى عنها تعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، وكانت تسترضع لهم.

وذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره في قوله تعالى: {يهب لمن يشاء إناثا} كلوط عليه الصلاة والسلام كان له إناث ولم يكن له ذكور {ويهب لمن يشاء الذكور} كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنه لم يكن له بنت {أو يزوجهم ذكرانا وإناثا} كنبينا {ويجعل من يشاء عقيما} كيحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، فإنهما لم يولد لهما ولد.

أما زينب رضي الله تعالى عنها، فتزوجها ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة شقيقتها، وهو العاصي بن الربيع كما تقدم. وذكر بعضهم بدل هالة هند. قال: وهالة صحابية، وهند لا أعرف لها إسلاما. ويحتمل أن يكون أحدهما اسما والآخر لقبا، فهما واحدة.

وفي سنة ثمان من الهجرة، أي من ذي الحجة ولدت له مارية القبطية رضي الله تعالى عنها ـ وكان معجبا بها، لأنها كانت بيضاء جميلة ـ ولده إبراهيم. وعق عنه بكبشين يوم سابعه، وحلق رأسه، وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض، أي وغارت نساؤه ورضي عنهن من ذلك ولا كعائشة رضي الله تعالى عنها حتى إنه قال لها: انظري إلى شبهه، فقالت: ما أرى شيئا فقال. ألا تري إلى بياضه ولحمه، وكانت قابلتها سلمى مولاة رسول، أي وكانت قبل ذلك مولاة عمته صفية رضي الله تعالى عنها وهبتها له، وسلمى زوجة أبي رافع رضي الله تعالى عنه مولى رسول الله، وكان لعمه العباس رضي الله تعالى عنه قبل ذلك، وهبه له واسمه إبراهيم وكان قبطيا. وقيل غير ذلك، أعتقه لما أخبره بإسلام العباس، وزوّجه مولاته سلمى المذكورة. وقيل كان مولى لسعيد بن العاص، فورثه بنوه ثمانية فأعتقوه كلهم إلا ولده خالد فإنه لم يعتق نصبيه منه، فكلمه أن يعتق نصيبه أو يبيعه أو يهبه منه، فوهبه منه فأعتقه، قيل بعد أن سأله أبو رافع في ذلك، وبقي عقبة من أشراف المدينة.

وكان ولده عبد الله كاتبا وخازنا لعلي كرم الله وجهه أيام خلافته، فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته أن مارية قد ولدت غلاما، فجاء أبو رافع إلى رسوله الله فبشره، فوهب له عبدا.

وروى أبو رافع رضي الله تعالى عنه: «أن رسول الله طاف على نسائه واغتسل عند كل واحدة منهن غسلا» قال أبو رافع «فقلت له: يا رسول الله لو جعلته غسلا واحدا، قال: هذا أزكى وأطيب» وسمى ابنه يومئذ: أي يوم ولادته، وقيل سماه سابع ولادته، ودفعه لأم بردة خولة بنت المنذر بن زيد الأنصاري زوجة البراء بن أوس لترضعه، وأعطاها قطعة نخل، فكانت ترضعه في بني مازن وترجع به إلى المدينة، وكان ينطلق إليها فيدخل البيت ويأخذه فيقبله، ثم يرجع.

ولما احتضره جاء فوجده في حجر أمه، فأخذه في حجره وقال: «يا إبراهيم إنا لن نغني عنك من الله شيئا، ثم ذرفت عيناه وقال: إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب ونهانا عن الصياح. أي وفي لفظ: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» ولولا أنه وعد صادق وموعود جامع ـ فإن الآخر منا يتبع الأول ـ وجدنا عليك يا إبراهيم وجدا شديدا ما وجدناه، أي وفي لفظ: «ولولا أنه أمر حق ووعد صدق وإنها سبيل مأتية لحزنا عليك حزنا شديدا أشد من هذا، وإنابك يا إبراهيم لمحزونون» وفي لفظ: «وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

وعن سيرين: لما نزل بإبراهيم الموت صرت كلما صحت أنا وأختي نهانا عن الصياح، أي ولما بكى قال له أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: «أنت أحق من علم الله حقه، قال: تدمع العين، وقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ قال: لا ولكني نهيت عن صوتين أحمقين وآخرين: صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، وصوت عند نغمة لهو، وهذه رحمة، ومن لا يرحم لايرحم» وذكر «أنه لما مات كان مستقبلا للجبل فقال: يا جبل لو كان بك مثل ما بي لهدك، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون وصرخ أسامة رضي الله تعالى عنه، فنهاه رسول الله، فقال له: رأيتك تبكي، فقال له البكاء من الرحمة، والصراخ من الشيطان».

ولما مات ولد سليمان بن عبد الملك التفت إلى ولي عهده عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وقال له: إني أجد في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر. والتفت إلى وزيره رجاء، فقال له رجاء اقضها يا أمير المؤمنين فما بذلك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله على ابنه إبراهيم، فأرسل سليمان عينيه فبكى حتى قضى أربا، ثم أقبل عليهما، فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي ثم لم يبك بعدها، ولذلك قيل:

في إفاضة الكئيب لدمعته ** ما يذهب من لوعته

وفي إرساله لعبرته ** ما يعينه على سلوته

ومات سنة عشر من الهجرة.

واختلف في سنه، فقيل سنة وعشرة أشهر وستة أيام، وقيل ثمانية عشر شهرا، مات عند ظئره أم بردة، وغسلته، وحملته بين يديها على سرير.

وفي رواية غسله الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما ورسول الله على سرير.

وفي كلام ابن الأثير رحمه الله قيل: إن الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما غسل إبراهيم ونزل في قبره هو وأسامة بن زيد، وجلس رسول الله على شفير القبر، قال الزبير: ورش على قبره ماء، وعلم على قبره بعلامة. وهو أول قبر رش عليه الماء، وفيه أنه رش على قبر عثمان بن مظعون بالماء، وهو سابق على سيدنا إبراهيم كما تقدم، وصلى عليه وكبر أربعا، أي وقيل لم يصلّ عليه: أي لم تقع الصلاة عليه من أحد. وفي كلام النووي رحمه الله القول بالصلاة عليه، هو قول جمهور العلماء وهو الصحيح.

وما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لم يصل عليه قال ابن عبد البر رحمه الله إنه غلط، فقد أجمع جماهير العلماء على الصلاة على الأطفال إذا استهلوا عملا مستفيضا عن السلف والخلف.

وقال الإمام أحمد رحمه الله في خبر عائشة رضي الله تعالى عنها: إنه خبر منكر جدا، أي وقد صح عنه: «الطفل يصلى عليه» وجاء: «صلوا على أطفالكم فإنه من أفراطكم» وقد جاء: في المرفوع: «إذا استهل المولود صلى وورّث وورث» وجاء: «أحق ما صليتم على أطفالكم» ومن المقرر أنه إذا تعارض الإثبات والنفي قدم الإثبات على النفي.

ولما كسفت الشمس في ذلك اليوم قال قائل: كسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله: «لا تكسف لموت أحد ولا لحياته». وفي لفظ: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» الحديث. ودفن بالبقيع وقال: «الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون رضي الله عنه» ولقنه . قال الإمام السبكي: وهو غريب. وقد احتج به بعض أئمتنا على استحباب تلقين الطفل.

وفي التتمة للمتولي من أئمتنا: والأصل في التلقين ما روي: «أن النبي لما دفن إبراهيم قال: قل الله ربي، ورسول الله أبي، والإسلام ديني. فقيل له: يا رسول الله أنت تلقنه فمن يلقننا؟ فأنزل الله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} أي وفي رواية: «أنه لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره، فقال: يا بني إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا بني قل الله ربي، والإسلام ديني، ورسول الله أبي، فبكت الصحابة رضوان الله عليهم. ومنهم عمر رضي الله عنه بكى حتى ارتفع صوته، فالتفت إليه النبي فقال: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: يا رسول الله هذا ولدك وما بلغ الحلم ولا جرى عليه القلم ويحتاج إلى تلقين مثلك يلقنه التوحيد في مثل هذا الوقت، فما حال عمر وقد بلغ الحلم، وجرى عليه القلم، وليس له ملقن مثلك؟ فبكى النبي وبكت الصحابة معه، ونزل جبريل بقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة وفي الآخرة} يريد بذلك وقت الموت: أي عند وجود الفتانين وعند السؤال في القبر، فتلا النبي الآية، فطابت الأنفس وسكنت القلوب، وشكروا الله».

وفيه أن هذا يقتضي أنه لم يلقن أحدا قبل ولده إبراهيم، وهذا الحديث استند إليه من يقول بأن الأطفال يسألون في القبر فيسن تلقينهم.

وذهب جمع إلى أنهم لا يسألون، وأن السؤال خاص بالمكلف، وبه أفتى الحافظ ابن حجر رحمه الله، فقال: والذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون مكلفا، ويوافقه قول النووي رحمه الله في الروضة وشرح المهذب: التلقين إنما هو في حق الميت المكلف أما الصبي ونحوه فلا يلقن. قال الزركشي: وهو مبني على أن غير المكلف لا يسأل في قبره.

وذكر القرطبي رحمه الله أن الذي يقتضيه ظواهر الأخبار أن الأطفال يسألون، وأن العقل يكمل لهم.

وذكر أن الأحاديث مصرحة بسؤال الكافر، أي من هذه الأمة. ويخالفه قولهم حكمة السؤال تمييز المؤمن من المنافق الذي يظهر الإسلام في الدنيا، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل. قال الفاكهاني: إن الملائكة لا يسألون.

قال بعضهم: ووجهه ظاهر، فإن الملائكة إنما يموتون عند النفخة الأولى، أي فلم يبق منهم من يقع منه السؤال. وأما عذاب القبر فعام للمسلم والكافر والمنافق، فعلم الفرق بين فتنة القبر وعذابه، وهو أن الفتنة تكون بامتحان الميت بالسؤال، وأما العذاب فعام يكون ناشئا عن عدم جواب السؤال، ويكون عن غير ذلك.

وقد اختص نبينا بسؤال أمته عنه، بخلاف بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما ذاك إلا أن الأنبياء قبل نبينا كان الواحد منهم إذا أتى أمته وأبوا عليه اعتزلهم وعوجلوا بالعذاب. وأما نبينا، فبعث رحمة بتأخير العذاب ولما أعطاه الله السيف دخل في دينه قوم مخافة من السيف، فقيض الله تعالى فتاني القبر ليستخرجا بالسؤال ما كان في نفس الميت فيثبت الله المسلم ويزل المنافق.

وفي بعض الآثار تكرر السؤال في المجلس الواحد ثلاث مرات. وفي بعضها أن المؤمن يسأل سبعة أيام والمنافق أربعين يوما، أي قد يقع ذلك.

وفي بعض الآثار أن فتاني القبر أربعة: منكر، ونكير، وناكور، وسيدهم رومان وفي بعضها ثلاثة، أنكر، ونكير، ورومان. وقيل أربعة: منكر، ونكير يكونان للمنافق، ومبشر وبشير للمؤمن.

ونقل الحافظ السيوطي عن شيخه الجلال البلقيني رحمهما الله أن السؤال يكون بالسريانية، واستغربه وقال: لم أره لغيره. وفي كلام الحافظ السيوطي: لم يثبت في التلقين حديث صحيح ولا حسن، بل حديثه ضعيف باتفاق جمهور المحدثين. ولهذا ذهب جمهور الأمة إلى أن التلقين بدعة، وآخر من أفتى بذلك العز بن عبد السلام، وإنما استحسنه ابن الصلاح وتبعه النووي نظرا إلى أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال. وحينئذ فقول الإمام السبكي: حديث تلقين النبي لابنه ليس له أصل أي صحيح أو حسن.

وقال في حق إبراهيم: «إن له ظئرا تتم رضاعه» وفي رواية «إن له ظئرين يكملان رضاعة في الجنة» وقال: «لو عاش لوضعت الجزية عن كل قبطي» وفي لفظ: «لأعتقت القبط وما استرق قبطي قط» وفي لفظ: «ما رق له خال».

قال بعضهم: معناه لو عاش فرآه أخواله القبط لأسلموا فرحا به وتكرمة له، فوضعت الجزية عنهم، لأنها لا توضع على مسلم. ومعنى الثاني إذا أسلموا وهم أحرار لم يجر عليهم الرق، لأن الحر المسلم لا يجري عليه الرق.

وذكر أن الحسن بن علي رضي الله عنهما كلم معاوية في أن يضع الخراج عن أهل بلد مارية وهي حفنة بالحاء المهملة وإسكان الفاء وبالنون قرية من قرى الصعيد، ففعل معاوية ذلك رعاية لحرمتهم.

أي وقال النووي رحمه الله: وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل، وجسارة على الكلام في المغيبات، ومجازفة وهجوم على بعض الزلات. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، وهو أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، أي وكان اللائق به أن يكون نبيا وإن لم يكن ذلك. ثم رأيت الجلال السيوطي رحمه الله نقل عن الأستاذ أبي بكر بن فورك وأقره: «أنه لما دفن ولده إبراهيم وقف على قبره وقال: يا بني إن القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون» وكنى به، فقد جاء: «أن جبريل قال له: السلام عليك يا أبا إبراهيم، إن الله قد وهب لك غلاما من أم ولدك مارية، وأمرك أن تسميه إبراهيم، فبارك الله لك فيه، وجعله قرة عين لك في الدنيا والآخرة» زاد الحافظ الدمياطي رحمه الله: «فاطمأن رسول الله إلى ذلك».

أقول: وسبب اطمئنانه بذلك أن مأبورا كان يأوي إليها ويأتي إليها بالماء والحطب، فاتهمت به وقال المنافقون علج يدخل على علجة، فبلغ ذلك النبي فبعث عليا كرم الله وجهه ليقتله، فقال له علي كرم الله وجهه: يا رسول الله أقتله أو أرى فيه رأيي؟ فقال: بل ترى رأيك فيه، فلما رأى السيف بيد علي كرم الله وجهه تكشف، وفي لفظ: فإذا هو في ركي يتبرد، فقال علي كرم الله وجهه: اخرج، فناوله يده، فأخرجه فإذا هو مجبوب، أي ممسوح، فكف عنه علي كرم الله وجهه ورجع إلى النبي فأخبره، فقال: أصبت، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. أي وتكون هذه القضية متقدمة على قول جبريل عليه الصلاة والسلام المذكور، فالمراد مزيد الاطمئنان.

وفي كلام بعضهم: «أن النبي دخل على مارية رضي الله تعالى عنها وهي حامل بولده إبراهيم فوجد عندها من ذكر، فوقع في نفسه شيء، فخرج وهو متغير اللون، فلقيه عمر رضي الله تعالى عنه فعرف الغيظ في وجه رسول الله، فسأله فأخبره، فأخذ عمر السيف ثم دخل على مارية رضي الله عنها وهو عندها فأهوى إليه بالسيف، فلما رأى ذلك كشف عن نفسه فإذا هو مجبوب فلما رآه عمر رضي الله عنه رجع إلى رسول الله فأخبره، فقال: ألا أخبرك يا عمر؟ إن جبريل عليه الصلاة والسلام أتاني فأخبرني أن الله برأها ونزهها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاما مني، وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني بأبي إبراهيم، ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي تكنيت بها لتكنيت بأبي إبراهيم» والله أعلم.

أي وفي النور: إني لا أعرف في الصحابة خصيا إلا هذا وشخص آخر يقال له سفد، رآه مولاه يقبل جارية له فخصاه وجدعه، وأتى النبي فأعتقه سيده. وفي كلام بعضهم عد ابن منده وأبو نعيم مأبورا في الصحابة، وقد غلطا في ذلك، فإنه لم يسلم وما زال نصرانيا، ومنه أي بسببه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر رضي الله عنه.


باب ذكر أعمامه وعماته

أعمامه اثنا عشر، وهم: الحارث وهو أكبر أولاد جده عبد المطلب وبه كان يكنى. وشقيقه قثم وقد هلك صغيرا. وأبو طالب. والزبير. وعبد الكعبة، وهؤلاء الثلاثة أشقاء لعبد الله والد النبي . وقيل الحارث لا شقيق له، وحمزة وشقيقاه المقوم بفتح الواو وكسرها مشددة، وجحل بتقديم الجيم على الحاء، واسمه المغيرة، والجحل السقاء الضخم، أي وقيل بتقديم الحاء مفتوحة على الجيم، وهو في الأصل الخلخال. والعباس وشقيقه ضرار، وقد تقدم أن أم العباس رضي الله عنه أول من كست الكعبة الحرير، وأبو لهب واسمه عبد العزى، والغيداق واسمه معصب، وقيل نوفل، ولقب بالغيداق لكثرة جوده، أي لأنه كان أجود قريش وأكثرها طعاما ومالا، وذكر بعضهم في أعمامه العوام.

وعماته ست وهن: أم حكيم وعاتكة وبرة وأروى وأميمة، وهؤلاء الخمسة أشقاء لعبد الله والده وصفية: أي وهي شقيقة حمزة ولم يسلم من أعمامه الذين أدركوا البعثة إلا حمزة والعباس، وحكي إسلام أبي طالب وقد تقدم ما فيه ولم يسلم من عماته اللاتي أدركن البعثة من غير خلاف إلا صفية أي وهي أم الزبير بن العوام، أسلمت وهاجرت أي وماتت في خلافة عمر رضي الله عنه.

قيل وأسلمت عاتكة التي هي صاحبة الرؤيا يوم بدر، وقيل وأروى. قال بعضهم: والمشهور أن عاتكة لم تسلم.


باب ذكر أزواجه وسراريه

لا يخفى أن أزواجه المدخول بهن اثنتا عشرة امرأة: خديجة رضي الله عنها، وهي أول نسائه وكانت قبله تحت أبي هالة بن زرارة التيمي، وقيل كانت تحت عتيق بن عائد الخزومي أولا ثم تحت أبي هالة كما تقدم. وجاء: «أن رسول الله أمر أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» أي ليس فيه رفع صوت ولا تعب: أي من درة مجوفة، فقد جاء: «أنها قالت له: يا رسول الله هل في الجنة قصب؟ فقال: إنه من لؤلؤ مجبى» بالجيم وبالموحدة مشددة: أي مجوف. وجوزيت رضي الله عنها بهذا البيت، لأنها أول من بنى بيتا في الإسلام بتزوجها برسول الله كما جاء «من كسا مسلما على عري كساه الله من حلل الجنة، ومن سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق جزاء وفاقا».

وعن عائشة رضي الله عنها: ما غرت على أحد ما غرت على خديجة رضي الله عنها، ولقد هلكت قبل أن يتزوجني رسول الله وقالت له يوما وقد مدح خديجة رضي الله عنها: ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين قد بدلك الله خيرا منها، فغضب رسول الله وقال: «والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها» واتفق له: «أنه أرسل لحما لامرأة تناوله ودفعه لآخر يدفعه لها، فقالت له عائشة رضي الله عنها: لم تحرز يدك فقال: إن خديجة أوصتني بها، فقالت عائشة: لكأنما ليس في الأرض امرأة إلا خديجة، فقام رسول الله مغضبا، فلبث ما شاء الله ثم رجع، فإذا أم رومان أم عائشة رضي الله عنهما، فقالت يا رسول الله ما لك ولعائشة؟ إنها حديثة السن وأنت أحق من يتجاوز عنها، فأخذ بشدق عائشة رضي الله عنها، وقال: ألست القائلة: كأنما ليس على وجه الأرض امرأة إلا خديجة، والله لقد آمنت بي إذ كفر بي قومك ورزقت منها الولد وحرمتموه».

ثم سودة بنت زمعة أي وأمها من بني النجار لأنها بنت أخي سلمى بنت عمرو، أم عبد المطلب كما تقدم.

ثم أم عبد الله عائشة رضي الله عنها بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، اكتنت بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم بإذن من رسول الله في ذلك، فصار يقال لها أم عبد الله كما تقدم.

وقال لعائشة: «هو عبد الله وأنت أم عبد الله» قالت: فما زلت أكتنى به، أي وكان يدعوها أما لأنه رضي الله عنه تربى في حجرها.

ويقال إنها أتت منه بسقط: أي وسمي عبد الله. قال الحافظ الدمياطي ولم يثبت كما تقدم، وتزوجها بمكة في شوال وهي بنت سبع سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين أي في شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة على الصحيح كما تقدم، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله، قال لها: أريتك في النوم مرتين، أرى ملكا يحملك في سرقة» أي شقة حرير «فيقول: هذه امرأتك فأكشف فأراك فأقول، إن كان من عند الله يمضه» وقبض عنها وهي بنت ثمان عشرة ولم يتزوّج بكرا غيرها، وقبض ورأسه في حجرها، ودفن في بيتها كما سيأتي، وماتت وقد قاربت سبعا وستين سنة في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه بالبقيع، وقيل سعيد بن زيد، ودفنت به ليلا وذلك في زمن ولاية مروان بن الحكم على المدينة في خلافة معاوية. وكان مروان استخلف أبا هريرة رضي الله عنه لما ذهب إلى العمرة في تلك السنة.

ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي شقيقة عبد الله بن عمر وأسن منه، وأمها زينب أخت عثمان بن مظعون، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة رضي الله عنه، فتوفي عنها بجراحة أصابته ببدر، وقيل بأحد وهو خطأ لما سيأتي من أن تزوّجه لها في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من الهجرة قبل أحد بشهرين.

أقول: وكانت ولادتها قبل النبوة بخمس سنين وقريش تبني البيت. وماتت بالمدينة في شعبان سنة خمس وأربعين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير يومئذ، وحمل سريرها، وحمله أيضا أبو هريرة رضي الله عنه وقد بلغت ثلاثا وستين سنة. وقيل ماتت لما بويع معاوية سنة إحدى وأربعين والله أعلم، وطلقها .

وقيل في سبب طلاقها أنه كان في بيتها فاستأذنت في زيارة أبيها، أي وقيل في زيارة عائشة لأنهما كانتا متصادقتين: أي بينهما المصافاة فأذن لها، فأرسل رسول الله إلى مارية وأدخلها بيت حفصة وواقعها، فرجعت حفصة فأبصرت مارية مع النبي في بيتها، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، وقالت له: إني رأيت من كان معك في البيت وغضبت وبكت، أي وقالت: يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئت به إلى أحد من نسائك في يومي وفي بيتي وعلى فراشي، فلما رأى رسول الله في وجهها الغيرة، قال لها: اسكتي فهي حرام عليّ أبتغي بذلك رضاك.

وفي رواية: «أما ترضين أن أحرمها على نفسي ولا أقربها أبدا؟ قالت: بلى، وحلف أن لا يقربها»: أي قال إنها حرام.

وفي رواية: «قد حرمتها عليّ، ومع ذلك أخبرك أن أباك الخليفة من بعد أبي بكر فاكتمي عليّ».

وفي رواية قال لها: «لا تخبري بما أسررت إليك» فأخبرت بذلك عائشة رضي الله عنهما، فقالت: قد أراحنا الله من مارية، فإن رسول الله قد حرمها على نفسه وقصت عليها القصة. وقيل خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: اكتمي عليّ قد حرمت مارية على نفسي، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقتين بينهما المصافاة كما تقدم، فطلقها وأنزل الله تعالى عند تحريم مارية قوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} إلى قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أي أوجب عليكم كفارة ككفارة أيمانكم، لأن الكفارة تحل ما عقدته اليمين لأن هذا ليس من الأيمان: أي واطلع الله رسوله على أن حفصة قد نبأت عائشة بما أسرّه إليها من أمر مارية وأمر الخلافة، فلما أخبر عائشة ببعض ما أسرته لها وهو أمر مارية وأعرض عما أسره إليها من أمر الخلافة أن ينتشر ذلك في الناس، قالت عائشة: من أنبأك هذا؟ قال: «نبأني العليم الخبير»، ومن ثم كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: والله إن خلافة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله ثم يقرأ هذه الآية.

ولما أفشت حفصة رضي الله عنها سره طلقها كما تقدم، فجاءه جبريل يأمره بمراجعتها، لأنها صوامة قوامة، وإنها إحدى زوجاته في الجنة.

وفي رواية، تأتي: راجعها رحمة لعمر. وقيل همّ بتطليقها ولم يفعل، فقد جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه أراد أن يطلقها، فقال له جبريل : إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة. وعليه فيراد بالمراجعة المصالحة والرضا عنها كما سيأتي. قال في الينبوع: وهذا هو المشهور، فسيأتي ما يدل على صحته: أي والذي سيأتي قول عمر رضي الله عنه للنبي لما اعتزل نساءه: يا رسول الله أطلقتهن؟ قال لا.

وفيه أن هذا كان طلبهن منه النفقة، وهذه الواقعة غير تلك، وقيل في سبب نزول الآية غير ذلك.

وفي البخاري في سبب نزول الآية عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له أكلت مغافير: أي أجد منك ريح مغافير، فدخل على حفصة رضي الله عنها، فقالت له ذلك، فقال لها: لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» أي لأنه لا يحب أن يظهر منه ريح كريهة، لأن المغافير صمغ العوسج من شجر الثمام كريه الريح.

وعن عمر رضي الله عنه أن امرأته راجعته في شيء فأنكر عليها مراجعتها، فقالت له: عجبا لك يا ابن الخطاب: ما تريد أن تراجع، وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان، فقام عمر رضي الله عنه، فدخل على حفصة رضي الله عنها فقال لها: يا بنية إنك لتراجعي رسول الله حتى يظل يومه غضبان، فقالت له حفصة: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسول الله، يا بنية لا تغررك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله إياها، يريد عائشة، قال: ثم دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت: يا ابن الخطاب دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها، فأنا في منزلي، فجاءني صاحب لي من الأنصار، وأخبرني أن رسول الله اعتزل نساءه، فقلت: رغم أنف حفصة وعائشة فأخذت ثوبي وجئت إلى رسول الله فإذا هو في مشربة له يرقى إليها بعجلة، وهو جذع يرقى عليه رسول الله إلى المشربة وينحدر منها عليه، وغلام له أسود يقال له رباح على رأس العجلة، فقلت له قل له هذا عمر بن الخطاب، فأذن لي: أي بعد أن قال له: يا رباح استأذن لي رسول الله ثلاث مرات، وفي كل مرة ينظر رباح إلى المشربة ولا يرد له جوابا، وفي الثالثة رفع له عمر رضي الله عنه صوته فأومأ إليه أن ارقَ، قال: فدخلت على رسول الله فقصصت عليه القصة، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله وتقدم، ويأتي أن هذا كان عند اجتماعهن عليه في النفقة لا لأجل معاتبة الله إياه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة. ويحتمل أنه لاجتماع الأمرين.

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج رسول الله اللتين قال الله تعالى فيهما: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} فقال: واعجبا لك يا ابن العباس هما عائشة وحفصة: أي فإن الله خاطبهما بقوله: {إن تتوبا إلى الله} أي فهو خير لكما {فقد صغت قلوبكما} أي مالتا عما يجب عليكما من طاعة رسول الله وابتغاء مرضاته، ثم استقبل الحديث قال: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نسائهم، فصخبت عليّ امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فأفزعني ذلك منهن، فدخلت على حفصة، فقلت له: أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل؟ قالت: نعم فقلت: قد خبتِ وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله بغضب رسوله فتهلكي، لا تستكثري النبي، ولا تراجعيه في شيء، ولا تهجريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي، يريد عائشة، فأخبرت أن النبي طلق نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا، فدخلت على حفصة، فإذا هي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟ أطلقكن النبي؟ قالت: لا أدري، ها هو معتزل في المشربة: أي الغرفة، فإنه لما عاتبه الله سبحانه بسبب الحديث الذي أفشته حفصة على عائشة حلف لا يدخل على نسائه شهرا، فصار يتغدى ويتعشى وحده في تلك المشربة، فجئت المشربة، فقلت لغلام أسود: استأذن لعمر، فدخل الغلام فكلم النبي ثم رجع، فقال: كلمته وذكرتك له فصمت، فانصرفت، ثم غلبني ما أجد، فجئت، فقلت للغلام: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ فقال: ذكرتك له فصمت، فرجعت، ثم غلبني ما أجد، فجئت الغلام، ثم قلت: استأذن لعمر، فدخل ثم رجع إليّ، فقال ذكرتك له، فصمت، فلما وليت منصرفا إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي، فدخلت على رسول الله فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف، فسلمت عليه ثم قلت له: وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فرفع بصره إليّ فقال: لا، فقلت: الله أكبر، كنا معاشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة فإذا قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم رسول الله، ثم قلت يا رسول الله لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لها لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله، فتبسم النبي تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم.

