السيرة الحلبية/باب ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
سميت بذلك، لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه، فسمي الطائف، وقيل غير ذلك.
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبي ﷺ ما لم تكن نالته منه في حياته كما تقدم خرج إلى الطائف: أي وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقي من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبي لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب.
وعن عليّ أنه قال بعد موت أبي طالب «لقد رأيت رسول الله ﷺ أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا؟ قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ».
وخروجه إلى الطائف كان في شوال سنة عشر من النبوة وحده، وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا، وأن يناصروه على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه. قال في الإمتاع: لأنهم كانوا أخواله. قال بعضهم: ومن ثم أي من أجل أنه خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة، كذا قال.
وفي كلام غيره: ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة، فهي راحة الأمة، ومتنفس كل ذي ضيق وغمة {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} فليتأمل.
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا اخوة ثلاثة: أحدهم عبد ياليل، أي واسمه كنانة لم يعرف له إسلام، وأخوه مسعود أي وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا، وحبيب. قال الذهبي: في صحبته نظر، أي وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، وجلس إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أي من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة أي ينتفها ويقطعها، أي وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك. وقال له آخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك. وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسول الله كما تقول لأنت أعظم خطرا: أي قدرا من أن أراد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام من عندهم وقد أيس من خير ثقيف، وقال لهم: اكتموا عليّ، وكره أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له اخرج من بلدنا وألحق بمنجاتك من الأرض، وأغروا به ـ أي سلطوا عليه ـ سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أي دقوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه.
وفي لفظ: حتى اختضبت نعلاه بالدماء، وكان إذا أزلقته الحجارة ـ أي وجد ألمها ـ قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، كل ذلك وزيد بن حارثة ـ أي بناء على أنه كان معه ـ يقيه بنفسه حتى لقد شجّ رأسه شجاجا، فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما عمد إلى حائط من حوائطهم: أي بستان من بساتينهم، فاستظل في حَبلة ـ أي بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف ـ شجرة كرم، وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب. وقد فسر نهيه عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب. قال السهيلي: وهو غريب لم يذهب إليه أحد في تأويل الحديث، فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع» أي وقد جاء النهي عن أن يقال لشجر العنب الكرم في قوله «لا يقولن أحدكم الكرم، فإن الكرم قلب المؤمن، ولكن قولوا حدائق العنب» قال وسبب النهي عن تسميتها كرما، لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم.
وفي لفظ: ثم إن هؤلاء الثلاثة أي عبد ياليل واخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما دخل الحائط رجعوا عنه.
قال «وذكر أنه دعا بدعاء منه: اللهم إني أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي» ا هـ وإذا في الحائط أي البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة: أي وقد رأيا ما لقي من سفهاء أهل الطائف، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله، فلما رأياه وما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود في الصحابة، مات قبل الخروج إلى بدر، فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، أي وهذا لا ينافي كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي، ثم قال له كل، فلما وضع رسول الله، فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل: أي لأنه كان إذا وضع يده في الطعام قال بسم الله، ويأمر الآكل بالتسمية، وأمر من نسي التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره، فنظر عداس في وجهه وقال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله ﷺ: من أيّ البلاد أنت، وما دينك يا عداس؟ قال نصراني، وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية، وقيل بضمها: قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل، فقال له رسول الله ﷺ من أهل قرية، أي وفي رواية «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى» اسم أبيه، أي كما في حديث ابن عباس .
وفي تاريخ حماة أنه اسم أمه. قال: ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام.
أي وفي مزيل الخفاء: فإن قيل قد ورد في الصحيح «لا تفضلوني على يونس بن متى» ونسبه إلى أبيه وهو يقتضي أن متى أبوه لا أمه.
أجيب بأن متى مدرج في الحديث من كلام الصحابي لبيان يونس بما اشتهر به، لا من كلام النبي.
