السيرة الحلبية/باب بدء الوحي له
عن عائشة أول ما بدىء به رسول الله ﷺ من النبوة حين أراد الله تعالى كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة «لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق» أي وفي لفظ «كفرق الصبح» أي كضيائه وإثارته، فلا يشك فيها أحد كما لا يشك أحد في وضوح ضياء الصبح ونوره. وفي لفظ «فكان لا يرى شيئا في المنام إلا كان» أي وجد في اليقظة كما رأى، فالمراد بالصالحة الصادقة. وقد جاءت في رواية البخاري في التفسير: أي ولا يخفى أن رؤيا النبي ﷺ كلها صادقة وإن كانت شاقة كما في رؤياه يوم أحد.
قال القاضي وغيره وإنما ابتدىء رسول الله ﷺ بالرؤيا لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل ﵇ بالنبوة: أي الرسالة، فلا تتحملها القوى البشرية: أي لأن القوى البشرية لا تتحمل رؤية الملك وإن لم يكن على صورته التي خلقه الله عليها ولا على سماع صورته ولا على ما يخبر به لا سيما الرسالة، فكانت الرؤيا تأنيسا له والمراد بالملك جبريل، لكن ذكر بعضهم أن من لطف الله تعالى بنا عدم رؤيتنا للملائكة أي على الصورة التي خلقوا عليها لأنهم خلقوا على أحسن صورة فلو كنا نراهم لطارت أعيننا وأرواحنا لحسن صورهم.
وعن علقمة بن قيس «أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، أي ما يكون في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي» اهـ: أي في اليقظة لأن رؤيا الأنبياء وحي وصدق وحق، لا أضغاث أحلام ولا تخيل من الشيطان، إذ لا سبيل له عليهم، لأن قلوبهم نورانية، فما يرونه في المنام له حكم اليقظة، فجميع ما ينطبع في عالم مثالهم لا يكون إلا حقا، ومن ثم جاء «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا».
أقول: وحينئذ يكون في القول بأن من خصوصياته اجتماع أنواع الوحي الثلاثة له وعد منها الرؤيا في المنام، وعد منها الكلام من غير واسطة، وبواسطة جبريل نظر، لما علمت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعهم مشتركون في الرؤيا، وموسى حصل له كل من الكلام بلا واسطة وبواسطة جبريل.
وذكر بعضهم أن مدة الرؤيا ستة أشهر قال فيكون ابتداء الرؤيا حصل في شهر ربيع الأول، وهو مولده ثم أوحى الله إليه في اليقظة أي في رمضان ذكره البيهقي وغيره.
وجاء في الحديث: «الرؤيا الصادقة » وفي البخاري «الرؤيا الحسنة: أي الصادقة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ». قال بعضهم: معناه أن النبي ﷺ حين بعث أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين يوحي إليه ومدة الوحي إليه في اليقظة ثلاث وعشرون سنة، ومدة الوحي إليه في المنام أي التي هي الرؤيا ستة أشهر، فالمراد خصوص رؤيته وخصوص نبوته، وهذا القيل نقله في الهدى وأقره حيث قال: كانت الرؤيا ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاثا وعشرين سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا، هذا كلامه. وحينئذ يكون المعنى ورؤيتي جزء من ستة وأربعين جزءا من نبوتي، ولا يخفى أن هذا لا يناسب «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح» إذ هو يقتضي أن مطلق الرؤيا الصالحة جزء من مطلق النبوة الشامل لنبوته ونبوة غيره فليتأمل. ولم أقف في كلام أحد على مشاركة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له في هاتين المدتين. وحينئذ تحمل الخصوصية التي ادعاها بعضهم على هذا.
ومما يدل على أن المراد مطلق الرؤيا ومطلق النبوة لا خصوص رؤياه ونبوته، ما جاء في ذلك من الألفاظ التي بلغت خمسة عشر لفظا.
ففي رواية «أنها جزء من سبعين جزءا» وفي رواية «من أربعة وأربعين» وفي رواية «أنها جزء من خمسين جزءا من النبوة » وفي رواية «من تسعة وأربعين» وفي أخرى «أنها جزء من ستة وسبعين» وفي أخرى «من خمسة وعشرين جزءا» وفي أخرى «من ستة وعشرين جزءا» وفي أخرى «من أربعة وعشرين جزءا» فإن ذلك باعتبار الأشخاص لتفاوت مراتبهم في الرؤيا.
وذكر الحافظ ابن حجر أن أصح الروايات مطلقا رواية ستة وأربعين، ويليها رواية أنها جزء من سبعين جزءا.
فعلم أن الرؤية المذكورة جزء من مطلق النبوة: أي كجزء منها من جهة الاطلاع على بعض الغيب، فلا ينافي انقطاع النبوة بموته.
ومن ثم جاء «ذهبت النبوة » أي لا توجد بعدي. «وبقيت المبشرات» أي المرائي التي كانت مبشرات للأنبياء بالنبوة، بدليل ما في رواية «لم يبق بعدي من المبشرات» أي مبشرات النبوة «إلا الرؤيا» أي مجرد الرؤيا الخالية عن شيء من مبشرات النبوة، بدليل ما في لفظ «لم يبق إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم» أي لنفسه «أو ترى له».
لا يقال: الرؤيا الصادقة تكون من الكافر أو ترى له، وهو خارج بالرجل الصالح وبالمسلم. لأنا نقول: لو فرض وقوع ذلك كان استدراجا. وفيه أنها واقعة، وظاهر سياق الحديث الحصر، وكما تكون الرؤيا مبشرة بخير عاجل أو آجل تكون منذرة بشر كذلك قال بعضهم: وقد تطلق البشارة التي هي الخبر السار على ما يشمل النذارة التي هي الخبر الضار بعموم المجاز، بأن يراد بالبشارة ما يعود إلى الخير، لأن النذارة ربما قادت إلى الخير.
وفي الإتقان: ومن المجاز تسمية الشيء باسم ضده نحو {فبشرهم بعذاب أليم} اهـ أي وهي في هذه الآية للتهكم.
وجاء رجل أي وهو أبو قتادة الأنصاري إلى النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله إني أرى في المنام الرؤيا تمرضني، فقال له النبي ﷺ: الرؤيا الحسنة من الله، والسيئة من الشيطان، فإذا رأيت الرؤيا تكرهها فاستعذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاث مرات فإنها لا تضرك» أي وحكمة التفل احتقار الشيطان واستقذاره.
وفي رواية «إذا رأى أحدكم ما يكره فليعذ بالله من شرها ومن الشيطان، كأن يقول: أعوذ بالله من شر ما رأيت ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثا، ولا يحدّث بها أحدا فإنها لا تضره» زاد في رواية «وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه» زاد في أخرى «وليقم فليصلّ» أي ليكون فعل ذلك سببا للسلامة من المكروه الذي رآه.
وفي البخاري «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليتحدث بها: أي ولا يخبر بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما كره فإنما هي من الشيطان» أي لا حقيقة لها، وإنما هي تخيل يقصد به تخويف الإنسان والتهويل عليه «فليستعذ بالله من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره» وفي الأذكار «ثم ليقل: اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام» وفي الحديث «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان».
قيل في معناه لأن صاحب الرؤيا يرى الشيء على ما هو عليه، بخلاف صاحب الحلم فإنه يراه على خلاف ما هو عليه، فإن الحلم مأخوذ من حلم الجلد: إذا فسد. والرؤيا قيل إنها أمثلة يدركها الرائي بجزء من القلب لم تستول عليه آفة النوم، وإذا ذهب النوم من أكثر القلب كانت الرؤيا أصفى وذكر الفخر الرازي أن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها، أي أثرها عن قرب، والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين.
والسبب فيه أن حكمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل.
وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدما على ظهوره بزمان طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذكر الخير أكثر، وهذا جري على ما هو الغالب، وإلا فقد قيل لجعفر الصادق: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: «رأى النبي ﷺ في منامه كأن كلبا أبقع يلغ في دمه» فكان أي ذلك الكلب الأبقع شمرا قاتل الحسين وكان أبرص، فكان تأخير الرؤيا بعد خمسين سنة.
وجاء عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله ﷺ قال لخديجة: «إذا خلوت سمعت نداء أن يا محمد يا محمد» وفي رواية «أرى نورا» أي يقظة لا مناما «وأسمع صوتا وقد خشيت أن يكون والله لهذا الأمر» وفي رواية «والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط ولا الكهان، وإني لأخشى أن أكون كاهنا» أي فيكون الذي يناديني تابعا من الجن، لأن الأصنام كانت الجن تدخل فيها، وتخاطب سدنتها، والكاهن يأتيه الجني بخبر السماء وفي رواية «وأخشى أن يكون بي جنون» أي لمة من الجن «فقالت: كلا يا بن عم ما كان الله ليفعل ذلك بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث» وفي رواية «إن خلقك لكريم» أي فلا يكون للشيطان عليك سبيل. استدلت بما فيه من الصفات العلية والأخلاق السنية على أنه لا يفعل به إلا خيرا، لأن من كان كذلك لا يجزى إلا خيرا.
ونقل الماوردي عن الشعبي أن الله قرن إسرافيل ﵇ بنبيه ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، يعلمه الشيء بعد الشيء ولا يذكر له القرآن، فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة، وأمهله هذه المدة ليتأهب لوحيه.
وفيه أنه لو كان في تلك المدة مبشرا بالنبوة ما قال لخديجة ما تقدم، إلا أن يقال ما تقدم إنما قاله لخديجة في أول أمر، ويدل لذلك ما قيل إنه مكث خمس عشرة سنة يسمع الصوت أحيانا ولا يرى شخصا، وسبع سنين يرى نورا ولم ير شيئا غير ذلك، وإن المدة التي بشر فيها بالنبوة كانت ستة أشهر من تلك المدة التي هي اثنان وعشرون سنة، وهذا الشيء الذي كان يعلمه له إسرافيل لم أقف على ما هو، والله أعلم.
وبعد ذلك حبب الله إليه الخلوة التي يكون بها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق فهي تفرغ القلب عن أشغال الدنيا لدوام ذكر الله تعالى، فيصفو وتشرق عليه أنوار المعرفة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده. وكان يخلو بغار حراء بالمد والقصر، وهذا الجبل هو الذي نادى رسول الله ﷺ بقوله إلي يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فكان يتحنث: أي يتعبد به أي بغار حراء الليالي ذوات العدد، ويروى أولات العدد: أي مع أيامها، وإنما غلب الليالي لأنها أنسب بالخلوة. قال بعضهم: وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد، فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهر رمضان أو غيره.