وفي رواية أن عمر رضي الله عنه لما بلغه أن النبي طلق حفصة حثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها فنزل جبريل على النبي من الغد وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر.

وقد يراد بالمراجعة المصالحة والرضا فلا ينافي ما تقدم أنه لم يطلقها وإنما أراد ذلك، ويدل له ما جاء عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه أراد أن يطلقها فقال له جبريل : إنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة، ومن هذا وما يأتي يعلم أنه آلى من نسائه، وأما الظهار فلم يظاهر أبدا خلافا لمن زعمه.

أي وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب اعتزاله لنسائه في المشربة أنه شجر بين النبي وبين حفصة أمر، فقال لها: اجعلي بيني وبينك رجلا، قالت: نعم، قال: فأبوك إذن، فأرسلت إلى عمر فجاء، فلما دخل عليهما قال لها النبي : تكلمي، فقالت: بل أنت يا رسول الله تكلم ولا تقل إلا حقا، فرفع عمر رضي الله عنه يده فوجأها في وجهها فقال له النبي : كف يا عمر، فقال عمر: يا عدوة الله، النبي لا يقول إلا الحق، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي، فقام النبي فصعد إلى الغرفة، فمكث فيها شهرا لا يعرف شيئا من نسائه ونزلت آية التخيير. ويقال: لا مانع من اجتماع هذا السبب مع ما تقدم.

ويروى أن سبب نزول آية التخيير أن نساءه اجتمعن عليه فسألنه النفقة ولم يكن عنده شيء فآلى أن لا يجتمع بهن شهرا وصعد المشربة الحديث.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي فوجد الناس جلوسا ببابه ليؤذن لهم، قال فأذن لأبي بكر رضي عنه فدخل، ثم أقبل عمر ماشيا، فأذن له فدخل فوجد النبي حوله نساؤه: أي قد سأله النفقة وهو واجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر رضي الله عنه: لأقولن شيئا أضحك به النبي، فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة فوجأ عنقها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة فوجأ عنقها وكل يقول تسألن رسول الله ما ليس عنده ثم أقسم رسول الله أن لا يجتمع بهن شهرا.

وفي رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلا، فدق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم، فقلت: ماذا أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أمر أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، كنت أظن هذا كائنا حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت أطلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلا في هذه المشربة: أي لأن نساءه لما اجتمعن عليه في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن، قال عمر رضي الله عنه: لأقولن من الكلام شيئا أضحك به النبي، فأتيت غلاما له أسود، فقلت له: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج وقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، قد أذن لك، فدخلت، فسلمت على رسول الله فإذا هو متكىء على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال: لا، فقلت: الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني، فأنكرت عليها، فقالت: تنكر أن راجعتك؟ فوالله لقد رأيت أزواج النبي يراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك وخسر، أتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب زوجها رسول الله، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله؟ فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله لا تراجعين رسول الله ولا تسألينه شيئا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله منك؟ يعني عائشة رضي الله تعالى عنها، فتبسم أخرى، فقلت، أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله، فلما مضى تسع وعشرون يوما أنزل الله تعالى عليه أن يخير نساءه في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية، فنزل ودخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوما أعددهن، فقال: إن الشهر تسع وعشرون. وفي رواية يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه وفي الثالثة حبس إبهامه، ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا: فلا عليك أن لا تعجلي. وفي رواية: إني أعرض عليك أمرا وأحب أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. قالت: وما هو يا رسول الله فقرأ عليّ: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية، قلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية: أفيك يا رسول الله أستشير أبويّ بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت رضي الله تعالى عنها: ثم قلت له لا تخبره امرأة من نسائك بالذي قلت لك، فقال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا، ثم فعل بقية أزواجه مثل ما فعلت عائشة رضي الله تعالى عنهن.

ثم زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها، وهي أخت ميمونة لأمها، كانت تدعى: أي في الجاهلية أم المساكين لرأفتها وإحسانها إليهم أي كما سمى جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بأبي المساكين لحبه لهم، وجلوسه عندهم، وتحدثه معهم، وإحسانه إليهم رضي الله تعالى عنه، كانت قبله تحت الطفيل بن الحارث، فطلقها فتزوجها أخوة عبيدة بن الحارث، فقتل يوم بدر شهيدا، فخطبها، فجعلت أمرها إليه فتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي وذلك على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة قبل أحد بشهر. وفي لفظ أن عبيدة بن الحارث قتل عنها يوم أحد فخلف عليها رسول الله . وفي لفظ أنها كانت تحت عبد الله بن جحش، قتل عنها يوم أحد، فتزوجها رسول الله . قال في المواهب: وهو أصحّ.

وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله عروسا بزينب، فعمدت أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيسا فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله، فقل: بعثت بهذا إليك أمي وهي تقرئك السلام، فقال: ادع لي فلانا وفلانا رجالا سماهم، وادع لي من لقيت، فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت، فإذا البيت غاصّ، بأهله، قيل لأنس: ما عددهم؟ قال: كانوا ثلاثمائة فرأيت النبي وضع يده الشريفة على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عنده عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: اذكروا الله وليأكل كل رجل مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا كلهم، ثم قال لي: يا أنس ارفع فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت، فمكثت عنده ثمانية أشهر وقيل شهران أو ثلاثة، ثم توفيت وصلى عليها رسول الله، ودفنت بالبقيع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها. ولم يمت من أزواجه في حياته إلا هي وخديجة رضي الله تعالى عنهما.

ثم تزوج بعد زينب هذه أم سلمة. واسمها هند. وكانت قبله عند أبي سلمة رضي الله تعالى عنه عبد الله بن عبد الأسد ابن عمته برة بنت عبد المطلب، وأخوه من الرضاعة، وكانت هي أول من هاجر إلى الحبشة على ما تقدم، فلما مات أبو سلمة رضي الله تعالى عنه، قال لها رسول الله: سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرا، فقالت: ومن يكن خيرا من أبي سلمة؟ ولما اعتدت أم سلمة رضي الله تعالى عنها أرسل يخطبها مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، أي وكان خطبها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأبت، وخطبها عمر فأبت، فلما جاءها حاطب، قالت: مرحبا برسول الله، تقول له: إني امرأة مسنة، وإني أم أيتام: أي لأنها رضي الله تعالى عنها كان معها أربع بنات: برة وسلمة وعمرة ودرة، وإني شديدة الغيرة، فأرسل يقول لها: أما قولك إني امرأة مسنة فأنا أسن منك، ولا يعاب على المرأة أن تتزوج أسن منها. وأما قولك: إني أم أيتام فإن كلهم على الله وعلى رسوله. وأما قولك: إني شديدة الغيرة فإني أدعو الله أن يذهب ذلك عنك. أي وفيه أنهم قالوا: يا رسول الله ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال: إن فيهن غيرة شديدة. وفي لفظ أنها قالت زيادة على ما تقدم: ليس لي ههنا أحد من أوليائي فيزوجني، فأتاها رسول الله فقال لها: أما ما ذكرت من غيرتك فإني أدعو الله أن يذهبها عنك. وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم. وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني، فقالت لابنها: زوج رسول الله، فزوجه أي على متاع منه رحى وجفنة وفراش حشوه ليف، وقيمة ذلك المتاع عشرة دراهم، وقيل أربعون درهما. قالت: فتزوجني رسول الله، وأدخلني بيت زينب أم المساكين رضي الله تعالى عنها بعد أن ماتت، فإذا جرة فيها شيء من شعير، وإذا رحى وبرمة وقدر وكعب: أي ظرف الأدم، فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة، وأخذت الكعب فأدمته، فكان ذلك طعام رسول الله وطعام أهله ليلة عرسه.

وماتت أم سلمة رضي الله تعالى عنها في ولاية يزيد بن معاوية، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وقيل سعيد بن زيد وغلط قائله.

وذكر بعضهم أن تزويج ولدها لها رضي الله تعالى عنهما إنما كان بالعصوبة لأنه كان ابن ابن عمها.

ثم تزوج بعد أم سلمة رضي الله تعالى عنها زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، وكان اسمها برة، فسماها زينب: أي خشي أن يقال خرج من عند برة، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما ثم طلقها، فلما انقضت عدتها زوجه الله إياها، أي لأنه أرسل زيد بن حارثة يخطبها له، قال زيد: فذهبت إليها فجعلت ظهري إلى الباب فقلت: يا زينب بعث رسول الله يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أؤامر ربي ﷿، فأنزل الله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها} فدخل عليها رسول الله بغير إذن، فكانت رضي الله تعالى عنها تفتخر بذلك على نسائه وتقول: إن الله أنكحني إياه من فوق سبع سموات، وهذا يرد ما قيل إن أخاها أبا أحمد بن جحش زوجها منه .

قال في النور: ويمكن تأويل تزويج أخيها إياها.

أي وقد ذكر مقاتل رحمه الله أن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما لما أراد أن يتزوج زينب جاء إلى النبي وقال: يا رسول الله اخطب علي، قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، قال: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نفسا، فقال: يا رسول الله إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، فقال: إنها امرأة لسناء، فذهب زيد رضي الله تعالى عنه إلى عليّ كرم الله وجهه، فحمله على أن يكلم له النبي، فانطلق معه إلى النبي فكلمه، فقال إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها فتكلمهم، ففعل، ثم عاد يخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك، فأرسل إليهم النبي يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فأنكحوه، وساق لهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله، وأولم عليها، وأطعم المساكين خبزا ولحما: أي وتزوجها هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة على الصحيح وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل نزلت في ذلك اليوم آية الحجاب، فإنه لما دعا القوم وطعموا تهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي ليدخل فإذا القوم جلوس فلم يدخل، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية وتكلم في ذلك المنافقون وقالوا: محمد حرم نساء الأولاد، وقد تزوج امرأة ابنه أي لأن زيد بن حارثة كان يقال له زيد بن محمد: أي لأنه كان تبناه كما تقدم، فأنزل الله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} وأنزل {أدعوهم لآبائهم} فمن حينئذ كان يقال له رضي الله تعالى عنه زيد بن حارثة كما تقدم.

وهي أول نسائه لحوقا به. ماتت رضي الله تعالى عنها بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع ولها من العمر ثلاث وخمسون سنة. وصلى عليها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل إلى زينب رضي الله تعالى عنها بالذي لها من العطاء، فسترته بثوب، وأمرت بتفرقته، فكان خمسة وثمانين درهما، ثم قالت: اللهم لا تدركني عاما لعمر بعد عامي هذا فماتت.

وهي أول من جعل على نعشها قبة، أي بعد فاطمة رضي الله تعالى عنها، فلا يخالف ما سبق مما ظاهره أنه فعل لها ذلك.

وفي كلام بعضهم أن زينب هذه أول من حمل على نعش، وقيل أول من حمل على نعش فاطمة رضي الله تعالى عنها، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول في حقها: هي التي كانت تساويني في المنزلة عند رسول الله، وما رأيت امرأة قط خيرا في الدين وأتقى لله وأصدق في حديث وأوصل للرحم وأعظم صدقة من زينب رضي الله تعالى عنها.

وقال في حقها: إنها لأواهة، فقال رجل: يا رسول الله ما الأواه؟ قال: الخاشع المتضرع. وهي أول نسائه لحوقا به كما تقدم. وقال له بعض نسائه: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: أطولكن يدا، فأخذن قصبة يذرعنها، وفي لفظ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فكانت سودة رضي الله تعالى عنها أطولهن، فلما ماتت زينب رضي الله تعالى عنها، أي وكانت امرأة قصيرة علموا أن المراد بطول اليد الصدقة، لأنها كانت تعمل وتتصدق لا الجارحة وما في البخاري من أنها سودة، قال ابن الجوزي: غلط من بعض الرواة.

والعجب من البخاري رحمه الله كيف لم ينبه عليه ولا علم بفساد ذلك الخطأ، فإنه قال: لحوق سودة به من أعلام النبوّة وكل ذلك وهم، وإنما هي زينب فإنها كانت أطولهن يدا بالعطاء. وجمع الطيبي رحمه الله بأنه يمكن أن يقال إن سودة رضي الله تعالى عنها أوّل نسائه موتا التي اجتمعن عند موته، وكانت زينب رضي الله تعالى عنها غائبة.

وفيه أن في رواية أن نساء النبي اجتمعن عنده لم يغادر منهن واحدة أي فقد قال له بعضهن. وفي لفظ قلن له: أينا أسرع لحوقا بك يا رسول الله؟ وقد قال الإمام النووي: أجمع أهل السيرة على أن زينب رضي الله تعالى عنها أوّل من مات من أزواجه بعده.

ثم جويرية رضي الله تعالى عنها بنت الحارث من بني المصطلق. سبيت في غزوة بني المصطلق، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها على تسع أواق، فأدى عليه الصلاة والسلام عنها ذلك وتزوّجها.

وقيل جاء أبوها فافتداها، ثم نكحها رسول الله كما تقدم. وقيل إنها كانت بملك اليمين فأعتقها وتزوّجها، وكان اسمها برة فسماها رسول الله جويرية، أي لما تقدم. وكانت قبل رسول الله عند مسافع بن صفوان، وتقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت كانت جويرية عليها ملاحة وحلاوة، لا يكاد يراها أحد إلا وقعت بنفسه. وكانت بنت عشرين سنة. أي وتوفيت في المدينة سنة ست وخمسين، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو والي المدينة يومئذ، وقد بلغت سبعين سنة، وقيل خمسا وستين سنة.

ثم ريحانة بنت يزيد من بني النضير. وقيل من بني قريظة، وكانت قبل رسول الله عند رجل من بني قريظة، يقال له الحكم. قال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ولذلك ينسبها بعض الرواة إلى بني قريظة، وكانت جميلة وسيمة، وقعت في سبي بني قريظة، فكانت صفيّ رسول الله، فخيرها رسول الله بين الإسلام ودينها، فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوّجها، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وقيل كانت موطوءة له بملك اليمين.

أي فقد ذكر بعضهم أنه خيرها بين أن يعتقها ويتزوّجها، وبين أن تكون له في ملكه، وعليه فتكون من السراري لا من الزوجات.

قال الحافظ الدمياطي: والأوّل، أي أنها زوجة أثبت عند أهل العلم. وقال العراقي إن الثاني: أي كونها سرية أضبط. ودخل بها بعد أن حاضت حيضة أي وذلك في بيت أمّ المنذر سلمى بنت قيس النجارية سنة ست من الهجرة، وغارت عليه غيرة شديدة فطلقها فأكثرت البكاء، فراجعها، وهذا مؤيد للقول بأنها كانت زوجة.

قيل ماتت مرجعه من حجة الوداع ودفنها بالبقيع.

ثم أم حبيبة رضي الله عنها، وهي رملة بنت أبي سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنهما وهي بنت عمة عثمان بن عفان. هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فولدت له حبيبة وبها كانت تكني، وهي ربيبة رسول الله، وكانت في حجره رضي الله تعالى عنها، وتنصر عبيد الله بن جحش هناك وثبتت هي على الإسلام رضي الله تعالى عنها.

وبعث رسول الله عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي رحمه الله فزوّجه إياها، وأصدقها النجاشي عن رسول الله أربعمائة دينار، أي والذي تولى عقد النكاح خالد بن سعيد بن العاص على الأصح وكلته في ذلك، وهو ابن عم أبيها.

وقيل الذي تولى عقد النكاح عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وقيل كان الصداق أربعة آلاف درهم، وجهزها النجاشي من عنده، وأرسلها مع شرحبيل بن حسنة في سنة سبع. وقيل تزوّجها رسول الله بالمدينة، وعليه يحمل ما في كلام العامري أن النبي جدد نكاح أم حبيبة رضي الله تعالى عنها بنت أبي سفيان رضي الله تعالى عنه تطييبا لخاطره.

ثم صفية رضي الله تعالى عنها بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير، قتل مع بني قريظة كما تقدم. وكانت عند سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وقتل عنها يوم خيبر، وتقدمت قصة قتله في خيبر، ولم تلد لأحد منهما، واصطفاها رسول الله لنفسه فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها، لأنه لما جمع سبي خيبر جاءه دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية رضي الله تعالى عنها. فقيل: يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، فقال له النبي خذ جارية من السبي غيرها، فحجبها وجهزتها له أم سليم رضي الله تعالى عنها، وأهدتها له من الليل وكان عمرها لم يبلغ سبع عشرة سنة، فأولم عليها بتمر وسويق.

وفي لفظ: لما أصبح قال: من كان عنده شيء فليجيء به، فبسط نطعا، فجعل الرجل يأتي بالأقط، وجعل الرجل يأتي بالتمر، وجعل الرجل يأتي بالسمن، فحاسوا حيسا، فكانت وليمة رسول الله .

وعن أنس قال: كانت صفية عاقلة فاضلة، ودخل عليها يوما وهي تبكي. فقال لها في ذلك؟ فقالت قد بلغني أن عائشة وحفصة ينالان مني، ويقولان: نحن خير من صفية، نحن بنات عم رسول الله، فقال رسول الله : قولي لهن: كيف تكن خيرا مني، وأبي هارون، وعمي موسى عليهما الصلاة والسلام، وزوجي محمد: أي فهي بنت نبي وزوج نبي، ورأى رسول الله أثرا في وجهها، فسألها عن ذلك. فقالت: رأيت كأن القمر وقع في حجري، فذكرت ذلك لأبي. وتقدم في رواية أنها ذكرت ذلك لزوجها كنانة، فضرب وجهي ضربة أثرت فيّ هذا الأثر، وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب.

ولا مانع من تعدد الواقعة. فقد قال في النور: لعلهما فعلا بها ذلك، وتقدم في رواية أنها رأت الشمس وقعت على صدرها، وتقدم أنه يجوز تعدد الرؤيا، أو أنها رأت الشمس والقمر في وقت واحد.

وفي زمن خلافة عمر رضي الله عنه أتت جارية لها إلى عمر رضي الله عنه، فقالت له: يا أمير المؤمنين إن صفية تحبّ السبت وتصل اليهود، فسألها عمر رضي الله عنه، فقالت: أما السبت فإني لا أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة. وأما اليهود، فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلها، ثم قالت للجارية: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة.

قال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ماتت في رمضان سنة خمسين. وقيل سنة اثنتين وخمسين ودفنت بالبقيع. وخلفت ما قيمته مائة ألف درهم من أرض وعرض. وأوصت لابن أختها بثلثها وكان يهوديا.

وذكر الرافعي رحمه الله عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنها أوصت لأخيها، وكان يهوديا بثلاثين ألفا، أي وهذا لا يعارض ما ذكر لأنه لا يجوز أن يكون من روى عنه إمامنا لم يعتبر ما زاد على الثلاثين الذي هو تتمة الثلث، وهو ثلاثة وثلث، لأن ثلث المائة ثلاثة وثلاثون وثلث، أو أن القائل أوصت بثلثها تجوّز وأطلق على الثلاثين ثلثا.

ثم ميمونة رضي الله عنها بنت الحارث، وكان اسمها برة فسماها ميمونة، زوّجها له عمه العباس رضي الله عنه، وهي خالة ابنه عبد الله بن عباس، وأختها أسماء بنت عميس وسلمى بنت عميس وزينب بنت خزيمة أم المؤمنين، وخالة خالد بن الوليد رضي الله عنه. وكانت في الجاهلية عند مسعود بن عمرو ففارقها، فخلف عليها أبو رهم فتوفي عنها فتزوجها وهو محرم، أي كما عليه جمهور علماء المدينة في عمرة القضاء.

وفي الهدى: يشبه أنه تزوج ميمونة وهو محرم خلافا لابن عباس ووهمه في ذلك، قال: لأن السفير بينهما في النكاح وهو أبو رافع أعلم بالقصة وهو رجل بالغ، وابن عباس كان سنه نحو عشر سنين. قال: ولا يخفى أن مثل هذا الترجيح موجب للتقديم، وكان ذلك سنة سبع.

وأقام بمكة ثلاثا وبنى بها بسرف بعد أن أحل على ما تقدم، وماتت سنة إحدى وخمسين على الأصح وبلغت ثمانين سنة، ودفنت بسرف الذي هو محل الدخول بها.

والحاصل أن جملة من خطبه من النساء ثلاثون امرأة منهن من لم يعقد عليه ومنهن من عقد عليه، وهذا القسم أيضا منه من دخل به ومنه من لم يدخل به.

وفي لفظ: جملة من عقد عليه ثلاث وعشرون امرأة، والذي دخل به منهن اثنتا عشرة.

فمن غير المدخول بها غزية، وهي أم شريك العامرية، وهذه قبل دخوله بها طلقها ولم يراجعها. وهناك أم شريك أخرى، وهي خولة أو خويلة ولم يدخل بها. وهناك أم شريك ثالثة وهي الغفارية. وأم شريك رابعة وهي الأنصارية.

واختلف في الواهبة نفسها، فقيل ميمونة، وقيل أم شريك غزية، وقيل أم شريك خولة التي لم يدخل بها.

ورجح القول الثاني الحصني حيث اقتصر عليه في كتاب المؤمنات، فقال: ومنهن أم شريك، واسمها غزية، وهي التي وهبت نفسها للنبي فلم يقبلها على ما قاله الأكثرون، فلم تتزوج حتى مات عليه الصلاة والسلام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا فتدعوهن للإسلام وترغبهن فيه حتى ظهر أمرها لأهل مكة فأخذوها، وقالوا لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا نسيرك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء ثم تركوني ثلاثا لا يطعموني ولا يسقوني، وكانوا إذا نزلوا منزلا أوقفوني في الشمس واستظلوا، فبينما هم قد نزلوا منزلا وأوقفوني في الشمس إذا أنا بأبرد شيء على صدري فتناولته، فإذا هو دلو من ماء، فشربت قليلا ثم نزع مني ورفع، ثم عاد فتناولته فشربت من ثم رفع، ثم عاد ثم رفع مرارا فشربت منه حتى رويت ثم أفضت سائرة على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على ثيابي فقالوا: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه، فقلت: لا والله، ولكنه كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة لدينك خير من ديننا، فلما نظروا إلى أسقيتهم وجدوها كما تركوها فأسلموها عند ذلك، وأقبلت إلى النبي، فوهبت نفسها له بغير مهر فقبلها ودخل عليها.

قال: وفي ذلك أن من صدق في حسن الاعتماد على الله وقطع طعمه عما سواه جاءته الفتوحات من الغيب، هذا كلامه.

وقد كان أرجأ من نسائه خمسا: سودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وميمونة، وآوى إليه أربعا: عائشة وزينب وأم سلمة وحفصة، وهؤلاء التسعة مات عنهن . وقد نظمهن بعضهم فقال:

توفي رسول الله عن تسع نسوة ** إليهن تعزى المكرمات وتنسب

فعائشة ميمونة وصفية ** وحفصة تتلوهن هند وزينب

جويرية مع رملة ثم سودة ** ثلاث وست ذكرهن مهذب

ومن جملة اللاتي لم يدخل به النبي التي ماتت من الفرح، لما علمت أنه تزوج بها وهي عز أخت دحية الكلبي رضي الله تعالى عنهما التي ماتت قبل دخوله بها.

ومن جملتهن سودة القرشية التي خطبها فاعتذرت ببنيها، وكانوا خمسة، وقيل ستة، فقال لها خيرا.

ومن جملتهن التي تعوذت منه، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: لقد عذت بمعاذ، وقد أعاذك الله مني. وفي لفظ: عذت بعظيم، وفي لفظ: عائذ الله.

وفي كلام بعضهم أن نساء النبي خفن أن تغلبهن عليه لجمالها، فقلن لها: إنه يعجبه إذا دنا منك أن تقولي له أعوذ بالله منك، فلما دنا منها قالت: أعوذ بالله منك. وفي رواية: قلن لها: إن اردت أن تحظي عنده فتعوّذي بالله منه فلما دخل عليها قالت له: أعوذ بالله منك، فصرف وجهه عنها وقال ما تقدم وطلقها، وأمر أسامة رضي الله تعالى عنه فمتعها بثلاثة أثواب.

وفي لفظ أتى أبو أسيد إلى رسول الله بالجونية: أي أسماء بنت النعمان بن أبي الجون الكندية، فلما دخل عليها رسول الله دعاها فقالت تعال أنت. وفي رواية فقال: هبي نفسك، فقالت: تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده إليها لتسكت، فقالت: أعوذ بالله منك، قال: عذت بمعاذ، فخرج فقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيين وألحقها بأهلها، وهذا هو المشهور.

وروي هذا الخبر عن أسيد بن أبي أسيد قال: «بعثني رسول الله إلى امرأة يتزوجها من بلجون: أي من بني الجون، فجئت بها، فأنزلتها بالشعب في أجم ثم أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله جئتك بأهلك، فأتاها، فأهوى إليها ليقبلها فقالت: أعوذ بالله منك» الحديث.

ومن جملتهن التي اختارت الدنيا. وقيل التي كانت تلتقط البعر هي المستعيذة منه.

ومن جملتهن قتيلة بضم القاف وفتح الباء المثناة فوق، بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجه إياها أخوها وهي بحضرموت، ومات قبل قدومها عليه، وأوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فتنكح من شاءت فاختارت الفراق، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: هممت أن أحرق عليها بيتها، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: ما هي من أمهات المؤمنين، ما دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب، وقال: «ما تزوجت شيئا من نسائي ولا زوجت شيئا من بناتي إلا بوحي جاءني به جبريل عليه الصلاة والسلام من ربي ﷿» أي وعنه أن خديجة رضي الله تعالى عنها تزوجها قبل نزول الوحي.

أي وقد ألف في أزواجه الحافظ الدمياطي جزءا فليطلب، وكذا ألف فيهن الشمس الشامي.

وأما سراريه فأربع: مارية القبطية أم ولده سيدنا إبراهيم، وريحانة على ما تقدم، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، أخرى اسمها زليخة القرظية.


باب ذكر المشاهير من خدمه من الأحرار

فمن الرجال أنس بن مالك الأنصاري رضي الله تعالى عنه، كان من أخص خدامه . خدمه من حين قدم المدينة إلى وفاته عشر سنين كما تقدم. فعن أنس رضي الله تعالى عنه: «لما قدم رسول الله المدينة أخذ أبو طلحة يعني زوج أمه بيدي فانطلق بي إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك، فخدمته في السفر والحضر، وتقدم في بعض الروايات أن ابتداء خدمته له كان عند خروجه إلى خيبر، ومات وقد جاوز المائة.

وعبد الله مسعود رضي الله تعالى عنه، كان صاحب سواكه ونعله، إذا قام ألبسه إياهما، فإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم. وكان رضي الله تعالى عنه يمشي بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة.

أي ومعيقيب الرومي رضي الله تعالى عنه، كان صاحب خاتمه .

وعقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه، كان صاحب بغلته، يقودها في الأسفار، وكان عالما بكتاب الله ﷿ وبالفرائض، فصيحا، شاعرا مفهما. ويأتي أنه ولي مصر لمعاوية رضي الله تعالى عنهما وتوفي بها، وصرف عنها بمسلمة بن مخلد رضي الله تعالى عنه.

وأسقع بن شريك، صاحب راحلته . كان رضي الله تعالى عنه يرحل ناقته «وعنه أنه قال له ذات يوم: يا أسقع، قم فارحل، فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، فسكت وجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام بآية التيمم، فقال رسول الله، قم يا أسقع فتيمم، فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت وتيممت ثم رحلت له، ثم سار حتى مر بماء، فقال لي: يا أسقع أمسّ هذا جلدك. وتقدم أن سبب نزول آية التيمم ضياع عقد عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض الغزوات.

وبلال مؤذنه . وكان رضي الله تعالى على نفقاته، وهو مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه الذي اشتراه وهو يعذب في الله وأعتقه كما تقدم.

ومن النساء أمة الله بنت رزينة، وخولة، ومارية أم الرباب، ومارية وجدة المثنى بن صالح، وقيل التي قبلها.


