السيرة الحلبية/باب ما حفظه الله تعالى به في صغره من أمر الجاهلية
أي من أقذارهم ومعايبهم: أي بحسب ما آل إليه شرعه، لما يريد الله تعالى به من كرامته، حتى صار أحسنهم خلقا، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزيها وتكريما: أي حتى كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وخيرهم جوارا، وأعظمهم حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا فسموه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة، من الحلم والصبر، والشكر والعدل، والزهد والتواضع والعفة والجود، والشجاعة والحياء والمروءة.
فمن ذلك ما ذكر ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ قال: «لقد رأيتني ـ أي رأيت نفسي ـ في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرّى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم: أي من الملائكة ما أراها لكمة وجيعة » وفي لفظ «لكمني لكمة شديدة ».
وقد يقال: لا منافاة، لأنها مع شدتها لم تكن وجيعة له: «ثم قال شدّ عليك إزارك، فأخذته فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليّ من بين أصحابي» أي وقد وقع له مثل ذلك: أي نقل الحجارة عاريا عند إصلاح أبي طالب لزمزم.
فعن ابن إسحاق وصححه أبو نعيم قال: «كان أبو طالب يعالج زمزم، وكان النبي ﷺ ينقل الحجارة وهو غلام، فأخذ إزاره واتقى به الحجارة فغشي عليه، فلما أفاق سأله أبو طالب، فقال أتاني آت عليه ثياب بيض، فقال لي استتر» فما رؤيت عورته من يومئذ.
وفي الخصائص الصغرى: ونهى عن التعري وكشف العورة من قبل أن يبعث بخمس سنين. وقد وقع له مثل ذلك: أي نهيه عن التعري عند بنيان الكعبة كما سيأتي، وسيأتي ما فيه.
ومن ذلك ما جاء عن علي قال: سمعت رسول الله ﷺ: يقول «ما هممت بقبيح مما همّ به أهل الجاهلية » أي ويفعلونه «إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله منهما» أي من فعلهما «قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها» أي وفي لفظ «قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلها» لم أقف على اسم هذا الفتى «أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم» وأصل السمر: الحديث ليلا «فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلان قد تزوج بفلانة » لرجل من قريش تزوج من امرأة من قريش «فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيناي فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس» أي وفي لفظ «فجلست أنظر ـ أي أسمع ـ وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا حر الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت اللية الأخرى مثل ذلك».
أقول: المناسبة لقوله عصمني الله ما في الرواية الثانية لا ما ذكر في الرواية الأولى، إلا أن يحمل قوله في الرواية الأولى فلهوت على أردت أن ألهو، والله أعلم، فقال: «والله ما هممت بغيرهما بسوء مما تعمله أهل الجاهلية »: أي ما هممت بسوء مما يعمله أهل الجاهلية غيرهما، وفي لفظ «فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك» أي مما يعمله أهل الجاهلية «ولا هممت به حتى أكرمني الله تعالى بنبوّته».
ومن ذلك ما جاء عن أم أيمن أنها قالت، كان بوانة بضم الموحدة وبفتح الواو مخففة بعدها ألف ونون، صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك ـ أي تذبح له ـ وتحلق عنده، وتعكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله ﷺ أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك، حتى قالت رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، ويقلن ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا، فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن: ما دهاك؟ قال إنى أخشى أن يكون بي لمم: أي لمة وهي المس من الشيطان، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها: أي من تلك الأصنام التي عند ذلك الصنم الكبير الذي هو بوانة تمثل لي رجل أبيض طويل، أي وذلك من الملائكة يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه، قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى تنبأ.
أقول: ظاهر هذا السياق أن اللمم يكون من الشيطان، وحينئذ يكون بمعنى اللمة: وهي المس من الشيطان كما قدمناه، فقد أطلق اللمم على اللمة، وإلا فاللمم نوع من الجنون كما تقدم في قصة الرضاع: قد أصابه لمم أو طائف من الجن، إذ هو يدل على أن اللمم يكون من غير الشيطان كمرض. وعبارة الصحاح: اللمم طرف من الجنون، وأصاب فلانا من الجن لمة: وهي المس أي فقد غاير بينهما، والله أعلم.