وفي كلام بعضهم ما قد يدل على أنه لم يختل أقل من شهر، وحينئذ يكون قوله في الحديث الليالي ذوات العدد محمول على القدر الذي كان يتزود له فإذا فرغ زاده رجع إلى مكة وتزود إلى غيرها إلى أن يتم الشهر، وكذا قول بعضهم؟ فتارة كان ثلاث ليال، وتارة سبع ليال، وتارة شهرا. ولم يصح أنه اختلى أكثر من شهر. قال السراج البلقيني في شرح البخاري: لم يجىء في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده ، هذا كلامه وسيأتي بيان ذلك قريبا.
ثم إذا مكث تلك الليالي: أي وقد فرغ زاده يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها: أي قيل وكانت زوادته الكعك والزيت. وفيه أن الكعك والزيت يبقى المدة الطويلة، فيمكث جميع الشهر الذي يختلى فيه ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر مدة الخلوة كانت شهرا، فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله يتزود قدر ذلك، ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش، وكان غالب أدمهم اللبن واللحم، وذلك لا يدخر منه لغاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه، ولا سيما وقد وصف بأنه كان يطعم من يرد عليه هذا كلامه.
وهو يشير فيه إلى ثلاثة أجوبة:
الأول: أنه لم يكن في سعة بحيث يدخر ما يكفيه شهرا من الكعك والزيت.
الثاني: أن غالب أدمهم كان اللحم واللبن وهو لا يدخر شهرا.
الثالث: أنه على فرض أن يدخر ما يكفيه شهرا أي من الكعك والزيت إلا أنه كان يطعم فربما نفد ما ادخره.
وإنما اختار الزيت للأدم لأن دسومته لا ينفر منها الطبع، بخلاف اللبن واللحم، ومن ثم جاء «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة » وقوله: «ائتدموا من هذه الشجرة المباركة » أي من عصارة ثمرة هذه الشجرة المباركة التي هي الزيتونة وهو الزيت. وقيل لها مباركة لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها كأرض بيت المقدس، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء: أي في اليوم والشهر المتقدم ذكر.
وعن عبيد بن عبيد «كان رسول الله ﷺ يجاور في حراء في كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث فيه قريش في الجاهلية » أي المتألهين منهم: أي وكان أول من تحنث فيه من قريش جده عبد المطلب، فقد قال ابن الأثير: أول من تحنث بحراء عبد المطلب، كان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين ثم تبعه على ذلك من كان يتأله: أي يتعبد ( ) كورقة بن نوفل وأبي أمية بن المغيرة، وقد أشار إلى تعبده صاحب الهمزية بقوله:
ألف النسك والعبادة والخلـ ** ـوة طفلا وهكذا النجباء
وإذا حلت الهداية قلبا ** نشطت في العبادة الأعضاء
أي ألف العبادة والخلوة في حال كونه طفلا، ومثل هذا الشأن العلى شأن الكرام، وإنما كان هذا شأن الكرام، لأنه إذا حلت الهداية قلبا نشطت الأعضاء في العبادة، لأن القلب رئيس البدن المعول عليه في صلاحه وفساده ولعل الخلوة في كلام صاحب الهمزية المراد بها مطلق اعتزاله للناس، وأراد بطفلا زمن رضاعه عند حليمة.
فقد تقدم عنها أنها قالت: لما ترعرع رسول الله ﷺ كان يخرج إلى الصبيان وهم يعلبون فيتجنبهم لا خصوص اعتزاله الناس في غار حراء فلا ينافي قوله طفلا ظاهر ما تقدم من أن خلوته بغار حراء كانت في زمن تزوجه بخديجة ، فكان يجاور ذلك الشهر، يطعم من جاءه من المساكين: أي لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية: أي في ذلك المحل أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين.
وقد قيل إن هذا كان تعبده في غار حراء أي مع الانقطاع عن الناس، وإلا فمجرد إطعام المساكين لا يختص بذلك المحل: إلا إن كان ذلك المحل صار في ذلك الشهر مقصودا للمساكين دون غيره.
وقيل كان تعبده التفكر مع الانقطاع عن الناس: أي لا سيما إن كانوا على باطل، لأن في الخلوة يخشع القلب وينسى المألوف من مخالطة أبناء الجنس المؤثرة في البنية البشرية، ومن ثم قيل: الخلوة صفوة الصفوة.
وقول بعضهم: كان يتعبد بالتفكر: أي مع الانقطاع عما ذكرنا، وإلا فمجرد التفكر لا يختص بذلك المحل، إلا أن يدعى أن التفكر فيه أتم من التفكر في غيره لعدم وجود شاغل به. وقيل تعبده كان بالذكر وصححه في (سفر السعادة) وقيل بغير ذلك.
من ذلك الغير أنه قيل كان يتعبد قبل النبوة بشرع إبراهيم. وقيل بشريعة موسى غير ما نسخ منها في شرعنا وقيل بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: تعبد قبل نبوته بشريعة إبراهيم حتى فجأه الوحي وجاءته الرسالة، فالولي الكامل يجب عليه متابعة العمل بالشريعة المطهرة حتى يفتح الله له في قلبه عين الفهم عنه فيلهم معاني القرآن، ويكون من المحدثين بفتح الدال ثم يصير إلى إرشاد الخلق. وكان إذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله تعالى ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته وذلك شهر رمضان، وقيل شهر ربيع الأول، وقيل شهر رجب خرج رسول الله ﷺ إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله: أي عياله التي هي خديجة إما مع أولادها أو بدونهم، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى فيها برسالته ورحم العباد بها، وتلك الليلة ليلة سبع عشرة من ذلك الشهر، وقيل رابع عشر منه، وقيل كان ذلك ليلة ثمان من ربيع الأول: أي وقيل ليلة ثالثه.
قال بعضهم: القول بأنه في ربيع الأول يوافق القول بأنه بعث على رأس الأربعين لأن مولده كان في ربيع الأول على الصحيح: أي وهو قول الأكثرين وقيل كان ذلك ليلة أو يوم السابع والعشرين من رجب.
فقد أورد الحافظ الدمياطي في سيرته عن أبي هريرة قال: «من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا» وهو اليوم الذي نزل فيه جبريل على النبي ﷺ بالرسالة وأول يوم هبط فيه جبريل هذا كلامه، أي أول يوم هبط فيه على النبي ﷺ ولم يهبط عليه قبل ذلك، وسيأتي في بعض الروايات أن جبريل ﵇ نزل في سحر تلك الليلة التي هي ليلة الاثنين. ويجوز أن يكون كل من تلك الليالي كانت ليلة الاثنين، فقد جاء أن رسول الله ﷺ قال لبلال: «لا يفوتك صوم يوم الاثنين، لأني ولدت فيه، ونبئت فيه» فلا مخالفة بين كونه نبىء في الليل وبين كونه نبىء في اليوم، لأن السحر قد يلحق بالليل.
وفي كلام بعضهم أتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان في حراء، فجاء بأمر الله تعالى وهذا القول: أي أن البعث كان في رمضان قال به جماعة، منهم الإمام الصرصري حيث قال:
وأتت عليه أربعون فأشرقت ** شمس النبوة منه في رمضان
واحتجوا بأن أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن. وأجيب بأن المراد بنزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة في سماء الدنيا، قال رسول الله: «فجاءني وأنا نائم بنمط» وهو ضرب من البسط، وفي رواية «جاءني وأنا نائم بنمط من ديباج، فيه كتاب أي كتابة، فقال اقرأ، فقلت: ما أقرأ» أي أنا أمي لا أحسن القراءة أي قراءة المكتوب أو مطلقا «فغطني، أو فغتني» بالتاء بدل من الطاء به: أي غمني بذلك النمط، بأن جعله على فمه وأنفه قال: «حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال اقرأ أي من غير هذا المكتوب، فقلت: ماذا أقرأ وما أقول ذلك إلا افتداء منه: أي تخلصا منه أن يعود لي بمثل ما صنع أي إنما استفهمت عما أقرؤه ولم أنف خوفا أن يعود لي بمثل ما صنع عند النفي: أي وفي رواية «فقلت والله ما قرأت شيئا قط، وما أدري شيئا أقرؤه»: أي لأني ما قرأت شيئا فهو من عطف السبب على المسبب قال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} فقرأتها فانصرف عني، وهببت» أي استيقظت «من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا».
أقول: أي استقر ذلك في قلبي وحفظته. ثم لا يخفى أن كلام هذا البعض، وهو أنه جاءه ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له يوم الاثنين، محتمل لأن يكون أتاه بذلك النمط في ليلة السبت وليلة الأحد، وسحر يوم الاثنين وهو نائم لا يقظة لقوله: «ثم هببت من نومي».
ولا ينافي ذلك قوله، ثم ظهر له بالرسالة، أي أعلن له بما يكون سببا للرسالة الذي هو أقرأ الحاصل في اليقظة. وحينئذ يكون تكرر مجيئه هو السبب في استقرار ذلك في قلبه. وحينئذ لا يبعده قوله في الليلة الثانية: «ما قرأت شيئا» لأن المراد لم يتقدم لي قراءة قبل مجيئك إلي، ولا يبعده أيضا قوله: «ما أدري ما أقرأ» لأنه لم يستقر ذلك في قلبه لما علمت أن سبب الاستقرار التكرر، فلم يستقر ذلك في قلبه في الليلة الأولى.
وفي سيرة الشامية أن مجيء جبريل ﵇ له بالنمط لم يتكرر، وأنه كان قبل دخوله غار حراء، وهذا السياق يدل على أنه كان بعده.
وفي (سفر السعادة) ما يقتضي أنه جاء بالنمط يقظة في حراء، ونصه «فبينما هو في بعض الأيام قائم على جبل حراء إذ ظهر له شخص وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله لهذه الأمة، ثم أخرج له قطعة نمط من حرير مرصعة بالجواهر ووضعها في يده وقال: اقرأ، قال والله ما أنا بقارىء ولا أدري في هذه الرسالة كتابة » أي لا أعلم ولا أعرف المكتوب فيها، قال: «فضمني إليه وغطني حتى بلغ مني الجهد، فعل ذلك بي ثلاثا وهو يأمرني بالقراءة، ثم قال اقرأ باسم ربك». هذا كلامه فليتأمل، والله أعلم «قال فخرجت» أي من الغار: أي وذلك قبل مجيء جبريل إليه باقرأ خلافا لما يقتضيه السياق «حتى إذا كنت في شط من الجبل» أي في جانب منه «سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، فإذا جبريل على صورة رجل صافّ قدميه» أي وفي رواية «واضعا إحدى رجليه على الأخرى في أفق السماء» أي نواحيها «يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا، ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة: أي في الغار، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها أي مستندا إليها، فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي».
أقول: وهذا يدل على أن خديجة كانت معه بغار حراء، وهو الموافق لما تقدم من قوله ومعه أهله أي خديجة على ما تقدم.