باب ذكر المشاهير من مواليه الذين أعتقهم

فمن الرجال زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما، كما تقدم أن خديجة رضي الله تعالى عنها وهبته له قبل النبوة، فتبناه . وكان يقال له ابن محمد، فلما نزل: {ادعوهم لآبائهم} أي وقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} الآية قيل له زيد بن حارثة كما تقدم. وكان حب رسول الله وابنه أسامة وأخو أسامة لأمه أيمن ابن أم أيمن بركة الحبشية رضي الله تعالى عنهم.

وأبو رافع كان قبطيا، وكان للعباس رضي الله تعالى عنهما فوهبه للنبي . ولما أسلم العباس وبشر أبو رافع رضي الله تعالى عنه النبي بإسلام العباس أعتقه.

وشقران كان حبشيا، وقيل فارسيا، وكان لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فوهبه للنبي .

وثوبان. وأنجشة، اشتراه منصرفه من الحديبية وأعتقه. وكان رضي الله تعالى عنه يحدو بالنساء، قال له وقد حدا بهن: رويدا يا أنجشة، وفقا بالقوارير، يعني النساء، لأن الحداء إذا سمعته الإبل أسرعت في المشي فتزعج الراكب والنساء يضعفن من شدة الحركة، وشبههن في ضعفهن بالقوارير وهي الأواني من الزجاج.

ورباح كان أسود ويسار كان نوبيا على لقاح رسول الله، وهو الذي قتله العرنيون. وقد تقدم أن هذا غير يسار الذي كان دليلا لسرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة.

وسفينة وكان أسود، وكان لأم سلمة رضي الله تعالى عنها زوج النبي فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم رسول الله ما عاش. وكان اسمه بهران. وقيل رومان وقيل غير ذلك، وإنما سماه رسول الله سفينة لأنه حمل أمتعة للصحابة رضي الله تعالى عنهم ثقلت عليهم، فقال له رسول الله : احمل فإنما أنت سفينة، قال رضي الله تعالى عنه: فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين إلى أن عدّ سبعة ما ثقل عليّ. وقيل لأنه انكسرت به السفينة في البحر فركب لوحا من ألواحها فنجا.

وذكر أن البحر ألقاه على أجمة سَبُع فأقبل نحوه، فقال له: أبا الحارث أنا مولى رسول الله، فجاء إليّ وضربني بمنكبيه ثم مشى أمامي حتى أقامني على الطريق ثم همهم وضربني بذنبه فرأيت أنه يودعني. وقيل إنما وقع له ذلك لما أضل الجيش الذي كان فيه بأرض الروم.

وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، أي لأنه هو الذي أدى عنه نجوم كتابته، وفي كونه رقيقا ما تقدم.

أي والخصي الذي أهداه له المقوقس الذي هو مأبور المتقدم ذكره. وآخر يقال له سندر.

وفي كلام بعضهم أعتق رسول الله في مرضه أربعين رقبة. ومن النساء أم أيمن وأميمة وسيرين التي أهديت له مع مارية، أي وتقدم أنها أختها.

وذكر بعضهم أن سيرين هذه وهبها رسول الله لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه. وتقدم أن المقوقس أهدى معهما قنسر وأنها أخت مارية وسيرين فهن الثلاث أخوات، وتقدم أنه أهدى إليه رابعة.


باب ذكر المشاهير من كتابه

فقد ذكر بعضهم أن كتابه كانوا ستة وعشرين كاتبا على ما ثبت عن جماعة من ثقات العلماء.

وفي السيرة للعراقي أنهم كانوا اثنين وأربعين، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري. وهو أول من كتب له من قريش بمكة ثم ارتد وصار يقول كنت أصرّف محمدا حيث أريد، كان يملي عليّ عزيز حكيم، فأقول أو عليم حكيم، فيقول: نعم، كل صواب. وفي لفظ: كان يقول اكتب كذا، قأقول أكتب كذا؟ فيقول اكتب كيف شئت، ونزل فيه: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا}.

أي ثم لما كان يوم الفتح، وأمر بقتله فر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، لأنه كان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان فغيبه عثمان رضي الله تعالى عنه ثم جاء به بعدما اطمأن الناس، واستأمن له رسول الله فصمت له رسول الله طويلا ثم قال نعم، فلما انصرف عثمان قال النبي لمن حوله: ما صمتّ عنه إلا لتقتلوه إلى آخر ما تقدم. ثم أسلم وحسن إسلامه، ودعا الله تعالى أن يختم عمره بالصلاة، فمات ساجدا في صلاة الصبح، وقيل بعد التسليمة الأولى، وقيل الثانية.

وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنهم. أي وعبد الله بن الأرقم، وكان يكتب الرسائل للملوك وغيرهم، قال عمر في حقه: ما رأيت أخشى لله منه.

وأبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه، وهو أول من كتب له من الأنصار بالمدينة، كان في أغلب أحواله يكتب الوحي، وهو أحد الفقهاء الذين كانوا يكتبون في عهده عليه الصلاة والسلام.

وثابت بن قيس بن شماس، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان أي وأخوه يزيد.

قال بعضهم: كان معاوية وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما ملازمين للكتابة بين يدي رسول الله في الوحي وغيره، لا عمل لهما غير ذلك.

قال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أمرني رسول الله أن أتعلم بالسريانية، قال: إني لا آمن يهود على كتابي، فما مر بي نصف شهر حتى تعلمت وحذقت فيه فكنت أكتب له إليهم وأقرأ له كتبهم.

والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوام، وخالد بن الوليد، والعلاء بن الحضرمي وعمرو بن العاص، وعبد الله بن رواحة، أي ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ ابن سلول.


باب يذكر فيه حراسه قبل أن ينزل عليه قوله تعالى والله يعصمك من الناس

سعد بن معاذ حرسه ومسلم ليلة يوم بدر: أي الليلة التي صبيحتها ذلك اليوم. وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه شاهرا سيفه حين نام بالعريش.

وفي كلام بعضهم أن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه كان مع أبي بكر رضي الله عنه في العريش يحرسانه في بدر.

ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه حرسه يوم أحد.

والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه حرسه يوم الخندق.

والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه حرسه يوم الحديبية.

وأبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه حرسه ليلة بنى بصفية ببعض طرق خيبر.

وبلال وسعد بن أبي وقاص وذكوان بن عبد قيس رضي الله عنهم حرسوه بوادي القرى.

أي وحرسه ابن أبي مرثد الغنوي في الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة حنين حيث قال: «ألا رجل يحرسنا الليلة؟ فقال: أنا يا رسول الله فدعا له، وبعد نزول الآية وهي: {والله يعصمك من الناس} ترك الحرس».


باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه

وتصديق هذه الولاية الآن بالحسبة ومتوليها بالمحتسب. كان رسول الله استعمل سعد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة. واستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سوق المدينة.


باب يذكر فيه من كان يضحكه

منهم نعيمان. كان إذا نظر إلى نعيمان لا يتمالك نفسه أن يضحك لأنه كان مزاحا، وتقدم عنه. ويأتي أيضا ما وقع بينه وبين سليط أو سويط.

ومنهم الذي كان يحده في الخمر، واسمه عبد الله، ويلقب بالخمار.


باب يذكر فيه أمناء رسول الله

منهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه. كان أمين رسول الله على نسائه.

وكذا أبو أسد بن أسيد الساعدي، كان أمينه على نسائه. وهو آخر من مات من أهل بدر رضي الله تعالى عنهم. وكان ممن أبصر الملائكة يوم بدر وكف بصره.

وبلال المؤذن رضي الله تعالى عنه، كان أمينه على نفقاته.

ومعيقيب، كان أمينه على خاتمه الشريف.


باب يذكر فيه شعراؤه

الذين كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك رضي الله تعالى عنهم أجمعين.


باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه

وهم علي كرم الله وجهه، والزبير، والمقداد، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم، وعاصم بن ثابت، أي والضحاك بن سفيان رضي الله تعالى عنه.

ولعل المراد من كان يتكرر منه ذلك، فلا ينافي ما تقدم في قصة الحارث بن سويد أنه قال لعويمر بن ساعدة رضي الله تعالى عنه اضرب عنقه.


باب يذكر فيه مؤذنوه

وهم بلال، وابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنهما بالمدينة، وسعد القرظ مولى عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما بقباء، وقيل له القرظ لا تجاره فيه. ومن قال القرظي فقد أخطأ، وأبو محذورة رضي الله تعالى عنه بمكة: أي وأذن بين يديه زياد بن الحارث الصدائي كما تقدم.

وقد يقال: مراد الأصل من تكرار أذانه، فلا يرد هذا، وكذا لا يرد عبد العزيز بن الأصم فإنه أذن أيضا بين يديه مرة واحدة.


باب يذكر فيه العشرة المبشرون بالجنة رضي الله تعالى عنهم

وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وقد نظم ذلك بعضهم في بيت، فقال:

لقد بشرت بعد النبي محمد ** بجنة عدن زمرة سعداء

سعيد وسعد والزبير وعامر ** وطلحة والزهري والخلفاء

أي وربما أسقط بعضهم أبا عبيدة عامر بن الجراح، وذكر بدله عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو غريب جدا.


باب يذكر فيه حواريوه

بالحاء المهملة: أي أنصاره الذين اشتهروا بهذا الوصف، وهم الخلفاء الأربعة، وحمزة وجعفر، وأبو عبيدة، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة والزبير، وهو أكثرهم شهرة بهذا الوصف بل هو المراد عند إطلاق حواري رسول الله .


باب يذكر فيه سلاحه

كان له من السيوف تسعة. ومن الدروع سبعة. ومن القسي ستة. ومن الأتراس ثلاثة. ومن الرماح اثنان. ومن الخَوذ اثنان.

فأما السيوف: فسيف يقال له مأثور بهمزة ساكنة ثم ثاء مثلثة. ورثه من أبيه، وقدم به المدينة، أي ويقال: إنه من عمل الجن. وسيف يقال له العضب أي القاطع، أرسل به إليه سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه عند توجهه إلى بدر. وسيف يقال له ذو الفقار، كان في وسطه مثل فقرات الظهر. غنمه يوم بدر، كان للعاص بي وائل قتل يوم بدر كافرا، وكانت قائمته وقبيعته، بفتح القاف وكسر الموحدة ثم مثناة تحتية ساكنة ثم عين مهملة مفتوحة، وحلقته بإسكان اللام وفتحها، وعلاقته بكسر العين، فضة، وكان لا يفارقه في حرب من الحروب. ويقال إن أصله من حديدة وجدت مدفونة عند الكعبة. وسيف يقال له الصمصامة بفتح الصاد المهملة وإسكان الميم، كان مشهورا عند العرب، وهو سيف عمرو بن معد يكرب. أهداه لخالد بن سعيد بن العاص حيث استعمله على اليمن. وسيف يقال له القلعي بفتح اللام، نسبة إلى برج القلعة: موضع بالبادية. وسيف يقال له الحيف بفتح الحاء المهملة ثم مثناة تحت ساكنة: وهو الموت وهذه الثلاثة من سلاح بني قينقاع مثلث النون. وسيف يقال له الرسوب بفتح الراء وضم السين المهملة ثم واو ساكنة ثم موحدة: أي يرسب ويستقر في الضربة، وهو أحد السيوف التسعة التي أهدتها بلقيس لسليمان عليه الصلاة والسلام. وسيف يقال له المحدم بكسر الميم، ثم حاء ساكنة ثم ذال معجمة مفتوحة: القاطع وهما كانا معلقين على صنم طي الذي يقال له الغلس، وسيف يقال له القضيب، من قضب الشيء: قطعه، فعيل بمعنى فاعل: أي قاطع.

وأما الدروع، فدرع يقال لها ذات الفضول بضم الفاء وبالضاد المعجمة لطولها. أرسل بها إليه سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه حين سار إلى بدر، أي وكانت من حديد، وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على ثلاثين صاعا من الشعير، وكان الدين إلى سنة. ودرع يقال لها ذات الوشاح بكسر الواو وبالشين المعجمة مخففة وفي آخره حاء مهملة: ودرع يقال لها ذات الحواشي. ودرع يقال لها السفرية بالفاء، والسفر: موضع يصنع به الدروع. قال في النور: والذي أحفظه في هذه الدرع السغدية بضم السين المهملة وبالغين المعجمة الساكنة ثم دال مهملة مفتوحة. ودرع يقال لها الفضة، ويقال لها السعدية بالعين المهملة مفتوحة، وهما من دروع بني قينقاع، يقال إنها درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها لقتال جالوت كما تقدم. ودرع يقال لها البتراء بفتح الموحدة، ثم مثناة فوق ساكنة ممدودة، قيل لها ذلك لقصرها. ودرع يقال لها الخرنق بالخاء المعجمة مكسورة، ثم راء ساكنة ثم نون مكسورة ثم قاف، قيل لها ذلك لنعومتها.

وأما القسي، فقوس يقال لها البيضاء من شوحط، وهو من شجر الجبال، يتخذ منه القسي، وهو من سلاح بني قينقاع. وقوس يقال لها الروحاء. وقوس يقال لها الصفراء من نبع وهو شجر يتخذ منه القسي. ومن أغصانه السهام كسرت يوم أحد. وقوس يقال لها الزوراء، ويقال لها الكتوم لانخفاض صوتها إذا رمي عنها، قيل وهي التي اندقت سيتها يوم أحد، أي وقوس يقال لها السداد.

وأما الأتراس، فترس يقال لها الزلوق، لأن السلاح يزلق عنه. وترس يقال لها فتق بضم الفاء وفتح التاء المثناة فوق وبالقاف. وترس يقال لها تمثال عقاب أو كبش، فوضع يده الشريفة عليه فذهب.

وأما الرماح، فرمح يقال له المثنى. ورمح يقال لها المثوي بضم الميم وإسكان الثاء المثلثة وكسر الواو، من الثوي: وهو الإقامة، لأن المطعون به يقيم موضعه ولا ينتقل. أي وثلاث رماح أصابها من سلاح بني قينقاع، يقال لأحدها المثنى بضم الميم وإسكان الثاء المثلثة ثم نون مفتوحة. وفي الأصل المنثي بتقديم النون على الثاء.

وأما الحراب، فحربة يقال لها النبعة. وحربة يقال لها البيضاء. وحربة صغيرة تشبه العكاز يقال لها العنزة قال: جاء بها الزبير رضي الله تعالى عنه من أرض الحبشة، أعطاها له النجاشي رحمه الله، وقاتل بها بين يدي النجاشي عدوا للنجاشي، وظهر النجاشي على ذلك العدو، وشهد بها الزبير رضي الله تعالى عنه بدرا وأحدا وخيبر، ثم أخذها منه منصرفه من خيبر، فكانت تحمل بين يديه يوم العيد، يحملها بلال رضي الله تعالى عنه، فتركز بين يديه ويصلي إليها، وكذا كان يصلي إليها في أسفاره، أي وكان يمشي بها وهي في يده. ورابعة يقال لها المهر. وخامسة يقال لها النمر، وكان له محجن طوله قدر ذراع أو أكثر بيسير، يمشي به، ويعلق بين يديه على بعيره يسمى الذقن، وكان له رأس معقفة كالصولجان.

وكان له قضيب من شوحط يسمى الممشوق، قيل وهذا القضيب هو الذي كانت تتداوله الخلفاء ا هـ.

أي وكان له مخصرة بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الصاد: وهي ما يمسكه بيده من عصا أو مقرعة تسمى العرجون، ويقال لها العسيب.

وأما الخود جمع خودة: وهي ما يجعل على الرأس من الزرد مثل القلنسوة: فخودة يقال لها الموشح بالميم وبالشين المعجمة مشددة مفتوحة والحاء المهملة. وخودة يقال لها السبوغ بالسين المهملة وبالغين المعجمة أو ذات السبوغ.


باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره

كان له سبعة أفراس. وكان له بغال ست وكان له من الحمر اثنان. وكان له من الإبل المعدّة للركوب ثلاثة.

فأما أفراسه، ففرس يقال له السكب: شبه بسكب الماء وانصبابه، لشدة جريه، وهي أول فرس ملكه، اشتراه من أعرابي بعشرة أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس: أي بفتح الضاد وكسر الراء وبالسين المهملة: الصعب السيىء الخلق، وكان أغر: أي له غرة، وهي بياض في وجهه، محجلا طلق اليمين، كميتا: أي بين السواد والحمرة. وقال ابن الأثير كان أسود أدهم، وفرس يقال له المرتجز: أي سمي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر، وكان أبيض، وهو الذي شهد له فيه خزيمة بأنه اشتراه من صاحبه بعد أن أنكر بيعه له، وقال له ائت بمن يشهد لك، فجعل شهادة خزيمة بشهادتين، بعد أن قال له: كيف شهدت ولم تحضر؟ فقال لتصديقي إياك يا رسول الله، وإن قولك كالمعاينة فقال له: أنت ذو الشهادتين، فسمي ذا الشهادتين، ثم قال: «من شهد له، خزيمة أو شهد عليه فهو حسيبه» لكن جاء أنه رد الفرس على الأعرابي وقال «لا بارك الله لك فيها» فأصبحت من الغد شائلة برجلها. وفرس يقال له اللحيف بالحاء المهملة واللام المضمومة فعيل بمعنى فاعل، لأنه كان يحلف الأرض بذنبه لطوله: أي يغطيها. وقيل لأنه كان يلتحف معرفته. وقيل هو بضم اللام مصغرا، وقيل بالخاء المعجمة مع فتح اللام وهو الأكثر. وهذا الفرس أهداه له فروة بن عمرو من أرض البلقاء بالشام. وفرس يقال له اللزاز، أي أهداه له المقوقس كما تقدم، مأخوذ من قولهم: لاززته: أي لاصقته، فكان يلحق بالمطلوب لسرعته، وقيل غير ذلك. وفرس يقال له الطرف أي بكسر الطاء المهملة وسكون الراء وبالفاء: الكريم الجيد من الخيل. وفرس يقال له الورد، وهو بين الكميت والأشقر، أهداه له تميم الداري رضي الله تعالى عنه، وأهداه لعمر رضي الله تعالى عنه. وفرس يقال له سبحة: أي بفتح السين وإسكان الموحدة وفتح الحاء المهملة: أي سريع الجري، هذا هو المشهور. وعدّ بعضهم في خيله غير ذلك، فأوصل جملتها إلى خمسة عشر بل إلى العشرين. وقد ذكر الحافظ الدمياطي أسماء الخمسة عشر في سيرته وقال فيها: وقد ذكرناها وشرحناها في كتابنا كتاب الخيل.

وكان سرجه دفتين من ليف. قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله بعد النساء من الخيل.

وجاء: «أنه مسح وجه فرسه ومنخريه وعينيه بكمّ قميصه فقيل له: يا رسول الله تمسح بكم قميصك؟ فقال إن جبريل عليه السلا عاتبني في الخيل». وفي رواية «في الفرس» أي في امتهانها. وفي رواية: «في سياستها» وقال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها فخذوا بنواصيها، وادعوا بالبركة» ا هـ.

أي وقد ذكر: «أنه في غزوة تبوك قام إلى فرسه الطرف فعلق عليه شعيره، وجعل يمسح ظهره بردائه، فقيل له: يا رسول الله تمسح ظهره بردائك؟ فقال: نعم، وما يدريك لعل جبريل عليه الصلاة والسلام أمرني بذلك؟ ».

وعن بعضهم قال: دخلت على تميم الداري رضي الله تعالى عنه وهو أمير بيت المقدس، فوجدته ينقي لفرسه شعيرا، فقلت: أيها الأمير ما كان لهذا غيرك؟ فقال: إني سمعت رسول الله يقول: «من نقى لفرسه شعيرا ثم جاء به حتى يعلقه عليه كتب الله له بكل شعيرة حسنة» وكان يضمر الخيل للسباق، فيأمر بإضمارها بالحشيش اليابس شيئا بعد شيء، ويأمر بسقيها غدوة وعشيا، ويأمر أن يقودها كل يوم مرتين، ويؤخذ منها من الجري الشوط والشوطان.

وأما بغاله، فبغلة شهباء يقال لها دلدل، أهداها له المقوقس كما تقدم. والدلدل في الأصل: القنفذ، وقيل ذكر القنافذ، وقيل عظيمها، وهذه أول بغلة ركبت في الإسلام. وفي لفظ: رؤيت في الإسلام، وكان يركبها في المدينة وفي الأسفار. وعاشت حتى ذهبت أسنانها، فكان يدق لها الشعير، وعميت. وقاتل عليها عليّ كرم الله وجهه الخوارج بعد أن ركبها عثمان رضي الله تعالى عنه، وركبها بعد عليّ ابنه الحسن ثم الحسين رضي الله تعالى عنهما، ثم محمد ابن الحنفية رحمه الله.

وسئل ابن الصلاح رحمه الله: هل كانت أنثى أو ذكرا والتاء للوحدة، فأجاب بالأول. قال بعضهم: وإجماع أهل الحديث على أنها كانت ذكرا، ورماها رجل بسهم فقتلها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «أن رسول الله بعثني إلى زوجته أم سلمة، فأتيته بصوف وليف، ثم فتلت أنا ورسول الله لدلدل رسنا وعذارا، ثم دخل البيت فأخرج عباءة فثناها ثم ربعها على ظهرها، ثم سمى وركب، ثم أردفني خلفه». وبغلة يقال لها فضة، أهداها له عمرو بن عمرو الجذامي كما تقدم. ووهبها لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي وأوصلها بعضهم إلى سبعة.

وفي (مزيل الخفاء) وفي (سيرة مغلطاي): كان له من البغال دلدل وفضة، والتي أهداها له ابن العلماء: أي بفتح العين المهملة وإسكان اللام وبالمد في غزوة تبوك، والأيلية. وبغلة أهداها له كسرى، وأخرى من دومة الجندل، وأخرى من عند النجاشي هذا كلامه.

وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه كان صاحب بغلة رسول الله يقود به في الأسفار، وتوفي بمصر ودفن بقرافتها، وقبره معروف بها، وكان واليها قبل معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان، ثم صرف عنها بمسلمة بن مخلد.

وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قدت برسول الله وهو على راحلته مدة من الليل، فقال أنخ، فأنخت فنزل عن راحلته، ثم قال: اركب فقلت: سبحان الله أعلى مركبك يا رسول الله وعلى راحلتك؟ فأمرني، فقال اركب، فقلت له مثل ذلك، ورددت ذلك مرارا حتى خفت أن أعصي رسول الله فركبت راحلته. ذكره في الإمتاع.

وأما حمره، فحمار يقال له يعفور. وحمار يقال له عفير بالعين المهملة، وقيل بالمعجمة وغلط قائله وكان أشهب، ومات في حجة الوداع. والأول أهداه له فروة بن عمرو الجذامي، وقيل المقوقس. والثاني أهداه له المقوقس، وقيل فروة بن عمرو كذا في سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله، والعفرة هي الغبرة، أي وأوصل بعضهم حمره إلى أربعة.

وتقدم أن يعفورا وجده في خيبر، وأنه يوم مات النبي طرح نفسه في بئر جزعا على رسول الله فمات، وتقدمت قصته وما فيها.

وأما إبله التي كان يركبها. فناقة يقال لها القصواء. وناقة يقال لها الجدعاء، وناقة يقال لها العضباء، وهي التي كانت لا تسبق فسبقت، فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله: «إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه».

وفي رواية «إن الناس لم يرفعوا شيئا من الدنيا إلا وضعه الله ﷿» ويقال إن هذه العضباء لم تأكل بعد وفاة رسول الله ولم تشرب حتى ماتت، وقيل إن التي كانت لا تسبق ثم سبقت هي القصواء، وكانت العضباء يسبق بها صاحبها الذي كانت عنده الحاجّ، ومن ثم قيل لها سابقة الحاج. وقيل إن هذه الثلاثة اسم لناقة واحدة وهو المفهوم من الأصل، وهو موافق في ذلك لابن الجوزي رحمه الله حيث قال إن القصواء هي العضباء وهي الجدعاء. وقيل القصواء واحدة والعضباء والجدعاء واحدة.

وفي كلام بعضهم: وأما البقر فلم ينقل أنه ملك شيئا منها: أي للقنية فلا ينافي أنه ضحى عن نسائه بالبقر.

وأما غنمه، فقيل مائة، وقيل سبعة أعنز كانت ترعاها أم أيمن رضي الله تعالى عنها، وجاء: «اتخذوا الغنم فإنها بركة» وكان له شياه يختص بشرب لبنها، وماتت له شاة، فقال: ما فعلتم بإهابها؟ قالوا إنها ميتة، قال دباغها طهورها. واقتنى الديك الأبيض، وكان يبيت معه في البيت وقال: «الديك الأبيض صديقي وصديق صديقي وعدو عدوي، والله يحرس دار صاحبه وعشرا عن يمينها، وعشرا عن يسارها، وعشرا من بين يديها، وعشرا من خلفها» وقد جاء: «اتخذوا الديك الأبيض فإن دارا فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان ولا ساحر ولا الدويرات حولها، واتخذوا هذا الحمام المقاصيص في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم».

وفي العرائس: «أن آدم قال يا رب شغلت بطلب الرزق لا أعرف ساعات التسبيح من أيام الدنيا فأهبط الله ديكا وأسمعه أصوات الملائكة بالتسبيح، فهو أول داجن اتخذه آدم من الخلق، فكان الديك إذا سمع التسبيح ممن في السماء سبح في الأرض، فيسبح آدم بتسبيحه».


باب يذكر فيه صفته الظاهرة وإن شاركه فيها غيره

قال: قد خلق الله تعالى أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام سليمة من العيب حتى صلحت لحلول الأنفس الكاملة، وهم في ذلك متفاوتون، ونبينا أصح الأنبياء مزاجا، وأكملهم جسدا.

وعن أنس رضي الله عنه: «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبينا أحسنهم وجها وصوتا» انتهى. وكانت صفاته الظاهرة لا تدرك حقائقها، وإلى هذا يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله:

إنما مثلوا صفاتك للنا ** س كما مثل النجوم الماء

وتقدم بعض صفته في خبر أم معبد رضي الله عنها.

ووصف بأنه كان ضخم الهامة: أي الرأس. ووصف بأنه كان فخما مفخما: أي عظيما في الصدور والعيون، يتلألأ وجهه كالقمر ليلة البدر قال: كان في وجهه تدوير، ليس بالمطهم ولا المكلثم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحسن من رسول الله كأنّ الشمس تجري في وجهه. وفي رواية: «تجري من وجهه» وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه ضوء السراج انتهى. أقصر من المشذب بضم الميم وفتح الشين الذال المعجمتين مشددة ثم موحدة على وزن معظم: البائن الطويل في نحافة. وأطول من المربوع. قال: وعن علي كرم الله وجهه: لم يكن رسول الله بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة القوم، والممغط: المتناهي في الطول. والمتردد المجتمع الخلق: أي القصير جدا، لم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله، فإذا فارقه رسول الله نسب للربعة: أي لا طويل ولا قصير، عظيم الهامة. أي وفي رواية: ضخم الرأس، رجل الشعر إذا انفرقت عقيصته، وفي لفظ عقيقته: وهي الشعر المعقوص فرق: أي إذا انفرقت من ذات نفسها فرقها: أي أبقاها مفروقة وإلا تركها معقوصة: أي تركها على حالها لم يفرقها، لم يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره. قال: أي جعله وفرة.

وحاصل الأحاديث أن شعره وصف بأنه جمة، ووصف بأنه وفرة، ووصف بأنه لمة. وفسرت اللمة: بالشعر الذي ينزل على شحمة الأذن. والجمة بالذي ينزل على المنكبين. قال بعضهم: كان شعره يقصر ويطول بحسب الأوقات، فإذا غفل عن تقصيره وصل إلى منكبيه، وإذا قصره تارة ينزل عن شحمة أذنه وتارة لا ينزل عنها.

وجاء في وصف شعره: ليس بجعد قطط: أي بالغ في الجعودة، ولا رجل سبط: أي بالغ في السبوطة فلا ينافي ما جاء عن علي كرم الله وجهه: كان شعر رسول الله سبطا.

وعن أم هانىء رضي الله عنها: كان له أربع غدائر: أي ضفائر، تخرج أذنه اليمنى من بين ضفيرتين، وأذنه اليسرى كذلك. قال ابن القيم رحمه الله: لم يحلق رأسه الشريف إلا أربع مرات انتهى. أزهر اللون: أي أبيض مشرب بحمرة: أي وهي المراد بالسمرة، وفي رواية: كان أسمر، ومن ثم جاء في رواية: كان بياضه إلى سمرة، لأن العرب قد تطلق على من كان كذلك أي بياضه إلى حمرة أسمر، ومن ثم جاء: ليس بالأبيض الأمهق: أي شديد البياض الذي لا يخالطه حمرة كلون الجص.

