السيرة الحلبية/ذكر كتابه إلى الحارث بن أبي شمر الغساني
أي وكان بدمشق: أي بغوطتها: أي وهو محلّ معروف كثير المياه والشجر.
بعث رسول الله ﷺ شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإني أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك» وختم الكتاب.
قال شجاع : فخرجت حتى انتهيت إلى بابه، فأقمت يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله ﷺ إليه: فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا، وجعل حاجبه يسألني عن رسول الله ﷺ وما يدعو إليه، فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبيّ بعينه فكنت أراه: أي أظنه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض القرظ: أي وهو ورق، أو ثمر السلم، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني، فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي، ويخبرني عن الحارث باليأس منه. ويقول: هو يخاف قيصر، فخرج الحارث يوما وجلس وعلى رأسه التاج وأذن لي عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله ﷺ فقرأه، ثم رمى به، ثم قال: من ينزع مني ملكي، أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته. عليّ بالناس. فلم يزل جالسا يعرض عليه حتى الليل وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره الخبر وصادف أن كان عند قيصر دحية الكلبي ، بعثه إليه رسول الله ﷺ، فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه أن لا تسر إليه واله عنه، أي لا تذكره، واشتغل بإيلياء: أي بيت المقدس، ومعنى إيلياء بالعبرانية بيت الله، والمراد باشتغاله بذلك أن يهيىء لقيصر الإنزال ببيت المقدس، فإنه نذر المشي من حمص، وقيل من قسطنطينية إلى بيت المقدس ماشيا شكرا لله تعالى حيث كشف عنه جنود فارس، وأظهر الله تعالى الروم على فارس، ففرشوا له بسطا ونثروا عليها الرياحين وهو يمشي عليها حتى بلغ بيت المقدس فجاء إليه كتاب قيصر: أي والذي فيه أنه يلهو عنه ولا يذكره وأنا مقيم فدعاني وقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت: غدا، فأمر لي بمائة مثقال ذهبا، ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال لي ذلك الحاجب: اقرأ على رسول الله ﷺ مني السلام وأخبره أني متبع دينه.
قال شجاع: فقدمت على النبي ﷺ فأخبرته بما كان من الحارث، قال باد: أي هلك ملكه، وأقرأته السلام من الحاجب وأخبرته بما قال، فقال رسول الله ﷺ صدق.
وفي كلام بعضهم وبعض أهل السير على أن الحارث أسلم، ولكن قال: أخاف أن أظهر إسلامي فيقتلني قيصر. وذكر ابن هشام وغيره أن شجاع بن وهب إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم.
ويقال إن شجاع بن وهب أرسل إلى الحارث وإلى جبلة بن الأيهم، وإن شجاعا قال له: يا جبلة إن قومك نقلوا هذا النبي من داره إلى دارهم، يعني الأنصار، فآووه ومنعوه ونصروه، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك ولكنك ملكت الشام وجاورت الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا وكانت لك الآخرة، وقد كنت استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجمع بالشعانين، وكان ما عند الله خير وأبقى. قال جبلة: إني والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبي اجتماعهم على من خلق السموات والأرض، وقد سرّني اجتماع قومي له، وقد دعاني قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه، ولكني لست أرى حقا ولا باطلا وسأنظر.
وفي كلام بعضهم أنه أسلم ورد جواب كتاب رسول الله، وأعلمه بإسلامه، وأرسل الهدية، وكان ثابتا على إسلامه لزمن عمر فإنه حج في خلافته.
أي وفي كلام بعضهم: لما أسلم جبلة بن الأيهم في أيام عمر وكتب إليه يخبره بإسلامه ويستأذنه في القدوم عليه، فسرّ عمر بذلك، وأذن له، فخرج في خمسين ومائتين من أهل بيته، حتى إذا قارب المدينة عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل، وقلدها بقلائد الذهب والفضة، وألبسها الديباج وسرف الحرير، ووضع تاجه على رأسه، فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إليه وإلى زيه وزينته. فلما دخل على عمر رحب به وأدنى مجلسه، وأقام بالمدينة مكرما، فخرج عمر حاجا فخرج معه وحين تطوف بالبيت وطىء رجل من فزارة إزاره فانحل، فلطم الفزاري لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه، أي ويقال فقأ عينه، فشكا الفزاري ذلك إلى عمر ، فاستدعاه وقال له: لم هشمت أنفه، أو قال لم فقأت عينه؟ فقال: يا أمير المؤمنين تعمد حلّ إزاري، ولولا حرمة البيت، لضربت عنقه بالسيف، فقال له عمر: إما أنت فقد أقررت، أما أن ترضيه وإلا أقدته منك. وفي رواية: وحكم إما بالعفو أو بالقصاص، فقال جبلة فتصنع بي ماذا؟ قال: مثل ما صنعت به. وفي رواية: أتقتص له مني سواء وأنا ملك وهذا سوقي؟ فقال له عمر : الإسلام سوى بينكما، ولا فضل لك عليه إلا بالتقوى، فقال: إن كنت أنا وهذا الرجل سواء في الدين فأنا أتنصر، فإني كنت أظن يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعزمني في الجاهلية، فقال له عمر : إذا أضرب عنقك، فقال فأمهلني الليلة حتى أنظر في أمري، قال: ذلك إلى خصمك فقال الرجل: أمهلته يا أمير المؤمنين، فأذن له عمر في الانصراف، ثم ركب في بني عمه وهرب إلى القسطنطينية أي فدخل على هرقل وتنصر هناك ومات على ذلك. وقيل عاد إلى الإسلام ومات مسلما.
وكان جبلة رجلا طوالا طوله اثنا عشر شبرا، وكان يمسح الأرض برجليه وهو راكب، فسرّ هرقل به، وزوجه ابنته، وقاسمه ملكه، وجعله من سماره، وبنى له مدينة بين طرابلس واللاذقية سماها جبلة باسمه يقال إن فيها قبر إبراهيم بن أدهم.
وقيل المحاكمة كانت عند أبي عبيدة بن الجراح . أي فقد ذكر بعضهم أن جبلة لم يزل مسلما حتى كان في زمن عمر بن الخطاب ، فبينما هو في سوق دمشق إذ وطىء رجلا من مزينة فوثب المزني فلطم خدّ جبلة، فأرسله مع جماعة من قومه إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة، قال: فليلطمه، قالوا: ما يقبل، قال: لا، يقبل، قالوا: إنما تقطع يده، قال: لا، إنما أمر الله بالقود، فلما بلغ جبلة ذلك، قال: أتروني أني جاعل وجهي ندا لوجه؟ بئس الدين هذا، ثم ارتد نصرانيا وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم على هرقل.