وقد يخالف ذلك ما روي أن خديجة صنعت طعاما ثم أرسلته إلى رسول الله ﷺ فلم تجده بحراء، فأرسلت في طلبه إلى بيت أعمامه وأخواله فلم تجده، فشق ذلك عليها، فبينما هي كذلك إذا أتاها فحدثها بما رأى وسمع، فإن هذا يدل على أنها لم تكن معه بحراء.
وقد يقال: يجوز أن تكون خرجت معه أولا وأرسلت رسلها إليه وهي بحراء فلم تجده، وأن الرسل أخطؤوا محل وقوفه بالجبل الذي هو حراء، ثم رجعت إلى مكة وأرسلت رسلها إليه بحراء، لاحتمال عوده إليه، ثم أرسلت إلى بيت أعمامه وأخواله لما لم تجده بحراء، فإرسالها تكرر مرتين مع اختلاف محلها، ويكون قوله: «وانصرفت راجعا إلى أهلي»: أي بمكة لا بحراء، لأنه يجوز أن يكون بلغه رجوع خديجة إلى مكة.
هذا على مقتضى الجمع. وأما على ظاهر الرواية الأولى يكون رجوعه إلى أهله بحراء كما ذكرنا، وهو يدل على أن خروجه إلى شط الجبل كان من غار حراء كما ذكرنا لا من مكة الذي يدل عليه قول الشمس الشامي «فخرج مرة أخرى إلى حراء، قال: فخرجت حتى أتيت الشط من الجبل سمعت صوتا» إلى آخره فليتأمل والله أعلم.
قال «ثم حدثتها بالذي رأيت»: أي من سماع الصوت ورؤية جبريل، وقوله له: يا محمد أنت رسول الله، فقالت أبشر يا بن عمي واثبت، فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبيّ هذه الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها: أي التي تتجمل بها عند الخروج.
ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله ﷺ أنه رأى وسمع: أي رأى جبريل وسمع منه أنت رسول الله وأنا جبريل، فقال ورقة: قدوس قدوس بالضم والفتح، والذي نفسي بيده لئن كنت صدقت يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى الذي هو جبريل، وإنه لنبيّ هذه الأمة، فقولي له يثبت. والقدوس: الطاهر المنزه عن العيوب، وهذا يقال للتعجب، أي وجاء بدل قدوس سبوح سبوح، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان، جبريل أمين الله بينه وبين رسله: أي لأن هذا الاسم لم يكن معروفا بمكة ولا غيرها من بلاد العرب، فرجعت خديجة إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله ﷺ جواره وانصرف: أي فرغ ما تزوّده وليس المراد انقضاء جواره بانقضاء الشهر، لأن ذلك كان قبل أن يجيء إليه جبريل باقرأ باسم ربك يقظة كما تقدم. أي وذلك كان في الشهر الذي أكرمه الله فيه برسالته.
فعند ذلك صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله، فقال له ورقة والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه، ولتقاتلنه ولتخرجنه بها السكت، ولا تكون إلا ساكنة. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرنّ الله نصرا يعلمه، ثم أدنى ورقة رأسه منه وقبل يأفوخه، أي وسط رأسه، لأن اليأفوخ بالهمزة وسط الرأس إذا استد وقبل استداده كما في رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء. ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى منزله أي ولا مانع من تكرار مراجعة ورقة فتارة قال قدوس قدوس، وتارة قال سبوح سبوح، أو جمع بين ذلك في وقت واحد. وبعض الرواة اقتصر على أحد اللفظين، وقد جاء أن أبا بكر دخل على خديجة أي وليس عندها رسول الله، فقالت له: يا عتيق إذهب بمحمد إلى ورقة: أي بعد أن أخبرته بما أخبرها به رسول الله ﷺ كما سيذكر، فلما دخل رسول الله ﷺ أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة، وذهب به إلى ورقة، فقال له رسول الله ﷺ: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا إلى الأرض، فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني: أي وهذا قبل أن يراه ويجتمع به ويجيء إليه بالقرآن. وحينئذ يكون تكرر سؤال ورقة ثلاث مرات، الأولى على يد أبي بكر . وذلك قبل أن يرى جبريل. والثانية التي رأى فيها جبريل وسمع منه ولم يجتمع به، وذلك عند اجتماعه به في المطاف. والثالثة التي بعد مجيء جبريل له يقظة بالقرآن أي باقرأ باسم ربك على المشهور، من أنه أوّل ما نزل، وذلك على يد خديجة، ولا ينافي ذلك ما ذكره الحافظ ابن حجر كما سيأتي أن القصة واحدة لم تتعدد ومخرجها متحد، لأن مراده قصة مجيء جبريل له يقظة باقرأ باسم ربك وسيأتي ما فيه.
وإنما قال ورقة له يا ابن أخي، قيل لأنه يجتمع مع عبد الله والد النبي ﷺ في قصيّ فكان عبد الله بمثابة الأخ له أو أنه قال ذلك توقيرا له وإنما ذكر ورقة موسى دون عيسى عليهما الصلاة والسلام، مع أن عيسى أقرب منه وهو على دينه لأنه كان على دين موسى، ثم صار على دين عيسى عليهما الصلاة والسلام أي كان يهوديا. ثم صار نصرانيا، أي لأن نبوّة موسى مجمع عليها أي على أنها ناسخة لما قبلها، وأن شريعة عيسى ، قيل إنها متممة ومقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها، قيل ولأن ورقة كان ممن تنصر أي كما علمت، والنصارى لا يقولون بنزول جبريل على عيسى أي بل كان يعلم الغيب، لأنهم يقولون فيه إنه أحد الأقانيم الثلاثة اللاهوتية وذلك الأقنوم هو أقنوم الكلمة التي هي العلم حل بناسوت المسيح واتحد به، فلذلك كان يعلم علم الغيب ويخبر بما في الغد.
أقول: وفيه أن في رواية «وإنك على مثل ناموس موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام» أي ففي بعض الروايات جمع وفي بعضها اقتصر على موسى. وفي الاقتصار على موسى دون الاقتصار على عيسى ما علمت، ثم رأيت أنه جاء في غير الصحيح الاقتصار على عيسى فقال هذا الناموس الذي نزل على عيسى، فهو كما جاء الجمع بينهما جاء الاقتصار على كل منهما.
ولا ينافي ذلك أي مجيء جبريل لعيسى ما تقدم عن النصارى من أنهم لا يقولون بنزول جبريل على عيسى، لجواز أن يكون المراد لا ينزل عليه دائما وأبدا بالوحي، بل في بعض الأحيان، وفي بعضها يعلم الغيب بغير واسطة. ثم رأيت في فتح الباري أن عند إخبار خديجة لورقة بالقصة قال لها هذا ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي ﷺ له بالقصة قال له هذا ناموس موسى للمناسبة بينهما لأن موسى أرسل بالنقمة على فرعون، وقد وقعت النقمة على يد نبينا على فرعون هذه الأمة الذي هو أبو جهل، هذا كلامه فليتأمل. وقد جاء أنه قال في حق أبي جهل في يوم بدر «هذا فرعون هذه الأمة » والله أعلم.
وعن عائشة «جاءه الملك سحرا» أي سحر يوم الاثنين يقظة لا مناما، أي بغير نمط «فقال له اقرأ. قال: ما أنا بقارىء» أي لا أوجد القراءة، قال: «فأخذني فغطني» أي ضمني وعصرني. وفي لفظ «فأخذ بحلقي حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء» أي لا أحسن القراءة، أي لا أحفظ شيئا أقرؤه «فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارىء» أي أيّ شيء أقرؤه.
وفيه أنه لو كان كذلك لقال ما أقرأ، أو ماذا أقرأ. إلا أن يقال أطلق ذلك وأراد لازمه الذي هو الاستفهام، خصوصا وقد قدمه قال: «فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}».
أقول: فقولنا: أي بغير نمط هو ظاهر الروايات، ويجوز أن يكون لفظ النمط سقط في هذه الرواية كغيرها من الروايات، ويؤيده اقتصار السيرة الشامية على مجيئه بالنمط. وأيضا كيف الجمع بين قوله هنا ما ذكر وبين قوله هناك: «فكأنما كتب في قلبي كتابا» «وما بالعهد من قدم». إلا أن يقال يجوز أن يكون جوز أن يكون جبريل يريد منه قراءة غير الذي قرأه وكتب في قلبه. ولا يخفى أنه علم أن قول جبريل اقرأ أمر بالقراءة.
وفيه أنه من التكليف بما لا يطاق، أي في الحال: أي ومن ثم ادعى بعضهم أنه لمجرد التنبيه واليقظة لما يلقى إليه.
وفيه أنه لو كان كذلك لم يحسن أن يقال في جوابه: ما أنا بقارىء الذي معناه لا أوجد القراءة. إلا أن يقال جبريل أراد التنبيه لا الأمر، وجوابه بناء على مقتضى ظاهر اللفظ.
وعلم أن قوله: ما أنا بقارىء في المواضع الثلاثة معناه مختلف: ففي الأول معناه الإخبار بعدم إيجاد القراءة، والثاني معناه الإخبار بأنه لا يحسن شيئا يقرؤه وإن كان ذلك هو مستند الأول، والثالث معناه الاستفهام عن أي شيء أن يقرؤه، وفيه ما علمت.
وبعضهم جعل قوله الأول لا أقرأ: لا أحسن القراءة بدليل أنه جاء في بعض الروايات ما أحسن أن أقرأ. وحينئذ يكون بمعنى الثاني، فيكون تأكيدا له: أي الغرض منهما شيء واحد.
قال بعضهم: وجه المناسبة بين الخلق من العلق والتعليم وتعليم العلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالما، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها، وهي تعلم العلم.
وقد اشتملت هذه الآيات على براعة الاستهلال: وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله فإنها اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها ببسم الله، إلى غير ذلك مما ذكره في الإتقان. قال فيه: من ثم قيل إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن، لأن عنوان الكتاب ما يجمع مقاصده بعبارة موجزة في أوله، وكرر جبريل الغط ثلاثا للمبالغة. وأخذ منه بعض التابعين وهو القاضي شريح أن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات.
وأورد الحافظ السيوطي عن الكامل لابن عدي بسند ضعيف عن ابن عمر «أن النبي ﷺ نهى أن يضرب المؤدب الصبي فوق ثلاث ضربات».
وذكر السهيلي أن في ذلك: أي الغط ثلاثا إشارة إلى أنه يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرج بعد ذلك فكانت الأولى إدخال قريش له الشعب والتضييق عليه. والثانية اتفاقهم على الاجتماع على قتله. والثالثة خروجه من أحب البلاد إليه، وجاءه جبريل وميكائيل: أي قبل قول جبريل له اقرأ فشق جبريل بطنه وقلبه، إلى آخر ما تقدم في الكلام على أمر الرضاع ثم قال له جبريل: اقرأ الحديث، فعلم أن اقرأ باسم ربك نزلت من غير بسملة، وقد صرح بذلك الإمام البخاري، وما ورد عن ابن عباس «بأن أول ما نزل جبريل على محمد قال: يا محمد استعذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: اقرأ باسم ربك» قال الحافظ ابن كثير. هذا الأثر غريب، في إسناده ضعف وانقطاع، أي فلا يدل للقول بأن أول ما نزل بسم الله الرحمن الرحيم، حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره، وبه يرد على الجلال السيوطي حيث قال: وعندي فيه أن هذا لا يعد قولا برأسه، فإن من ضرورة نزول السورة أي سورة اقرأ نزول البسملة معها، فهي أول آية نزلت على الإطلاق، هذا كلامه والله أعلم.