ومن ذلك ما روته عائشة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير الله تعالى: أي فكان يقول لقريش: الشاة خلقها الله ، وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله، فما ذقت شيئا ذبح على النصب ـ أي الأصنام ـ حتى أكرمني الله تعالى برسالته» أي وزيد بن عمرو كان قبل النبوة زمن الفترة على دين إبراهيم ﵇، فإنه لم يدخل في يهودية ولا نصرانية، واعتزل الأوثان والذبائح التي تذبح للأوثان، ونهى عن الوأد، وتقدم أنه كان يحييها إذا أراد أحد ذلك، أخذ الموؤودة من أبيها وتكفلها، وكان إذا دخل الكعبة يقول: لبيك حقا، تعبدا وصدقا. وقيل: ورقا عذتُ بما عاذ به إبراهيم، ويسجد للكعبة، قال: «إنه يبعث أمة وحده» أي يقوم مقام جماعة انتهى: أي فإن ولده سعيدا قال: «يا رسول الله إن زيدا كان كما قد رأيت وبلغك فاستغفر له، قال نعم أستغفر له فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده».
وفي البخاري عن عبد الله بن عمر : «أن النبي ﷺ لقي زيد بن عمرو بن نفيل قبل أن ينزل على النبي ﷺ الوحي وقد قدمت إلى النبي ﷺ سفرة ـ أي فيها شاة ذبحت لغير الله أو قدمها النبي ﷺ إليه ـ فأبى أن يأكل منها وقال: إني لست آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه» ولعل هذا كان قبل ما تقدم عنه، وأن ذلك كان هو السبب في ذلك.
قال الإمام السهيلي: وفيه سؤال كيف وفق الله زيد إلى ترك ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه، ورسوله كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية، لما ثبت من عصمة الله تعالى له؟ أي فكان يترك ذلك من عند نفسه لا تبعا لزيد بن عمرو. وحينئذ لا يحسن الجواب الذي أشرنا إليه بقولنا.
وأجاب أي السهيلي بأنه لم يثبت أنه أكل من تلك السفرة: أي ولا من غيرها.
سلمنا أنه أكل قبل ذلك مما ذبح على النصب، فتحريم ذلك لم يكن من شرع إبراهيم وإنما كان تحريم ذلك في الإسلام والأصل في الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، هذا كلامه.
وفيه أن هذا التسليم يبطل عدّ الشمس الشامي ذلك من أمر الجاهلية التي حفظه الله تعالى منه في صغره، ويخالف ما ذكره بعضهم من أن زيد بن عمرو هذا هو رابع أربعة من قريش فارقوا قومهم، فتركوا الأوثان والميتة وما يذبح للأوثان. كانوا يوما في عيد لصنم من أصنامهم ينحرون عنده، ويعكفون عليه، ويطوفون به في ذلك اليوم، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم، فما حجر تطوف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ثم تفرقوا في البلاد يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم، وظاهر هذا السياق أن تركهم للأوثان كان بعد عبادتهم لها، وسيأتي عن ابن الجوزي أنهم لم يعبدوها.
وهؤلاء الثلاثة الذين زيد بن عمرو رابعهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش ابن عمته أميمة، وعثمان بن الحويرث. وزاد ابن الجوزي على هؤلاء الأربعة جماعة آخرين سيأتي الكلام عليهم عند الكلام على أول من أسلم.
وزيد بن عمرو بن نفيل هذا كان ابن أخي الخطاب والد سيدنا عمر أخاه لأمه. فأما ورقة فلم يدرك البعثة على ما سيأتي. وكان ممن دخل في النصرانية: أي بعد دخوله في اليهودية كما سيأتي.
وأما عبيد الله بن جحش، فأدرك البعثة وأسلم وهاجر إلى الحبشة مع من هاجر من المسلمين ثم تنصر هناك كما سيأتي، وكان يمر على المسلمين ويقول لهم: فتحنا وصأصأتم: أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا ومات على النصرانية.
وأما عثمان بن الحويرث، فلم يدرك البعثة، وقدم على قيصر ملك الروم وتنصر عنده.
وأما زيد بن عمرو بن نفيل هذا، كان يوبخ قريشا ويقول لهم: والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، حتى إن عمه الخطاب أخرجه من مكة وأسكنه بحراء، ووكل به من يمنعه من دخول مكة كراهة أن يفسد عليهم دينهم، ثم خرج يطلب الحنيفية دين إبراهيم، ويسأل الأحبار والرهبان عن ذلك حتى بلغ الموصل، ثم أقبل إلى الشام فجاء إلى راهب به كان انتهى إليه علم أهل النصرانية فسأله عن ذلك، فقال له: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها: يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها فإنه مبعوث الآن هذا زمانه، فخرج سريعا يريد مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه وقتلوه ودفن بمكان يقال له ميفعة. وقيل دفن بأصل جبل حراء.
هذا وفي كلام الواقدي عن زيد بن عمرو أنه قال لعامر بن ربيعة وأنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل. ولا أرى أدركه، وأن أدين به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فسلم مني عليه، قال عامر: فلما أسلمت بلغته عن زيد السلام قال: فرد ﵇ وترحم عليه. وتقدم أن ولده سعيدا سأل النبي ﷺ أن يستغفر لأبيه زيد، فقال نعم أستغفر له الحديث.
قال: وعن عائشة قالت: قال رسول الله: «دخلت الجنة فوجدت لزيد بن عمرو دوحتين» أي شجرتين عظيمتين. قال الحافظ ابن كثير إسناده جيد قوي: أي وقال إلا أنه ليس في شيء من الكتب. وفي رواية «رأيته في الجنة يسحب ذيولا» وعن الزهري «نهى رسول الله ﷺ عن أكل ما يذبح للجن وعلى اسمهم» وأما ما قيل عند ذبحه بسم الله واسم محمد فحلال أكله وإن كان القول المذكور حراما لإيهامه التشريك، وهذا من جملة المحالّ المستثناة من قوله تعالى له: {لا أذكر إلا وتذكر معي} فقد جاء «أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول لك: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ » أي على كل حال أي جعلت ذكرك مرفوعا مشرفا المذكور ذلك في قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} إلى قوله: {ورفعنا لك ذكرك} «قلت الله أعلم، قال: لا أذكر إلا وتذكر معي» أي في غالب المواطن وجوبا أو ندبا.
ومن ذلك ما روي عن علي قال: «قيل للنبي هل عبدت وثنا قط؟ قال لا، قالوا: هل شربت خمرا قط؟ قال لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان» انتهى.
أقول: تحريم شرب الخمر في الجاهلية ليس من خصائصه، بل حرّمها على نفسه في الجاهلية جماعة كثيرون سيأتي ذكر بعضهم، وتقدم ذكر بعض منهم وكون شرب الخمر من الكفر على ما هو ظاهر السياق بمعنى ينبغي أن يجتنب كما يجتنب الكفر، ولعل صدور هذا منه كان بعد تحريم الخمر، وكيون الإتيان بذلك للمبالغة في الزجر عنها، والتباعد منه لأنها أم الخبائث، وقد كانت نفوس غالبهم ألفتها، وهذا محمل ما جاء «أتاني جبريل فقال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا» أي مصدقا بما جئت به «دخل الجنة » أي لا بد وأن يدخل الجنة وإن دخل النار «قلت: يا جبريل وإن زنى وإن سرق؟ قال نعم، قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال نعم، وإن شرب الخمر» والمراد بتحريمها تحريمها على الناس، وإلا ففي الخصائص الصغرى للسيوطي: وحرمت عليه الخمر من قبل ما يبعث قبل أن تحرم على الناس بعشرين سنة، والله أعلم.
قال: وأما ما رواه جابر بن عبد الله «كان رسول الله ﷺ يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه، واحد يقول لصاحبه اذهب بنا نقوم خلف رسول الله، فقال: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام قبل فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم» قال الحافظ ابن حجر: أنكره الناس أي فقد قال الإمام أحمد كما في الشفاء إنه موضوع أو يشبه الموضوع. وقال الدارقطني: إن ابن أبي شيبة وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر فلا يلتفت إليه، والمنكر فيه قول الملك عهده باستلام الأصنام قبل، فإن ظاهره أنه باشر الاستلام، وليس ذلك مرادا أبدا، بل المراد أنه شاهد مبشارة المشركين استلام أصنامهم: أي لشهوده بعض مشاهدهم التي تكون عند الأصنام.
وقال غيره: والمراد بالمشاهد التي شهدها: أي التي كان يشهدها مشاهد الحلف ونحوها كالضيافات الآتي بيانها لا مشاهدة استلام الأصنام، فإنه يرده ما تقدم عن أم أيمن انتهى: أي من قولها إن بوانة كان صنما لقريش تعظمه وتعتكف عليه يوما إلى الليل في كل سنة إلى آخره: أي ويرده أيضا ما تقدم من قوله لبحيرا لما حلفه باللات والعزى: لا تسألني بهما؟ فإني والله ما أبغضت شيئا قط بغضهما، لأن مثل اللات والعزى غيرهما من الأصنام في ذلك، وما سيأتي من قوله لخديجة : «والله ما أبغضت بغض هذه الأصنام شيئا قط» وما جاء أنه قال: «لما نشأت بغضت إليّ الأوثان، وبغض إليّ الشعر» والله سبحانه وتعالى أعلم.