ولما كان ذلك موهما أن الصحابي سمع هذه النسبة من النبي ﷺ دفع الصحابي ذلك بقوله: ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه، هذا كلامه.
«وعند ذلك قال عداس له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فإني والله لقد خرجت منها ـ يعني نينوى ـ وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت ابن متى وأنت أميّ وفي أمة أمية؟ فقال رسول الله: «ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي أميّ» وفي رواية «أنا رسول الله، والله أخبرني خبره، وما وقع له مع قومه» أي حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوه وخرج عنهم، وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم، فلما فقدوه قذف الله تعالى في قلوبهم التوبة: أي الإيمان بما دعاهم إليه يونس.
وقيل كما في الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة، فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم، فعند ذلك لبسوا المسوح، وأخرجوا المواشي، وفرقوا بين النساء وأولادها، وبين كل بهيمة وولدها، فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى، وبكى الناس والولدان، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وعجاجيلها، وثغت الغنم وسخالها، وقالوا: يا حيّ حيث لا حي، ويا حي يحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت.
وعن الفضيل أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجلّ، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله.
وفي الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة، وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم، وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل، فمر رجل على يونس فقال له: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم. قيل وكان في شرعهم أن من كذب قتل، فانطلق مغاضبا لقومه، وظن أن لن نقضي عليه بما قضى به عليه أي من الغم وضيق الصدر، قال تعالى{وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} أي لن نضيق عليه، وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.
أي وفي كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبي، التقمه ضحوة ونبذه عشية أي بعد العصر؛ وقاربت الشمس الغروب. وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس في بطنه لئلا يضيق عليه.
وقال السدي: مكث أربعين يوما. وقال جعفر الصادق: سبعة أيام. وقال قتادة: ثلاثة أيام؛ وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر؛ فقال لهم: إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير حتى تلقوه في البحر وأشار إلى نفسه؛ فقالوا: لا نلقيك يا نبيّ الله أبدا؛ قال: فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مرات؛ فألقوه فالتقمه الحوت. وقيل قائل ذلك بعض الملاحين؛ وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه في البحر؛ وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت: وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له؛ وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم.
وعن وهب بن منبه، وقد سئل عن يونس فقال: كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا، أي فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل، وهم نوح، وهود، وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
أما نوح فلقوله{يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله} الآية. وأما هود فلقوله {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه} الآية. وأما إبراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه {إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله} الآية. وأما محمد فلقول الله تعالى له {فاصبركما صبر أولوا العزم من الرسل} فصبر.
فعند ذلك أكبّ عداس على رسول الله ﷺ يقبل رأسه ويديه وقدميه، أي فقال أحدهما: أي عتبة وشيبة للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قال له أحدهما: ويلك مالك تقبِّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قال: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك.
أقول: وفي رواية «قال له وما شأنك؟ سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم ترك فعلته بأحدنا؟ قال: هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى، فضحكا به وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه» وقد تقدم في بعض الروايات: أن خديجة قبل أن تذهب بالنبي ﷺ لورقة بن نوفل ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى: قرية سيدنا يونس ، وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه، وقست أثر رجل واحد منهم في الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثي شبر، والله أعلم.
وفي الصحيح عن عائشة «إنها قالت للنبي: هل أتى عليك يوم أشدّ من أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال» أي والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية، أي فيقال عبد ياليل وكلال، أي وعبد كلال، ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه، أو لأنهما كانا المجيبين له بالقبيح دون حبيب، إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد ياليل وعبد كلال، وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة، لأن ابن مفرد مضاف، ثم رأيته في النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت في الصحيح.
والذي في كلام ابن اسحاق وأبي عبيد وغيرهما إسقاطه. ثم رأيت الشمس الشامي قال: الذي ذكره أهل المغازي أن الذي كلمه رسول الله ﷺ عبد ياليل نفسه لا ابنه.