قال الحافظ ابن حجر: هذا الذي وقع له في ابتداء الوحي من خصائصه، إذ لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك. «ولما قرأ رسول الله ﷺ تلك الآية رجع بها ترجف بوادره» والبادرة اللحمة التي بين المنكب والعنق، تتحرك عند الفزع ويقال لها الفريصة والفرائص: أي وفي رواية «فؤاده» أي قلبه، ولا مانع من اجتماع الأمرين، لأن تحرك البادرة ينشأ عن فزع القلب «حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني» أي غطوني بالثياب «فزملوه حتى ذهب عنه الروع» بفتح الراء: أي الفزع «ثم أخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي» وفي رواية «على عقلي» كما في (الأمتاع) «قالت له خديجة: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا» أي لا يفضحك «إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل» أي الشيء الذي يحصل منه التعب والإعياء لغيرك «وتكسب المعدوم» بضم التاء. والمعدوم الذي لا مال له لأن من لا مال له كالمعدوم: أي توصل إليه الخير الذي لا يجده عند غيرك.
وبهذا يعلم سقوط قول الخطابي الصواب المعدم بلا واو، لأن المعدوم: أي الشخص المعدوم لا يكسب: أي لا يعطى الكسب «وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» أي على حوادثه «فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، فقالت له خديجة : أي عم اسمع من ابن أخيك» أي وقولها أي عم صوابه ابن عم، لأنه ابن عمها لا عمها كما وقع في مسلم.
قال ابن حجر: وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد: أي فلا يقال يجوز أنها جاءت إليه بعد نزول الآية مرتين، قالت في مرة أي عم، وفي مرة أي ابن عم «قال ورقة: يابن أخي ماذا ترى: فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى» أي صاحب سر الوحي وهو جبريل «يا ليتني فيها جذعا» أي يا ليتني حينئذ أكون في زمن الدعوى إلى الله: أي إظهاره الذي جاء به وأنذر، أو أصل وجودها بناء على تأخر الدعوى التي هي الرسالة عن النبوة على ما يأتي شابا حتى أبالغ في نصرتها «يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، قال رسول الله ﷺ: أو مخرجيّ هم؟ » بتشديد الياء المفتوحة لأنه جمع مخرج، والأصل أو مخرجوني حذفت النون للإضافة فصار مخرجوي، قلبت الواو ياء وأدغمت، قال ورقة: «نعم لم يأت رجل بما جئت به إلا عودي» أي فتكون المعاداة سببا لإخراجه.
وهذا يفيد بظاهره أن من تقدم من الأنبياء أخرجوا من أماكنهم لمعاداة قومهم لهم، وإلا فمجرد المعاداة لا يقتضي الإخراج، فلا يحسن أن يكون علامة عليه، وقد يؤيد ذلك ما تقدم عند الكلام على بناء الكعبة أن كل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة يعبد الله بها حتى يموت وتقدم ما فيه.
وفي كونه لم يقل شيئا في جواب قول ورقة إنه يكذب ويؤذي ويقاتل، وقال في جواب قوله: إنه يخرج أو مخرجيّ هم؟ استفهاما إنكاريا، دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته، خصوصا وذلك الوطن حرم الله وجوار بيته ومسقط رأسه، قال ورقة: «وإن أدركت يومك أنصرك نصرا مؤزرا» أي شديدا قويا، من الأزر وهو الشدة. الذي في الحديث الصحيح «وإن يدركني يومك» وسيأتي في بعض الروايات «وإن يدركني ذلك» قال السهيلي: وهو القياس، لأن ورقة سابق بالوجود، والسابق: هو الذي يدركه ما يأتي بعده كما جاء «أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي» هذا كلامه.
أي وفي بعض الروايات أنه قال لها: «إن ابن عمك لصادق وإن هذا البدء نبوة » وفي لفظ «إنه لنبي هذه الأمة » أي وفي الشفاء أن قوله لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» ليس معناه الشك فيما آتاه الله تعالى من النبوة، ولكنه لعله خشي أن لا تحتمل قوته مقاومة الملك وأعباء الوحي، بناء على أنه قال ذلك بعد لقاء الملك وإرساله إليه بالنبوة، فإن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولوا العزم من الرسل.
وفي كلام الحافظ ابن حجر، اختلف العلماء في هذه الخشية على اثني عشر قولا، وأولاها بالصواب وأسلمها من الارتياب أن المراد بها الموت أو المرض أو دوام المرض هذا كلامه، فليتأمل مع رواية «خشيت على عقلي».
قال: وفي بعض الروايات أن خديجة قبل أن تذهب به إلى ورقة ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى: قرية سيدنا يونس ، فقالت له: يا عداس أذكرك الله إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل: أي فإن هذا الاسم لم يكن معروفا بمكة ولا بغيرها من أرض العرب كما تقدم، فقال عداس: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل أوثان؟ أي والقدوس المنزه عن العيوب وأن هذا يقال للتعجب كما تقدم، فقالت: أخبرني بعلمك فيه؟ قال: هو أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام اهـ.
وفيه أنه سيأتي عند الكلام على ذهابه للطائف بعد موت أبي طالب يلتمس إسلام ثقيف اجتماعه بعداس الموصوف بما ذكر، لكن في تلك القصة ما قد يبعد معه كل البعد أنه المذكور هنا فليتأمل، ثم رأيت أن عداسا المذكور هنا كان راهبا وكان شيخا كبير السن، وقد وقع حاجباه على عينيه من الكبر، وأن خديجة قالت له: أنعم صباحا يا عداس، فقال: كأن هذ الكلام كلام خديجة سيدة نساء قريش، قالت أجل، قال ادني مني فقد ثقل سمعي، فدنت منه ثم قالت له ما تقدم، وهذا صريح في أنه غير عداس الآتي ذكره، وأنهما اشتركا في الاسم والبلد والدين، أي وكونهما غلامين لعتبة بن ربيعة.
ففي كلام ابن دحية: عداس كان غلاما لعتبة بن ربيعة من أهل نينوى، عنده علم من الكتاب، فأرسلت إليه خديجة تسأله عن جبريل، فقال: قدوس قدوس الحديث ولا يخفى أن هذا اشتباه وقع من بعض الرواة بلا شك.
وفي رواية أن عداسا هذا قال لها: يا خديجة إن الشيطان ربما عرض للعبد فأراه أمورا، فخذي كتابي هذا فانطلقي به إلى صاحبك، فإن كان مجنونا فإنه سيذهب عنه، وإن كان من الله فلن يضره، فانطلقت بالكتاب معها، فلما دخلت منزلها إذا هي برسول الله ﷺ مع جبريل يقرئه هذه الآيات {ن? والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون} فلما سمعت خديجة قراءته اهتزت فرحا ثم قالت للنبي فداك أبي وأمي، امض معي إلى عداس، فلما رآه عداس كشف عن ظهره فإذا خاتم النبوة يلوح بين كتفيه، فلما نظر عداس إليه خر ساجدا يقول: قدوس قدوس، أنت والله النبي الذي بشر بك موسى وعيسى الحديث.
وفيه إن كان هذا قبل أن تذهب به إلى ورقة اقتضى أن نزول سورة ن? قبل اقرأ، ولا يحسن ذلك مع قوله لجبريل ما أنا بقارىء، إذ هو صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئا، ومن ثم كان المشهور أن أول ما نزل اقرأ. وكون ن? نزلت لهذا السبب مخالف لما ذكر في أسباب النزول أنها نزلت لما وصفه المشركون بأنه مجنون، إلا أن يقال لا مانع من تعدد النزول.
وذكر ابن دحية أيضا أنه لما أخبرها بجبريل ولم تكن سمعت به قط، كتبت إلى بحيرا الراهب فسألته عن جبريل، فقال لها: قدوس قدوس يا سيدة نساء قريش، أنى لك بهذا الاسم؟ فقالت: بعلي وابن عمي أخبرني بأنه يأتيه، فقال: إنه السفير بين الله وبين أبنائه، وإن الشيطان لا يجترىء أن يتمثل به، ولا أن يتسمى باسمه. وهذه العبارة: أي كون جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه صدرت من الحافظ السيوطي، وزاد: ولا يعرف ذلك لغيره من الملائكة.
واعترض عليه بعضهم بأن إسرافيل كان سفيرا بين الله وبينه. فعن الشعبي أنه جاءته النبوة وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، وفي لفظ عنه: فلما مضت ثلاث سنين تولى عنه إسرافيل وقرن به جبريل: أي وقد تقدم أن إسرافيل قرن به قبل النبوة ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، يعلمه الشيء بعد الشيء إلى آخره، وحينئذ يلزم أن يكون قرن به بعد النبوة ثلاث سنين أيضا، وسيأتي عن بحث بعض الحفاظ أنها مدة فترة الوحي فليتأمل. وأجاب الحافظ السيوطي عن ذلك بأن السفير هو المرصد لذلك، وذلك لا يعرف لغير جبريل، ولا ينافي ذلك مجيء غيره من الملائكة إلى النبي ﷺ في بعض الأحيان.
ولك أن تقول: إن كان المراد بالمجيء إليه بوحي من الله كما هو المتبادر فليس في هذه الرواية أن إسرافيل وغيره من الملائكة كان يأتيه بوحي من الله قبل مجيء جبريل له بوحي غير النبوة، ولا يخرجه ذلك عن الاختصاص باسم السفير، وبأن إسرافيل لم ينزل لغير النبي ﷺ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما ثبت في الحديث، فلم يكن السفير بين الله وجميع أنبيائه.
قيل وإنما خص بذلك لأنه أول من سجد من الملائكة لآدم. ورأيته سئل هل عيسى بعد نزوله يوحى إليه؟ فأجاب بنعم، وأورد حديث النواس بن سمعان الذي أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. وفيه التصريح بأنه يوحى إليه. قال: والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل قال: بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه، لأن ذلك وظيفته وهو السفير بين الله تعالى وبين أنبيائه، لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة ثم استدل على ذلك بما يطول.
