السيرة الحلبية/سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع
سلام بالتخفيف ابن أبي الحقيق على وزن نصير بالتصغير وبالحاء المهملة الخزرجي: أي وفي البخاري: أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق، ويقال له سلام بن أبي الحقيق، كان بخيبر، وكان تاجر أهل الحجاز.
لما قتلت الأوس: أي عبد الله بن مسلمة وأبو نائلة ومن تقدم معهما كعب بن الأشرف تذاكر الخزرج من يشابه كعب بن الأشرف في العداوة لرسول الله ﷺ من الخزرج، فذكروا أبا رافع سلام بن أبي الحقيق، أي لأنه كان يؤذي رسول الله.
أي وعن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله، وهو الذي حزب الأحزاب يوم الخندق، لأن الأوس والخزرج كانا يتنافسان فيم يقرّب إلى الله ورسوله، لا تفعل الأوس شيئا من ذلك إلا فعلت الخزرج نظيره وبالعكس، ويقولون: والله لا يذهبون بهذا فتيلا علينا في الإسلام، فانتدب لقتله خمسة من الخزرج منهم عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، واستأذنوا رسول الله ﷺ في ذلك: أي في أن يتكلموا بما يتوصلون به إليه من الحيلة، فأذن لهم وأمر عليهم عبد الله بن عتيك وأمرهم أن لا يقتلوا وليدا ولا امرأة فخرجوا حتى أتوا خيبر فتسوروا دار أبي رافع ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله، وكان أبو رافع في علية لها درجة، أي سُلّم من الخشب من محل يصعد عليه إلى تلك العلية، فطلعوا في تلك الدرجة حتى قاموا على باب تلك العلية، فاستأذنوا فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم؟ قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة.
وفي لفظ: لما صعدوا قدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يتكلم بلسان يهود، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته وقالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلوا عليه أغلقوا عليهم وعليها باب الحجرة ووجدوه وهو على فراشه، ما دلهم عليه في الظلمة إلا بياضه كأنه قبطية بيضاء فابتدروه بأسيافهم، ووضع عبد الله بن أنيس سيفه في بطنه وتحامل عليه حتى أنفذه وهو يقول قطني قطني: أي يكفيني يكفيني، وعند ذلك صاحت المرأة. قال بعضهم: ولما صاحت المرأة جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يتذكر نهي رسول الله ﷺ فيكف يده. قال: وفي رواية أن المرأة لما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بعضنا بالسيف فسكتت، فابتدرناه بأسيافنا وخرجنا من عنده، وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيىء البصر فوقع من الدرجة فوثبت رجله وثبا شديدا، أي جرحت جرحا شديدا. وفي لفظ: قد انكسرت ساقه. وفي آخر فانخلعت رجله فعصبها بعمامته، والجمع بين كسر ساقه وخلع رجله واضح، لأن الانخلاع يكون من المفصل، فقد انكسرت ساقه وانخلعت من مفصلها، ومع الكسر ولانخلاع حصلت فيها جراحة أيضا.
وأما قول ابن إسحاق فوثبت يده فقيل وهم والصواب رجله كما تقدم. وفي السيرة الهشامية. فوثبت يده، وقيل رجله.
وقد يقال: لا مانع من حصولهما، قال: فحملناه حتى أتينا محلا استخفينا فيه: أي وذلك المحل من أفنيتهم التي يلقون فيها كناستهم. وفي لفظ: أنهم كمنوا في نهر من عيونهم حتى سكن الطلب.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنهم أوقدوا النيران، وتفرقوا من كل وجه يطلبونهم أي وفي لفظ: فخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران حتى إذا أيسوا رجعوا إلى عدوّ الله، فاكتنفوه وهو بينهم يجود بنفسه، فقال بعضنا لبعض: كيف نعلم أن عدوّ الله مات؟ فقال رجل منهم: أنا ذاهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس قال: فوجدت امرأته تنظر في وجهه وفي يدها المصباح، ورجال يهود حوله وهي تحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي.
