السيرة الحلبية/سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني جذيمة
بناحية يلملم يدعوهم إلى الإسلام، أي ولم يكن علم بإسلامهم ولم يأمره بمقاتلتهم. أي إذا لم يسلموا.
بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد في ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار ومن بني سليم، أي وهو مقيم بمكة إلى بني جذيمة، وكانوا في الجاهلية قد قتلوا الفاكه عم خالد، وقتلوا أخا للفاكه أيضا في الجاهلية، وكانوا من أشرّ حي في الجاهلية وكانوا يسمون لعقة الدم، وقتلوا والد عبد الرحمن بن عوف، فلما علموا به وعلموا أن معه بني سليم وكانوا قتلوا منهم مالك بن الشريد وأخويه في موطن واحد خافوه، فلبسوا السلاح، فلما انتهى خالد إليهم تلقوه، فقال لهم خالد: أسلموا، فقالوا نحن قوم مسلمون. قال: فألقوا سلاحكم وانزلوا، قالوا: لا والله ما بعد وضع السلاح إلا القتل، ما نحن بآمنين لك ولا لمن معك. قال خالد: فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا، فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرقت بقية القوم.
وفي رواية: لما انتهى خالد إلى القوم فتلقوه، فقال لهم: ما أنتم؟ أي أمسلمون أم كفار؟ قالوا: مسلمون، قد صلينا، وصدّقنا بمحمد، وبنينا المساجد في ساحتنا وأذنا فيها. وفي لفظ: لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: إن بيننا وبين القوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح، قال: فضعوا السلاح فوضعوا، فقال: استأسروا، فأمر بعضهم فكتف بالتخفيف بعضا وفرقهم في أصحابه، فلما كان في السحر نادى منادي خالد : من كان معه أسير فليقتله، فقتل بنو سليم من كان معهم، وامتنع المهاجرون والأنصار ، وأرسلوا أسراهم، فلما بلغ النبي ﷺ ما فعل خالد، أي فإن رجلا من القوم جاء الى النبي ﷺ وأخبره بما فعل خالد، فقال له النبي ﷺ: هل أنكر عليه أحد ما صنع؟ قال: نعم، رجل أصفر ربعة، ورجل طويل أحمر، فقال عمر : والله يا رسول الله أعرفهما، أما الأول فهو ابني فهذه صفته، وأما الثاني فهو سالم مولى أبي حذيفة، فعند ذلك قال النبي ﷺ: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، أي قال ذلك مرتين، وبعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فودى لهم قتلاهم، قال له: يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، ودفع إليه مالا: أي إبلا وورقا، يدي به قتلاهم، ويعطيهم منه ما تلف عليهم من أموالهم، فودى قتلاهم، وأعطاهم عوض ما تلف عليهم حتى ميغلة الكلب: أي الإناء التي يشرب فيها، حتى إذا لم يبق لهم دم ولا مال، قال: هل بقي لكم دم أو مال؟ قالوا: لا، قال: أعطيكم ما بقي من المال احتياطا بدل ما لا تعلمون: أي مما تلف من أموالكم، ثم رجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فقال له رسول: أصبت وأحسنت أي وزاد.
وفي رواية: والذي أنا عبده لهي أحب إليّ من حمر النعم، ثم قام رسول الله ﷺ فاستقبل القبلة شاهرا يديه يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات انتهى.
ووقع بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شر بسبب ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، فقال له: إنما أخذت بثأر أبيك، فقال له عبد الرحمن: كذبت، أنا قتلت قاتل أبي. أي وفي رواية: كيف تأخذ مسلمين بقتل رجل في الجاهلية؟ فقال خالد: ومن أخبركم أنهم أسلموا؟ فقال: أهل السرية كلهم أخبروا بأنك قد وجدتهم بنوا المساجد وأقروا بالإسلام، فقال: جاءني أمر رسول الله ﷺ أني أغير، فقال له عبد الرحمن بن عوف: كذبت على رسول الله، وإنما أخذت بثأر عمك الفاكه، فقال رسول الله ﷺ: مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا فأنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل منهم ولا روحته، أي والغدوة: السير في أول النهار إلى الزوال. والروحة: السير من الزوال إلى آخر النهار.
والمراد بأصحابه هنا السابقون إلى الإسلام ومنهم عبد الرحمن بن عوف، بل هو المراد كما تصرح به الرواية الآتية، فقد نزّل الصحابة غير السابقين الذين يقع منهم الرد على الصحابة غير السابقين ـ لكون ذلك لا يليق بهم ـ منزلة غير الصحابة.
قال: ولما عاب عبد الرحمن على خالد الفعل المذكور أعان عبد الرحمن عمر بن الخطاب ، وأن رسول الله ﷺ أعرض عن خالد وقال: يا خالد ذر أصحابي. وفي رواية: «لا تسب أصحابي لو كان لك ذهبا فأنفقته قيراطا قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن» انتهى.
أي ولا يخفى أنه يبعد أن خالد بن الوليد إنما قتلهم لقولهم صبأنا ولم يقولوا أسلمنا، إلا أن يقال: يجوز أن يكون خالد فهم أنهم قالوا ذلك على سبيل الأنفة وعدم الانقياد إلى الإسلام، وأنه إنما أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا، ثم لا يخفى أنه جاء: «لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» ونقل الإمام السبكي عن الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: فإنه كان يحضر مجلس وعظه أن قوله: «لا تسبوا أصحابي كان خطابا لمن يأتي بعده من أمته، لأنه كان له تجليات، فرأى في بعضها سائر أمته الآتين من بعده، فقال خطابا لهم: لا تسبوا أصحابي، وأرتضي منه هذا التأويل ا هـ. فالنهي والخطاب بلا تسبوا أصحابي لغير الصحابة تنزيلا للغائب الذي لم يوجد منزلة الموجود الحاضر. وفيه أن هذا لا يساعد عليه المقام.
وفي الحديث من التنويه برفعة الصحابة وعلو منزلتهم ما يقطع الأطماع عن مداناتهم، فإن كون ثواب إنفاق مثل جبل أحد ذهبا في وجه الخير لا يبلغ ثواب التصديق بنصف المدّ الذي إذا طحن وعجن لا يبلغ الرغيف المعتاد أمر عظيم.
أقول: ووقع لخالد نظير ذلك في زمن خلافة الصديق فإن العرب لما ارتدت بعد موته عين خالدا لقتال أهل الردة وكان من جملتهم مالك بن نويرة، فأسره خالد هو وأصحابه، وكان الزمن شديد البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفنوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد ادفنوا أسراكم: أي اقتلوهم، فقتلوهم، وقتل مالك بن نويرة، فلما سمع خالد بذلك، قال: إذا أراد الله أمرا أمضاه، وتزوج خالد زوجة مالك بن نويرة وكانت من أجمل النساء. ويقال إن خالدا استدعى مالك بن نويرة وقال له: كيف ترتد عن الإسلام وتمنع الزكاة؟ ألم تعلم أن الزكاة قرينة الصلاة؟ فقال: كان صاحبكم يزعم ذلك، فقال له: هو صاحبنا وليس هو بصاحبك، يا ضرار اضرب عنقه، وأمر برأسه فجعل ثالث حجرين جعل عليها قدر يطبخ فيه لحم، فعل ذلك إرجافا لأهل الردة، فلما بلغ سيدنا عمر ذلك قال للصديق اعزله، فإن في سيفه رهقا كيف يقتل مالكا ويأخذ زوجته؟ فقال الصديق : لا أغمد سيفا سله على الكافرين والمنافقين، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكافرين والمنافقين» وقال الصديق في حق خالد: عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد.
وفي كلام السهيلي أنه روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكر الصديق: إن في سيف خالد رهقا فاقتله، وذلك حين قتل مالك بن نويرة وجعل رأسه تحت قدر حتى طبخ به، وكان مالك ارتد ثم رجع إلى الإسلام ولم يظهر ذلك لخالد، وشهد عنده رجلان من الصحابة برجوعه إلى الإسلام فلم يقبلهما وتزوج امرأته، فلذلك قال عمر لأبي بكر اقتله، فقال: لا أفعل لأنه متأول، فقال: اعزله، فقال: لا أغمد سيفا سله الله تعالى على المشركين، ولا أعزل واليا ولاه رسول الله.
قيل وأصل العداوة بين خالد وسيدنا عمر على ما حكاه الشعبي أنهما وهما غلامان تصارعا، وكان خالد ابن خال عمر، فكسر خالد ساق عمر فعولجت وجبرت.
ولما ولي سيدنا عمر الخلافة أوّل شيء بدأ به عزل خالدا لما تقدم، وقال: لا يلي لي عملا أبدا. وقيل لكلام بلغه عنه، ومن ثم أرسل إلى أبي عبيدة: إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه، وإن لم يكذب نفسه فهو معزول، فانتزع عمامته وقاسمه ماله نصفين فلم يكذب نفسه، فقاسمه أبو عبيدة ماله حتى إحدى نعليه وترك له الأخرى وخالد يقول: سمعا وطاعة لأمير المؤمنين.
وبلغه أن خالدا أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف وقد قصده ابتغاء إحسانه، فأرسل لأبي عبيدة أن يصعد المنبر ويوقف خالدا بين يديه وينزع عمامته وقلنسوته ويقيده بعمامته، لأن العشرة آلاف إن كان دفعها من ماله فهو سرف، وإن كان من مال المسلمين فهي خيانة، فلما قدم خالد على عمر قال له: من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟ فقال: من الأنفال والسهمان، قال: ما زاد على التسعين ألفا فهو لك، ثم قوّم أمواله وعروضه وأخذ منه عشرين ألفا، ثم قال له: والله إنك عليّ لكريم، وإنك لحبيب، ولم تعمل لي بعد اليوم على شيء، وكتب إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن مبخلة ولا خيانة ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، أي وأن نصر خالد على من قاتله من المشركين ليس بقوته ولا بشجاعته، بل بفضل الله.
فالصِّديق لم يعزل خالد بن الوليد مع فعله ما يكرهه بتأويل له في ذلك، كما أنه لم يعزله مع فعله لما كرهه حيث رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، لكونه كان شديدا على الكفار، لرجحان المصلحة على المفسدة. وسيدنا عمر عزله لخوف افتتان الناس به، فعزله وولى أبا عبيدة بن الجراح.
قال بعضهم: كان الصديق لينا وخالد بن الوليد شديدا، وعمر كان شديدا وأبو عبيدة لينا، فكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه ليحصل التعادل، والله أعلم.
وأخبر النبي ﷺ أنه كان في القوم رجل قال لهم أنا لست من هؤلاء ولكني عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها ثم افعلوا بي ما بدا لكم، ثم أشار إلى نسوة مجتمعات غير بعيد. قال بعضهم: فقلت: والله ليسير ما طلب، فأخذته حتى أوقفته عليهن فأنشد أبياتا، ثم جئت به، فقدموه فضربت عنقه، فقامت امرأة من بينهن، فجاءت حتى وقفت عليه فشهقت بفتح الهاء شهقة أو شهقتين ثم ماتت. أي وفي رواية فأكبت عليه تقبله حتى ماتت انتهى. أي وفي رواية فانحدرت إليه من هودجها فحنت عليه حتى ماتت، فعند ذلك قال رسول الله: «أما كان فيكم رجل رحيم القلب».