وعن علي كرم الله وجهه: ليس أبيض شديد الوضَح. وفي رواية: شديد البياض، ولا معارضة لأنه محمول على ما كان من جسده تحت الثياب، ومن ثم جاء: أنور المتجرد: وهو ما كشف عنه الثوب من البدن.

وقيل المراد بالأمهق الأخضر، فقد قيل إن المهق خضرة الماء، ولا بالآدم: أي شديد الأدمة. واسع الجبين، أي وفي رواية مفاض الجبين: أي واسعه. وفي رواية كان جبين رسول الله صلتا: أي أملس. وفي رواية: كان رسول الله أجلى الجبين كأنه السراج المتوقد يتلألأ، أزج الحاجبين، سوابغ من غير قرن: أي بين حاجبيه فرجة، وهو البلج، أي والقرن بالتحريك: اتصال شعر الحاجبين. وورد: مقرون الحاجبين: أي شعرهما متصل بالآخر، لا حاجز بينهما. ولا منافاة لأن ذلك لا يجوز أن يكون بحسب الرائي، لأن الفرجة التي كانت بين حاجبيه يسيرة لا تبين إلا لمن دقق النظر. بينهما عرق يدره الغضب: أي إذا غضب امتلأ ذلك العرق دما فيظهر ويرتفع. أقنى العرنين: أي سائله مرتفع وسطه: أي وفي وسطه احديداب. وفي رواية: دقيق العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم: أي مرتفعا. أدعج العينين أي شديد سواد العينين. وفي كلام بعضهم: الدعج سواد العين، ويقابله الأشهل وهو من في سواد عينيه حمرة. وقد جاء: أشهل العينين، وأشكل العينين: أي في بياض عينيه حمرة. وكانت في الكتب القديمة من علامات نبوته كما تقدم، أي وفي رواية: أنجل العينين: أي واسعهما. أهدب الأشفار: أي طويل هدب شعر العينين.

أي وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أكحل العينين. والكحل: سواد هدب العين خلقة.

وعن جابر رضي الله عنه: إذا نظرت إلى رسول الله قلت أكحل: أي في عينيه كحل وليس بالكحل. سهل الخدّين أي وفي رواية أسيل الخدّين: أي ليس في خديه نتوء وارتفاع، ضليع الفم: أي واسعه. أشنب: أي في ريقه برد وعذوبة. مفلج الأسنان: أي مفرّق ما بين الثنايا كما في رواية: أفلج الثنيتين، لأن الفلج تباعد ما بين الثنايا والرباعيات. وفي رواية: برّاق الثنايا. كان إذا تكلم رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه، يفتر عن مثل حب الغمام: أي إذا ضحك بانت أسنانه كالبرد.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: حسن الثغر. وعن أنس رضي الله عنه: شممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيت من نكهته . كث اللحية: أي كثير شعرها. وفي رواية: كان رسول الله كثيف اللحية، وكان يسرحها بالماء، وكان له مشط من العاج وهو الدبل. وقيل شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية، ويقال لعظم الفيل عاج أيضا: أي وليس مرادا هنا أي وكان له مقراض: أي مقص يقص به أطراف شاربه.

وفي المشكاة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منا».

أي وكان يأخذ بالمقراض من عرض لحيته وطولها.

وقد لا ينافي ذلك ما جاء: «أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص شاربي» وقال: «من الفطرة قص الأظفار والشارب، وحلق العانة».

وكان يكثر دهن رأسه حتى كأن ثيابه ثياب زيات أو دهان. أي وفي لفظ: كان رسول الله يكثر التقنع حتى يرى حاشية ثوبه كأنه ثوب زيات أو دهان وليس في شعر رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.

وعن أنس رضي الله عنه أن شيب لحيته كان في عنفقته وصدغيه متفرقا. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: عرف من مجموع الروايات أن الذي شاب في عنفقته أكثر مما شاب في غيرها.

وقال: «شيبتني هود وأخواتها، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ما أخواتها يا رسول الله؟ قال: الواقعة، والقارعة، وسأل سائل، وإذا الشمس كورت، واقتربت الساعة».

وفي رواية: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوّرت، واقتربت الساعة» وقال: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» ولعل شيبه لم يخضب. وقيل كان يخضب بالحناء والكتم.

وقال: «أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم» ونهى عن الخضاب بالسواد وقد تقدم. ضليع الفم: أي واسعه وهو مما تمدح به العرب، وتذم بصغر الفم، غاض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، دقيق المسربة بفتح الميم وإسكان السين ثم راء مضمومة: وهو الخيط الشعر الذي بين الصدر والسرة، كأن عنقه جيد دمية: هي صورة تتخذ من العاج في صفاء الفضة.

أي وعن علي كرم الله وجهه: كأن عنقه إبريق فضة، معتدل الخلق بادنا متماسكا: أي ذو لحم متماسك يمسك بعضه بعضا، ليس مسترخي اللحم سواء البطن والصدر: أي مستويهما عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس: وهي رؤوس العظام: أي ملتقى كل عظمين كالمرفقين والمنكبين والركبتين. موصول ما بين اللبة بفتح اللام وتشديد الموحدة المفتوحة: هو المنحر والسرة بشعر يجري كالخيط، وهو المعبر عنه فيما سبق بدقيق المسربة عاري الثديين والبطن وما سوى ذلك. أشعر الذراعين والمناكب. وأعالي الصدر، طويل الزندين: أي عظيم الذراعين، رحب الراحة: أي واسعها.

قال أنس رضي الله تعالى عنه: ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف رسول الله، سائل الأصابع أي طويلها شئن الكفين والقدمين: أي يميلان إلى الغلظ، وذلك ممدوح في الرجال مذموم في النساء. أي وكانت سبابة يديه أطول من الوسطى. قال ابن دحية رحمه الله: وهذا باطل بيقين، ولم يقله أحد من ثقات المسلمين: أي وإنما كان ذلك في أصابع قدميه، وهو في ذلك كغيره من الناس. وفي رواية منهوس بالمهملة والمعجمة العقب: أي قليل لحم القدمين. سبط العظام: أي ممتدها لا نتوء فيها.

وفي رواية سبط العصب وهو كل عظم فيه مخ خمصان الأخصمين، ينبو عنهما الماء: أي يتجافى أخمص القدم وهو وسطه: أي شديد التجافي عن الأرض. مسيح القدمين: أي أملسهما، وهذا يوافق ما جاء في رواية: إذا وطىء بقدمه وطىء بكلها ليس له أخمص، إذا زال زال: تقلعا: أي يرفع رجله بقوة ويخطو تكفيا: أي يتمايل إلى قدامه. وقيل يمينا وشمالا كالمختال، ولا يذم إلا من تكلفه لا من كان ذلك جبلة له. ويمشي هونا: أي برفق ووقار دون عجلة. ذريع المشية: أي واسعها إذا امشى كأنما ينحط من صبب. أي وذكر في (سفر السعادة) أن هذه المشية مشية أصحاب الهمم العلية ومن قبله حي، وإن هذا النوع من المشي يسمى مشي الهوينا المذكور في قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} وهو أعدل أنواع المشي، لأن الماشي إما متهاون بالمشي كالخشبة، أو طائش ينزعج وهذان النوعان في غاية القبح، لأن الأول يدل على الخمول وموت القلب. والثاني يدل على خفة الدماغ وقلة العقل ثم قال: وأنواع المشي عشرة هذه الثلاثة منها، وذكر باقيها.

وكان إذا التفت التفت جميعا أي بسائر جسده، ولا يلوي عنقه كما يفعله أهل الخفة والطيش، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه.

لا يقال: قد ذم المتشدقين. لأنا نقول: المراد بهم من يكثر الكلام من غير احتياط ولا احتراز ومن يلوي أشداقه استهزاء بالناس.

وكان يتكلم بجوامع الكلم: أي بالكلام القليل الألفاظ الكثير المعاني. فصلا لا فضول فيه ولا تقصير، قال: «أعطيت جوامع الكلم»، واختصر لي الكلام اختصارا.

قال: ومن تلك الكلمات «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له. ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه. رحم الله عبدا قال خيرا فنعم أو سكت فسلم. ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها. خير الأمور أوساطها. السعيد من وعظ بغيره». إذا أشار بكفه كلها ا هـ وإذا تعجب قلبها وإذا تحدث قارب يده اليمنى من اليسرى فضرب بإبهام اليمنى راحة اليسرى، أي وربما يسبح عند التعجب وربما حرك برأسه وعض شفته، وربما ضرب بيده على فخذه، وربما نكت الأرض بعود. وإذا غضب أعرض بوجهه.

أي وكان إذا غضب احمر وجهه الشريف، وكان إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته. وفي رواية: إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته وتنفس الصعداء أي تنفس طويلا وقال: حسبي الله ونعم الوكيل، جلّ: أي معظم ضحكه التبسم، وكون معظم ضحكه ذلك لا ينافي أنه ضحك غير ما مرة حتى بدت نواجذه.

وكان إذا جرى به الضحك وضع يده على فيه، قال: وكان أكثر أحواله يمشي منتعلا، وربما مشى حافيا.

وكان لا يأكل من هدية أهديت إليه حتى يأكل منها صاحبها: أي بعد أن أهديت إليه الشاة المسمومة.

وكان يأكل بثلاث أصابع ويلعقهن إذا فرغ يلعق الوسطى، ثم التي يليها ثم الإبهام، وقال: «إن لعق الأصابع بركة».

وكان يأمر أصحابه بلعق الصحفة ويقول: «إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة» ا هـ.

ونحن نوضح بعض هذه الصفات الظاهرة بعبارة واضحة قريبة للأفهام فنقول:

كان عظيما معظما في الصدور والعيون كبير الرأس، لأن كبر الرأس يدل على كثرة العقل غالبا، ووجهه كالقمر ليلة البدر، لون جسده الذي ليس تحت الثياب أبيض مشرب بحمرة، طويل الحاجبين مع دقة ما بينهما خال ما الشعر وهو البلج، وضده القرن، وهو أن يتصل شعر أحدهما بالآخر.

بين حاجبيه عرق إذا غضب انتفخ، طويل الأنف مع حدب في وسطه ودقة في طرفه ليس في حدبة ارتفاع لأن العرب تذم به.

في عينيه شكلة: وهي بياض وحمرة، شديد سواد العين مع اتساعها، واسع الفم، لأن سعة الفم تدل على الفصاحة. بين ثناياه والرباعيات فرجة، ويقال له الفلج. كثير شعر اللحية، شيبه قليل، عنقه كالإبريق الفضة. إذا مشى مال إلى أمامه.


باب يذكر فيه صفته الباطنة وإن شاركه فيها غيره

كان سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب ولا مزاح: أي كثير المزاح، فلا ينافي ما روي: كان يمازح أصحابه قال: وقد جاء «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا» لكن جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله مزاحا. وكان يقول: إن الله تعالى لا يؤاخذ المزّاح الصادق في مزاحه.

وجاء عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: ما رأيت أحدا أكثر مزاحا من رسول الله .

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانت في النبي دعابة. وعن بعض السلف: كان للنبي مهابة، فكان يبسط الناس بالدعابة. قال لعمته صفية لا تدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها وهو يضحك: الله تعالى يقول: {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا} وهن العجائز الرمص: أي والعروب المتحببة لزوجها التي تقول وتفعل ما تهيج به شهوته إياها، وأترابا: كأنهن ولدن في يوم واحد لأنهن يكن بنات ثلاث وثلاثين سنة.

وجاءه رجل وطلب أن يحمله على بعير فقال له: إني حاملك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ قال رسول الله : وهل تلد الإبل إلا النوق؟

وقد أتى أزيهر، وفي لفظ زاهر وكان يهدي للنبي الهدية من البادية، فكان كلما قدم من البادية يأتي معه بطرف وهدية لرسول الله، فيجهزه رسول الله إذا أراد أن يخرج.

وكان يقول: زاهر باديتنا ونحن حاضروه. وفي لفظ: لكل حاضر بادية، وبادية آل محمد زاهر، وكان يحبه. جاءه يوما وهو يبيع متاعه في السوق وكان رجلا دميما، فاحتضنه من خلفه، فقال أرسلني، من هذا؟ فلما عرف أنه رسول الله صار يمكن ظهره من صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، وجعل رسول الله يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله تجدني كاسدا، فقال رسول الله : ولكن عند الله لست بكاسد أو قال: أنت عند الله غال. ويجوز أن يكون جمع بين هذين اللفظين، وكل روى ما سمع منهما.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجت مع النبي في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت حتى إذا حملت اللحم، وكنا في سفرة أخرى، قال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك.

وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل على أمي فوجد أخي أبا عمير حزينا، فقال: يا أم سليم، ما بال أبي عمير حزينا؟ فقالت: يا رسول الله مات نغيره: تعني طيرا كان يلعب به، فقال: أبا عمير ما فعل النغير: وكان كلما رآه قال له ذلك.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت النبي بحريرة طبختها فقلت لسودة والنبي بيني وبينها كلي فأبت، فقلت لها: كلي كلي، أو لألطخن وجهك فأبت، فوضعت يدي فيها فطليت وجهها، فضحك وأرخى فخذه لسودة، وقال: الطخي وجهها فلطخت وجهي، فضحك النبي أي وقال يوما لعائشة: ما أكثر بياض عينك انتهى.

وكان يتغافل عما لا يشتهي، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والأكبار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، وكان يقابل السيئة بالحسنة، ولا يذم ذواقا ولا يمدحه. والذواق الشيء، يقال ما ذقت ذواقا: أي شيئا من طعام أو شراب.

وعن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما عن رجل من العرب. قال: زحمت رسول الله يوم حنين وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله، فبعجني بعجة بسوط في يده، وقال: بسم الله أوجعتني، قال: فبت لنفسي لائما، أقول أوجعت رسول الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول أين فلان، فانطلقت وأنا متخوف، فقال لي رسول الله : إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فبعجتك بالسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها، ولما نزل قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال له جبريل ، أي بعد أن سأله في ذلك: إن ربك ﷿ يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.

وفي الحديث: «لا ينال عبد صريح الإيمان حتى يكون كذلك» وفي الحديث إن ذلك أفضل أهل الدنيا والآخرة.

وكان لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق والمسألة، لا يقطع على أحد حديثه، ولا يتكلم في غير حاجة، يعظم النعمة وإن دقت، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها. وإنما يغضب إذا تعرض للحق بشيء وعند غضبه لذلك لا يثنيه شيء عن الانتصار له، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويتفقد أصحابه ويسأل عنهم، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده، ويسأل الناس عما الناس فيه، أفضل الناس عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة، أحسنهم مواساة، لا يجلس، ولا يقوم إلا عن ذكر، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك ويعطي كل واحد من جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحدا أكرم عليه منه.

من جالسة أو نادمه لحاجة صابرة حتى يكون هو المنصرف عنه. من سأله حاجة لم يردّه إلاّ بها أو بميسور من القول.

عنده الناس في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء: لا ترفع فيه الأصوات، ولا يتنازعون عنده الحديث.

إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير: أي على غاية من السكون والوقار لأن الطير لا تكاد تقع إلا على ساكن، وإذا تكلم عنده أحد أنصتوا له حتى يفرغ من حديثه: أي لا يقطع بعضهم على بعض حديثه، يضحك مما يضحكون، ويعجب مما يعجبون.

فقد ذكر أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجرا إلى بصرى ومعه نعيمان بن عمرو الأنصاري وسويط بن حرملة وكلاهما بدري. وكان سويط على زاد أبي بكر فجاءه نعيمان وقال له أطعمني، فقال: لا حتى يأتي أبو بكر وكان نعيمان رجلا مضحاكا مزاحا فيه دعابة وله أخبار ظريفة في دعابته، فقال لسويط: لأغيظنك، فذهب إلى ناس، وفي رواية: فمروا بقوم، فقال لهم نعيمان: تشترون من عبدا لي؟ قالوا نعم. قال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم لست بعبده، أنا رجل حر، فإن كان إذا قال لكم هذه تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا عليّ عبدي، قالوا لا بل نشتريه، ولا ننظر في قوله، فاشتروه منه بعشرة قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا، فجاء القوم له وقالوا له: قد اشتريناك، فقال: هو كاذب أنا رجل حر، وفي رواية أنهم وضعوا عمامته في عنقه، فقال لهم: إنه يتهزأ ولست بعبده، فقالوا له قد أخبرنا بخبرك، فطرحوا الحبل في عنقه وذهبوا به، ولم يسمعوا كلامه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فأخبره خبره، فذهب هو وأصحابه وأتبعوا القوم، وأخبروهم أنه يمزح، وردوا عليهم القلائص، وردوا سليطا منهم، فلما قدموا على رسول الله أخبروه الخبر، فضحك من ذلك رسول الله حولا كاملا، لأن سفر أبي بكر رضي الله عنه كان قبل وفاته بعام.

ووقع لنعيمان هذا أنه مر بمخرمة بن نوفل رضي الله عنه وقد كف بصره وهو يقول ألا رجل يقودني حتى أبول، فأخذ بيده نعيمان، فلما بلغ مؤخر المسجد قال له: ههنا فبال فصاح الناس به، فقال: من قادني؟ قيل نعيمان، فقال عليّ أن أضربه بعصاي هذه، فبلغ نعيمان فأتاه، فقال له: هل لك في نعيمان؟ قال نعم، قال: فقم فقام معه، فأتى به عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو إذ ذاك أمير المؤمنين وهو يصلي، فقال: دونك الرجل، فجمع يديه في العصا ثم ضربه، فقال الناس: أمير المؤمنين، فقال: من قادني؟ فقيل نعيمان، قال: لا أعود إلى نعيمان أبدا.

وجاء أعرابي إلى رسول الله فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه فقال بعض الصحابة لنعيمان: لو نحرتها فأكلناها؟ فإنا قد قرمنا إلى اللحم، ويغرم رسول الله حقها، فنحرها نعيمان، فخرج الأعرابي فرأى راحلته، فصاح: واعقراه يا محمد، فخرج النبي، فقال: من فعل هذا؟ قالوا نعيمان، فأتبعه النبي يسأل عنه، فوجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد، فأشار إليه رجل ورفع صوته: ما رأيته يا رسول الله وأشار بأصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله وقد تعفر وجهه بالتراب، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الذين دلوك عليّ يا رسول الله هم الذين أمروني، فجعل رسول الله يمسح عن وجهه التراب ويضحك، ثم غرم ثمنها.

وكان رضي الله عنه إذا دخل المدينة طرفة اشتراها في ذمته، ثم جاء بها إلى النبي ويقول: يا رسول الله هذه هدية، فإذا جاء صاحبها يطلب ثمنها جاء به إلى النبي وقال له: أعط هذا ثمن ما جئت به إليك، فيقول له رسول الله : أو لم تهد ذلك لي؟ فيقول: يا رسول الله لم يكن عندي ثمنه، وأحببت أن يكون لك، فيضحك رسول الله ويأمر لصاحبه بثمنه.

وكان دائم البشر ضحوك السن: أي أكثر أحواله ذلك حسبما رآه هذا المخبر، فلا ينافي أنه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة ليست له راحة، فإنه بحسب ما كان عند ذلك المخبر.

وفي كلام ابن القيم رحمه الله: قد صانه الله عن الحزن في الدنيا وأسبابها، ونهاه عن الحزن على الكفار، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فمن أين يأتيه الحزن، بل كان دائم البشر ضحوك السن، كذا قال.

وفي كلام الإمام أبي العباس بن تيمية رحمه الله: ليس المراد الحزن الذي هو الألم على فوات مطلوب أو حصول مكروه، فإن ذلك منهي عنه، وإنما المراد به الاهتمام واليقظة لما يستقبله من الأمور، وهذا مشترك بين القلب والعين.

وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت: خلقه القرآن: أي ما ذكره القرآن: {وإنك لعلى خلق عظيم} وإنه تأدب بآدابه وتخلق بمحاسنه.

وقد قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال».

قال: وذكر في عوارف المعارف أن في قول عائشة رضي الله عنها خلقه القرآن سرا غامضا، حيث عدلت إلى ذلك عن قولها كان متخلقا بأخلاق الله سترا للحال بلطف المقال استحياء من سبحات ذي الجلال ا هـ، أي فكان متضفا بما فيه من الاجتهاد في طاعة الله والخضوع له، والانقياد لأمره والشدة على أعدائه، والتواضع لأوليائه، ومواساة عباده وإرادة الخير لهم، والحرص على كمالهم، والاحتمال لأذاهم، والقيام بمصالحهم وإرشادهم إلى ما يجمع لهم خيري الدنيا والآخرة مع التعفف عن أموالهم إلى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة التي اتصف بها وشرف وكرم.

وكان أشد الناس خشية وخوفا من الله، أي ومن ثم كان يقول: «أنا أتقاكم، وأخوفكم منه».

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أتاني رسول الله ليلة فدخل معي في لحافي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي، فقام فتوضأ ثم قام فصلى فبكى حتى سال دمعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاءه بلال رضي الله عنه فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا، ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى عليّ في هذه الليلة: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} إلى قوله: {سبحانك فقنا عذاب النار}.

وكان يقول: «أواه من عذاب الله قبل أن لا ينفع أواه» أي وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: «أول من صنعت له النورة ودخل الحمام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فلما دخله وجد حره وغمه قال: أواه من عذاب الله، أواه أواه قبل أن لا يكون أواه».

أي وفي (سفر السعادة): لم يدخل الحمام أبدا، والحمام الموجودة الآن بمكة شرفها الله تعالى المشهورة بحمام النبي لعلها بنيت في موضع اغتسل فيه مرة، هذا كلامه.

وأرسل وصيفة فأبطأت عليه، فقال لها: لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك. وما ضرب بيده الشريفة امرأة ولا خادما من أهله.

قال: وعن خادمه أنس رضي الله عنه: ما أمرني رسول الله بأمر فتوانيت عنه، أو ما صنعته فلامني، ولا لامني أحد من أهله إلا قال دعوه. وفي لفظ: خدمته في السفر والحضر عشر سنين والله ما قال لي في شيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا؟ وهذا يدل على أنه رضي الله عنه خدمه أنس له عند قدومه المدينة، وتقدم أن في بعض الروايات ما يدل على أن ابتداء خدمة أنس له في فتح خيبر، وتقدم ما فيه.

ووصف في الكتب القديمة بأن حلمه يسبق غضبه، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.

وقد تقدمت قصته مع اليهودي الذي طلب منه وفاء ما اقترض منه قبل حلول الأجل ونظيرها.

وعن عائشة رضي الله عنها أنه لم يكن فحاشا. استأذن على النبي رجل، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال: يا عائشة متى عهدتني فحاشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره.

قال ابن بطال رحمه الله: إن هذا الرجل هو عيينة بن حصن، لأنه كان يقال له الأحمق المطاع، وهو إنما تطلق في وجهه تألفا له ليسلم قومه، لأنه كان المطاع فيهم. وأما ذمه له فلأنه يعلم ما يقع منه بعد، فإنه ارتد في زمن الصديق رضي الله عنه وحارب ثم رجع وأسلم.

أي وقد قيل إن سبب نزول قوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} الآية أن عيينة هذا قال للنبي، وقد قال له أسلم قال: على أن تبني لي مقصورة في مسجدك هذا أكون أنا وقومي فيها وتكون أنت معي.

ومن تأمل سيرته مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والضعفاء والمساكين علم أنه بلغ الغاية في التواضع ورقة القلب ولين الجانب.

وعن أنس رضي الله عنه: أرسلني رسول الله في حاجة يوما. فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أني أذهب، فخرجت على صبيان يلعبون في السوق، وإذا رسول الله قد قبض ثيابي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك. فقلت نعم أنا أذهب يا رسول الله ا هـ.

وكان أحسن الناس خلقا، وأرجح الناس حلما، وأعظم الناس عفوا، وأسخى الناس كفا.

وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وقال يوما لأصحابه وقد اضطروه إلى شجرة فخطفت رداؤه الشريف فوقف، ثم قال: أعطوني ردائي، لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم.

وفي رواية: «لو أن لي مثل جبال تهامة ذهبا لقسمته بينكم ثم لا تجدوني كذوبا، ولا بخيلا، ولا جبانا» كما تقدم.

وكان أشجع الناس قلبا، وأشد الناس بأسا وأشد الناس حياء. وكان أشد حياء من البنت البكر في خدرها أي بيتها وسترها، وكان إذا فرح، غض طرفه، وإذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض صوته، وربما غطى وجهه بيده أو ثوبه.

وكان يحب الفأل الحسن، ويغير الاسم القبيح بالحسن كما تقدم، وربما غير الحسن بالقبيح كما تقدم. وكان يقول لأصحابه: إذا أرسلتم لي رسولا فليكن حسن الاسم، حسن الوجه.

من ذلك أن شخصا كان سادنا: أي خادما الصنم، وكان يسمى غاوي بن ظالم. فبينما هو عند صنمه إذ أقبل ثعلبان إلى الصنم ورفع كل واحد منهما رجله وبال على رأس ذلك الصنم، فلما رأى ذلك كسر ذلك الصنم وأنشد:

أربُّ يبول الثعلبان برأسه ** لقد ذل من بالت عليه الثعالب

وأتى رسول الله، فقال له كيف اسمك؟ فقال: غاوي بن ظالم. فقال له: بل أنت راشد بن عبد ربه.

ومن هذا السياق يعلم أن الثعلبان بفتح الثاء المثلثة مثنى ثعلب لا بضمها ذكر الثعالب كما قيل.

ومن تغيير الاسم القبيح بالحسن ما وقع له في غزوة ذي قرد أنه مر على ماء فسأل عنه، فقيل له: هذا اسمه بئسان وهو مالح. فقال: لا، بل اسمه نعمان وهو طيب، فانقلب عذبا. واشتراه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ثم تصدق به، فلما جاء إليه وأخبره بذلك قال له رسول الله : ما أنت يا طلحة إلا فياض فسمي طلحة الفياض.

وكان يشاور أصحابه في الأمر. قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رجلا أكثر مشاورة للرجال من رسول الله .

وكان إذا حلف قال: لا ومقلب القلوب، وربما قال في يمينه وأستغفر الله، وإذا اجتهد في اليمين قال: لا، والذي نفس أبي القاسم بيده، وربما قال: والذي نفس محمد بيده، وربما قال في يمينه: لا، وأستغفر الله والذي نفسي بيده.

وكان أكثر الناس إغضاء عن العورات. وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه، ولم يشافه أحدا بمكروه حتى إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول أو يفعل كذا. بل يقول: ما بال أقوام يقولون أو يفعلون كذا.

لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، أوسع الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة. ما دعاه أحد من أصحابه أو أهل بيته إلا قال لبيك، يخالط أصحابه، ويحادثهم، ويداعب، أي يمازح صبيانهم، ويجلسهم في حجره الشريف.

أي فقد كان يصفّ أولاد عمه العباس عبد الله وعبيد الله وغيرهما رضي الله عنهم ويقول: من سبق إليّ فله كذا، فيستبقون إليه فيقعدون على صدره الشريف فيقبلهم ويلتزمهم. ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويشهد الجنائز، ويقبل عذر المعتذر. ما وضع أحد فمه في أذنه إلا استمر صاغيا له حتى يفرغ من حديثه ويذهب، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده منه حتى يكون الآخذ هو الذي يرسلها.

وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولم ير قط مادا رجليه بين أصحابه. يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له رداءه وآثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه بالجلوس عليها إن أبى، ويدعو أصحابه بأحب أسمائهم ويكنيهم، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته، وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته، وطعن في الحديث الذي ورد بذلك، وإذا سمع بكاء الصغير وهو يصلي تجوّز فيها: أي خففها.

أكثر الناس شفقة على خلق الله تعالى وأرأفهم بهم وأرحمهم بهم، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ومن ثم رغب إلى الله تعالى أن يجعل سبه ولعنه لأحد من المسلمين رحمة له: أي إذا كان لا يستحق ذلك السب في باطن الأمر ويستحقه في ظاهر الأمر. أي وقال: «من لا يرحم لا يرحم» أوصل الناس للرحم، وأقومهم بالوفاء وحسن العهد.