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه: أي أبو أبيه كما لا يخفى «فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب»: أي ويقال له قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن، بينه وبين مكة يوم وليلة. وفي لفظ «وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن» بسكون الراء. ووهم الجوهري في تحريكها، وفي قوله إن أويسا القرني منسوب إليه، وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت في مسلم «فرفعت رأسي، فإذا أنا بالسحابة قد أظلتني؛ فنظرت فإذا فيها جبريل ﵇، فنادى فقال: قد سمع قول قومك لك ـ أي أهل ثقيف كما هو المتبادر ـ وما ردوا عليك به، وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم، فناداه ملك الجبال وسلم عليه، وقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت» أي وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى. فمن الأول قوله: وهما قبيس وقعيقعان. وقيل الجبل الأحمر الذي يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان، ومن الثانية الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد.
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما، بل الجبلان خارجان عنهم فيكف يطبقهما عليهم؟ وفي لفظ «إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال» أي التي بتلك الناحية.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر، قال: المراد بقوم عائشة في قوله: لقد لقيت من قومك قريش: أي لا أهل الطائف الذين هم ثقيف، لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه لثقيف؛ ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة ؛ وعليه فلا إشكال. ويوافقه قول الهدى: فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين: وهما جبلاها التي هي بينهما.
وعبارة الهدى في محل آخر: وفي طريقه أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال، فأمره بطاعته؛ وأن يطبق على قومه أخشبي مكة؛ وهما جبلاها إن أراد، هذا كلامه.
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق، إذ قوله «وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي» إلى آخره، وقول جبريل «قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به» ظاهر في أن المراد بهم ثقيف لا قريش. ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة في شرح منظومة جده بعد أن ساق دعاءه المتقدم بعضه «فأرسل الله جبريل ومعه ملك الجبال؛ فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين» وحينئذ يكون المراد اطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلها إلى محل ثقيف الذي هو الطائف لأن القدرة صالحة. وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبي «بل أرجو أن يخرج الله تعالى» وفي رواية «أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا، وعن ذلك قال له ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم» قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم ملك الجبال؛ وإلى حلمه وإغضائه أشار صاحب الهمزية بقوله.
فجهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء
وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء
أي جهلت قومه فآذوه أذية لا تطاق؛ فأغضى عنهم حلما؛ وأخو الحلم: أي وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل؛ فإن علمه وسع علوم العالمين؛ ووسع حلمه حلمهم؛ فهو واسع العلم والحلم؛ لم تعيه الأعباء: أي لم تتعبه الأثقال؛ لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف؛ وقد علمت ما فيه فليتأمل.
وعند منصرفه المذكور من الطائف نزل نخلة وهي محلة بين مكة والطائف، فمر به نفر سبعة؛ وقيل تسعة من جن نصيبين: أي وهي مدينة بالشام؛ وقيل باليمن أثنى عليها بقوله «رفعت إلى نصيبين: حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها» وقد قام رسول الله ﷺ من جوف الليل أي وسطه يصلي. وفي رواية «يصلي صلاة الفجر» وفي رواية «هبطوا على النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة» فلعله كان يقرأ في الصلاة، والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس، ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل. وفي قوله جوف الليل تجّوز من الراوي، أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما، أو جمع بين القراءة والصلاة، وأن الجنَّ استمعوا للقراءتين، وإطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ، وبهذا يندفع قول بعضهم: صلاة الفجر لم تكن وجبت، وكان يقرأ سورة الجن. وفيه: أي في الصحيحين «أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم».
وقد يقال: سيأتي ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع المذكور هنا، بل استماع سابق على ذلك، وهو المذكور في رواية ابن عباس الآتية، ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر، وإلا فالروايات التي وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل، وصلاة الفجر كانت في ابتداء البعث في بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتي عن ابن عباس ، فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم ـ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ـ ولم يقولوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها. ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على ما لم ينزل، لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلا. قال: وأنكر ابن عباس اجتماع النبي ﷺ بالجن أي بأحد منهم.