قال: وما اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي ﷺ فهو شيء لا أصل له، وزعم زاعم أن عيسى إنما يوحى إليه وحي إلهام ساقط قال: وحديث «لا وحي بعدي» باطل، أي ويدل له ما رأيته في كلام بعضهم: جبريل ملك عظيم ورسول كريم، مقرب عند الله، أمين على وحيه، وهو سفيره إلى أنبيائه كلهم، وسماه روح القدس، والروح الأمين، واختصه بوحيه من بين الملائكة المقربين.
قال: ورأيت في بعض التواريخ أن جبريل نزل عليه ستا وعشرين ألف مرة ولم يبلغ أحد من الأنبياء هذا العدد، والله أعلم.
وفي أسباب النزول للواحدي عن علي «لما سمع النداء: يا محمد قال: لبيك، قال قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال قل {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين} حتى فرغ من السورة »: أي فلما بلغ «ولا الضالين، فقال: قل آمين فقال آمين» كما في رواية وكيع وابن أبي شيبة وجاء في حديث قال بعضهم إسناده ليس بالقائم «إذا دعا أحدكم فليختم بآمين، فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة » وفي الجامع الصغير «آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين» أي خاتم دعاء رب العالمين أي يمنع من أن يتطرق إليه ردّ وعدم قبول. ومن ثم «لما سمع رجلا يدعو، قال قد وجب إن ختم بآمين».
فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فإني أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم، فإنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل، وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك.
أقول: هذا لا يدل للقول بأن الفاتحة أول ما نزل، وعليه كما قال في الكشاف أكثر المفسرين، إذ يبعد كل البعد أن تكون هذه الرواية قبل نزول {اقرأ باسم ربك} ثم رأيت عن البيهقي أنه قال فيما تقدم عن أسباب النزول، هذا مرسل ورجاله ثقات، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزلت عليه اقرأ والمدثر: أي والمدثر نزلت بعد {يا أيها المزمل}.
ثم رأيت ابن حجر اعترض ما تقدم عن الكشاف بقوله: الذي ذهب إليه أكثر الأمة هو الأول: أي القول بأنه اقرأ، وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول، هذا كلامه.
ثم رأيت الإمام النووي قال: القول بأن الفاتحة أول ما نزل بطلانه أظهر من أن يذكر: أي ومما يدل على ذلك ما جاء من طرق عن مجاهد أن الفاتحة نزلت بالمدينة. ففي تفسير وكيع عن مجاهد: فاتحة الكتاب مدنية، وفيه أنه جاء عن قتادة أنها نزلت بمكة.
وعن علي كرم الله وجهه كما في أسباب النزول للواحدي أنها نزلت بمكة من كنز تحت العرش. وفيها عنه «لما قام النبي ﷺ بمكة فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين} قالت قريش رض الله فاك». وفي الكشاف أن الفاتحة نزلت بمكة، وقيل نزلت بالمدينة، فهي مكية مدنية، هذا كلامه وتبعه على ترجيح أنها مكية القاضي البيضاوي حيث قال: وقد صح أنها مكية. وفي الإتقان وذكر قوم منه أي مما تكرر نزوله الفاتحة، فليتأمل فإنه لا يقال ذلك إلا بناء على أنها نزلت بهما: أي نزلت بمكة ثم بالمدينة مبالغة في شرفها. وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أن تكرير نزولها ليس بمجزوم به. وقيل نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة.
قال في الإتقان: والظاهر أن النصف الذي نزل بالمدينة النصف الثاني، قال ولا دليل لهذا القول، هذا كلامه.
واستدل بعضهم على أنها مكية بأنه لا خلاف أن سورة الحجر مكية، وفيها {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} وهي الفاتحة. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ وقد قرىء عليه الفاتحة «والذي نفسي بيده ما أنزل الله تعالى في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».
وقد حكى بعضهم الاتفاق على أن المراد بالسبع المثاني في آية الحجر هي الفاتحة. ويردّ دعوى الاتفاق قول الجلال السيوطي: وقد صح عن ابن عباس تفسير السبع المثاني في آية الحجر بالسبع الطوال.
ومما يدل على أن المراد بها الفاتحة، ما ذكر في سبب نزولها وهو أن عيرا لأبي جهل قدمت من الشام بمال عظيم وهي سبع قوافل، ورسول الله ﷺ وأصحابه ينظرون إليها وأكثر الصحابة بهم عري وجوع، فخطر ببال النبي ﷺ شيء لحاجة أصحابه فنزل {ولقد آتيناك} أي أعطيناك {سبعا من المثاني} مكان سبع قوافل، ولا تنظر إلى ما أعطيناه لأبي جهل وهو متاع الدنيا الدنية {ولا تحزن عليهم} أي على أصحابك {واخفض جناحك} لهم، فإن تواضعك لهم أطيب لقلوبهم من ظفرهم بما تحب من أسباب الدنيا.
وفي زوائد الجامع الصغير «لو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات». وفي لفظ «فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» وفي لفظ «فاتحة الكتاب تعدل ثلثي القرآن» فليتأمل، ولها اثنان وعشرون اسما.
وذكر بعضهم أن لها ثلاثين اسما. وذكرها الاستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط، قال السهيلي: ويكره أن يقال لها أم الكتاب: أي لما ورد «لا يقولنّ أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب» قال الحافظ السيوطي : ولا أصل له في شيء من كتب الحديث، وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه، ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى. وتارة جوّزوا الأمرين معا، وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي.
ثم رأيت في الإتقان قال: قال الزركشي في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها وهو بعيد هذا كلامه. ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته بمكة كان يصلي بغير الفاتحة. قال في أسباب النزول: وهذا مما لا تقبله العقول: أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة: أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان «لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي رواية «لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب» والمراد في كل ركعة، لقوله للمسيىء صلاته «إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت» إلى أن قال: «ثم اصنع ذلك ـ أي القراء بأم القرآن ـ في كل ركعة » وجاء على شرط الشيخين «أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها منها عوضا» ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله، لأنه تفرد بهذا القول، والعلماء على خلافه: أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول {يا أيها المدثر} ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي: أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي.
وقد يقال: لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة، لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس، وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه بعد فرض الصلوات الخمس.
وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة، يدل على أنها نزلت بالمدينة.
فقد أخرج مسلم عن ابن عباس قال: «بينما جبريل قاعد عند النبي ﷺ سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة » هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه ليلة الإسراء بقاب قوسين.
ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات، وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها.
ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم: إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها».
وقد أخرج الدارقطني عن علي أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له إنما هي ست آيات، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم آية } وقيل لها السبع المثاني، لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة. وقيل المثاني كل القرآن، لأنه يثني فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد.
قال بعضهم: والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال: أي كما أنها المراد بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} على ما تقدم، وهي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة يونس. وقيل براءة وقيل الكهف.
وعن أم سلمة : «أن النبي ﷺ عدّ البسملة آية من الفاتحة » وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من «أنه عدّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية » فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة، والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها.
منها أنها ذكرت أن النبي ﷺ كان يصلي في بيتها، فيقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين} وفي رواية عنها «أن النبي ﷺ كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» والاستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضي أن البسملة ليست آية من {اقرأ باسم ربك} ومن ثم قال الحافظ الدمياطي: نزول اقرأ بدون بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة، واستدل به: أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور: أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي في القديم وهو قول قدماء الحنفية.
قال: وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة: أي سورة اقرأ.
وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها، واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها.
ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضي سلب القرآنية عنها. وردّ هذا الردّ بأن الإمام الكافيجي قال: المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر: أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله: أي وفي الفتوحات: البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله، وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات، وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة، ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال: نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة.
وفي كلام أبي بكر بن العربي: وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد، فإنه لم يعدّها أحد آية من سائر السور.
ونقل عن إمامنا الشافعي أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور. فعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم، وأول البقرة ال?م قال بعضهم: وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور، فإنها ليست آية من أولها، بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها، وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وخص بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني «إن النبي ﷺ قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» كما سيأتي، وسيأتي ما فيه.
قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة، والتبرىء الذي يدل عليه أول براءة. ورده في الفتوحات، بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال: وأين الرحمة من الويل.
وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة: أي فعن ابن عباس قال: سألت عثمان بن عفان لمَ لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر {بسم الله الرحمن الرحيم}؟ فقال: كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة، وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة.
وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبد العزيز. أنهما كانا يقولان: إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله {ألم يجدك يتيما} وليس كذلك، لأن تلك حال اغتمامه بإيذاء الكفار، فهي حال محنة وضيق، وهذه حال انشراح الصدر وتطيب القلب فكيف يجتمعان؟ هذا كلامه.
وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد، ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفي كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين، وقد جهر بها كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا.
وأما ما رواه مسلم عن أنس قال: «صليت مع النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» أجيب عنه بأنه لم نيف إلا السماع، ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز. ويؤيده قول بعضهم: كانوا يخفون البسملة.
وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم «أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن. ولا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبد الله بن مغفل أنه قال: «سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني إياك والحدث، فإني صليت مع النبي ﷺ ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله، فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين، فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا، فقال ذلك، وكذا يقال فيما روي «كانوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم» فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ.
ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة: ـ أي الفاتحة ـ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: فوّض إليّ عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذه بيني وبين عبد ولعبدي ما سأل، فيقول عبدي: اهدنا الصراط المستقيم» إلى آخرها.
قال أبو بكر بن العربي المالكي: فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين: أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة. والثاني أنها صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد، لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه، ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها، وأطال في ذلك، وسيأتي في الحديبية أنه كان يكتب: باسمك اللهم موافقة للجاهلية. قيل كتب ذلك في أربعة كتب. وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت، فلما أنزل {بسم الله مجراها ومرساها} كتب {بسم الله} ثم لما نزل {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} كتب {بسم الله الرحمن} ثم نزلت {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} كتب {بسم الله الرحمن الرحيم} كذا نقل عن الشعبي «أن النبي ﷺ لم يكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} حتى نزلت سورة النمل» وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور، ويؤيده قول السهيلي: ثم كان بعد ذلك: أي بعد نزول {وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} ينزل جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة: أي تمييزا لها عن غيرها. وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة على ذلك، هذا كلامه، فليتأمل ما فيه، فإنه قد يدل للقول بأن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات.
ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم.
وفي الإتقان عن الدارقطني «أن النبي ﷺ: قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه. وقوله: «على نبي بعد سليمان غيري» يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة.
وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال، فقالت قريش: سحر محمدا الجبال قال السهيلي: إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح مع داود، والله أعلم.
ثم لم يلبث ورقة أن توفي. قال سبط ابن الجوزي: وهو آخر من مات في الفترة، ودفن بالحجون فلم يكن مسلما، ويؤيده ما جاء في رواية في سندها ضعف عن ابن عباس أنه مات على نصرانيته. وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدّق بنبوّته ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكوم مسلما بل من أهل الفترة، فلما توفي ورقة قال رسول الله: «لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير» أي والقس بكسر القاف: رئيس النصارى، وبفتحها تتبع الشيء ( ).