وكان يقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد».

وكان يركب الحمار: أي وربما ركبه عريانا ويردف خلفه. فعن أنس رضي الله عنه: رأيته يوما على حمار خطامه ليف، أي وقد جاء أن ركوب الحمار براءة من الكبر، وكان يجلس على الأرض، وكان يشرب قائما وقاعدا وينتعل قائما وقاعدا، ويصلي منتعلا وحافيا.

وفي لفظ: كان أكثر صلاته في نعليه وكان يحب التيامن في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله، وكان يحب السواك حتى لقد أحفى لثته. وكان يكتحل بالإثمد عند النوم ثلاثا في كل عين. وفي لفظ: ثلاثا في اليمنى ومرتين في اليسرى. وقال: «عليكم بالإثمد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر، وإنه من خير أكحالكم» وكان يعود المساكين ويجلس بين أصحابه.

«وحج على رحل رث عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، وقال: اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة» كما تقدم، وأهدى في حجة ذلك مائة بدنة كما تقدم.

وكان يفلي ثوبه، أي وإن كان من خصائصه أن القُمَّل لا يؤذيه، ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويرقع ثوبه ويخدم نفسه، ويعلف ناضحه وهو الجمل الذي يسقي عليه الماء، ويقمّ البيت.

قال وعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يعمل عمل البيت، وأكثر ما يعمل الخياطة، ما يرى فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين، أو يخيط ثوبا لأرملة انتهى، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق، ويحب الطيب، ويأمر به.

وكان يتطيب بالمسك والغالية، ويتبخر بالعود والعنبر والكافور، ويأمر أصحابه بالمشي أمامه. ويقول: «خلوا ظهري للملائكة» زاهدا في الدنيا. ما ترك درهما ولا دينارا.

توفي ودرعه مرهونة، وتقدم أنها ذات الفضول عند يهودي وتقدم أنه أبو الشحم على نفقة عياله، وتقدم أن ذلك كان ثلاثين صاعا من شعير، وكان الأجل سنة.

وكان يقول: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا». ما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز البر حتى فارق الدنيا. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: لقد رأيت نبيكم وما يجد من الدقل ما يملأ بطنه.

وفي رواية: ما شبع يومين من خبز الشعير. أي ومعلوم أن ذلك إنما هو لتتأسى به أمته في الإعراض عن الدنيا. قالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله: «إني عرض عليّ أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب، أجوع يوما، وأشبع يوما، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عليك».

قال: «مالي وللدنيا، إنما أنا في الدنيا كرجل سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة حتى مال الفيء فتركها ولم يرجع إليها».

وقال: «ما أبالي بما رددت به عني الجوع» ولم ينخل له دقيق الشعير. قال: وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والذي بعث محمدا بالحق ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا منذ بعثه الله تعالى إلى أن قبض. فقيل لها: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قالت: كنا نقول أف أف انتهى، أي فيطير ما طار، وما بقي عجناه: ولا خبز له مرقق. ولا أكل النقي من الخبز.

وعن أنس رضي الله عنه قال: جاءت فاطمة رضي الله عنها بكسرة خبز إلى النبي، فقال: «ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة، فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» أي فإنه كان يبيت الليالي المتابعة طاويا. ولا أكل على خوان قط، إنما كان يأكل على السفرة، وربما وضع طعامه على الأرض. أي وخطب يوما فقال: والله ما أمسى في بيت محمد صاع من طعام وإنها لتسعة أبيات. قال الحسن: والله ما قالها استقلالا لرزق الله، ولكن أراد أن تتأسى به أمته.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: كان يمر هلال ثم هلال لا يوقد في بيت من بيوت رسول الله نار لا لخبز ولا لطبخ، فقيل له: بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ فقال: بالأسودين الماء والتمر.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والله لقد كان يأتي على آل محمد الليالي ما يجدون فيها عشاء.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أهدى لنا أبو بكر شاة قالت إني لأقطعها مع رسول الله في ظلمة البيت، فقال لها قائل: أما كان لكم سراج؟ فقالت: لو كان لنا ما نسرج به أكلناه.

وكان لا يجمع في بطنه بين طعامين، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزيد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه، ولم يكن له إلا ثوب واحد من قطن، قصير الكمين، كمه إلى الرسغ، وطوقه مطلق من غير أزرار. أي وفي لفظ: كان قميص رسول الله قطنا، قصير الطول، قصير الكمين، كمه إلى الرسغ.

وكان له جبة ضيقة الكمين، وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر من نسج عمان.

وكان له بردة يمانية طولها ستة أذرع في عرض ثلاثة أذرع وشبر، كان يلبسهما في يوم الجمعة والعيدين ثم يطويان.

وكان له رداء أخضر طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر تداولته الخلفاء.

وكان له عمامة تسمى السحاب، كساها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فكان ربما طلع عليه علي كرم الله وجهه فيقول: أتاكم عليّ في السحاب، يعني عمامته التي وهبها له .

وكان إذا اعتم يرخي عمامته بين كتفيه، وكان يلبس القلنسوة اللاطئة: أي اللاصقة بالرأس، وذات الآذان كان يلبسها في الحروب، والقلانس الطول إنما حدثت في أيام الخليفة المنصور.

وكان يقول: «فرق بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» أي فإنه كان يلبس القلانس تحت العمائم، ويلبس القلانس بغير عمائم ويلبس العمائم بغير قلانس.

وكان له عمامة سوداء دخل يوم فتح مكة لابسها. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «كان للنبي عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه».

وجاء أن جبريل كانت عمامته يوم غرق فرعون سوداء. ومقدار عمامته الشريفة لم يثبت في حديث. قال بعض الحفاظ أنها كانت نحو العشرة أذرع أو فوقها بيسير، وكانت له خرقة إذا توضأ تمسح بها، هذا.

وفي (سفر السعادة): لم يكن ينشف أعضاءه بعد الوضوء بمنديل ولا منشفة، وإن أحضروا له شيئا من ذلك أبعده. والحديث المروي عن عائشة رضي الله عنه: كانت له نشافة يتنشف بها بعد الوضوء. وحديث معاذ رضي الله عنه في معناه كلاهما ضعيف وقال: تنشيف الأعضاء من الوضوء لم يصح فيه حديث.

وكانت له ملحفة مورسة إذا أراد أن يدور على نسائه رشها بالماء أي لتظهر رائحتها. وكان يصبغ قميصه ورداءه وعمامته بالزعفران. أي وفي لفظ: كان يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله وعليه قميص أصفر ورداء أصفر وعمامة صفراء.

وعن ابن أبي أوفي رضي الله تعالى عنه: كان أحب الصبغ إلى رسول الله الصفرة. وقال الحافظ الدمياطي رحمه الله: ويعارض هذه الأحاديث ما روي في الصحيح أن رسول الله نهى عن المزعفر، وفي لفظ: نهى عن أن يتزعفر الرجل.

أي وقد يقال: على تقدير صحة تلك الأحاديث فهي منسوخة، أو كان ذلك من خصوصياته . وقد صح أنه اشترى السراويل. واختلف هل لبسها؟ فقيل نعم، ففي الأوسط للطبراني ومسند أبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت يوما السوق مع رسول الله فجلس إلى بزازين، فاشترى سُراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزّان، فقال له رسول الله أوزن وأرجح. وأخذ رسول الله السراويل فذهبت لأحمله عنه، فقال: «صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله إلا أن يكون ضعيفا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم. قلت يا رسول الله إنك لتلبس السراويل. قال: أجل في السفر والحضر، وبالليل وبالنهار، فإني أمرت بالستر، فلم أجد شيئا أستر منه» ومخرجه هو وشيخه ضعيفان.

وكان يقول: «اللهم توفني فقيرا ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين، وفي لفظ آخر «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة، أتتني الدنيا خضرة حلوة، ورفعت إليّ رأسها وتزينت لي، فقلت: إني لا أريدك، لا حاجة لي فيك. ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها شربة ماء» انتهى.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاويا لا يجدون عشاء.

قال: وكان يقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، الفاقة أحب إليّ من اليسار» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أرثي له من الجوع، وأقول نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنع عنك الجوع، فيقول: يا عائشة إن إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فتقدموا على ربهم، فأكرمهم وأجزل ثوابهم أخشى إن ترفعت في معيشتي أن يقصر بي دونهم، فأصبر أياما يسيرة أحب إليّ من أن ينقص حظي غدا في الأخرى، وما من شيء أحب إليّ من اللحوق بإخواني».

قال: وقال: «يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولالآل محمد. يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر، وقال: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} والله أصبرن جهدي ولا قوة إلا بالله» انتهى.

وكان يقول: «لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله» وكان على غاية من الإعراض عن الدنيا، وكان يصلي على الحصير وعلى الفروة المدبوغة، وربما نام على الحصير فأثرت في جسده الشريف.

وكان ينام على شيء أدم محشو ليفا، فقيل له في ذلك؟ فقال: «ما لي وللدنيا؟ ».

وعن عائشة رضي الله عنها: «دخلت امرأة من الأنصار فرأت ذلك الأدم». وفي لفظ رأت فراش رسول الله عباءة مثنية فانطلقت فبعثت إليه بفراش حشوة صوف، فدخل عليّ رسول الله فقال: ما هذا؟ فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت عليّ فرأت فراشك فذهبت فبعثت هذا، فقال: رديه، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: والله يا عائشة لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة».

وعنها رضي الله عنها أنها كانت تفرش تلك العباءة مثنية طاقين، ففي بعض الليالي ربعتها، فنام عليها ثم قال: «يا عائشة ما لفراشي الليلة ليس كما يكون؟ قلت: يا رسول الله ربعتها، قال: فأعيديه كما كان».

وكان إذا استجدّ ثوبا قال: «اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له». وكان يقول لأصحابه كلهم رضي الله عنهم: «إذا لبس أحدكم ثوبا فليقل الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي» قال: وكان أرجح الناس عقلا: والعقل مائة جزء: تسعة وتسعون في النبي، وجزء في سائر الناس.

وعن وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابا أنه أرجح الناس وأفضلهم رأيا. وفي رواية: وجدت في جميعها أن الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انتهائها من العقل في جنب عقله إلا كحبة بين رمال الدنيا. ومما يتفرع على العقل اقتناء الفضائل، واجتناب الرذائل، وإصابة الرأي، وجودة الفطنة وحسن السياسة والتدبير، وقد بلغ من ذلك الغاية التي لم يبلغها بشر سواه.

ومما يكاد يقضي منه العجب حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحوش الشاردة، كيف ساسهم، واحتمل جفاهم، صبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، واختاروه على أنفسهم، وقاتلوا دونه أهلهم وآباءهم وأبناءهم وهاجروا في رضاه أوطانهم انتهى، والله أعلم.


باب يذكر فيه مدة مرضه وما وقع فيه ووفاته التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين

ذكر أنه خرج إلى البقيع من جوف الليل فاستغفر لهم. فعن أبي مويهية مولى رسول الله: «أن رسول الله، قال له في جوف الليل، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، قال: فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم، قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجاكم الله منه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى، قال: ثم أقبل عليّ، وقال: يا أبا مويهية هل علمت أني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة» أي وفي رواية: «أن أبا مويهية قال له: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها، ثم الجنة. قال لا، والله يا أبا مويهية لقد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدىء بوجعه من يومه ذلك ابتدأه الصداع» أي وفي رواية «ذهب بعد ذلك إلى قتلى أحد فصلى عليهم، فرجع معصوب الرأس، فكان ذلك بدء الوجع الذي مات فيه» وفي رواية: «رجع من جنازة بالبقيع».

قالت عائشة رضي الله عنها: «لما رجع من البقيع وجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه، فقال: بل أنا وارأساه قال: لو كان ذلك وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفنك وأدفنك» وفي لفظ: «وما يضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، فقلت: واثكلاه. والله: إنك لتحب موتي، فلو كان ذلك لظللت يومك معرسا ببعض أزواجك، قالت: فتبسم رسول الله، فقال النبي : بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبيك وأخيك فأقص أمري وأعهد عهدي فلا يطمع في الدنيا طامع». وفي لفظ: «ثم قلت يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون» وفي رواية: «أنها قالت: قال لي رسول الله في مرضه: ادعي لي أباك أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ أو يقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وفي رواية: «لما ثقل رسول الله قال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه، فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم، قال: أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر».

قال ابن كثير رحمه الله: وقد خطب رسول الله خطبة بين فيها فضل الصديق رضي الله عنه من بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولعل خطبته هذه كانت عوضا عما أراد أن يكتبه في الكتاب.

وفي رواية أنه اجتمع عنده رجال، فقال: هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: أي وهو سيدنا عمر رضي الله عنه أن رسول الله قد اشتد عليه الوجع وعندكم القرآن، أي وإنما قال ذلك رضي الله عنه تخفيفا على رسول الله، فارتفعت أصواتهم، فأمرهم بالخروج من عنده.

وجاء أن العباس رضي الله عنه قال لعلي كرم الله وجهه: لا أرى رسول الله يصح من مرضه هذا فإني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، أي وفي رواية: خرج علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من عند رسول الله وهو في مرضه الذي مات فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده عمه العباس رضي الله عنهما. وقال له: والله أنت بعد ثلاث عبد العصي، وإني لا أرى رسول الله من وجعه هذا بعد ثلاث إلا ميتا، فإني رأيت في وجهه ما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله فنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال عليّ كرم الله وجهه: والله لا أسألها رسول الله . قالت عائشة رضي الله عنها: وصار يدور على نسائه فاشتدّ به المرض عند ميمونة رضي الله عنها، وقيل في بيت زينب رضي الله عنها، وقيل في بيت ريحانة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها: فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذنّ له، وفي رواية: صار يقول وهو في بيت ميمونة أين أنا غدا أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة رضي الله عنها. وفي البخاري يقول: أين أنا اليوم أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة رضي الله عنها، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة.

وفي رواية عنها أن رسول الله بعث إلى النساء في مرضه فاجتمعن، فقال: إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنّ لي فأكون في بيت عائشة فعلتن: فأذنّ له قالت: فخرج رسول الله يمشي بين رجلين من أهله معتمدا عليهما الفضل بن العباس ورجل آخر، وفي رواية بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر، وفي رواية بين أسامة ورجل آخر عاصبا رأسه الشريف تخط قدماه الأرض حتى دخل بيتي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرجل الذي لم تمسه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي فإنه كان بينها وبين عليّ ما يقع بين الأحماء، وقد صرحت بذلك لما أرادت أن تتوجه من البصرة بعد انقضاء وقعة الجمل وخرج الناس ومن جملتهم علي كرم الله وجهه لتوديعها، حيث قالت: والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال عليّ: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيننا وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وقد تقدم ذلك.

ثم غمر رسول الله واشتد به وجعه، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدناه في مخضب إناء من حجر ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم، وفي لفظ: حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن: أي وصب المياه المذكورة له دخل في دفع السم. أي فإنه صار يقول لعائشة: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أسممته بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم. فخرج رسول الله عاصبا رأسه الشريف حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، أي دعا لهم فأكثر الصلاة عليهم واستغفر لهم. ثم قال: إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده؟ فاختار ذلك العبد ما عند الله، ففهمها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعرف أن نفسه يريد. أي فبكى أبو بكر () فقال: نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فقال: «على رسلك يا أبا بكر». أي وفي رواية قال: «يا أبا بكر لا تبك، أيها الناس إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر» وهذا حديث صحيح جاء عن بضعة عشر صحابيا، ولكثرة طرقه عدّ من المتواتر.

وفي أخرى: «إن أعظم الناس عليّ منا في صحبته وذات يده أبو بكر» وفي أخرى: «فإني لا أعلم امرأ أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر».

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها. قالت: قال رسول الله: «ما من نبي يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة» أي وفي الحديث «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فإن رأيت شرا استغفرت لكم» أي وهذا بيان للثاني لاستغناء الأول عن البيان، ومعلوم أن خيرا وشرا هنا ليسا أفعل تفضيل الذي يوصل بمن حتى يلزم التناقض، بل المراد أن ذلك فضيلة، ثم قال: انظروا هذه الأبواب اللاصقة في المسجد، أي وفي لفظ: هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا باب أبي بكر. أي وفي لفظ: إلا ما كان من باب أبي بكر، فإني وجدت عليه نورا. وفي لفظ: «سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر» فإن المراد بالأبواب الخوخ؟ «فإني لا أعلم أن أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه» أي وفي لفظ: «أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر» وفي لفظ: «لا تؤذوني في صاحبي ولولا أن الله سماه صاحبا لاتخذته خليلا، ألا فسدوا كل خوخة إلا خوخة بن أبي قحافة» أي وجاء في الحديث: «لكل نبي خليل من أمته، وإن خليلي أبو بكر، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا» وفي رواية «وإن خليلي عثمان بن عفان» وجاء «لكل نبي خليل، وخليلي سعد بن معاذ».

وفي أسباب النزول للثعالبي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنه لم يكن نبي إلا وله خليل. ألا وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير «خليلي من هذه الأمة أويس القرني» ولعل هذا كان قبل أن يقول في مرض موته قبل موته بخمسة أيام «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا، لكن خلة الإسلام أفضل». وفي رواية: «ولكن أخوة الإسلام ومودته» وفي رواية: «لكن أخي وصاحبي».

وجمع بأن الأول: أي إثبات الخلة لغير الله محمول على نوع منها ونفيها عن غير الله محمول على كمالها.

ثم لا يخفى أن قوله: «ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا» يدلّ على أن مقام الخلة أرقى من مقام المحبة، وأن المحبة والخلة ليسا سواء خلافا لمن زعم ذلك.

أي ولا مانع أن يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم مما يدل على أن مقام المحبة من مقام الخلة: أي الذي يدلّ عليه ما جاء: «ألا قائل قولا غير هجر؟ إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وعند ذلك: أي إغلاق الأبواب، قال الناس: أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال النبي : قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر، وأني أرى على باب أبي بكر نورا، وأرى على أبوابكم ظلمة، لقد قلتم كذبت، وقال أبو بكر صدقت، وأمسكتم الأموال وجاد لي بماله، وخذلتموني وواساني. أي ولعل قولهم وترك باب خليله لا ينافي ما تقدم من عدم اتخاذه خليلا.

وروي أنه لما أمر بسد الأبواب إلا باب أبي بكر، قال عمر: يا رسول الله دعني أفتح كوة أنظر إليك حيث تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله : لا، وقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد يعني أبا بكر وما بالك سددت أبوب رجال في المسجد؟ فقال: يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمي. وفي لفظ: ما أنا سددتها، ولكن الله سدها.

وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله أمر بسد الأبواب إلا باب علي. قال الترمذي حديث غريب. وقال ابن الجوزي: هو موضوع وضعه الرافضة ليقابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. وجمع بعضهم بأن قصة علي متقدمة على هذا الوقت، وأن الناس كان لكل بيت بابان باب يفتح وباب يفتح خارجه إلا بيت علي كرم الله وجهه، فإنه لم يكن له إلا باب من المسجد، وليس له باب من خارج، فأمر بسد الأبواب: أي التي تفتح للمسجد. أي بتضييقها وصيرورتها خوخا إلا باب علي كرم الله وجهه، فإن عليا لم يكن له إلا باب واحد ليس له طريق غيره كما تقدم، فلم يأمر بجعله خوخة، ثم بعد ذلك أمر بسد الخوخ إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

وقول بعضهم حتى خوخة علي كرم الله وجهه، فيه نظر لما علمت أن عليا كرم الله وجهه لم يكن له إلا باب واحد، فالباب في قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس المراد به حقيقته بل الخوخة. وفي قصة علي كرم الله وجهه المراد به حقيقته.

أقول: ومما يدل على ما تقدم قصة علي كرم الله وجهه ما روي عنه قال: «أرسل رسول الله إلى أبي بكر أن سد بابك، قال: سمعا وطاعة فسد بابه، ثم أرسل إلى عمر، ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ففعلا، وأمرت الناس ففعلوا، وامتنع حمزة، فقلت: يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة، فقال: قل لحمزة فليحول بابه، فقلت: إن رسول الله يأمرك أن تحول بابك فحوله، وعند ذلك قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي، فقال: ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها» وفي رواية: «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب عليّ ولكن الله فتح باب عليّ وسد أبوابكم».

وجاء أنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيكم قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكني أمرت بشيء فاتبعته، إنما أنا عبد مأمور ما أمرت به فعلت {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ} ومعلوم أن حمزة رضي الله تعالى عنه قتل يوم أحد، فقصة علي كرم الله وجهه متقدمة جدا على قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

وعلى كون المراد بسد الأبواب تضييقها وجعلها خوخا يشكل ما جاء: «أمر رسول الله بسد الأبواب كلها غير باب علي، فقال العباس: يا رسول الله قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج، قال: ما أمرت بشيء من ذلك، فسدها كلها غير باب علي» فعلى تقدير صحة ذلك يحتاج إلى الجواب عنه، وعلى هذا الجميع يلزم أن يكون باب علي كرم الله وجهه استمر مفتوحا في المسجد مع خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لما علم أنه لم يكن لعلي باب آخر من غير المسجد.

وحينئذ قد توقف في قول بعضهم في سد الخوخ إلا خوخة أبي بكر إشارة إلى استحلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلى المسجد كثيرا دون غيره، لكن في تاريخ ابن كثير رحمه الله: وهذا: أي سد جميع الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب عليّ لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره في مرض الموت بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب أبي بكر، لأن في حال حياته كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها تحتاج إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها فأبقى باب عليّ كرم الله وجهه لذلك رفقا بها، وأما بعد وفاته فزالت هذه العلة فاحتيج إلى فتح باب الصديق رضي الله تعالى عنه لأجل خروجه إلى المسجد ليصلي بالمسلمين، لأنه الخليفة بعده عليه الصلاة والسلام هذا كلامه. وهو يفيد أن باب علي كرم الله وجهه سد مع سد الخوخ ولم يبق إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وجعل لبيت علي كرم الله وجهه باب من الخارج.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله لعلي: «يا علي لا يحل لأحد جنب مكث في المسجد غيري وغيرك».

وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: «أنها قالت: خرج رسول الله في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد، فنادى بأعلى صوته إنه لا يحلّ المسجد لجنب ولا لحائض إلا لمحمد وأزواجه وعليّ وفاطمة بنت محمد، ألا هل بينت لكم أن لا تضلوا» قال الحافظ ابن كثير: وهذا أي الثاني إسناده غريب وفيه ضعف هذا كلامه، والمراد المكث في المسجد لا المرور به والاستطراق منه فإن ذلك لكل أحد.

ثم رأيت الحافظ السيوطي رحمه الله أشار إلى ذلك، وذكر أن مثل علي كرم الله وجهه فيما ذكر ولداه الحسن والحسين حيث قال: وكذا علي بن أبي طالب والحسن والحسين اختصوا بجواز المكث في المسجد مع الجنابة والله أعلم، ثم قال: «يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا إنهم كانوا عيبتي التي أويت إليهم، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم نزل رسول الله ».

وروي أنه قال في خطبته هذه: «أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم أدع الله له، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لنؤوم، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ويحك أيها الرجل، لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فقال رسول الله : يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا، وأذهب عنه النوم إذا شاء».

قال ابن كثير: في إسناده ومتنه غرابة شديدة. وأمر في مرضه أبا بكر أن يصلي بالناس، قال: وكانت تلك الصلاة صلاة العشاء، وقد أذن بلال، وقال ضعوا لي ماء في المخضب: أي وهو شبه الإجانة من نحاس، فاغتسل فيه، أي وهذا مع ما سبق يدل على أنه كان له مخضب من حجر ومخضب من نحاس.

ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك، أي وعند ذلك قال ضعوا إلي ماء في المخضب، فاغتسل ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب فاغتسل، ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس ملمومة في المسجد ينتظرون النبي لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال له: إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس، فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لعمر: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أنت أحق بذلك.

وفي رواية: «أن بلالا رضي الله تعالى عنه دخل عليه فقال: الصلاة يا رسول الله، فقال: لا أستطيع الصلاة خارجا، ومر عمر بن الخطاب فليصل، بالناس، فخرج بلال رضي الله تعالى عنه وهو يبكي، فقال له المسلمون: ما وراءك يا بلال؟ فقال: إن رسول الله لا يستطيع الصلاة خارجا، فبكوا بكاء شديدا، وقال لعمر: إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم بين يدي أبي بكر أبدا، فأدخل على نبي الله فأخبره أن أبا بكر على الباب، فدخل عليه بلال رضي الله عنه تعالى فأخبره بذلك، فقال: نعم ما رأى، مر أبا بكر فليصل بالناس، فخرج إلى أبي بكر فأمره أن يصلي فصلى بالناس.

وفي رواية فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت: إن أبا بكر رجل أسيف: أي رقيق القلب إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فعاودته، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة، فقال رسول الله لحفصة: مه إنكن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام». وفي لفظ: «إنكن لأنتن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام» فقالت حفصة رضي الله تعالى عنها لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا ومروا أبا بكر فليصل بالناس»: أي مثل صاحبة يوسف عليه الصلاة والسلام وهي زليخا أظهرت خلاف ما تبطن، وظهرت للنساء اللاتي جمعتهن أنها تريد إكرامهن بالضيافة، وإنما قصدها أن ينظرن لحسن يوسف عليه الصلاة والسلام فيعذرنها في حبه والنبي فهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تظهر كراهة ذلك مع محبتها له باطنا هكذا يقتضيه ظاهر اللفظ.

والمنقول عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها إنما قصدت بذلك خوف أن يتشاءم الناس أبا بكر فيكرهونه حيث قام مقامه، فقد جاء عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما حملني على كثرة مراجعتي له إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس منه.

وفي رواية: «إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم لما رأوا رسول الله يزداد وجعا طافوا بالمسجد وأشفقوا من موته، فدخل عليه الفضل رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه علي كرم الله وجهه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه العباس رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، فخرج النبي متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبي معصوب الرأس يخط برجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا وإني لاحق بربي وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم بخير، فإن الله يقول: {والعصر إن الإنسان لفي خسر} السورة وإن الأمور تجري بإذن الله، ولا يحملكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله ﷿ لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار، ألم يؤثروكم على أنفسكم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا فإني فرطكم وأنتم لاحقوني بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليّ غدا فليكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي: أيها الناس إن الذنوب تغير النعم، فإذا بر الناس برتهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوا أئمتهم» وفي الحديث: «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم».

وقد أشار إلى خيرية الموت بأنه فرط، فخير صفة لا أفعل تفضيل حتى يشكل بأنه يقتضي أن حياتي خير لكم من مماتي ومماتي خير لكم من حياتي كما مر، ثم لا زال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس سبع عشرة صلاة، وصلى النبي مؤتما به ركعة ثانية من صلاة الصبح، ثم قضى الركعة الثانية: أي أتى بها منفردا.

وقال: «لم يقبض نبي حتى يؤمه رجل من قومه» أي وقد قال ذلك لما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف كما تقدم في تبوك.

قال: وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله وجد خفة.

أي وأبو بكر في الصلاة. فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنب أبي بكر عن يساره. وفي رواية عن يمينه، وأنه دفع في ظهر أبي بكر وقال: صل بالناس أي ومنعه من التأخر، فجعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي قائما كبقية الصحابة ورسول الله يصلي قاعدا انتهى.