ففي الصحيحين عنه قال «ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ـ أي وكان بين الطائف ونخلة، كان لثقيف وقيس عيلان» كما تقدم «وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ففزعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: مالكم؟ قالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة، فإذا هم بالنبي ﷺ وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا ـ يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ـ فأنزل الله تعالى على نبيه {قل أوحي إليّ} أي قل أخبرت بالوحي من الله تعالى أنه استمع لقراءتي {نفر من الجن} أي جن نصيبين».
أقول: تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ، فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع، ويجوز أن يكون صلى بهم إماما، لأن الجماعة في ذلك جائزة.
ولا يخفى أن هذه القصة التي تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه من الطائف، يدل لذلك قوله «انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ» لأنه في تلك القصة التي هي قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ما تقدم، وكان مجيئه من الطائف قاصدا مكة. وفي هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ، وأنه قرأ في تلك أي مجيئه من الطائف سورة الجن، وفي هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة، وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك، لأن قصة ابن عباس كانت في ابتداء الوحي، لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت في ذلك الوقت، وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة.
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به ولا قرأ عليهم، وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم. وقد صرح به ابن عباس في هذه، وصرح به الحافظ الدمياطي في تلك حيث قال في سيرته «فلما انصرف رسول الله ﷺ من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن، ولم يشعر بهم رسول الله ﷺ حتى نزل عليه {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} هذا كلامه، ونزول ما ذكر كان بعد انصرافهم.
فقد قال ابن إسحاق «فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله تعالى خبرهم على النبي » وبهذا يعلم ما في سفر السعادة.
ولما وصل في رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه، وكذا يعلم ما في المواهب من قوله «ولما انصرف عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين» إلى أن قال: وفي الصحيح أن الذي آذنه بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد، فقال: كل عظم إلى آخره؛ لأن سؤالهم له الزاد فرع اجتماعهم، وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه بهم إلا شجرة هناك. وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أي أعلمته بوجودهم، وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به، وأن دعوى ذلك لا ينافي أنه لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن، فسؤالهم له الزاد كان في قصة أخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتي الكلام عليها.
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبي ﷺ بنخلة وأسلموا، فأرسلهم إلى قومهم منذرين، إذ لا جائز أن يكون ذلك في أول البعث، لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس . وحينئذ يؤيد الاحتمال الثاني الذي ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به بعد أن آذنته بهم الشجرة، وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف في شيء من الروايات على ما هو صريح في ذلك: أي أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف، ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى{ولوا إلى قومهم منذرين}.
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبراني رويا عن ابن عباس «أن الجن الذين اجتمعوا به ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله ﷺ رسلا إلى قومهم» وهذا ليس صريحا في أنه كان عند رجوعه من الطائف.
لا يقال: يعني ذلك إنكار ابن عباس اجتماعه بالجن المرة الأولى التي كانت عند البعث، لاحتمال أنه كان في بطن نخلة في مرة أخرى ثالثة.
ثم رأيت في النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله «إنه لم يجتمع بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ» حيث قال: الذي في الصحيح وغيره أن اجتمع بهم، وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل.
قال: وذكر «أنه أقام بنخلة أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا يدع أحدا من أشرافهم» أي زيادة على عبد ياليل وأخويه «إلا جاء إليه وكلمه فلم يجبه أحد. فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم؟ يعني قريشا وهم قد أخرجوك: أي كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر، فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه، فسار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أي فإنه أسلم بعد ذ لك ليجيره: أي ليدخل مكة في جواره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير ـ أي في قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم ـ فبعث إلى سهيل بن عمرو فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب» وفيه أنه لو كان كذلك لما سألهما، وكونه لم يكن يعرف هذا الاصطلاح بعيد، إلا أن يقال جوّز مخالفة هذه الطريقة «فبعث إلى المطعم بن عديّ ـ أي وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر ـ يقول له: إني داخل مكة في جوارك، فأجابه إلى ذلك، وقال له: قل له فليأت، فرجع إليه فأخبره، فدخل رسول الله ﷺ مكة، ثم تسلح المطعم بن عديّ وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم، ثم بعث إلى رسول الله ﷺ أن أدخل، فدخل رسول الله ﷺ المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله. أي والمطعم بن عدي وولده مطيفون به » قال «وذكر أنه بات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه، وكانوا ستة أو سبعة، وقالوا لرسول الله ﷺ: طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه، وأقبل أبو سفيان على المطعم، فقال: أمجير أم تابع؟ فقال: بل مجير، فقال: إذن لا تخفر ـ أي لا تزال خفارتك ـ أي جوارك، قد أجرنا من أجرت، فجلس معه حتى قضى رسول الله ﷺ طوافه»ا هـ.