هذا، وفي القاموس: القس مثلث القاف: تتبع الشيء وطلبه كالتقسس، وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها، ورئيس النصارى في العلم. وفي رواية «أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس» وفي رواية «قد رأيته، فرأيت عليه ثيابا بيضا، وأحسبه ـ أي أظنه ـ لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض».
أقول: صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة، فقد تعددت الرؤية. وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير، فلا دلالة في ذلك على التعدد، والله أعلم. وفي رواية «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين ( ) لأنه آمن بي وصدقني»: أي قبل الدعوة التي هي الرسالة، وحينئذ يكون معنى قوله له: «جنة أو جنتين» هيئت له جنة أو جنتان، ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة، إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدّق به لم يقل فيه: «وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وجزم ابن كثير بإسلامه.
قال بعضهم: وهو الراجح عند جهابذة الأئمة: أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة.
ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث، ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق، وعن كتاب الخميس. وحينئذ يكون قوله: «لأنه آمن بي وصدقني» واضحا، لكن ينازع في ذلك قوله: «وأحسبه لو كان أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه.
ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة. وعن يحيى بن بكير قال: سألت جابر بن عبد الله، يعني عن ابتداء الوحي، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله ﷺ قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض» أي وفي رواية «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي» زاد في رواية «متربعا عليه» وفي لفظ «على عرش بين السماء والأرض» فرعبت منه، فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني» أي وفي رواية «زملوني زملوني، وصبوا عليّ ماء بارد فدثروني وصبوا عليّ ماء باردا فنزلت هذه الآية {يا أيها المدثر} أي الملتف بثيابه {قم فأنذر وربك فكبر}»، ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة، إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل، وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل: أي قبل اقرأ وأن النبوّة والرسالة مقترنان.
قال الإمام النووي: والقول بأن أول ما نزل {يا أيها المدثر} ضعيف باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحي: أي ومما يدل على ذلك قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي. فما تقدم من قول بعضهم يعني عن ابتداء الوحي فيه نظر، وكذا في قول الراوي عن جابر «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت» لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي، إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان: واحدة في ابتداء الوحي، وأخرى في فترة الوحي، وبعض الرواة خلط، فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي، وعجزها بدل على أن ذلك كان في فترة الوحي.
هذا، ويجوز أن يكون جاور بحراء في مدة فترة الوحي. ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير «أنه كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان، وكان ذلك في مدة فترة الوحي» وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل. وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير «أنه حدث عن خديجة أنها قالت لرسول الله ﷺ: أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم» أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن: أي بشيء منه، وهو {اقرأ باسم ربك} بناء على أنه أول ما نزل. ولا ينافي ذلك قولها: «هذا الذي يأتيك إذا جاءك» لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته، فجاءه جبريل ، فقال لها رسول الله ﷺ: يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني: أي قد رأيته، لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة / «قالت: قم يا بن عمي فاجلس على فخذي، فقام رسول الله ﷺ فجلس على فخذها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، قالت، فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله ﷺ فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، فألقت خمارها ورسول الله ﷺ جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال لا، قالت: يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان» وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذي اللب في الأمور ارتياء
أماطت عنها الخمار لتدري ** أهو الوحي أم هو الإغماء
اختفى عند كشفها الرأس جبريـ ** ـل فما عاد أو أعيد الغطاء
استبانت خديجة أنه الكنـ ** ـز الذي حاولته والكيمياء
أي وأتاه. قال ابن حجر: أي بعد البعثة أي النبوة، واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل، ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار، فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم، عليهم الصلاة والسلام.
وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشىء عن لمة الجن، فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي، وسيأتي أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه: أي من الإغماء إلى آخره، فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه، فاستبانت: علمت علم اليقين أن ما يعرض له هو الوحي: أي لا الجني، لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجني. وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم، لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما.
أقول: وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له، وقبل اجتماعه به.
وقلو بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة؟ فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى، فإذا رآه فتحسري، فإن لم يكن من عند الله لا يراه: أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت، قالت: فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة، فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر.
وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام: أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن البوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به، وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة، وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي، ومخالف أيضا لقول الذهبي: الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة، أي بناء على تأخرها، ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة: «يا ليتني فيها جذع» فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة: أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما، بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب، بما علم بالضرورة أنه من دين محمد أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع.
وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن منه وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم، وحينئذ يكون صحابيا.
ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال: لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها، وأنه يفرق بينه وبين بحيرا، بأن ورقة أدرك البعثة، وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر، والتعريف السابق يشمله هذا كلامه.
وتعريفه السابق للصحابي: هو من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا. وعبارة شرح النخبة: هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي ﷺ مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر.
ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا: ما أدري أدرك البعثة أم لا؟
ولا يخفى عليك ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة، فإنه يقتضي أن البعثة عبارة عن النبوّة لا عن الرسالة، وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة.
وروى ابن إسحاق عن شيوخه «أنه كان يرقي من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك» هذا يدل على «أنه كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة، وتغميض عينيه، وتربد وجهه، ويغط كغطيط البكر، فقالت له خديجة: أوجه إليك من يرقيك؟ قال: أما الآن فلا» ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به.
واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة، يعني أمه رقت النبي من العين، ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءه الملك، وقال لها قولي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك.
وعن أسماء بنت عميس أنها قالت: «يا رسول الله إن ابني جعفر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقي لهما؟ قال نعم، لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين».
فإن قيل بهذه الأمور علم أن جبريل ملك لا جني، فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى؟ أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم، فقد يقال: خلق الله تعالى فيه علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه جبريل، وأنه يتكلم عن الله تعالى، كما خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحي إليه هو الله.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان له عدوّ من شياطين الجن يقال له الأبيض، كان يأتيه في صورة جبريل. واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي.
وأجيب عنه بمثل ما هنا، وهو أن الله تعالى جعل في النبي ﷺ علما ضروريا يميز به بين جبريل ﵇ وبين هذا الشيطان، ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم.
وفي كلام ابن العماد: وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض، والأنبياء معصومون منه، وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك} هذا كلامه والله أعلم.
وعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: «كان من الأنبياء من يسمع الصوت: أي ولا يرى مصوّتا، فيكون بذلك نبيا» قال بعضهم: يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو: أي ليس من جنس الكلام، وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه.
ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا. قال: «وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب» أي وفي رواية «كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال».
ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي. وحينئذ إما أن يكون جبريل ﵇ على صورة دحية الكلبي، وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكي فتحها، أو على صورة غيره، ومنه ما وقع في حديث عمر «بينما نحن عند رسول الله ﷺ ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد» الحديث. ورواية البخاري تدل على أنه لم يعرفه إلا في آخر الأمر، وورد «ما جاءني ـ يعني جبريل ـ في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة ».
وفي صحيح ابن حبان «والذي نفسي بيده ما اشتبه عليّ منذ أتاني قبل مرّته هذه، وما عرفته حتى ولى» وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام، حيث قال في تائيته:
ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية
فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة.
فإن قيل إذا جاء جبريل ﵇ على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل؟ وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح، أو يصير ميتا؟
أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن، فيكون الجسد واحدا، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط.
وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة عليّ وأولاده: أي الأئمة الاثني عشر، وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعفر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم علي الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد علي التقي. والحادي عشر حسن العسكري. والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان، وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى على ما فيه. فقد قال عبد الله بن سبأ يوما لعلي : أنت أنت، يعني أنت الإله، فنفاه عليّ إلى المدائن وقال: لا تساكني في بلد أبدا. وكان عبد الله بن سبأ هذا يهوديا، كان من أهل صنعاء، وأمه يهودية سوداء، ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، وكان أوّل من أظهر سب الشيخين ونسبهما للافتيات على سيدنا علي .
ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك، فقال علي: معاذ الله أني أضمر لهما ذلك، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان، وقيل في أول خلافة عمر، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله.
وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في عليّ. وكان يقول في عليّ إنه حي لم يقتل، وإن فيه الجزء الإلهي، وإنه يجيء في السحاب، والرعد صوته والبرق سوطه، وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما. وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة: أي أنه يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى. وكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد، وقد قال الله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وأظهر أمر الوصية: أي أن عليا أوصى له بالخلافة، وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان كما سيأتي.
ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة: محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين .
ومنهم من قال «بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه» وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر، وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول، وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج. كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها.
وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله حل في صورة آدم، ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو، فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم، فإنه كان يعرف شيئا من السحر والتيرنجيات، فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب. ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه. وجاؤوا إلى القلعة التي كان متحصنا بها. فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات، ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقي حي بها من أتباعه.
والقول بالاتحاد كفر، فقد قال العز بن عبد السلام: من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر، وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف. وأنه لا يجري فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة، ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين.
وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي: سبحاني ما أعظم شأني، وقوله: «إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون. وقوله: وأنا ربي الأعلى، وقوله: أنا الحق وهو أنا وأنا هو: ليس من دعوى الحلول في شيء، وإنما قوله: سبحاني إني أنا الله، محمول على الحكاية: أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث «إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده» وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ. إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى، بحيث استغرق في بحر التوحيد، بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه، وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى، الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى، وترك الإرادة منه والاختيار.
فالعارف إذا وصل إلى هذا المقام ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول.
وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالاتحاد. ولا مشاحة في الاصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه، فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب، فقد فني عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا الله ولا يبغض إلا الله، ولا يوالي إلا الله، ولا يعادي إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا لله، ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وفي كلام سيدي عليّ حيث أطلق القول بالاتحاد في كلام القوم من الصوفية، فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا، كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر {ولله المثل الأعلى} هذا كلامه ورضي عنا به، وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال: أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين.
فقد قال بعض العلماء: حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب، والعبد في حال فناء العبد، فيكون العبد معدوما موجودا في آن واحد، ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين، ومن لم يشهد ذلك أنكره. ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا، وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال، لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي يدلا عنه.
وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع، وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة، قال: وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال، ومنه قصة قضيب البان وغيره: أي كواقعة الشيخ عبد القادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به.
فقد ذكر الجلال السيوطي أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن وليّ الله الشيخ عبد القادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها، فهل يقع الطلاق على أحدهما! قال: فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك، فقال: ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان.
وقد قيل في الأبدال: إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، ويقال عالم المثال كما تقدم، فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح، فهو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال. قال: وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل، بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر.