وهذا صريح في أنه مقتديا بأبي بكر رضي الله تعالى عنه. وحينئذ لا يحسن التفريع على ذلك بما جاء في لفظ: فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي وهو قائم بصلاة النبي . وفي لفظ: يأتم بصلاة النبي والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفي لفظ: يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله والناس يقتدون بصلاة أبي بكر، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم صلوا خلف أبي بكر وأبو بكر يصلي خلف النبي، وصار يسمع الصحابة التكبير، وقد بوب البخاري على ذلك: «باب من أسمع الناس تكبير الإمام»، وقال بعد ذلك «باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم» فإن منعه أبا بكر رضي الله تعالى عنه من التأخر مع صلاته على يسار أبي بكر أو على يمينه يدل على أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يقتد بالنبي بل استمر إماما، إذ لا يجوز عندنا أن يقتدي أبو بكر بالنبي مع تقدم أبي بكر عليه في الموقف. وحينئذ يخالف ذلك قول فقهائنا إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اقتدوا برسول الله بعد اقتدائهم بأبي بكر، وجعلوه دليلا على جواز الصلاة بإمامين على التعاقب إذ لا يحسن ذلك إلا أن يكون أبو بكر رضي الله تعالى عنه تأخر ونوى الاقتداء به . إلا أن يقال يجوز أن تكون صلاته خلف أبي بكر تكررت، ففي مرة منعه من التأخر واقتدى به، وفي مرة تأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن موقفه، واقتدى بالنبي، واقتدى الناس بالنبي بعد اقتدائهم بأبي بكر، وصار أبو بكر يسمع الناس التكبير، ولا ينافي ذلك قول البخاري الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم، لجواز أن يكون المراد يقتدون ويتبعون تكبير المأموم، ثم رأيت الترمذي رحمه الله تعالى صرح بتعدد صلاته خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه حيث قال: ثبت أنه صلى خلف أبي بكر مقتديا به في مرضه الذي مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية، هذا كلامه.

وبه يردّ قول البيهقي رحمه الله: والذي دلت عليه الروايات أن النبي صلى خلفه في تلك الأيام التي كان يصلي بالناس فيها مرة، وصلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه خلفه مرة، وقال في مرضه ذلك يوما لعبد الله بن زمعة بن الأسود: مر الناس فليصلوا: أي صلاة الصبح. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه غائبا، فقدّم عبدُ الله عمرَ رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس، فلما يمع رسول الله صوته أخرج رأسه الشريف حتى أطلعه للناس من حجرته، ثم قال: لا، لا، لا، ثلاث مرات، ليصلّ بهم ابن أبي قحافة، فانتفضت الصفوف، وانصرف عمر رضي الله تعالى عنه: أي من الصلاة، فما برح القوم حتى طلع ابن أبي قحافة فتقدم وصلى بالناس الصبح. وفي رواية أنه لما سمع صوت عمر رضي الله تعالى عنه قال: أليس هذا صوت عمر؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: يأبى الله ذلك والمؤمنون. وفي لفظ: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، قال ذلك ثلاثا. قال في السيرة الهشامية: فبعث إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر رضي الله تعالى عنه تلك الصلاة فصلى بالناس.

وقد يقال: المراد بصلى عمر تلك الصلاة نوى تلك الصلاة ودخل فيها، فلا يخالف ما تقدم من انتقاض الصفوف، وانصراف عمر رضي الله تعالى عنه من الصلاة. وقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن زمعة: ويحك ماذا صنعت يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرك بهذا، فقال عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه: ما أمرني رسول الله بذلك، ولكن حيث لم أر أبا بكر ورأيتك أحق من حضر بالصلاة، وفي آخر يوم أخرج رسول الله رأسه من الستارة والناس خلف أبي بكر، فأراد الناس أن ينحرفوا فأشار إليهم أن امكثوا، وتبسم رسول الله لما رأى من هيئة المسلمين في صلاتهم سرورا منه بذلك، وذلك يوم الاثنين يوم موته ثم ألقى الستارة.

وفي السيرة الهشامية: لما كان يوم الاثنين قبض الله تبارك وتعالى فيه رسول الله، وخرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر وفتح الباب، فخرج رسول الله، فقام على باب عائشة رضي الله تعالى عنها، فكاد المسلمون يقتتلون في صلاتهم برسول الله حين رأوه فرحا به، فأشار إليهم: أن اثبتوا على صلاتكم، ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أنّ رسول الله قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، وفيها في رواية أنه لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله عاصبا رأسه إلى صلاة الصبح أبو بكر يصلي بالناس، فلما خرج رسول الله فرح الناس، فعرف أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن الناس لم يصيبوا ذلك إلا لرسول الله، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله في ظهره، وقال: صل بالناس وجلس رسول الله إلى جنبه على يمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه فصلى قاعدا، فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس رافعا صوته حتى خرج من باب المسجد يقول: «أيها الناس سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، إني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحل إلا ما حل القرآن ولم أحل إلا ما حرم القرآن».

ولما فرغ رسول الله من كلامه، قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله قد أراك أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قال نعم، ثم دخل، وخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، فتوفي رسول الله حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات. وقد أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يصلي بالناس قبل مرضه، فإنه خرج إلى قباء بعد أن صلى الظهر وقد وقع بين ظائفتين من بني عمرو بن عوف تشاجر حتى تراموا بالحجارة ليصلح بينهم، فقال لبلال رضي الله تعالى عنه: إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصلّ بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال، ثم أقام ثم أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه فتقدم وصلى بالناس، فجاء رسول الله يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر فصفح الناس: أي صفقوا، فلما كثر ذلك التفت أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فرأى رسول الله خلفه فأراد التأخر، فأومأ إليه أن يكون على حاله، وتقدم رسول الله فصلى بالناس، فلما قضى رسول الله صلاته؟ قال: يا أبا بكر ما يمنعك إذ أومأت إليك أن لا تكون ثبتّ، فقال أبو بكر: يا رسول الله لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله، فقال للناس: إذا نابكم في صلاتكم شيء فلتسبح الرجال ولتصفق النساء.

وهذا استدل به القاضي عياض رحمه الله على أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه، لأنه لا يصلح للتقدم بين يديه في الصلاة ولا في غيرها لا لعذر ولا لغيره.

وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعا له: وقد قال «أئمتكم شفعاؤكم» وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ركعة، وسيأتي الجواب عن ذلك، ولعل هذه المرة كانت في اليوم الذي توفي فيه .

فقد جاء أنه صلى بالناس الغداة، ورأى المسلمون أنه قد برىء ففرحوا فرحا شديدا، ثم جلس في مصلاه يحدثهم حتى أضحى، ثم قام إلى بيته فلم يتفرق الناس من مجلسهم حتى سمعوا صياح الناس، وهبّ يقلب الماء ظنا أنه غشي عليه وابتدر المسلمون الباب فسبقهم العباس رضي الله تعالى عنه، فدخل وأغلق الباب دونهم. فلم يلبث أن خرج إليهم فنعى رسول الله . فقالوا: يا عباس ما أدركت منه؟ فقال: أدركته وهو يقول: جلال ربي الرفيع، قد بلغت، ثم قضى، فكان هذا آخر شيء تكلم به رسول الله، ثم رأيته في الإمتاع نقل هذا القول الذي قدمته عن البيهقي.

وذكر في رواية أخرى: لم يزل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس حتى كانت ليلة الاثنين، فأقلع عن رسول الله الوعك وأصبح مفيقا، فعمد إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل وعلى غلام له يدعى ثوبان، ورسول الله بينهما، وقد شهد الناس مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ركعة من صلاة الصبح، وقام ليأتي بالركعة الأخرى، فجاء إليه رسول الله والناس ينفرجون له حتى قام إلى جنب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فاستأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله، فأخذ رسول الله بثوبه فقدمه في مصلاه وجلس، فلما فرغ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من صلاته أتمّ رسول الله الركعة الأخيرة. ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد فجلس إلى ذلك الجذع، واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية ثم قام فدخل إلى بيت عائشة، ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال: الحمد لله قد أصبح رسول الله معافى، وأرجو أن يكون الله ﷿ قد شفاه، ثم ركب رضي الله تعالى عنه فلحق بأهله بالسنح، وانقلبت كل امرأة من نسائه إلى بيتها، فلما دخل اشتد عليه الوعك، فرجع إليه من كان ذهب من نسائه، وأخذ في الموت فصار يغمى عليه ثم يفيق ويشخص بصره إلى السماء، فيقول في الرفيق الأعلى الإله، وكان عنده وقد اشتد به الأمر قدح فيه ماء. وفي لفظ بدل قدح علباء. وفي لفظ ركوة فيها ماء، فلما اشتد عليه الأمر صار يدخل يده الشريفة في القدح ثم يمسح وجهه الشريف بالماء ويقول: اللهم أعنى على سكرات الموت: أي غمراته.

وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها: «صار لما يغشاه الكرب وتقول واكرب أبتاه يقول لها رسول الله : ليس على أبيك كرب بعد اليوم».

أقول: وجاء: «أنه قال: واكرباه، وقال: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرة الموت» وفي رواية: «اللهم أعني على كرب الموت» والحكمة في ذلك، أي فيما شوهد من شدة ما لقي من الكرب عند الموت تسلية أمته إذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك عند الموت. ومن ثم قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد رسول الله وفي رواية: لا أزال أغبط المؤمن بشدة الموت بعد شدته على رسول الله وليحصل لمن شاهده من أهله وغيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم من المشقة عليه كما قيل بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال عند الموت من الكرب الشديد.

ثم رأيت الأستاذ الأعظم الشيخ محمد البكري رحمه الله ونفعنا به سئل عن ذلك. فأجاب بأجوبة منها هذا الذي ذكرته. ومنها أن مزاجه الشريف كان أعدل الأمزجة فإحساسه بالألم أكثر من غيره.

ومن ثم قال: إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم، ولأنّ تشبت الحياة الإنسانية ببدنه الشريف أقوى من تشبثها ببدن غيره لأنه أصل الموجودات كلها أي كما تقدم. أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشدّ منه على رسول الله، وقال في مرضه: «ليس أحد أشد بلاء من الأنبياء. كان النبي من أنبياء الله يسلط عليه القمل حتى يقتله. وكان النبي ليعرى حتى ما يجد ثوبا يوارى به عورته إلا العباءة يدرعها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء».

وقال: «ما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة» وقال: «ليس من عبد مسلم يصيبه أذى فما سواه إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها» وفي لفظ: «لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة فما قوقها إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن النبي جعل يشتكي ويتقلب على فراشه. وكان يعوّذ بهذه الكلمات إذا اشتكى أحد من الناس منه «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما فلما ثقل على رسول الله مرضه الذي مات فيه أخذت بيده اليمنى وجعلت أمسحه بها فأعوذه بتلك الكلمات، فانتزع يده الشريفة من يدي وقال: اللهم اغفر لي، واجعلني في الرفيق الأعلى مرتين».

وفي رواية: «لم يشتك شكوى إلا سأل الله العافية» حتى كان مرضه الذي مات فيه فإنه لم يكن يدعو بالشفاء، وطفق يقول: يا نفس ما لك تلوذين كل ملاذ.

أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: دخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ومعه سواك يستن به: أي من عسيب النخل، وكان أحب السواك إلى رسول الله ضريع الأراك: وهو قضيب يلتوي من الإراكة حتى يبلغ التراب فيبقى في ظلها فهو ألين من فرعها فنظر إليه رسول الله، فعرفت أنه يريده لأنه كان يحب السواك، فقلت، آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فقضمته ثم مضغته. وفي رواية: فتناولته وناولته إياه فاشتد عليه، فقلت ألينه لك؟ فأشار برأسه نعم، فلينته، فأعطيته رسول الله، فاستن به وهو مستند إلى صدري. وكانت رضي الله تعالى عنها تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله توفي وهو في بيتي وبين سحري ونحري: أي والسحر: الرئة. وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. وفي رواية: فجمع الله بين رقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة.

وجاء أنهم لددوه في هذا المرض: أي سقوه لدودا من أحد جانبي فمه، وجعل يشير إليهم وهو مغمى عليه أن لا يفعلوا به وهم يظنون أن الحامل له ذلك كراهة المريض للدواء، فلما أفاق قال، ألم أنهكم أن تلدوني لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظره إلا العباس فإنه لم يشهدكم، وهذا رد عليهم، فإنه قد جاء أنهم قالوا له: عمك العباس أمر بذلك ولم يكن له في ذلك رأي، إنما قالوا ذلك تعللا وخوفا منه، قالوا وتخوفنا أن يكون ذات الجنب، فإن الخاصرة أي وهو عرق في الكلية إذا تحرك وجع صاحبه، كانت تأخذ رسول الله، فأخذته ذلك اليوم فأغمي عليه حتى ظنوا أنه قد هلك فلددوه: أي لددته أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها، فلما أفاق وأراد أن يلدد من في البيت لدد جميع من في البيت حتى ميمونة رضي الله تعالى عنها وكانت صائمة، هذا.

وفي رواية أنه لما اشتد عليه المرض دخل عمه العباس رضي الله عنه وقد أغمي عليه، فقال لأزواج النبي لو لددتنه. فلن إنا لا نجترىء على ذلك، فأخذ العباس يلدده، فأفاق رسول الله، فقال: من لدني، فقد أقسمت ليلددن إلا أن يكون العباس، فإنكم لددتموني وأنا صائم، قلن فإن العباس هو قد لدك، وقالت له أسماء بنت عميس رضي الله عنها، إنما فعلنا ذلك ظننا أن بك يا رسول الله ذات الجنب، فقال لها: إن ذلك لداء ما كان الله ليعذبني به. وفي رواية: «أنا أكرم على الله من أن يعذبني بها» وفي أخرى «إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطها عليّ».

قال بعضهم: وهذا يدل على أنها من سيء الأسقام التي استعاذ منها بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام وسيء الأسقام».

وفي السيرة الهشامية: لما أغمي عليه اجتمع عليه نساء من نسائه منهم أم سلمة وميمونة، ومن نساء المؤمنين منهم أسماء بنت عميس، وعنده العباس عمه، واجتمعوا على أن فلددوه، فلما أفاق قال: من صنع هذا بي؟ قالوا يا رسول الله عمك، فقال عمه العباس رضي الله تعالى عنه: حسبنا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إن ذلك داء ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي، فلدوا حتى ميمونة، وكانت رضي الله تعالى عنها صائمة عقوبة لهم بما صنعوا.

وأعتق رسول الله في مرضه هذا أربعين نفسا، وكانت عنده سبعة دنانير أو ستة، فأمر عائشة رضي الله عنها أن تتصدق بها بعد أن وضعها في كفه وقال: ما ظن محمد بربه، أن لو لقي الله وهذه عنده فتصدقت بها.

وفي رواية: أمرها بإرسالها إلى علي كرم الله وجهه ليتصدق بها، فبعثت بها إليه فتصدق بها بعد أن وضعها في كفه، وقد كان العباس رضي الله عنه قبل ذلك بيسير رأى أن القمر قد رفع من الأرض إلى السماء، فقصها على النبي، فقال له ابن أخيك.

وجاءه جبريل صحبة ملك الموت وقال له: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، قال: فاقبض يا ملك الموت كما أمرت. فتوفي رسول الله . وفي لفظ: أتاه جبريل ، فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك تكريما لك وتشريفا، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموما وأجدني يا جبريل مكروبا، ثم جاء اليوم الثاني والثالث، فقال له ذلك، فردّ عليه بمثل ذلك، وجاء معه في اليوم الثالث ملك الموت، فقال له جبريل : هذا ملك الموت يستأذن عليك، ما استأذن على أحد قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، أتاذن له فأذن له فدخل فسلم عليه، ثم قال: يا محمد إن الله أرسلني إليك، فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أترك تركت، قال: أو تفعل؟ قال: نعم وبذلك أمرت، فنظر النبي لجبريل ، فقال له: يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك، أي وفي رواية: أتاه جبريل ، فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ورحمة الله، ويقول لك: إن شئت شفيتك وكفيتك، وإن شئت توفيتك وغفرت لك، قال: ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء.

وفي رواية: الخلد في الدنيا ثم في الجنة أحب إليك أم لقاء ربك، ثم الجنة؟ فقال رسول الله : لقاء ربي ثم الجنة.

أي وجاء جبريل قال: هذا آخر وطىء بالأرض، وفي لفظ آخر عهدي بالأرض بعدك، ولي أهبط إلى الأرض لأحد بعدك. قال الحافظ السيوطي رحمه الله: هو حديث ضعيف جدا، ولو صح لم يكن فيه معارضة، أي لما ورد أنه ينزل ليلة القدر مع الملائكة يصلون على كل قائم وقاعد يذكر الله لأنه يحمل على أنه آخر نزوله بالوحي.

وفيه أنه ذكر أن حديث: يوحي الله إلى عيسى أي بعد قتله الدجال صريح في أنه يوحى إليه بعد النزول. والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل ، بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته لأنه السفير بين الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فقال رسول الله لملك الموت: امض لما أمرت به فقبض روحه الشريفة، وعند اشتداد الأمر به أرسلت عائشة رضي الله عنها خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه كما تقدم لما رأى رسول الله مفيقا وقال له قد رد الله بك علينا عقولنا، وقد أصبحت بنعمة من الله وفضل فقال له أبو بكر: يا رسول الله اليوم يوم بنت خارجة يعني زوجته وكانت بالسنح، قال له: ائت أهلك، فقام أبو بكر وذهب وأرسلت حفصة خلف عمر وأرسلت فاطمة خلف علي كرم الله وجهه فلم يجىء أحد منهم حتى توفي رسول الله وهو في صدر عائشة، وذلك يوم الاثنين حين زاغت الشمس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول هكذا ذكر بعضهم.

وقال السهيلي: لا يصح أن يكون وفاته يوم الاثنين إلا في ثالث عشرة أو رابع عشرة لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة كانت يوم الجمعة وهو تاسع ذي الحجة وكان المحرم أما بالجمعة وإما بالسبت، فإن كان السبت فيكون أول صفر إما الأحد أو الاثنين فعلى هذا لا يكون الثاني عشر من ربيع الأول بوجه. وقال الكلبي: إنه توفي في الثاني من شهر ربيع الأول. قال الطبري: وهذا القول وإن كان خلاف الجمهور فلا يبعد إن كانت الثلاثة أشهر التي قبلها كلها تسعة وعشرين يوما، وفيما قاله نظر لمتابعة أنس بن مالك فيما حكاه البيهقي والواقدي.

وقال الخوارزمي: توفي أول شهر من ربيع الأول، وفي رواية إن سالم بن عبيد ذهب وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله، ولا يخالف ما قبله لأنه يجوز أن يكون ذلك ذهب إلى الصديق بعد الرسول الذي أرسلته له عائشة رضي الله عنها قبل موته . وآخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله يترغرغ بها في صدره ولا يفيض بها لسانه. وآخر ما عهد به رسول الله «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وكانت مدة شكواه ثلاث عشرة ليلة، وقيل أربع عشرة ليلة، وقيل اثنتي عشرة ليلة، وقيل عشرا، وقيل ثمانية.

وقالت فاطمة رضي الله عنها لما توفي رسول الله : وا أبتاه أجاب داع دعاه، يا أبتاه الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.

قال ابن كثير رحمه الله: وهذا لا يعد نياحة بل هو من ذكر فضائل الحق عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام؟ قال: وإنما قلنا ذلك لأن رسول الله نهى عن النياحة.

وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت من سفاهة رأيي وحداثة سني أني أخذت وسادة فوسدت بها رأسه الشريف من حجري، ثم قمت مع النساء أبكي وأنتدم، والانتدام: ضرب الخد باليد عند المصيبة.

وسمعوا قائلا ولا يرون شخصه، يقال إنه الخضر أي قال علي كرم الله وجهه أتدرون من هذا؟ هذا الخضر ، وفي إسناده متروك يقول: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا عن كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قال ابن كثير رحمه الله: هذا الحديث مرسل وفي إسناده ضعف. وسجي بثوب حبرة أي بالإضافة: برد من برود اليمن، ولم أقف على أن ثيابه التي كانت عليه قبل الموت نزعت عنه ثم سجي، إلا أن كلام فقهائنا يشعر بذلك، حيث جعلوا ذلك دليلا لنزع ثياب الميت وستره بثوب.

وعند ذلك دهش الناس وطاشت عقولهم واختلفت أحوالهم، فأما عمر رضي الله تعالى عنه فخبل، وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأخرس، وأما علي كرم الله وجهه فأقعد: وجاء أبو بكر وعيناه تهملان، فقبل النبي فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، وتكلم كلاما بليغا سكن به نفوس المسلمين وثبت جأشهم.

أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه صار في ناحية المسجد يقول: والله مات رسول الله، ولا يموت رسول الله حتى يقطع أيدي ناس من المنافقين كثير وأرجلهم، وصار رضي الله عنه يتوعد من قال إنه مات، بالقتل أو القطع.

ونقل عنه رضي الله عنه أنه قال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله مات، ولكن ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، ثم رجع إلى قومه بعد أربعين ليلة بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، ولا زال رضي الله عنه يتوعد المنافقين حتى أزبد شدقاه.

فقام أبو بكر رضي الله عنه وصعد المنبر وقال كلاما بليغا. ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} فقال عمر رضي الله عنه: هذه الآية في القرآن. وفي لفظ: فكأني لم أسمع بها في كتاب الله تعالى قبل الآن لما نزل. ثم قال: {إنا لله وإنا إليه راجعون} صلوات الله وسلامه على رسوله، وعند الله نحتسب رسوله، قال: يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وقال الله تعالى لمحمد {إنك ميت وإنهم ميتون}، وقال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}. وقال تعالى: {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}، وقال تعالى {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة}، فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة كما سيأتي أقبلوا على جهاز رسول الله، واختلفوا هل يغسل في ثيابه أو يجرد منها كما تجرد الموتى، فألقى الله عليهم النوم وسمعوا من ناحية البيت قائلا يقول: لا تغسلوه فإنه كان طاهرا، فقال أهل البيت صدق فلا تغسلوه، فقال العباس رضي الله عنه لا ندع سنة لصوت لا ندري ما هو، فغشيهم النعاس ثانية، فناداهم أن غسلوه وعليه ثيابه، أي وزاد في رواية: «فإن ذلك إبليس وأنا الخضر» وفي رواية: «لا تنزعوا عن رسول الله قميصه» قال الذهبي حديث منكر، فقاموا الى رسول الله فغسلوه وعليه قميصه، وفي لفظ وعليه قميص ومحول مفتوح يصبون عليه الماء ويدلكونه والقميص دون أيديهم عليّ والعباس وكذا ولدا العباس الفضل وقثم، فكان العباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه مع عليّ، وفي لفظ: «غسله علي والفضل» محتضنه والعباس يصب الماء وجعل الفضل رضي الله عنه يقول: أرحني قطعت وتيني، وأسامة وشقران مولاه، وفي لفظ: «وصالح مولاه يصبان الماء، ولف عليّ كرم الله وجهه على يده خرقة وأدخلها تحت القميص يغسل بها جسده الشريف».

وعن علي كرم الله وجهه: ذهبت ألتمس منه ما يلتمس من الميت: أي ما يخرج من بطن الميت فلم أر شيئا، فكان طيبا حيا وميتا، وما تناولت منه عضوا إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلا: أي ويحتاج إلى الجمع بين هذا، وما تقدم عن الفضل رضي الله عنه.

قيل وتغسيل علي كرم الله وجهه له كان بوصية منه له. فعن علي كرم الله وجهه، إن رسول الله أوصاني أن لا يغسله أحد غيري وقال: لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه غيرك، أي على فرض وقوع ذلك فلا ينافي ما تقدم، وادعى الذهبي أن هذا الحديث منكر. وفي رواية: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، وأعينهما معصوبة. وفي لفظ: مكان العباس وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، لأن العباس رضي الله عنه نصب على رسول الله كلة: أي خيمة رفيعة من ثياب يمانية في جوف البيت وأدخل عليا فيها، زاد بعضهم: والفضل وأبا سفيان بن الحارث ابن عمه .

ونصب الكلة دليل لقول فقهائنا رحمه الله: والأكمل وضع الميت عند الغسل بموضع خال من الناس مستور عنهم لا يدخله إلا الغاسل ومن يعينه. والذي رواه ابن ماجه رحمه الله أنه تولى غسله علي والفضل، وأسامة بن زيد يناول الماء، والعباس واقف: أي لا يغسل ولا يناول الماء: أي ويحتاج للجمع بين هذه الروايات.

وقيل إن العباس لم يشاهد غسله، وعن علي رضي الله عنه: لما غسلت النبي اجتمع ماء في حقويه فرفعته بلساني وازدردته فأورثني ذلك قوة حفظي.

ويروى أنه كرم الله وجهه، رأى في عينه قذاة فأدخل لسانه فأخرجها منها.

وعن عائشة رضي الله عنها: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه: أي لو ظهر لها قولها المذكور وقت غسله ما غسله إلا نساؤه، وغسل ثلاث غسلات: واحدة بالماء القراح، وواحدة بالماء والسدر، أي والغسلة التي كانت بالماء القراح كانت قبل الغسلة التي بالسدر فهي المزيلة وواحدة بالماء مع الكافور، أي وهذه هي المجزئة في الغسل هذا.

وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: وغسل في المرة الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالماء والسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور.

وفي لفظ: فغسلوه بالماء القراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله، وغسل من ماء بئر غرس وهي بئر بقباء، قال: «نعم البئر بئر غرس هي من عيون الجنة وماؤها أطيب الماء» وكان يشرب منها، ويؤتى له بالماء منها.

وعند ابن ماجه رحمه الله، قال لعلي كرم الله وجهه: «إذا أنا مت فاغسلني بسبع من بئري بئر غرس».

وكفن بثلاثة أثواب سحولية: أي بيض من القطن، من عمل سحولة: قرية من قرى اليمن، وفي رواية الشيخين عنها: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، قيل إزار ورداء ولفافة، وقوله ليس فيها قميص ولا عمامة: أي ولم يكن في كفنه ذلك كما فسر بذلك إمامنا الشافعي رحمه الله وجمهور العلماء، قال بعضهم: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث.

وما قيل إن معناه أن القميص والعمامة زائدان على الأثواب الثلاثة ليس في محله، لأنه لم يثبت أنه كفن في قميص وعمامة، وهذا يدل على أنه نزع عنه القميص الذي غسل فيه قبل تكفينه في الأثواب الثلاثة.

وقيل كفن في ذلك الثوب بعد عصره. وفيه أنه لا يخلو عن الرطوبة وهي تفسد الأكفان. ويؤيد كونه كفن في ذلك الثوب ما جاء في رواية: «كفن في ثوبه الذي مات فيه وحلّة نجرانية» والحلة: ثوب فوق ثوب، قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفي كلام بعضهم أنه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به.

وفي رواية أنه كفن في الأثواب الثلاثة المتقدمة وزيادة برد حبرة أحمر.

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أتي بالبرد ولفوه فيه ولكنهم ردوه، أي ثم نزع عنه ولم يكفنوه فيه، وفي رواية: ثوبين وبرد أحمر، وهذا يخالف ما عليه أئمتنا أن من كفن في ثلاثة أثواب يجب أن تكون لفائف يستر كل منها جميع البدن. وفي رواية كفن في سبعة أثواب.

وبعد تكفينه وذلك يوم الثلاثاء وضع على سرير، وفي لفظ: ثم أدرج في أكفانه وجمروه عودا وندا، ثم احتملوه حتى وضعوه على سرير وسجوه.

وذكر أنه كان عند علي كرم الله وجهه مسك، وقال إنه من فضل حنوط رسول الله .

وصلى عليه الناس أفذاذا لم يؤمهم أحد، وفي لفظ: لما أدرج في أكفانه وضع على سريره ثم وضع على شفير حفرته ثم صار الناس يدخلون عليه رفقاء رفقاء لا يؤمهم أحد.

وذكر أنه دخل عليه أبو بكر وعمر ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت، فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والأنصار كما سلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، ثم صفوا صفوفا لا يؤمهم أحد، وكان أبو بكر وعمر في الصف الأول الذي حيال رسول الله، فقالا اللهم إنا نشهد أنه قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، فاجعلنا إلهنا ممن تبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبتغي بالإيمان به بدلا ولا نشتري به ثمنا أبدا، فيقول الناس آمين آمين، وهذا يدل على أنه المراد بالصلاة عليه الدعاء لا الصلاة على الجنازة المعروفة عندهم، والصحيح أن هذا الدعاء كان ضمن الصلاة المعروفة التي بأربع تكبيرات.

فقد جاء أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليه فكبر أربع تكبيرات ثم دخل عمر رضي الله عنه فكبر أربعا، ثم دخل عثمان رضي الله عنه فكبر أربعا، ثم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما، ثم تتابع الناس أرسالا يكبرون عليه، أي وعلى هذا إنما خصوا الدعاء بالذكر لأنه الذي لا يليق به، ومن ثم استشاروا كيف يدعون له فأشير بمثل ذلك.