أي ولا بدع في دخوله في أمان كافر، لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى، وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله. أي ولهذا المعروف الذي فعله المطعم قال في أسارى بدر «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له».
ورأيت في أسد الغابة «أن جبيرا ولد المطعم ـ فإنه أسلم بين الحديبية والفتح، وقيل يوم الفتح ـ جاء إلى النبي ﷺ وهو كافر فسأله في أسارى بدر، فقال: لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم» كما سيأتي، أي لأنه فعل معه هذا الجميل وكان من جملة ما سعى في نقض الصحيفة كما تقدم.
قال: وعن كعب الأحبار «لما انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة جاؤوا قومهم منذرين، ثم جاؤوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله ﷺ وهو بمكة وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون، فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله، فقال: إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك، فوعده رسول الله ﷺ ساعة من الليل بالحجون» ا هـ.
وإن ابن مسعود ، قال «أتانا رسول الله، فقال: إني أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن، فليقم معي رجل منكم ولا يقم رجل في قلبه مثقال حبة خردل من كبر، فقمت معه: أي بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم» ولعلهم فهموا أن من الكبر ما ليس منه وهو محبة الترفع في نحو الملبس الذي لا يكاد يخلو منه أحد.
وقد بين الكبر في الحديث ببطر الحق وغمط الناس: أي استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له «يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق وغمط الناس» بالطاء المهملة كما في رواية أبي داود، وجاء «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، ولا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» قال الخطابي: المراد بالكبر هنا: أي في هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان. قال ابن مسعود «وذهب في بعض نواحي مكة ـ أي بأعلاها بالحجون ـ فلما برز خط لي خطا: أي برجله وقال: لا تخرج، فإنك إن خرجت لم ترني ولم أرك إلى يوم القيامة» وفي رواية «لا تحدثنّ شيئا حتى آتيك، لا يروعنك: أي لا يخوفنك ويفزعنك؛ ولا يهولنك: أي لا يعظم عليك شيء تراه، ثم جلس رسول الله، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط، وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطي، وكانوا كما قال الله تعالى (كادوا يكونون عليه) أي لازدحامهم (لبدا) أي كاللبد في ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه، فأردت أن أقوم فأذبّ عنه، فذكرت عهد رسول الله ﷺ فمكثت، ثم إنهم تفرقوا عنه فسمعتهم يقولون: يا رسول الله إن شفتنا أي أرضنا التي نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون، فزوّدنا: أي لأنفسنا ودوابنا» ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم، فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدكم أوفر ما كان لحما» رواه مسلم.
وفي رواية «إلا وجد عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل، وكل بعر علف دوابكم».
وعن ابن مسعود «أنهم لما سألوه الزاد، قال لهم: لكم كل عظم عراق، ولكم كل روثة خضرة» والعراق بضم العين وفتح الراء جمع عرق بفتح العين وسكون الراء: العظم الذي أخذ عنه اللحم. وقيل الذي أخذ عنه معظم اللحم «قلت: يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم أي عن أنفسهم وعن دوابهم» بدليل قوله «فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت» وفي رواية «وجدوه ـ أي الروث والبعر ـ شعيرا» فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم، ويوافقه ما جاء «أن الشعير يعود خضرا لدوابهم» ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل، وبين كونه يعود شعيرا، وبين كونه يعود خضرا.