ومما يدل على وجود المثال رؤيته للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه} بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام.
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض الأولياء في غير مكانها. وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ولعل مجيء جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر، فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها، إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه.
قال الشيخ الأكبر : دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة، فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال، وهي التي لك عندي، فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر، فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه، وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة، إلا أن يدعي أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره، وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك، لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة: أي بالوعيد والزجر فليتأمل.
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقي القرآن طريقان:
أحدهما أن رسول الله ﷺ انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل: أي لأن الأنبياء يحصل لهم الانسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير اكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر.
والثاني أن الملك انخلع من الملكية إلى البشرية حتى أخذه رسول الله ﷺ منه هذا كلامه. والراجح أن المنزّل اللفظ، والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا، أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل، وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى، وأوحاه إليه كذلك، أو حفظه جبريل من اللوح المحفوظ ونزل به.
واعلم أن من حالات الوحي النفث: أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال: «إن روح القدس» أي المخلوق من الطهارة يعني جبريل «نفث» أي ألقى. والنفث في الأصل: النفخ اللطيف الذي لا ريق معه «في روعي» بضم الراء: أي قلبي «أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» أي عاملوا بالجميل في طلبكم، وتتمته «ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله» أي كالكذب «فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته».
وفي كلام ابن عطاء الله: الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة:
منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به. ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا، لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه. ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى، وشاهد حسن اختياره إذا منع.
ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه، ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه.
ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة. وفي حديث ضعيف «اطلبوا الحوائج بعزة النفس، فإن الأمور تجري بالمقادير».
ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس: وهي أشد الأحوال عليه: أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة.
أقول: روى الشيخان عن عائشة «أن الحارث بن هشام ، وهو أخو أبي جهل لأبويه، وكان يضرب به المثل في السؤدد حتى قال الشاعر:
أحسبت أن أباك حين تسبني ** في المجد كان الحارث بن هشام
أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام
أسلم يوم الفتح، وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانىء أخت علي بن أبي طالب وأراد عليّ قتله، فذكرت ذلك للنبي فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» وحسن إسلامه، وشهد حنينا، وكان من المؤلفة كما سيأتي «سأل رسول الله ﷺ كيف يأتيك الوحي؟ أي حامله الذي هو جبريل، قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيقصم ـ بالفاء ـ أي يقلع عني وقد وعيت ما قال» وفي رواية «يأتيني أحيانا له صلصة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا» أي يتصور بصورة الرجل. وفي رواية «في صورة الفتي، فيكلمني فأعي ما يقول» وروي أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى.
ونص هذه الرواية «كان الوحي يأتيني على نحوين، يأتيني جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل، فذلك ينفلت مني. ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني».
قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله، لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده، فلا يثبت فيما ألقي إليه بخلافه في الحالة الثانية، لأن سماع مثل هذا الصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي اضطر إلى التثبت في ذلك، وقولنا: أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال، وقول بعضهم: الصلصلة المذكورة هي صوت الملك بالوحي، وقوله: «يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا» وكان يجد ثقلا عند نزول الوحي، ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان، وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه.
وعن زيد بن ثابت «كان إذا نزل الوحي على رسول الله ﷺ ثقل لذلك. ومرة وقع فخذه على فخذي، فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله. وربما أوحي إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت».
أي وجاء «أنه لما نزلت سورة المائدة عليه كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها».
وفي رواية «فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة » ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك.
وجاء «ما من مرة يوحي إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض منه» وعن أسماء بنت عميس «كان رسول الله ﷺ إذ انزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه» وفي رواية «يصير كهيئة السكران».
أقول: أي يقرب من حال المغشي عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران: أي مع بقاء عقله وتمييزه.
ولا ينافي ذلك قول بعضهم: ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا، لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة، وهذا هو اللائق بمقامه، وحينئذ لا ينتفض وضوؤه.
ثم رأيت صاحب الوفاء قال: فإن قال قائل ما كان يجري عليه من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتفض وضوؤه؟
والجواب لا، لأنه كان محفوظا في منامه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، فإذا كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوؤه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى، لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه. وما ذكرناه أولى، لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل.
وفي كلام الشيخ محيي الدين ما يدل على أنه وجميع من يأتيه الوحي من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقي على ظهره حيث قال: سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره، فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده، فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض.
وعن أبي هريرة «كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء» قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه كان يخضب بالحناء، وإلا فهو لم يخضب، لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه.
وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب، فقد جاء «اختضبوا بالحناء، فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم» وفي مسلم عن أبي هريرة : «كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي» وفي لفظ «كان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة » وفي رواية «كرب لذلك وتربد له وجهه، وغمض عينيه، وربما غط كغطيط البكر».
وعن زيد بن ثابت : «كان إذا نزل على رسول الله ﷺ السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة، وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها».
وعن عمر بن الخطاب : «كان إذا نزل على رسول الله ﷺ الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل».
وذكر الحافظ ابن حجر أن دوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس: أي المتقدم ذكرها، لأن سماع الدوي بالنسبة للحاضرين. والصلصلة بالنسبة إلى النبي، فالراوي شبه بدويّ النحل، والنبي ﷺ شبه بصلصلة الجرس: أي فالمراد بهما شيء واحد، والله أعلم.
ومن حالاته: أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح.
أقول: فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر. وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود «أن النبي ﷺ لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين: حين سأله أن يريه نفسه، فقال: وددت أني رأيتك في صورتك: أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض، وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} وبقوله تعالى {فاستوى وهو بالأفق الأعلى} «طلع جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ النبي ﷺ مغشيا عليه، فنزل جبريل ﵇ في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه» الحديث. والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} وسيأتي الكلام على ذلك.
وفي الخصائص الصغرى: خص برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها: أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا.
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية، وليست كأجنحة الطير. ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسدّ ما بين المشرق والمغرب، هذا كلامه فليتأمل.
ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه.
والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط؟ والله أعلم.
ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه بلا واسطة ملك؟ بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا، وذلك ليلة المعراج. واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء.
ويحتمل أن يكون نوعا واحدا، وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية. والثاني بناء على القول بالرؤية. وحينئذ لا يناسب عدّ ذلك نوعين كما فعل الشامي، ومن ثم نسب ابن القيم هذا النوع الثاني لبعضهم كالمتبرىء منه حيث قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية، وهي تكليم الله تعالى له كفاحا بغير حجاب هذا كلامه، لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية؟ فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت. وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا}.
وقول ابن القيم السادسة: أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها، لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك، وهذا محتمل لأن يكون من غير حجاب، وأن يكون من وراء الحجاب، فهي لم تخرج عما تقدم.
وكذا قوله السابعة: أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى: أي من وراء حجاب، فهي لم تخرج عما تقدم. وحينئذ يكون كلمه في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب. وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الاعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر، والجواب عنه، وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى، والله أعلم.
قال الحافظ السيوطي: وليس في القرآن من هذا النوع: أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم.
نعم يمكن أن يعدّ منه آخر سورة البقرة: أي آمن الرسول إلى آخر الآيات، لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين.
وروى الديلمي «قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال آخر سورة البقرة، فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش، ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه» ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله، وقد قيل له: «يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم؟ قال آية الكرسي أعظم» وما جاء عن الحسن مرسلا. أفضل القرآن البقرة، وأفضل آية فيه آية الكرسي» وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي» وفي الجامع الصغير «آية الكرسي ربع القرآن».
ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى، وبعض سورة ألم نشرح. قال: «سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته، سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فقال: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك، وضالا فهديتك، وعائلا فأغنيتك، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا وتذكر معي» انتهى.
أقول: قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله: «فقال محمد ألم أجدك إلى آخره» ليس هذا نص التلاوة، وإن هذا ظاهر في أن المتلوّ الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك، وأن هذا تذكير به، والله أعلم.
ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ «أتاني ربي» وفي لفظ «رأيت ربي في أحسن صورة ـ أي خلقة ـ فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض» أي وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي ، فهذا علم حاصل لا عن قوة من القوى الحسية أو المعنوية، وهذا لا يبعد أن يقع مثله للأولياء بطريق الإرث: أي تجلى له الحق بالتجلي الخاص الذي ما ذكر عبارة عنه. وفي رواية «فعلمت علم الأولين والآخرين» أي ومن حالات الوحي رؤيا النوم، قال: «رؤيا الأنبياء وحي» كما تقدم.
ومن حالاته العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه عند الاجتهاد في الأحكام بناء على ثبوته لا بواسطة ملك، وبذلك فارق النفث في الروع.
وبذكر هذه الأنواع للوحي يعمل أن ما تقدم من حصره في الحالتين المذكورتين عند سؤال الحارث له أغلبيّ أو أن ما عداهما وقع بعد سؤال الحارث له.
وفي (ينبوع الحياة) عن ابن جرير «ما نزل جبريل بوحي قط إلا وينزل معه من الملائكة حفظة يحيطون به وبالنبي الذي يوحي إليه، يطردون الشياطين عنهما، لئلا يسمعوا ما يبلغه جبريل إلى النبي، من الغيب الذي يوحيه إليه، فيلقوه إلى أوليائهم» ثم رأيته في (الإتقان) ذكر أن من القرآن ما نزل معه الملائكة مع جبريل تشيعه، من ذلك سورة الأنعام، شيعها سبعون ألف ملك، وفاتحة الكتاب شيعها ثمانون ألف ملك، وآية الكرسي شيعها ثمانون ألف ملك، وسورة يس? شيعها ثلاثون ألف ملك {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} شيعها عشرون ألف ملك، ولعل هذا لا ينافي ما تقدم من أن الغرض من تساقط النجوم عند البعثة حراسة السماء من استراق الشياطين لما يوحى، لجواز أن يكون هذا لحفظ ما يوحى من استراقه في الأرض وبين السماء والأرض.
وعن النخعي: إن أول سورة أنزلت عليه {اقرأ باسم ربك} قال الإمام النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، هذا كلامه. ولا يخفى أن مراد النخعي بالسورة هنا القطعة من القرآن: أي أوّل آيات أنزلت، فلا ينافي ما تقدم من رواية عمرو بن شرحبيل مما يدل على أن أول سورة أنزلت فاتحة الكتاب، لأن المراد أول سورة كاملة نزلت لا في شأن الإنذار، فلا ينافي ما تقدم من رواية جابر مما يقتضي أن أوّل ما نزل {يا أيها المدثر} لأن المراد بذلك أوّل سورة كاملة نزلت في شأن الإنذار بعد فترة الوحي: أي فإنها نزلت قبل تمام نزول سورة اقرأ، وهذا الجمع تقدم الوعد به، أي لكن يشكل عليه ما في الكشاف عن رسول الله «ما نزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا، ما خلا سورة براءة ـ و{قل هو الله أحد} ـ فإنهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة » فإن هذا السياق يدل على أنه لم ينزل عليه سورة كاملة إلا براءة و{قل هو الله أحد} ويخالفه ما في (الإتقان) أن مما نزل جملة سورة الفاتحة وسورة الكوثر، وسورة تبت، وسورة لم يكن، وسورة النصر والمرسلات والأنعام. لكن ذكر ابن الصلاح أن هذا روي بسند فيه ضعف قال: ولم أر له إسنادا صحيحا.