قال: وقال ابن كثير رحمه الله: وهذا الأمر: أي صلاتهم عليه فرادى من غير إمام يؤمهم مجمع عليه. ولا يقال لأن المسلمين لم يكن لهم حينئذ إما لأنهم لم يشرعوا في تجهيزه عليه الصلاة والسلام إلا بعد تمام البيعة لأبي بكر رضي الله عنه لأنه لما تحقق موته، واجتمع غالب المهاجرين على أبي بكر وعمر وانضم إليهم من الأنصار أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ومن معه من الأوس، وتخلف علي والزبير، أي ومن كان معهما من المهاجرين كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها وتخلف الأنصار بأجمعهم واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، أي وفي دار سعد بن عبادة وكان سعد مريضا مزملا بثيابه بينهم: أي اجتمعوا أولا ثم تفرق عنهم أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من الأوس.

فلا يخالف ذلك ما تقدم من انضمام أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين رضي الله عنهم مع أبي بكر رضي الله عنه، ولا يخالف ذلك ما في بعض الروايات عن عمر رضي الله عنه وتخلف الأنصار عنا بأجمعهم في سقيفة بني ساعدة.

واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه إلا عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة رضي الله عنها، فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. أي فإنه أتاهم آت، فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم.

أي فعن عمر رضي الله عنه: «بينا نحن في بيت رسول الله إذا رجل ينادي من وراء الجدران اخرج إليّ يابن الخطاب، فقلت: إليك عني فأنا عنك متشاغل، يعني بأمر رسول الله، فقال: إنه قد حدث أمر، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون فيه حرب.

قال: فانطلقنا نؤمهم: أي نقصدهم حتى رأينا رجلين صالحين، أي وهما عويمر بن ساعدة ومعدة بن عدي وهما من الأوس، قالا: أي تريدون؟ فقلت: نريد إخواننا من الأنصار فقالا: لا عليكم أن تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين بينكم. فقلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا إنه وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد ذفت ذاقة منكم: أي دب قوم بالاستعلاء والترفع علينا تريدون أن تختزلونا من أهلنا، أي تنحونا عنه تستبدون به دوننا، فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن قولها بين يدي أبي بكر فقال أبو بكر رضي الله عنه: على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه وكنت أرى منه بعض الحدة فسكت، وكان أعلم مني، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل، فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم له أهل، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا، يعني مكة ولدتنا العرب كلها فليست منها قبيلة إلا لقريش منها ولادة ودار، وكنا معاشر المهاجرين أول الناس إسلاما ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه، فنحن أهل النبوّة وأهل الخلافة، ولم يترك شيئا أنزل في الكتاب بأيديهم إلا قاله، ولا شيئا قاله رسول الله في شأن الأنصار إلا ذكره، ومنه «لو سلكت الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادي الأنصار» وقال: «لقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر» فقال سعد رضي الله تعالى عنه صدقت، فقال أي الصديق رضي الله عنه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، أي وفي رواية أنه: أي الصديق رضي الله عنه، قال لهم: أنتم الذين آمنوا ونحن الصادقون، وإنما أمركم الله أن تكونوا معنا فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} والصادقون: هم المهاجرون، قال الله تعالى: {للفقراء المهاجرين} إلى قوله{أولئك هم الصادقون}.

وفي رواية: «أن أبا بكر رضي الله عنه احتج على الأنصار بخبر «الأئمة من قريش» وهو حديث صحيح ورد عن نحو أربعين صحابيا، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين وأنتم أحق بالرضا بقضاء الله، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئت وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي ولا يقربني ذلك من إثم أحب إليّ من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، فقال كل من عمر وأبي عبيدة: لا ينبغي لأحد أن يكون فوقك يا أبا بكر أي وفي لفظ بل نبايعك، وأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله وهذا من عمر رضي الله عنه كان بعد أن أتى أبا عبيدة، وقال: إنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله، فقال: ما رأيت بك ضعف رأي قبلها منذ أسلمت، أما بقي فيكم الصديق وثاني اثنين؟ وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر ابسط يدك لأبايعك، فقال له أنت أفضل مني، فأجابه بأنت أقوى مني ثم كرر ذلك. فقال له: فأين قوتي مع فضلك.

واعترض قول أبي بكر المذكور، بأنه كيف يقول ذلك مع علمه بأنه أحق بالخلافة؟ وكيف يقدم أبا عبيدة على عمر مع أنه أفضل منه؟

وأجيب بأنه رضي الله عنه قال ذلك لأنه استحيى أن يقول: رضيت لكم نفسي مع علمه بأن كلا من عمر وأبي عبيدة لا يقبل وأن أبا بكر رضي الله عنه كان يرى جواز تولية المفضول على من هو أفضل منه، وهو الحق عند أهل السنة لأنه قد يكون أقدر من الأفضل على القيام بمصالح الدين وأعرف بتدبير الأمر وما فيه انتظام حال الرعية.

وعن قول أبي بكر رضي الله عنه ما ذكر قال قائل من الأنصار، أي وهو الحباب بحاء مهملة مضمومة فموحدة رضي الله عنه، ابن المنذر: أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب بالجيم والجذيل تصغير الجذل: وهو عود ينصب للإبل الجرباء فتحتك به ليزول جربها. والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك حتى صار أملس والعذيق تصغير العذق بفتح العين وهو النخلة، والمرجب المسند بالرجبة وهي خشبة ذات شعبتين يسند بها النخلة إذا كثر حملها، أي أنا ذو الرأي والتدبير الذي يستشفى به في الحوادث لا سيما هذه الحادثة، منا أمير ومنكم يا معشر قريش، وتتابعت خطباؤهم على ذلك. وقالوا إن رسول الله كان إذا استعمل الرجل منكم قرن معه رجلا منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا ومنكم، فقام زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال للأنصار: أتعلمون أن رسول الله كان من المهاجرين وكنا نحن أنصاره فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره ثم أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال هذا صاحبكم. فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يا معشر الأنصار لا تسمعوا مقالة هذا فتذهب قريش بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من بلادكم، فأنتم أحق به منهم، أما والله وإن شئتم لنقيمها جذعة، فقال له عمر رضي الله عنه إذن يقتلك الله فقال بل أراك تقتل، فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما فقال: يا معشر الأنصار إنا كنا أول من سبق إلى هذا الدين وجهاد المشركين، ما قصدنا إلا رضا الله ورسوله فلا ينبغي لنا أن نستطيل على الناس، ولا نطلب عرض الدنيا، وإن قريشا أولى بهذا الأمر فلا ننازعهم، فقال له الحباب، ألفيت على ابن عمك يعني سعد بن عبادة، فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم وفي رواية قال عمر رضي الله عنه يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر يؤم الناس وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر وفي لفظ أن يقيمه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه. وفي لفظ قالوا: نستغفر الله، لا تطيب أنفسنا، ولعل المراد قال معظمهم.

فلا يخالف ذلك ما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه ولما كثر اللغط، وعلمت الأصوات حتى خشيت الاختلاف. وقلت: سفيان في غمد واحد لا يكونان وفي رواية: هيهات لا يجتمع فحلان في مغرس. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، وكذا قال له من الأنصار يد بن ثابت وأسيد بن حضير وبشير بن سعد رضي الله عنهم، فبسط يده: فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار. أي حتى سعد بن عبادة رضي الله عنه، خلافا لمن قال إن سعد ابن عبادة أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله. أي فإنه رضي الله تعالى عنه توجه إلى الشام ومات بها.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والعذر له في ذلك أنه رضي الله عنه تأوّل أن للأنصار في الخلافة استحقاقا فبنى على ذلك، وهو معذور، وإن لم يكن ما اعتقده من ذلك حقا هذا كلامه.

ولا ينافيه ما جاء عن عمر رضي الله عنه: وثبنا على سعد بن عبادة. فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة: أي فعلتم معه من الإعراض والإذلال ما يقتله، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، فإنه صاحب فتنة، نعم ينافيه ما حكاه ابن عبد البر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله.

قال بعضهم: ويضعفه ما جاء في بعض الروايات أن أبا بكر رضي الله عنه لما قال لسعد: لقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر»، قال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء، وبه يظهر التوقف فيما تقدم عن ابن حجر رحمه الله هذا.

وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: فأنكروا على سعد أمره، وكادوا يطؤون سعدا فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعدا لا تطؤوه، فقال عمر رضي الله عنه: اقتلوا سعدا قتله الله، ثم قام عمر رضي الله عنه على رأس سعد وقال: قد هممت أن أطأك حتى تنذر عيونك، فأخذ قيس بن سعد رضي الله عنهما بلحية عمر رضي الله عنه وقال: والله لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارحة، فقال أبو بكر: مهلا يا عمر، الرفق الرفق، ما هنا أبلغ، فقال عاد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى محلهما أرسلا له بايع فقد بايع الناس، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب من دمائكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يداي. والله لو اجتمع لكم الجن والإنس لما بايعتكم. فلما عاد الرسول وأخبرهم بما قال، قال له عمر: لا ندعه حتى يبايع، فقال له قيس بن سعد: دعه فقد لح فاتركوه، فتركوه، وكان سعد رضي الله عنه لا يحضر معهم، ولا يصلي في المسجد، ولا يسلم على من لقي منهم، فلم يزل مجانبا لهم حتى إذا كان بعرفة يقف ناحية عنهم، فلما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة لقيه في بعض طرق المدينة، فقال له: إيه يا سعد فقال له: إيه يا عمر، فقال له عمر: أنت صاحب المقالة، قال نعم أنا ذاك، وقد أفضى الله إليك هذا الأمر، كان والله صاحبك خيرا لنا، وأحب إلينا من جوارك، وقد أصبحت كارها لجوارك، فقال له عمر رضي الله عنه: إنه من كره جوار جاره تحول عنه، فقال له سعد: إني متحول إلى جوار من هو خير من جوارك، فخرج رضي الله عنه إلى الشام واستمر بها إلى أن مات في السنة الخامسة عشر من الهجرة.

وذكر الطبري رحمه الله أن سعدا رضي الله عنه بايع مكرها، وهو وهم، هذا كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله.

قال عمر رضي الله عنه: وإنما بايعت أبا بكر خشية إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن بيايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد، وذلك كان في يوم موته الذي هو يوم الاثنين، فلما كان الغد كانت البيعة العامة صعد أبو بكر رضي الله عنه المنبر، وقام عمر رضي الله عنه بين يدي أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه بيعة عامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر رضي الله عنه فقال في خطبته، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ حتى أردّ عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا أشيعت الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذ عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، فقوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.

وشن الغارة بعض الرافضة على قول الصديق رضي الله عنه فقوموني، بأنه كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه. وردّ بأن هذا من أكبر الدلائل على فضله، لقوله الآخر: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، لأن كل أحد ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تجوز عليه المعصية.

ولما بويع بالخلافة أصبح رضي الله تعالى عنه على ساعده قماش وهو ذاهب به إلى السوق، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: السوق، قال: تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين، قال: فمن أين أطعم عيالي، فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إليه، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجري ليس بأفضلهم: أي في سعة النفقة ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، وإذا أبليت شيئا رددته وأخذت غيره، ففرض له كل يوم نصف شاة. وفي رواية: جعل له ألفين فقال: زيدوني فإن لي عيالا وقد شغلت عن السفارة فزادوه خمسمائة.

وهو رضي الله تعالى عنه أول من جمع القرآن وسماه مصحفا، واتخذ بيت المال، وسها من جعل ذلك من أوّليات عمر رضي الله تعالى عنه.

ولما تخلف عليّ والزبير ومن معهما كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة كما تقدم عن المبايعة، استمروا على ذلك مدة لأنهم رضي الله عنهم وجدوا في أنفسهم حيث لم يكونوا في المشورة: أي في سقيفة بني ساعدة مع أن لهم فيها حقا. وقد أشار سيدنا عمر رضي الله عنه إلى بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي بغتة لا عن استعداد لها، ولكن وقى الله شرها: أي لم يقع فيها مخالفة ولا منازعة، ولذلك لما اجتمعوا: أي علي والزبير والعباس وطلحة بن عبيد الله ومن تخلف عن المبايعة منهم بأبي بكر رضي الله عنه قام خطيبا وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكن أشفقت من الفتنة: أي لو أخرت إلى اجتماعكم.

وقد روي أن شخصا قال لأبي بكر رضي الله عنه: ما حملك على أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين، فقال: لم أجد من ذلك بدا، خشيت على أمة محمد الفرقة وقال: ما في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة، فقال علي والزبير رضي الله تعالى عنها ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا ترى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، إنه لنعرف شرفه وخيره، ولذا أمره رسول الله بالصلاة من بين الناس وهو حي، فلم يكن تأخرهم رضي الله تعالى عنهم للقدح في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ومن ثم قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أجمع الناس على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لأنهم لم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبي بكر فولوه رقابهم. أي فالأمة أجمعت على حقية إمامة بكر رضي الله تعالى عنه، وهذا: أي اجتماع علي كرم الله وجهه بأبي بكر رضي الله تعالى عنهما كان بعد ما أرسل إليه علي كرم الله وجهه في الاجتماع به واجتمع به كما سيأتي، لكن سيأتي أن ذلك كان بعد موت فاطمة بنت النبي ورضي عنها، وسياق غير واحد يدل على أن اجتماع عليّ والزبير ومبايعتهما أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قبل موت فاطمة رضي الله تعالى عنها، وهو ما صححه ابن حبان وغيره، ويؤيده ما حكاه بعضهم أن الصديق رضي الله تعالى عنه خرج يوم الجمعة فقال، اجمعوا لي المهاجرين والأنصار، فاجتمعوا، ثم أرسل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والنفر الذين كانوا تخلفوا معه، فقال له: ما خلفك يا علي عن أمر الناس؟ فقال: خلفني عظيم المعتبة، ورأيتكم استقليتم برأيكم فاعتذر إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بخوف الفتنة لو أخر، ثم أشرف على الناس وقال: أيها الناس هذا علي بن أبي طالب لا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره. ألا أنتم بالخيار جميعا في بيعتكم، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه، فلما سمع ذلك علي كرم الله وجهه زال ما كان قد داخله، فقال أجل لا نرى لها غيرك، امدد يدك، فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه فإن هذا دليل على أن عليا كرم الله وجهه بايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله بثلاثة أيام.

وفي كلام المسعودي: لم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله تعالى عنها. وقال رجل للزهري: لم يبايع علي كرم الله وجهه أبا بكر ستة أشهر، فقال: لا والله ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي كرم الله وجهه، فليتأمل الجمع على تقدير الصحة.

وقد جمع بعضهم بأن عليا كرم الله وجهه بايع أولا، ثم انقطع عن أبي بكر لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع.

أي ويدل لهذا الجمع أن في رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما صعد المنبر ونظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير رضي الله تعالى عنه فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عمة رسول الله وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا كرم الله وجهه، فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عم رسول الله وخنته على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه.

ويبعد هذا الجمع ما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها فلما توفيت فاطمة رضي الله عنها التمس: أي علي كرم الله وجهه مصالحة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر الحديث.

والسبب الذي اقتضى الوقوع بين فاطمة وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت إلى أبي بكر تطلب إرثها مما أعطاه الأنصار له من أرضهم وما أوصى به إليه، وهو وصية مخيريق عند إسلامه وهي سبعة حوائط في بني النضير. قال سبط ابن الجوزي: وهو أول وقف كان في الإسلام، ومما أفاء الله على رسوله من أرض بني النضير وفدك، ونصيبه من خيبر وهما حصنان من حصونها الوطيح وسلالم فإنه أخذهما صلحا كما تقدم، وحصته مما افتتح منها عنوة وهو الخمس. فإن ذلك كله كان للنبي خاصة، فكان ينفق من ذلك على أهل بيته سنة وما بقي جعله في الكراع: أي الخيل والسلاح في سبيل الله، فربما احتاج إلى شيء ينفقه قبل فراغ السنة فيقترض، ولهذا توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند اليهودي على آصع من شعير، وافتكها أبو بكر، وتلك الدرع كانت ذات الفضول التي أهداها له سعد بن عبادة لما توجه إلى بدر كما تقدم، ولم يشبع هو ولا أهل بيته ثلاثة أيام تباعا، أي متتابعة كما تقدم فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لست بالذي أقسم من ذلك شيئا، ولست تاركا شيئا كان رسول الله يعمل به فيها إلا عملته، وإني أخشى إن تركت أمره أو شيئا من أمره أن أزيغ. وفي رواية قال لها قد سمعت رسول الله يقول إنما هي طعمة أطعمينها الله فإذا مت عادت على المسلمين، فإن اتهمتيني فسلي المسلمين يخبروك بذلك. وقال لها: قد قال رسول الله: «لا نورث ما تركناه صدقة» ولكن أعول من كان رسول الله يعوله، وأنفق على من كان ينفق عليه، وقوله صدقة هو بالرفع كما هو الرواية: أي الذي تركناه فهو صدقة، وقد منع بذلك عائشة وبقية أزواجه لما جئن إليه يطلبن ثمنهن.

وزعمت الرافضة أن الصديق رضي الله تعالى عنه كان ظالما لفاطمة رضي الله عنها بمنعه إياها من مخلف والدها، وأنه لا دليل له في هذا الخبر الذي رواه، لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث.

ورد بأنه إنما حكم بما سمعه من رسول الله، وهو عنده قطعي فساوى آية المواريث من قطيعة المتن، وكان مخصصا لآية المواريث.

وذكر عن الرافضة أنهم زعموا أن صدقة بالنصب وأن ما نافية. ويرده صدر الحديث: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» وأما رواية: «نحن معاشر الأنبياء» فلم تجىء في كتاب من كتب الحديث كما قاله غير واحد، ومن رواه بذلك بالمعنى لأن نحن وإنا مفادهما واحد ولا يعارض ذلك قوله تعالى {وورث سليمان داود} وقوله تعالى حكاية عن زكريا: {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث} إذ المراد وراثة العلم والحكمة.

وفي لفظ أنها رضي الله تعالى عنها قالت له: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي، فقالت فما لي لا أرث أبي. فقال لها سمعت رسول الله يقول: لا نورث فغضبت رضي الله تعالى عنها من أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهجرته إلى أن ماتت، أي فإنها عاشت بعد رسول الله ستة أشهر على ما تقدم. ومعنى هجرانها لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أنها لم تطلب منه حاجة ولم تضطر إلى لقائه، إذ لم ينقل أنها رضي الله تعالى عنها لقيته ولم تسلم عليه، ولا كلمته.

وروى ابن سعد أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه جاء إلى بيت علي لما مرضت فاطمة فاستأذن عليها، فقال علي كرم الله وجهه: هذا أبو بكر على الباب يستأذن، فإن شئت أن تأذني له فأذني، قالت: وذاك أحب إليك؟ قال نعم، فأذنت له رضي الله تعالى عنه، فدخل واعتذر إليها فرضيت عنه، وأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه صلى عليها.

وقال الواقدي: وثبت عندنا أن عليا كرم الله وجهه دفنها رضي الله تعالى عنها ليلا، وصلى عليها ومعه العباس والفضل رضي الله تعالى عنهم ولم يعلموا بها أحدا. قال بعضهم: وكأنها تأولت قوله: «لا نورث» وحملت ذلك على الأموال. أي الدراهم والدنانير كما جاء في بعض الروايات: «لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما» بخلاف الأراضي، ولعل طلب إرثها من فدك كان منها بعد أن ادعت رضي الله تعالى عنه أن النبي أعطاها فدكا. وقال لها: هل لك بينة فشهد لها علي كرم الله وجهه وأم أيمن، فقال لها رضي الله عنه أبرجل وامرأة تستحقيها.

واعترض عليه الرافضة بأن فاطمة معصومة بنص {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وخبر «فاطمة بضعة مني» فدعواها صادقة لعصمتها. وأيضا شهد لها بذلك الحسن والحسين وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهم.

ورد عليهم بأن من جملة أهل البيت أزواجه ولسن بمعصومات اتفاقا فكذلك بقية أهل البيت. وأما كونها بضعة منه فمجاز قطعا، وإنها كبضعة فيما يرجع للخير والشفقة. وأما زعم أنه شهد لها الحسن والحسين وأم كلثوم فباطل لم ينقل عن أحد ممن يعتمد عليه، على أن شهادة الفرع للأصل غير مقبولة.

وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله أنه رضي الله تعالى عنه كتب لها بفدك، ودخل عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: ما هذا. فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها فقال: مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى، ثم أخذ عمر الكتاب فشقه.

وقد جاء أن بعد موت فاطمة رضي الله تعالى عنها: أي وذلك بعد ستة أشهر من موته إلا ليالي على ما تقدم، أرسل علي كرم الله وجهه وقد اجتمع علي وبنو هاشم إلى أبي بكر وقالوا: ائتنا ولا يأت معك أحد، كراهة أن يحضر عمر رضي الله تعالى عنه لما علموا من شدته، فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي بكر لا والله لا تدخل عليهم وحدك، قال ذلك خوفا عليه أن يغلظوا عليه في المعاتبة، وربما كان ذلك سببا لتغير قلبه فيترتب عليه ما لا ينبغي، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: وما يفعلون بي، والله لآتينهم، أي فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحده، فقال له علي كرم الله وجهه: إنا قد عرفناك لك فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك: أي لا نحسدك عليه، ولكن استبديت علينا بالأمر: أي لم تشاورنا فيه وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله أن لنا نصيبا: أي في المشاورة، ففاضت عينا أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال: والذي نفسي بيدي لقرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، فقال له علي كرم الله وجهه: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه الظهر، أي وقد حضر عنده علي كرم الله وجهه رقي المنبر بكسر القاف، فتشهد وذكر شأن علي كرم الله وجهه وعذره في تخلفه عن البيعة ثم إن عليا رضي الله تعالى عنه بايعه: أي بعد أن عظم أبا بكر رضي الله تعالى عنه وذكر فضيلته وسابقته، وذكر أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة حق على أبي بكر، فأقبل الناس على علي كرم الله وجهه وقالوا: أصبت وأحسنت.

وقد علمت الجمع بين من قال بايع بعد ثلاثة أيام من موته ومن قال: لم يبايع إلا بعد موت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر، وهو أنه بايع أولا ثم انقطع عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع، ثم بايعه مبايعة أخرى، فتوهم من ذلك بعض من لا يعرف باطن الأمر أن تخلفه إنما هو لعدم رضاه ببيعته قأطلق ذلك من أطلقه. ومن ثم أظهر علي كرم الله وجهه مبايعته لأبي بكر ثانيا بعد ثبوتها على المنبر لإزالة هذه الشبهة.

وبهذا يعلم ما وقع في صحيح مسلم عن أبي سعيد من تأخر بيعة علي هو وغيره من بني هاشم إلى موت فاطمة، ومن ثم حكم بعضهم عليه الضعف.

ومما يؤيد الضعف ما جاء أن عليا وأبا بكر رضي الله عنهما جاءا لزيارة قبر النبي بعد وفاته بستة أيام، فقال علي كرم الله وجهه: تقدم يا خليفة رسول الله، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول الله يقول فيه: «عليّ مني بمنزلتي من ربي» وصلاة أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالناس لم تختص بالمرض، فقد جاء أنه وقع قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي ذلك فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، فقال: يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت مر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام الصلاة، ثم أمر أبا بكر فصلى كما تقدم.

وفي شرح مسلم الإمام النووي رحمه الله: وتأخر علي كرم الله وجهه أي ومن تأخر معه عن البيعة لأبي بكر ليس قادحا فيها، لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل أهل العقد والحل، بل مبايعة من تيسر منهم وتأخره كان للعذر أي الذي تقدم، وكان عذر أبي بكر وعمر وبقية الصحابة واضحا لأنهم رأوا أن المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، لأن تأخرها ربما لزم عليه اختلاف، فينشأ عنه مفاسد كثيرة كما أفصح به أبو بكر رضي الله تعالى عنه فيما تقدم.

وجاء كما تقدم أنه قيل لعلي كرم الله وجهه: هل عهد إليك رسول الله بالخلافة؟ فحدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك، ولو لم أجد إلا بردتي هذه، وما تركت أخا بني تيم وعمر بن الخطاب ينوبان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، والنبي لم يمت فجأة بل مكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني، فلما مات رسول الله اخترنا لدنيانا من رضيه النبي لديننا فبايعناه وكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه من اثنان، فلما قبض تولاها عمر رضي الله تعالى عنه بمبايعته، وأقام فيها لم يختلف عليه منا اثنان، وأعطيت ميثاقي لعثمان رضي الله تعالى عنه، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين: أي الكوفة والبصرة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابتي ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه، يعني معاوية فهو رأي رأيته وفي لفظ لكن شيء رأيناه من قبل أنفسنا، فهذا تصريح منه كرم الله وجهه بأنه لم ينص على إمامته.

وأما قوله يوم غدير خم عند مرجعه من حجة الوداع بعد أن جمع الصحابة وكرر عليهم: «ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا» وهم يجيبونه بالتصديق والاعتراف ثم رفع يد علي كرم الله وجهه وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الحديث فتقدم الكلام عليه وأن ذلك لا يدل على الخلافة.

وإنما قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: إن بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي من غير استعداد ولا مشورة كما تقدم، ردا على من بلغه عنه أنه قال إذا مات عمر بايعت فلانا، والله ما كانت بيعة أبي بكر بمشورة، فالبيعة لا تتوقف على ذلك فغضب فلما رجع من آخر حجة حجها المدينة قال على المنبر: قد بلغني أن فلانا قال والله لو مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا، إن بيعة أبي بكر كانت فلتة من غير مشورة، فلا يغترن امرؤ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فنعم، وأنها كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له ولا الذي بايعه.

ولما ثقل المرض على الصديق رضي الله تعالى عنه دعا عبد الرحمن فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: أنت أعلم به مني، فقال الصديق وإن فقال، عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به، ثم دعا عليا كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، ثم قال علي كرم الله وجهه: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، ودعا جمعا من الأنصار فيهم أسيد بن حضير وسألهم، فقال: اللهم أعلمه يرضى للرضا ويسخط للسخط الذي يسر خير الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، فعند ذلك دعا عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فإن عدل فذلك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرىء ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ثم أمر بالكتاب فختم، ثم دعا عمر خاليا فأوصاه بالمسلمين، وقبل أن يظهر الصديق رضي الله عنه هذا الأمر، اطلع على الناس من كوّة وقال: أيها الناس إني قد عهدت عهدا أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام عليّ كرم الله وجهه فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر قال: فإنه عمر وكانت صلاتهم عليه كصلاتهم على غيره: أي بتكبيرات أربع لا مجرد الدعاء من غير تكبيرات ا هـ، وهو يخالف ما تقدم المفيد أن صلاتهم إنما كانت مجرد الدعاء لا الصلاة المعهودة.

وقد يقال: لا مخالفة، وإنما نصوا على الدعاء لكونه مخالفا للدعاء المعروف في صلاة الجنازة على غيره .

وفي شرح مسلم عن القاضي عياض: واختلف هل صلى عليه: فقيل: لم يصل عليه أحد أصلا، وإنما كان الناس يدخلون أرسالا يدعون ويتضرعون. والصحيح الذي عليه الجمهور أنهم صلوا عليه أفرادا، فكان يدخل عليه فوج يصلون فرادى ثم يخرجون، ثم يدخل فوج آخر فيصلون كذلك.

وعن ابن الماجشون: صُلي عليه اثنان وسبعون صلاة كحمزة رضي الله عنه قيل له: من أين لك هذا؟ قال: من الصندوق الذي تركه مالك رحمه الله تعالى بخطه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، فصلى عليه الرجال الأحرار أولا ثم النساء الأحرار ثم الصبيان ثم العبيد ثم الإماء.

واختلفوا في الموضع الذي يدفن فيه، فمن قائل يدفن في البقيع، ومن قائل ينقل ويدفن عند إبراهيم الخليل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ادفنوه في الموضع الذي قبض فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب.

أي وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: إن عندي في هذا خبرا سمعت رسول الله يقول: «لا يدفن نبي إلا حيث قبض». وفي لفظ: «لا يقبض الله روح نبي إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه».

وعن أبي بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه» قال بعضهم: ولا شك أن أحبها: أي الأمكنة إليه أحبها إلى ربه تعالى، فإن حبه تابع لحب ربه جل وعلا.

