السيرة الحلبية/باب رعيته الغنم
قال: رعيته بكسر الراء، المراد الهيئة انتهى.
أقول: المبين في هذا الباب إنما هو فعله الذي هو رعيه للغنم، لا بيان هيئة رعيه للغنم، فرعيته بفتح الراء لا بكسرها، والله أعلم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط» أي وهي أجزاء من الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة. قال سويد بن سعيد: بعني كل شاة بقيراط، وقيل القراريط موضع بمكة.
فقد قال إبراهيم الحربي: قراريط موضع، ولم يرد بذلك القراريط من الفضة أي والذهب، قال: وأيد هذا الثاني بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الذهب والفضة بدليل أنه جاء في الصحيح «ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط» ولأنه جاء في بعض الروايات «لأهلي» ولا يرعى لأهله بأجرة: أي كما قضت بذلك العادة. وأيضا جاء في بعض الروايات بدل بالقراريط «بأجياد» فدل ذلك على أن القراريط اسم محل، عبر عنه تارة بالقراريط وتارة بأجياد.
وردّ بأن أهل مكة لا يعرفون بها محلا يقال له القراريط، وحينئذ يكون أراد بأهله أهل مكة لا أقاربه الذين تقضي العادة بأنه لا يرعى لهم بالأجرة، والإضافة تأتي لأدنى ملابسة، ويدل لذلك ما جاء في رواية البخاري «كنت أرعاها» أي الغنم «على قراريط لأهل مكة » وذكره البخاري كذلك في باب الإجارة، وذلك يبعد أن المراد بالقراريط المحل، وجعل على بمعنى الباء.
ويردّ القول بأن العرب لم تكن تعرف القراريط التي هي قطع الدراهم والدنانير: أي ويمنع دلالة قوله «ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط» على ذلك لجواز أن يكون المراد يذكر فيها القيراط كثيرا لكثرة التعامل به فيها، أو أن المراد بالقيراط ما يذكر في المساحة.
وجمع الحافظ ابن حجر بأنه رعى لأهله أي أقاربه بغير أجرة، ولغيرهم بأجرة، والمراد بقوله «أهلي» أهل مكة: أي الشامل لأقاربه ولغيرهم. قال: فيتجه الخبران ويكون في أحد الحديثين بين الأجرة أي التي هي القراريط، وفي الآخر بين المكان: أي الذي هو أجياد، فلا تنافي في ذلك، هذا كلامه ملخصا. وعبارته تقتضي وقوع الأمرين منه، وهو مما يتوقف على النقل في ذلك.
قال ابن الجوزي: كان موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم رعاة غنم. وهذا يرد قول بعضهم لم يرد ابن إسحاق برعايته الغنم إلا رعايته لها في بني سعد مع أخيه من الرضاع: أي وقد يتوقف في كون قول ابن الجوزي هذا بمجرده يردّ قول هذا البعض، نعم يرده ما تقدم وما يأتي. وفي الهدى أنه آجر نفسه قبل النبوة في رعيه الغنم.
ومن حكمة الله في ذلك أن الرجل إذا استرعى الغنم التي هي أضعف البهائم سكن قلبه الرأفة واللطف تعطفا، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذب أولا من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ووقع الافتخار بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم: أي عند النبي، فاستطال أصحاب الإبل، فقال رسول الله: «بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد» أي وهو موضع بأسفل مكة من شعابها، ويقال له جياد بغير همزة، ولعل المراد بقوله: «راعي غنم» أي وكذا قوله: «وأنا راعي غنم» أي وقد رعى الغنم، وقد رعيت الغنم، إذ الأخذ بظاهر الحالية بعيد، ولتنظر حكمة الاقتصار على من ذكر من الأنبياء مع قوله السابق: «ما بعث الله نبيا إلا رعي الغنم» وما يأتي من قوله «وما من نبي إلا وقد رعاها» وقد قال: «الغنم بركة والإبل عز لأهلها» وقال في الغنم «سمنها معاشنا، وصوفها رياشنا، ودفؤها كساؤنا» وفي رواية «سمنها معاش، وصوفها رياش» أي وفي الحديث «الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» ولعل هذا لا ينافي ما جاء في الأمثال قالوا: أحمق. وفي لفظ: أجهل من راعي ضأن لما بين، لأن الضأن تنفر من كل شيء فيحتاج راعيها إلى جمعها: أي وذلك سبب لحمقه فليتأمل. وفي رواية «الفخر والخيلاء» وفي لفظ «والرياء في أهل الخيل والوبر» قال: وفيما تقدم في الباب من أمر السمر دليل على ذلك: أي على رعايته للغنم أيضا، وما رواه جابر قال: «كنا مع رسول الله ﷺ نجني الكباث» بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة: أي وهو النضيج من ثمر الأراك، وفي الحديث «عليكم بالأسود من ثمر الأراك فإنه أطيبه، فإني كنت أجتنيه إذ كنت أرعى الغنم. قلنا: وكيف ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: نعم، وما من نبي إلا وقد رعاها» اهـ.
أقول: وحينئذ لا ينبغي لأحد عير برعاية الغنم أن يقول كان النبي ﷺ يرعى الغنم، فإن قال ذلك أدب، لأن ذلك كما علمت كمال في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دون غيرهم، فلا ينبغي الاحتجاج به، ويجرى ذلك في كل ما يكون كمالا في حق النبي ﷺ دون غيره كالأمية، فمن قيل له أنت أمي فقال كان النبي ﷺ أميا يؤدب، والله أعلم.