أي وعلى الرواية الآتية أنه أكذبها، ثم أقبلت تنظر في وجهه، ثم قالت فاضت وإله يهود: أي خرجت روحه، فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جئت وأخبرت أصحابي، واحتملنا عبد الله بن عتيك، وقدمنا إلى رسول الله.
وفي رواية: أن ابن عتيك لما عصب رجله انطلق حتى جلس على الباب. وقال: لا أخرج الليلة حتى أعلم أني قتلته أو لا؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلق يحجل إلى أصحابه وقال قد قتل الله أبا رافع، فأسرعوا، وليتأمل هذا مع ما قبله، وقوله أنعى هو بفتح العين، وقيل الصواب انعوا، والنعي: خبر الموت والاسم الناعي. ويقال له الناعية، وكانت العرب إذا مات فيهم الكبير ركب راكب فرسا وصار يذكر أوصافه ومآثره، وقد نهى عن ذلك. ولا منافاة بين كونه انطلق يحجل إلى أصحابه وكونهم حملوه، لأنه يجوز أن يكون عند وقوعه وحصول ما تقدم له لم يحس بالألم لما هو فيه من الاهتمام وقدر على المشي يحجل، ومن ثم جاء في بعض الروايات: فقمت أمشي ما بي قلبة: أي علة مهلكة. فلما وصل إلى أصحابه وعاد عليه المشي أحسّ بالألم، فحمله أصحابه، وهذا السياق يدل على أن الذي قتله عبد الله بن عتيك وحده، وهو ما في البخاري، وفي رواية أن الذي كسرت رجله أبو قتادة لأنهم لما قتلوه وخرجوا نسي أبو قتادة قوسه فرجع إليها وأخذها فأصيبت رجله فشدها بعمامته ولحق بأصحابه، وكانوا يتناوبون حمله حتى قدموا المدينة على النبي ﷺ فمسحها فبرئت، أي وقال لما رآنا: أفلحت الوجوه، قلنا أفلح وجهك يا رسول الله وأخبرناه بقتل عدوّ الله، واختلفنا عنده في قتله كل منا ادعاه، فقال رسول الله ﷺ هاتوا أسيافكم فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام. قال: والثابت في الصحيح كما علمت أن عبد الله بن عتيك هو الذي انفرد بقتله وأن عدوّ الله كان يحصن بأرض الحجاز، ولا منافاة لأن خيبر من الحجاز، أي من قراه وريفه.
فلما دنوا من خيبر وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس فهتف به البواب: يا عبد الله، ناداه بذلك كما ينادي الشخص شخصا لا يعرفه وهو يظن أنه من أهل الحصن، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب فدخل وكمن. فلما أغلق الباب علق المفاتيح. قال ثم أخذتها وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده. فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته عليّ من داخله حتى انتهيت إليه، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فضربته بالسيف فما أغنت شيئا وصاح، فخرجت من البيت، أي وعند ذلك قالت له امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك. قال: ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ قال ابن عتيك: ثم عدت وقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني بالسيف فعمدت إليه فضربته أخرى فلم تغن شيئا فتواريت ثم جئته كهيئة المغيث وغيرت صوتي، وإذا هو مستلق على ظهره فوضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم جئت إلى الدرجة فوقعت، فانكسرت رجلي فعصبتها بعمامتي فانطلقت إلى أصحابي، وقلت النجاة قد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي ﷺ فحدثه. فقال: ابسط رجلك فمسحها فكأني لم أشتكها قط، وعادت كأحسن ما كانت انتهى، أي وهذا ما في البخاري.
وفيه في رواية أخرى أن ابن عتيك قال: لما وضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمعت صوت العظم خرجت دهشا حتى أتيت السلم: أي الذي صعدت فيه أريد أن أنزل فأسقطت منه فانخلعت رجلي، فعصبتها، فأتيت أصحابي أحجل. فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية، فقال أنعى أبا رافع، فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله ﷺ فبشرته.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي أنهم مكثوا في ذلك المحل الذي استخفوا فيه يومين حتى سكن عنهم الطلب. وينبغي النظر إلى وجه الجمع بين ما ذكر.