وقد روي ما يخالفه، ولم يذكر في (الإتقان) مما نزل جملة سورة براءة، وذكر أن المعوذتين نزلتا دفعة واحدة. وحينئذ يكون المراد بقوله: «إلا آية آية وحرفا حرفا» أي كلمة، والمراد بها ما قابل السورة، وإلا فقد أنزل عليه ثلاث آيات وأربع آيات وعشر آيات كما أنزل عليه آية وبعض آية. فقد صح نزول {غير أولي الضرر} منفردة وهي بعض آية.
وفي الإتقان عن جابر بن زيد قال: «أوّل ما أنزل الله تعالى من القرآن بمكة {اقرأ باسم ربك} ثم {ن? والقلم} ثم {يا أيها المزمل} ثم { يا أيها المدثر} ثم الفاتحة، إلى آخر ما ذكر.
ثم قال: قلت هذا السياق غريب، وفي هذا الترتيب نظر، وجابر بن زيد من علماء التابعين، هذا كلامه. وذكر بعض المفسرين أن سورة والتين أول ما نزل من القرآن، والله أعلم. وما تقدم من أن نزول {يا أيها المدثر} كان في شأن الإنذار بعد فترة الوحي، لأنه كان بعد نزول جبريل عليه بـ {اقرأ باسم ربك}، مكث مدة لا يرى جبريل.
أي وإنما كان كذلك ليذهب ما كان يجده من الرعب، وليحصل له التشوف إلى العود، ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما وافى بذروة كي يلقي نفسه منها تبدّى له جبريل ﵇؟ فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه: أي قلبه وتقرّ نفسه ويرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا وافى ذروة جبل تبدى له مثل ذلك. قال: وفي رواية «أنه لما فتر الوحي عنه حزن حزنا شديدا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى يريد أن يلقي نفسه منه، فكلما وافى ذروة جبل منهما كي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد أنت رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ويرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي عاد لمثل ذلك، وكانت تلك المدة أربعين يوما، وقيل خمسة عشر يوما، وقيل اثني عشر يوما، وقيل ثلاثة أيام. قال بعضهم وهو الأشبه بحاله عند الله تعالى انتهى.
أقول: ويبعد هذا الأشبه قوله فإذا طالت عليه فترة الوحي، والله أعلم. وفي الأصل وهذه الفترة لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة.
أقول: في فتح الباري أن ابن إسحاق جزم بأنها ثلاث سنين، والله أعلم.
قال أبو القاسم السهيلي: وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصف سنة: أي وفي كلام الحافظ ابن حجر: وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت. وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة كانت أياما أي وأقلها ثلاثة: أي وتقدم ما فيه. قال: قال بعض الحفاظ: والظاهر ـ والله أعلم ـ أنها أي مدة الفترة كانت بين اقرأ و{يا أيها المدثر} هي المدة التي اقترن معه فيها إسرافيل كما قال الشعبي انتهى.
أقول: ويوافق ذلك ما في الاستيعاب لابن عبد البر أن الشعبي قال: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين، وقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين وقد تقدم ذلك.
وفي الأصل عن الشعبي «أن رسول الله ﷺ وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة من الوحي ولم ينزل القرآن» أي شيء منه على لسانه «ثم وكل به جبريل فجاءه بالوحي والقرآن» وهو موافق في ذلك لما في سيرة شيخه الحافظ للدمياطي حيث قال: قال بعض العلماء: وقرن به إسرافيل، ثم قرن به جبريل، وهو ظاهر في أن اقتران إسرافيل به كان بعد النبوة، ويؤيده قوله: «ويأتيه بالكلمة من الوحي» ومحتمل لأن يكون ذلك قبل النبوة، فيوافق ما تقدم عن الماوردي، لكن تقدم أنه كان يسمع حسه ولا يرى شخصه؟ إلا أن يقال: لا يلزم من كونه يتراءى له أن يراه، وقوله يأتيه بالكلمة من الوحي هو معنى قوله يأتيه بالشيء بعد الشيء، ثم رأيت الواقدي أنكر على الشعبي كون إسرافيل قرن به أولا. وقال: لم يقترن به من الملائكة إلا جبريل: أي بعد النبوة، ويحتمل مطلقا. قال بعضهم: ما قاله الشعبي هو الموافق لما هو المشهور المحفوظ الثابت في الأحاديث الصحيحة، وخبر الشعبي مرسل أو معضل، فلا يعارض ما في الأحاديث الصحيحة هذا كلامه.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر نظر في كلام الواقدي بأن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم، هذا كلامه.
لا يقال: قد وجد الدليل، فقد جاء «بينا النبي ﷺ جالس وعنده جبريل إذ سمع نغيضا: أي هدة من السماء، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال: يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط» قال جماعة من العلماء: إن هذا الملك إسرافيل. لأنا نقول هذا مجرد دعوى لا دليل عليها؟ ولا يحسن أن يكون مستندهم في ذلك ما في الطبراني عن ابن عمر . سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي وهو إسرافيل، فقال أنا رسول ربك» الحديث.
ومن ثم عدّ السيوطي من خصائصه هبوط إسرافيل عليه، إذ ليس في ذلك دليل على أن إسرافيل لم يكن نزل إليه قبل ذلك حتى يكون دليلا على أن اقتران جبريل به سابق على اقتران إسرافيل به.
هذا، وفي كلام الحافظ السيوطي أن مجيء إسرافيل كان بعد ابتداء الوحي بسنتين، قال كما يعرف ذلك من سائر طرق الأحاديث، وهو بظاهره يرد ما في (سفر السعادة) أنه لما بلغ تسع سنين أمر الله تعالى إسرافيل أن يقوم بملازمته.
ولما بلغ إحدى عشرة سنة أمر جبريل بملازمته فلازمه تسعا وعشرين سنة فليتأمل.
وعن يحيى بن بكير قال: ما خلق الله خلقا في السموات أحسن صوتا من إسرافيل، فإذا قرأ في السماء يقطع على أهل السماء ذكرهم وتسبيحهم.
ثم رأيت في فتح الباري: ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين: أي على ما تقدم ما بين نزول اقرأ ويا أيها المدثر عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن عليه فقط هذا كلامه: أي فكان جبريل يأتي إليه بغير قرآن بعد مجيئه إليه باقرأ، ولم يجىء إليه بالقرآن الذي هو يا أيها المدثر إلا بعد الثلاث سنين على ما تقدم، ثم في تلك المدة مكث أياما لا يأتيه أصلا، ثم جاءه بيا أيها المدثر، فكان قبل تلك الأيام يختلف إليه هو وإسرافيل، وهذا السياق كما لا يخفى يؤخذ منه عدم المنافاة بين كون مدة فترة الوحي ثلاث سنين كما يقول ابن إسحاق، وسنتين ونصفا كما يقول السهيلي، وسنتين كما يقول الحافظ السيوطي، وبين كونها أياما أقلها ثلاثة وأكثرها أربعون كما تقدم عن ابن عباس، لأن تلك الأيام التي كانت لا يرى فيها جبريل أصلا على ما تقدم: أي ولا يرى فيها إسرافيل أيضا. وفي غير تلك الأيام كان يأتيه بغير القرآن، وحينئذ لا يحسن رد الحافظ فيما سبق على السهيلي. وينبغي أن تكون تلك الأيام التي لا يرى فيها جبريل وإسرافيل هي التي يريد فيها أن يلقي نفسه من رؤوس شواهق الجبال، وهذا السياق أيضا يدل على أن النبوة سابقة على الرسالة بناء على أن الرسالة كانت بيا أيها المدثر، ويصرح به ما تقدم من قول بعضهم نبأه بقوله {اقرأ باسم ربك} وأرسله بقوله {يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر} وأن بينهما فترة الوحي وعليه أكثر الروايات.
وقيل النبوة والرسالة مقترنان، ولعل من يقول بتلك يقول يا أيها المدثر دلت على طلب الدعوة إلى الله تعالى، وهذا غير إظهار الدعوة والمفاجأة بها الذي دل عليه قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} فليتأمل.
وذكر السهيلي أن من عادة العرب إذا قصدت الملاطفة أن تسمي المخاطب باسم مشتق من الحالة التي هو عليها، فلاطفه الحق سبحانه وتعالى بقوله: {يا أيها المدثر} فبذلك علم رضاه الذي هو غاية مطلوبه، وبه كان يهون عليه تحمل الشدائد، ومن هذه الملاطفة قوله لعلي بن أبي طالب ، وقد نام وترب جنبه «قم يا أبا تراب» وقوله لحذيفة في غزوة أحد وقد نام إلى الأسفار «قم يا نومان».
وذكر الشيخ محيي الدين بن العربي في قوله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر} اعلم أن التدثر إنما يكون من البرودة التي تحصل عقب الوحي، وذلك أن الملك إذا ورد على النبي ﷺ بعلم أو حكم تلقى ذلك الروح الإنساني، وعند ذلك تشتعل الحرارة الغريزية فيتغير الوجه لذلك، وتنتقل الرطوبات إلى سطح البدن لاستيلاء الحرارة فيكون من ذلك العرق، فإذا سريّ عنه ذلك سكن المزاج، وانقشعت تلك الحرارة، وانفتحت تلك المسام، وقبل الجسم الهواء من خارج، فيتحلل الجسم، فيبرد المزاج، فتأخذه القشعريرة فتزاد عليه الثياب ليسخن هذا ملخص كلامه.
وذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى: {وثيابك فطهر} أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي نفعنا الله تعالى ببركاته قال: رأيت رسول الله ﷺ في النوم فقال: يا أبا الحسن طهر ثيابك من الدنس، تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس، فقلت: يا رسول الله وما ثيابي؟ قال: إن الله كساك حلة التوحيد وحلة المحبة وحلة المعرفة، قال: ففهمت حينئذ قوله تعالى: {وثيابك طهر}.
وجاء في وصف إسرافيل في بعض الأحاديث «لا تفكروا في عظم ربكم، ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة، فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله، وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سموات، وإنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتى يصير كأنه الوصع» فهو عند نزوله يكون حاملا لزاوية العرش أو يخلفه غيره من الملائكة في ذلك.