هذا، وفي رواية لأبي نعيم «أن الروث يعود لهم تمرا» وهي تدل على أن الروث من مطعومهم، ويحتاج إلى الجمع. وجمع ابن حجر الهيتمي بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم، أي وفي لفظ «سألوني المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة» والحائل: البالي بمرور الزمن، لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم، كما لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لو حرق وصار فحما، ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا، لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل؛ وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة، وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه، فلا يأكلون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم: أي وكذا من طعام الإنس سرقة كما جاء في بعض الأخبار. هذا، ولكن في رواية أبي داود «كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه» قال السيهلي: وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبي داود.
وقال بعض العلماء: رواية «ذكر اسم الله عليه» في الجن المؤمنين. ورواية «لم يذكر اسم الله تعالى عليه» في حق الشياطين منهم، وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث. هذا كلامه، أي التي من تلك الأحاديث «أن إبليس قال: يا رب ليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقي؟ قال: كل ما لم يذكر عليه اسمي» ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن ما لم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة.
ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم؛ لأن في كون الكفار من الجن اجتمعوا به مع المؤمنين، وأن كلا من الفريقين سأله الزاد، وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لاسيما مع ما تقدم عن ابن مسعود وما يأتي من قوله اخوانكم من الجن، ومن ثم قال بعضهم: إن السائلين له الزاد كانوا مسلمين فليتأمل.
ولما ذكر لهم العظم والروث «قالوا: يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا، فنهى النبي ﷺ أن يستنجي بالعظم أو بروثه بقوله: فلا يستنقينّ أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة، لأنه زاد إخوانكم من الجن».
وفي رواية «قالوا له أنه أمتك عن الاستنجاء بهما، فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا، فنهى رسول الله ﷺ عن الاستنجاء بالعظم والبعر» أي وحرمة نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى، ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق و المخاط.
وعن جابر بن عبدالله قال «بينا أنا مع رسول الله ﷺ أمشي إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه، فقال النبي ﷺ: نعم فانصرفت، قال جابر: فسألته، فأخبرني أنه رجل من الجن، وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة: أي العظم، لأن الله تعالى جعل لنا في ذلك رزقا» ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه نهى عن ذلك. ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضي أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك. وحينئذ يسأل ما كان زادهم قبل ذلك؟ وقد يقال: هو كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين، وحينئذ يكون ما تقدم في خبر إبليس المراد بما لم يذكر اسم الله عليه غير العظم فليتأمل، والنهي عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا.
وقصة جابر هذه سيأتي في غزوة تبوك نظيرها «وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم في الطريق، فانحاز الناس عنها، فأقبلت حتى وقفت على رسول الله ﷺ وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فقال رسول الله ﷺ: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآن» قال في المواهب: وفي هذ ردّ على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب: أي وإنما يتغذون بالشم.
أقول: ذكرت في كتابي (عقد المرجان فيما يتعلق بالجان) أن في أكل الجن ثلاثة أقوال: قيل يأكلون بالمضغ والبلع، ويشربون بالازدراد. والثاني لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم. والثالث أنهم صنفان: صنف يأكل ويشرب، وصنف لا يأكل ولا يشرب، وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم، والله أعلم.
«قال ابن مسعود: فلما ولوا قلت من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جن نصيبين» وفي رواية «فتوارى عني حتى لم أره، فلما سطع الفجر أقبل رسول الله، فقال لي: أرك قائما، فقلت ما قعدت، فقال: ما عليك لو فعلت أي قعدت؟ قلت: خشيت أن أخرج منه فقال: أما إنك لو خرجت لم ترني ولم أراك إلى يوم القيامة» أي وفي رواية «لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم» وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج. وفي رواية «قال لي: أنمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس، أي لما تراكموا عليك، وسمعت منهم لغطا شديدا حتى خفت عليك إلى أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول: اجلسوا، وسأله عن سبب اللغط الشديد الذي كان منهم، فقال: إن الجن تداعت في قتيل بينهم قتل فتحاكموا إليّ، فحكمت بينهم بالحق».