وفي الحديث: «ما مات نبي إلا دفن حيث قبض» فحول فراشه وحفر له ودفن في ذلك الموضع الذي توفاه الله فيه.

واختلفوا هل يجعل له لحد أو يجعل له شق، وكان في المدينة شخصان، أحدهما يصنع اللحد، والآخر يصنع الشق والأول هو أبو طلحة زيد بن سهل والثاني أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.

وفي لفظ كان أبو عبيدة يحفر حينئذ لأهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة فكان يلحد، فقال عمر رضي الله عنه: ترسلوا لهما، وكل من حضر منهما نزلناه، فأرسلوا خلفهما رجلين، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم خر لرسولك، وقيل المرسل والقائل ما ذكر العباس رضي الله، فسبق أبو طلحة رضي الله عنه فصنع له لحدا وأطبق عليه بتسع لبنات ثم أهيل التراب. وقد جاء في الحديث «ألحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا» وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال في مرض موته: ألحدوا لي لحدا، وانصبوا عليّ اللبن نصبا كما صنع برسول الله، وسلّ من قبل رأسه كما رواه البيهقي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي وضع سريره عند مؤخر القبر، فكان رأسه الشريف عند المحل الذي يكون فيه رجلاه فلما أدخل القبر سلّ من قبل رأسه، ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران. واقتصر ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما على الثلاثة الأول، وفرش شقران في اللحد تحته قطيفة حمراء.

وفي رواية بيضاء كان يجعلها على رجليه، إذا سافر، لأن الأرض كانت ندية وقال والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله .

وقيل أخرجت: أي عملا بوصيته، فقد روى البيهقي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه أوصى أن لا تتبعوني بصارخة ولا مجمرة، ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئا، لكن في رواية الجامع الصغير: «افرشوا لي قيطفي في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام».

وكان دفنه ليلة الأربعاء. وعن أم سلمة رضي الله عنها «كنا مجتمعين نبكي تلك الليلة لم ننم فسمعنا صوت المساحي، فصحنا وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، فأذن بلال بالفجر، فلما ذكر النبي بكى وانتحب فزادنا حزنا، فيالها من مصيبة ما أصابنا بعدها من مصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به .

وعن فاطمة رضي الله عنها: لما دفن رسول الله قالت لأنس: يا أنس كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ وفي لفظ: أطابت نفوسكم أن دفنتم رسول الله في التراب ورجعتم. وفي رواية أنها قالت لعلي كرم الله وجهه: يا أبا الحسن دفنتم رسول الله قال: نعم، قالت: كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب عليه؟ كان نبي الرحمة، قال: نعم، ولكن لارادّ لأمر الله. وقد جاء أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها، وهو يدل على أنه وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما خلقوا من تربة واحدة لأنهم دفنوا ثلاثتهم في تربة واحدة.

فقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال لمن حضره: إذا أنا مت وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبي، فقفوا بالباب، وقولوا: السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فإن أذن لكم بأن فتح الباب، وكان الباب مغلقا بقفل، فأدخلوني وادفنوني، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به، فلما وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب، وسمع هاتف من داخل البيت: أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق.

ولما احتضر عمر رضي الله عنه قال لابنه عبد الله رضي الله عنه: يا عبد الله ائت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل لها: إن عمر يقرئك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم بأمير المؤمنين، وقل: يستأذن أن تدفنيه مع صاحبيه، فإن أذنت فادفنوني وأن أبت فردوني إلى مقابر المسلمين، فأتاها عبد الله وهو يبكي، فقال: إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لقد كنت ادخرت ذلك المكان لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما رجع عبد الله إلى أبيه وأقبل عليه، قال عمر: أقعدوني، ثم قال لعبد الله: ما وراءك، قال: قد أذنت لك، قال: الله أكبر، ما شيء أهم إلي من ذلك المضجع.

وقد ذكر أن الحسن رضي الله عنه لما سقي السم ورأى كبده تقطع أرسل إلى عائشة رضي الله عنها أن يدفن عند جده، فأذنت له، فلما مات منع من ذلك مروان وبنو أمية، فدفن بالبقيع. ويذكر أنه رضي الله عنه قال لأخيه الحسين رضي الله عنه قال: كنت بلغت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي أن أدفن في بيتها مع رسول الله، فقالت: نعم ولا أدري لعلها كان ذلك منها حياء، فإذا أنا مت فاطلب ذلك منها، فإن طابت نفسها فادفني في بيتها وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك، وادفني في بقيع الغرقد، فإن لي فيمن فيه أسوة، فلما مات الحسن رضي الله عنه جاء الحسين رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها فطلب منها ذلك، فقالت: نعم وكرامة فبلغ ذلك مروان، فقال: كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه هناك ويريدون دفن حسن، فبلغ ذلك الحسين رضي الله عنه، فلبس الحديد هو ومن معه، وكذلك مروان لبس الحديد هو ومن معه، فبلغ ذلك أبا هريرة رضي الله عنه، فانطلق إلى الحسين وناشده الله وقال له: أليس أخوك قد قال لك ما قال: فلم يزل به حتى رضي بدفنه بالبقيع فدفن بجانب أمه رضي الله عنها، ولم يشهد جنازته أحد من بني أمية إلا سعيد بن العاص. لأنه كان أميرا على المدينة، قدمه الحسين فصلى عليه إماما وقال هي السنة.

قال ابن كثير رحمه الله: والذي نص عليه وغير واحد من الأئمة سلفا وخلفا أنه توفي يوم الاثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء قبل وقت الضحى، والقول أنه مكث ثلاثة أيام لا يدفن غريب، والصيحيح أنه مكث بقية يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء وبعض ليلة الأربعاء.

وكان السبب في تأخره ما علمت من اشتغالهم ببيعة أبي بكر رضي الله عنه حتى تمت، وقيل لعدم اتفاقهم على موته، وكان آخر من طلع من قبره الشريف قثم بن العباس رضي الله عنهما، وقيل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لأنه ألقى خاتمه في القبر الشريف وقال لعلي: يا أبا الحسن خاتمي، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله وأكون آخر الناس عهدا به قال: انزل فخذه، وقيل ألقى الفأس في القبر وقال: الفأس الفأس فنزل وأخذها، ويقال إن عليا كرم الله وجهه لما قال له المغيرة ذلك نزل وناوله الخاتم أي أو الفأس، أو أمر من نزل وناوله ذلك وقال له: إنما فعلت ذلك لتقول أنا آخر الناس برسول الله عهدا، واعترض بأن المغيرة رضي الله عنه لم يكن حاضرا للدفن.

وقد روي أن جماعة من العراق قدموا على عليّ كرم الله وجهه فقالوا: يا أبا الحسن جئناك لنسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه، فقال لهم: أظن أن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان آخر الناس عهدا برسول الله، قالوا: أجل، عن هذا جئنا نسألك قال: كان آخر الناس عهدا برسول الله قثم بن العباس رضي الله عنهما.

وقام الإجماع على أن هذا الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة الشريفة، قال بعضهم: وأفضل من بقاع السماء أيضا حتى من العرش.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ما نفضنا الأيدي من دفن رسول الله حتى أنكرنا قلوبنا، قال بعضهم: وأظلمت الدنيا حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وقال رسول الله: «أنا فرط لأمتي لن يصابوا بمثلي» وفي مسلم أنه قال: «إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بأمة خيرا قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها» فياله من خطب جل عن الخطوب، ومصاب علم دمع العيون كيف يصوب، وطارق هجم هجوم الليل، وحادث هد كل القوى والحيل، ولشدة أسف حماره الذي كان يركبه ألقى نفسه في حفيرة فمات كما تقدم، وتركت ناقته الأكل والشرب حتى ماتت، وأنشد الحافظ الدمياطي عن غيره:

ألا يا ضريحا ضم نفسا زكية ** عليك سلام الله في القرب والبعد

عليك سلام الله ما هبت الصبا ** وما ناح قمري على البان والرند

وما سجعت ورق وغنت حمامة ** وما اشتاق ذو وجد إلى ساكني نجد

ومالي سوى حبي لكم آل أحمد ** أمرغ من شوقي على بابكم خدي


باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته إلى زمان وفاته على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاما ويوما وشهرا ومكانا

اعلم أن الأكثر على أنه ولد عام الفيل، وحكى بعضهم الإجماع عليه. قال: وكل قول خالفه فهو وهم.

وقيل بعد الفيل بخمسين يوما، وقيل بزيادة خمسة أيام، وقيل بشهر، وقيل بأربعين يوما، وقيل بشهرين وعشرة أيام، وقيل بعشرين سنة، وقيل بعشر سنين، وقيل بخمس عشرة سنة.

وكانت ولادته يوم الاثنين في شهر ربيع الأول لعشر خلون منه وقيل لليلتين، وقيل لثمان خلت، واختاره الحميدي تبعا لشيخه ابن حزم. وحكى القضاعي رحمه الله عن (عيون المعارف) إجماع أهل التاريخ عليه. وقيل لاثنتي عشرة ليلة وهو المشهور، وقيل لسبع عشرة، وقيل لثمان بقين منه، وذلك في النهار عند طلوع الفجر، وقيل ولد ليلا وعليه عمل أهل مكة في زيارة موضع مولده الشريف وكونه في شهر ربيع الأول هو قول الجمهور من العلماء، وحكى ابن الجوزي رحمه الله الاتفاق عليه. وقيل في صفر، وقيل في ربيع الآخر وقيل في رجب، وقيل في شهر رمضان.

واختلف في مكان ولادته، فقيل بمكة وعليه قيل بالدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل بالشعب شعب بني هاشم وذلك المحل يزار الآن، وقيل بالردم، وقيل ولد بعسفان.

وفي السنة الثالثة من مولده شق صدره الشريف عند ظئره حليمة رضي الله تعالى عنها، وقيل كان في الرابعة، وفيها ولد أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بمنى.

وفي السنة السادسة من مولده كانت وفاة أمه آمنة ودفنت بالأبواء، وقيل بشعب أبي ذئب بالحجون محل مقابر أهل مكة، وقيل في دار رائعة بالمعلاة، وفيها ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وفي السنة السابعة من مولده استقل بكفالته جده عبد المطلب، وفيها أصابه رمد شديد، وفيها استسقى عبد المطلب وهو معه بسبب رؤيا دقيقة، وفيها خرج عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذي يزن الحميري بالملك.

وفي السنة الثامنة من مولده كانت وفاة جده عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب .

وفي هذه السنة مات حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الجود والكرم، ومات كسرى أنو شروان.

وفي السنة التاسعة من مولده قيل سافر به عمه أبو طالب إلى بصرى من أرض الشام، وهي مدينة هوازن.

وفي السنة العاشرة من مولده كانت حرب الفجار الأولى.

وفي السنة العاشرة وقيل الحادية عشرة من مولده كان شق صدره الشريف.

وفي السنة الثانية عشرة من مولده كان حرب الفجار الثانية. وكان سفر عمه أبي طالب به إلى بصرى من أرض الشام على ما عليه الأكثر.

وفي السنة الثالثة عشرة من مولده ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وفي السنة الرابعة عشرة من مولده كانت حرب الفجار الثالثة، وقيل كان عمره عشرين سنة.

وفي السنة السابعة عشرة من مولده كان سفر عمه الزبير والعباس ابني عبد المطلب لليمن للتجارة، وصحبهما النبي .

وفي السنة الخامسة والعشرين من مولده كان سفره إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها. وتزوج خديجة.

وفي سنة ثلاثين من مولده ولد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الكعبة.

وفي سنة أربع وثلاثين من مولده ولد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه.

وفي سنة خمس وثلاثين من مولده هدمت قريش الكعبة وبنتها.

وفي سنة سبع وثلاثين رأى الضوء والنور، وكان يسمع الأصوات.

وفي السنة الأولى من النبوة كان نزول الوحي عليه في اليقظة بعد أن مكث ستة أشهر يوحى إليه في المنام.

وفي السنة الثالثة من النبوة قيل توفي ورقة بن نوفل.

وفي السنة الرابعة من النبوة كان إظهار الدعوة.

وفي السنة الخامسة من النبوة ولدت عائشة رضي الله عنها. وقيل ولدت في الرابعة.

وفي السنة الخامسة أيضا كانت الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة. وفيها ماتت سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم، وهي أول شهيدة في الإسلام.

وفي السنة السادسة من النبوة أسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقيل أسلما رضي الله عنهما في سنة خمس، وكان إسلام حمزة رضي الله عنه قبل إسلام عمر رضي الله عنه بثلاثة أيام.

وفي السنة السابعة من النبوة تقاسمت قريش وتعاهدت على معاداة بني هاشم وبني المطلب وقيل كان ذلك في السادسة، وقيل في الخامسة، وقيل في الثامنة وذلك في خيف بني كنانة بالأبطح ويسمى محصبا، وهو بأعلى مكة شرفها الله عند المقابر.

وفي السنة التاسعة من النبوة كان انشقاق القمر له .

وفي السنة العاشرة من النبوة مات أبو طالب وماتت خديجة رضي الله عنها. وكان يسمى ذلك العام عام الحزن. وفيها جاءه جن يصيبين وأسلموا. وفيها تزوج سودة رضي الله عنها بنت زمعة ودخل عليها في مكة. وفيها عقد عقده على عائشة رضي الله عنها، ولم يدخل عليها إلا في المدينة.

وفي السنة الحادية عشرة من النبوة كان ابتداء إسلام الأنصار رضي الله عنهم.

وفي السنة الثانية عشرة من النبوة كان الإسراء والمعراج. وفيها وقعت بيعة العقبة الأولى.

وفي السنة الثالثة عشرة من النبوة كانت بيعة العقبة الثانية التي هي الكبرى، وبعضهم يسميها العقبة الثالثة، ويسمى إسلام الأنصار عقبة مع أنه لا مبايعة فيه. وفي هذه السنة أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يهاجر للحبشة، فلما بلغ برك الغماد رده ربيعة بن الدغنة سيد القارة.

وفي السنة الرابعة عشرة من النبوة وهي السنة الأولى من الهجرة إلى المدينة، فكانت الهجرة فيها في صفر أو في غرة ربيع الأول. وفيها كان بناء المسجد ومساكنه ومسجد قباء، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قيل وكان ابتداء خدمة أنس رضي الله عنه له . فقد جاء أنه لما قدم المدينة صارت الأنصار يبعثون إليه بالهدايا رجالهم ونساؤهم، وكانت أم أنس رضي الله عنهما لا شيء لها تهديه له فكانت تتأسف، فأخذت يوما بيد أنس رضي الله عنه وقالت: يا رسول الله هذا يخدمك. وجاء أن زوجها أبا طلحة رضي الله عنه جاء به إلى رسول الله وقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك.

وجمع بأن أمه جاءت به أولا ثم جاء به أبو طلحة ثانيا لأنه وليه وعصبته، قال في (الخميس) وهذا غير مجيئه به لخدمته في غزوة خيبر. وفيها كما في الأصل، وقيل في السنة الثانية زيد في صلاة الحضر ركعتان وتركت صلاة الفجر وصلاة المغرب لأنها وتر النهار، وأقرت صلاة السفر، وتركت على الفريضة الأولى كذا قيل. وفي هذه السنة مات من مشركي مكة الوليد بن المغيرة. ولما احتضر جزع، فقال أبو جهل لعنة الله: يا عم ما جزعك؟ فقال: والله ما بي من جزع من الموت ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان رضي الله عنه: لا تخف، إني ضامن أن لا يظهر. وفيها مات العاص بن وائل. وفيها مات أسعد بن زرارة رضي الله عنه وفيها ابتدئت الغزوات، فكان فيها غزوة الأبواء وغزوة ودان كما في الأصل. وفي هذه السنة بنى بعائشة رضي الله عنها، وفيها شرع الأذان، وفيها الجمعة في طريقه حيث ارتحل من قباء إلى المدينة، وهي أوّل جمعة صلاها، وأول خطبة خطبها في الإسلام. وفيها أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه. وكان فيها بعث عمه حمزة رضي الله عنه يعترض عيرا لقريش، وبعث ابن عمه عبيدة بن الحارث رضي الله عنه إلى بطن رابغ. وبعث سعد بن أبي وقاص رضي الله إلى الخرار يعترض عيرا لقريش.

وفي السنة الخامسة عشرة من النبوة والثانية من الهجرة تزوّج علي كرم الله وجهه بفاطمة رضي الله عنها وتكنيته بأبي تراب، وغزوة بواط وغزوة العشيرة، وسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى بطن نخلة، وتحويل القبلة، وتجديد بناء مسجد قباء، وفرض رمضان وغزوة بدر الكبرى، ووفاة رقية بنت النبي ورضي عنها، وقتل عصماء وفرض زكاة الفطر، وشروع صلاة عيده. وفرض زكاة الأموال، وغزوة قرقرة الكدر. وسرية سالم بن عمير رضي الله عنه. وغزوة بني قينقاع. وغزوة السويق، وموت عثمان بن مظعون رضي الله عنه، والتضحية وصلاة عيدها.

وفي السنة السادسة عشرة من النبوّة والثالثة من الهجرة سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه لقتل كعب بن الأشرق لعنه الله. وتزوّج عثمان رضي الله عنه أم كلثوم رضي الله عنها، وغزوة غطفان وغزوة بحران، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى قردة. وتزوّج حفصة رضي الله عنها، وتزوّج زينب بنت خزيمة رضي الله عنها، وولادة الحسن، وغزوة أحد، وغزوة حمراء الأسد، وعلوق فاطمة بالحسين رضي الله عنهما.

وفي السنة السابعة عشرة من النبوّة والرابعة من الهجرة سرية أبي سلمة رضي الله عنه إلى قطن. ووفاته. وسرية عبد الله بن أنيس رضي الله عنه إلى عرنة لقتل سنان بن خالد. وسرية القراء رضي الله عنهم إلى بئر معونة. وقصة الرجيع. وسرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى مكة لقتل أبي سفيان رضي الله عنه، وغزوة بني النضير، ووفاة زينب بنت خزيمة، وغزوة ذات الرقاع، وصلاة الخوف، وولادة الحسين رضي الله عنه، وغزوة بدر الصغرى، وتزوّج أم سلمة رضي الله عنها، وتحريم الخمر عند بعضهم.

وفي السنة الثامنة عشرة من النبوة والخامسة من الهجرة غزوة دومة الجندل، وغزوة المريسيع، ونزول آية التيمم، وتزوّج جويرية رضي الله عنها، وقصة الإفك، وغزوة الخندق، وغزوة بني قريظة، وقصة أولاد جابر رضي الله عنهم، وتزوّج زينب بنت جحش رضي الله عنها، ونزول آية الحجاب، وفرض الحج.

وفي السنة التاسعة عشرة من النبوّة والسادسة من الهجرة سرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى القرطاء، وقصة ثمامة، وغزوة بني الحيان وغزوة الغابة، وسرية عكاشة رضي الله عنه إلى الغمر، وسرية محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى ذي القصة، وسرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى مصارع أصحاب محمد بن مسلمة رضي الله عنهم، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى بني سليم بالجموم، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى العيص، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى الطرف، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما الى وادي القري، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى أم قرفة، وسرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع، وسرية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى أسير ابن رزام اليهودي بخيبر، وسرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى حسمَى، وغزوة الحديبية، ونزول حكم الظهار، وتخريم الخمر، وتزوّجه أم حبيبة رضي الله عنها.

وفي السنة العشرين من النبوة والسابعة من الهجرة، كان اتخاذ الخاتم، وإرسال الرسل إلى الملوك، ووقوع السحر به، وغزوة خيبر، وفتح وادي القرى، والدخول بأم حبيبة رضي الله عنها، وسرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى طائفة من هوازن، وعمرة القضاء، وتزوّج ميمونة رضي الله عنها، وسرية ابن أبي العوجاء رضي الله عنه إلى بني سليم.

وفي السنة الحادية والعشرين من النبوّة والثامنة من الهجرة، كان إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه وعمرو بن العاص رضي الله عنه وعثمان بن طلحة رضي الله عنه، وسرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله عنه إلى بني الملوح، وسريته إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله عنه بفدك، واتخاذ المنبر الشريف، وسرية شجاع بن وهب رضي الله عنه إلى بني عامر، وسرية كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح، وسرية مؤتة، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل؛ وسرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى سيف البحر، وسرية أبي قتادة رضي الله عنه إلى بطن أضم، وسرية عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه إلى الغابة، وغزوة فتح مكة شرفها الله تعالى، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى العزى بنخلة، وسرية عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم هذيل، وسرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة صنم للأوس، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جزيمة، وغزوة حنين، وسرية أبي عامر رضي الله عنه إلى أوطاس، وسرية أبي الطفيل إلى ذي الكفين، وغزوة الطائف، وولادة ولده إبراهيم، وقدوم أول الوفود عليه وهو وفد هوازن، ووفاة زينب بنت رسول الله ورضي عنها.

وفي السنة الثانية والعشرين من النبوّة وهي التاسعة من الهجرة، بعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم، وبعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق، وسرية قطبة بن عامر رضي الله عنه إلى خثعم، وسرية الضحاك الكلابي رضي الله عنه إلى بني كلاب، وسرية علقمة بن محرز رضي الله عنه إلى أهل الحبشة، وبعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى القلس، وبعث عكاشة بن محصن رضي الله عنه إلى الجباب، وإسلام كعب بن زهير، وهجره لنسائه، وغزوة تبوك، وسرية خالد بن الوليد رضي الله عنه من تبوك إلى أكيدر، وإرسال كتابه من تبوك إلى هرقل، وهدم مسجد الضرار، وقصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم، وقصة اللعان، وإسلام ثقيف، ورجم الغامدية، ووفاة النجاشي، ووفاة أم كلثوم رضي الله عنها، وموت عبد الله بن أبيّ بن سلول، وحج أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

وفي السنة الثالثة والعشرين من النبوّة وهي العاشرة من الهجرة قدوم عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، وبعث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، وبعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وبعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى اليمن، وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى تخريب ذي الخلصة، وبعث جرير بن عبد الله أيضا رضي الله عنه إلى ذي الكلاع، وبعث أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه إلى أهل نجران، وقصة بديل وتميم الداري، ووفاة ولده إبراهيم، وخروجه للحج.

وفي السنة الرابعة والعشرين من النبوة وهي الحادية عشرة من الهجرة، قدوم وفد النخع، وسرية أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى أبنى، وقصة الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة، وما وقع في ابتداء مرضه، ومدة مرضه، ووقت مرضه . وموته وغسله وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم، والله أعلم.

اللهم أعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك. اللهم افتح أقفال قلوبنا بذكرك، وأتمم علينا نعمتك من فضلك، واجعلنا من عبادك الصالحين. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. اللهم ألهمنا رشدنا، وأعذنا من شر نفوسنا. اللهم ارزقنا نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك. اللهم إنا مقصرون في طلب رضاك فأعنا عليه بحولك وقوتك {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.

اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، واختم لنا بخير، وأصلح لنا شأننا كله، وافعل ذلك بإخواننا وأحبابنا وسائر المسلمين، وأستغفر الله من قول بلا عمل، وأستغفره من كل خطأ وزلل، وأسأله علما نافعا، ورزقا واسعا، وقلبا خاشعا، وعملا متقبلا، وشفاء من كل داء، وأن يجعل ذلك حجة لنا ولا يجعله حجة علينا إنه جواد كريم رؤوف رحيم لطيف خبير، والحمد لله وحده.

اللهم صل على من لا نبيّ بعده عبدك ورسولك سيدنا محمد، الذات المكملة، والرحمة المنزلة من عندك. اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من خدام سنته آمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

السيرة الحلبية
مقدمة | نسبه الشريف | تزويج عبد الله أبي النبي آمنة أمه وحفر زمزم | حمل أمه به | وفاة والده | مولده | تسميته محمدا وأحمد | رضاعه | وفاة أمه وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب إياه | وفاة عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب له | سفره مع عمه إلى الشام | ما حفظه الله به في صغره | رعيته الغنم | حضوره حرب الفجار | شهوده حلف الفضول | سفره إلى الشام ثانيا | تزوجه خديجة بنت خويلد | بنيان قريش الكعبة | ما جاء من أمر رسول الله عن أحبار اليهود ورهبان النصارى والكهان والجان | سلام الحجر والشجر عليه قبل مبعثه | المبعث وعموم بعثته | بدء الوحي | وضوؤه وصلاته أول البعثة | أول الناس إيمانا به | استخفائه وأصحابه في دار الأرقم ودعائه إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه | عرض قريش عليه أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي | الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وإسلام عمر بن الخطاب | اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب وكتابة الصحيفة | الهجرة الثانية إلى الحبشة | وفد نجران | وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة | خروج النبي إلى الطائف | الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه | الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس | عرض رسول الله نفسه على القبائل أن يحموه ويناصروه | الهجرة إلى المدينة | بدء الأذان والإقامة | مغازيه: غزوة بواط | غزوة العشيرة | غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الأولى | تحويل القبلة | غزوة بدر الكبرى | غزوة بني سليم | غزوة بني قينقاع | غزوة السويق | غزوة قرقرة الكدر | غزوة ذي أمر | غزوة بحران | غزوة أحد | غزوة حمراء الأسد | غزوة بني النضير | غزوة ذات الرقاع | غزوة بدر الآخرة | غزوة دومة الجندل | غزوة بني المصطلق | غزوة الخندق | غزوة بني قريظة | غزوة بن لحيان | غزوة ذي قرد | غزوة الحديبية | غزوة خيبر | غزوة وادي القرى | عمرة القضاء | غزوة مؤتة | فتح مكة | غزوة حنين | غزوة الطائف | غزوة تبوك | سراياه وبعوثه: سرية حمزة بن عبد المطلب | سرية عبيدة بن الحارث | سرية سعد بن أبي وقاص | سرية عبد الله بن جحش | سرية عمير بن عدي الخطمي | سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك | سرية عبد الله بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف الأوسي | سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع | سرية زيد بن حارثة إلى القردة | سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد | سرية الرجيع | سرية القراء إلى بئر معونة | سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء | سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر | سرية محمد بن مسلمة لذي القصة | سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة أيضا | سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم | سرية زيد بن حارثة إلى العيص | سرية زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة | سرية زيد بن حارثة إلى جذام | سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق لبني فزارة | سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل | سرية زيد بن حارثة إلى مدين | سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك | سرية عبد الله بن رواحة إلى أُسَير | سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم | سرية سعيد بن زيد | سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى طائفة من هوازن | سرية أبي بكر إلى بني كلاب | سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بفدك | سرية غالب بن عبد الله الليثي | سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن | سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم | سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح | سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد | سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر | سرية كعب بن عمير الغفاري | سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل | سرية الخبط | سرية أبي قتادة إلى غطفان | سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة | سرية أبي قتادة إلى بطن أضم | سرية خالد بن الوليد إلى العزى | سرية عمرو بن العاص إلى سواع | سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة | سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة | سرية أبي عامر الأشعري إلى أوطاس | سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين الصنم ليهدمه | سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم | سرية قطبة بن عامر إلى خثعم | سرية الضحاك الكلابي | سرية علقمة بن مجزز | سرية علي بن أبي طالب | سرية علي بن أبي طالب إلى بلاد مذحج | سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل | سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أبنى | الوفود التي وفدت عليه | كتبه التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام | كتابه إلى قيصر | كتابه إلى كسرى | كتابه للنجاشي | كتابه للمقوقس ملك القبط | كتابه للمنذر بالبحرين | كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان | كتابه إلى هوذة | كتابه إلى الحارث الغساني | حجة الوداع | عمَره | معجزاته | خصائصه | أولاده | أعمامه وعماته | أزواجه وسراريه | خدمه الأحرار | الذين أعتقهم | كتّابه | حراسه | من ولي السوق في زمنه | من كان يضحكه | أمناء الرسول | شعراؤه | من كان يضرب الأعناق بين يديه | مؤذنوه | العشرة المبشرون بالجنة | حواريوه | سلاحه | خيله وبغاله وحمره | صفته الظاهرة | صفته الباطنة | مرضه ووفاته | بيان ما وقع من عام ولادته إلى زمان وفاته على سبيل الإجمال