وفي رواية عن سعيد بن جبير أنه أي ابن مسعود قال له: أولئك جن نصيبين، وكانوا اثني عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم {اقرأ باسم ربك} أي ولا ينافي ذلك ما جاء عن ابن مسعود أنه افتتح القرآن، لأن المراد بالقرآن القراءة. زاد ابن مسعود على ما في بعض الروايات «ثم شبك أصابعه في أصابعي، وقال: إني وعدت أن تؤمن بين الجن والإنس، أما الإنس فقد آمنت، وأما الجن فقد رأيت».
أقول: وفي هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التي اختطها له وفي السيرة الهشامية ما يقتضي أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود «فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه من الجبال، فازدحموا عليه إلى آخره» فليتأمل.
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه من الطائف، فإن قصة ابن عباس كانت في أول البعث، وقصة رجوعه من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت، وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم «ثم قال لابن مسعود: هل معك وضوء» أي ماء نتوضأ به؟ » قلت لا، فقال: ما هذه الإداوة أي وهي إناء من جلد؟ قلت فيها نبيذ؟ قال: ثمرة طيبة وماء طهور صبّ عليّ، فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى».
أقول: وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء، ومن ثم قال ماء طهور، وقول ابن مسعود فيها نبيذ أي منبوذ الذي هو التمر، وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى {إني أراني أعصر خمرا} وهذا بناء على فرض صحة الحديث، وإلا فقد قال بعضهم: حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي : الذي أقول به منع التطهر بالنبيذ، لعدم صحة الخبر المروي فيه، ولو أن الحديث صح لم يكن نصا في الوضوء به فإنه قال «ثمرة طيبة وماء طهور»، أي قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء، وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة.
قال: ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب، وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له. وعند أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة «قلت لابن مسعود هل صحب النبي ﷺ ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أجد، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا أستطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشرّ ليلة، فلما أصبحنا إذ هو جاء من قب الحجون» وفي لفظ «من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة، فقال إنه أتاني داعي الجن، فذهب معهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» وهذه القصة يجوز أن تكون هي المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهي سابقة على القصة التي كان فيها ابن مسعود. ويجوز أن تكون غيرها وهي المرادة بقول عكرمة «إنهم كانوا اثني عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل» لأن المتقدم في تلك عن كعب الأحبار أنهم كانوا ثلاثمائة من جن نصيبين.
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التي كان بها ابن مسعود، ويحتمل أن تكون متأخرة عنها، وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به في مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود، ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما.
قال في الأصل: ويكفي في أمر الجن ما في سورة الرحمن وسورة ـ قل أوحي إليّ ـ وسورة الأحقاف.
أقول: فعلم أن الجن سمعوا قراءته ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم في المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ في ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم، ولا في المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمناه فيه، وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته في المرتين، وبه يعلم ما في المواهب عن الحافظ ابن كثير أنّ كون الجن اجتمعوا له في نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر، وإنما استماعهم له كان في ابتداء البعث كما يدلّ عليه حديث ابن عباس، أي من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ، وعلم أنهم اجتمعوا به وقرأ عليهم وآمنوا به في مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم.
وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن قتادة «أنه قال: لما أهبط إبليس قال: أي رب قد لعنته فما علمه؟ قال السحر، قال: فما قراءته؟ قال الشعر، قال: فما كتابته؟ قال: الوشم، قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ـ أي من طعام الإنس يأخذه سرقة، قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام، قال: فأين محله؟ قال: في الأسواق، قال: فما صوته؟ قال المزمار، قال: فما مصايده؟ قال النساء» فالحمام محل أكثر إقامته، والسوق محل تردده في بعض الأوقات. والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن.