مقالات مجلة المنار/كتاب تنوير الأفهام
كلمة ثانية في هدم الكتاب
ذكرنا في الجزء الثالث كلمة هادمة لذلك الكتاب الذي زعم أنه بيَّن مصادر الإسلام وليس للإسلام إلا مصدر واحد وهو الوحي، وذكرنا هنالك أننا لم نقرأ من الكتاب إلا جملة قليلة. ثم إننا عدنا إليه؛ فألفيناه يبتدىء الكلام في الإسلام ابتداء مَن يتوهم أنه عرفه، وأنه يتكلم في قواعده وأصوله، ولكن لم نلبث أن رأينا فيه من الجهل والافتئات على الإسلام ما أثبت لنا أن واضعه كغيره من الطاعنين لم يكتب ما يرى ويعتقد، ولم يعتقد ما عرفه وعَلِمَه، بل خبَّط خبط عشواء فظلم نفسه، وأتعب عقله وحسه، وكان بعد ذلك من الخاسرين.
انظر تعلم أننا نَصفه لا نَشْتُمه - ذكر أن أساس الدين القرآن والسنة أو الحديث كما قال، وذكر أن الحديث مُبَيِّن للقرآن فإن خالفه لا يقبل؛ لأن القرآن هو الأصل، وذكر أن كُتب الحديث المعتمدة عند أهل السنة ستة، وعَدَّ منها المُوطأ وأهمل سُنن النَّسائي، ولا بأس بذلك، وذكر الكتب المعتمدة عند الشيعة كذلك، ثم بَنَى طَعْنَه في القرآن على ما فسره به من الحديث بزعمه، وههنا الخلط والاختراع وسُوء القَصْد كما ترى فيما نورد عنه من الشواهد.
أول مثال أورده لبيان القرآن بالسنة آية { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى } ( الإسراء: 1 ) فزعم أن حديث المعراج مُبَيِّن لها فأَوْهَمَ القارئين أن ما ورد من عروج النبي ﷺ إلى السماء - بروحه فقط كما عليه قوم من المسلمين أو بروحه وجسده كما عليه آخرون - مُفَسِّر ومُبَيِّن لآية من القرآن، مع أن المسلمين مجمعون على أن المعراج مأخوذ من الحديث لا من القرآن، ولذلك لا يقولون بكفر منكره، بل نقلوا أن من الصحابة من أنكره بالمرة حتى السيدة عائشة زوج النبي - ﷺ -.
وأردف هذا المثال بآخر فقال: ( وكذلك لولا الحديث لما فهم أحد معنى: ( ق ) وهو اسم إحدى سور القرآن؛ فالأحاديث هي التي أوضحت أن المراد بالحرف ( ق ) اسم جبل قاف؛ ولهذا عزمنا بحوله تعالى طلبًا للاختصار أن لا نورد في هذا الكتاب شيئًا مختصًّا بمصادر الإسلام من عقيدة إسلامية، أو تعليم إلا ما كان له أصل وأساس في القرآن ذاته، ويكون ورد له تفسير وشرح في الأحاديث المشهورة المتواترة بين كل المسلمين سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة.
انظر إلى ما اشترطه على نفسه في الاعتماد على الأحاديث المُبَيِّنَة والمُفَسِّرَة للقرآن؛ اشترط أن تكون الأحاديث مشهورة متواترة بين كل المسلمين، مع أن تفسير حرف ( ق ) بأنه اسم جبل لم يرد في حديث مرفوع لا متواتر، ولا مشهور ولا آحادي صحيح، ولا ضعيف، ولم يذكر في كتاب من الكتب الستة التي ذكر أن أهل السنة وهم القسم الأكبر من المسلمين يعتمدون عليها. فكيف يوثق بكلام مؤلف ويصدق بأنه التزم ما اشترطه على نفسه في هذا الكتاب. نعم، إن في كتب التفسير التي لا يكاد يخلو واحد منها من سرد الأقوال الإسرائيلية أثرًا في ذكر جبل قاف، وقد قال القرافي - من محققي الأمة -: إنه لا يعول عليه، ولا يصح، وإن هذا الجبل لا يوجد، ولا يهمنا أن بعض عشاق الروايات الكثيرة سلَّم به، وإنما نقول: إنه شيء لم يصح في الكتاب، ولا في السنة، ولم يوجد في الكتب المعتمدة الذي ذكرها، ولا في غيرها مرفوعًا إلى النبي ﷺ.
ثم إن للإسرائيليات منبعًا آخر في غير كتب التفسير - هو أغزر مادة أو أكثر رواية -: وهو كُتب القَصص الخُرافية التي أسندت إلى مؤلفين لا شأن لهم ككتاب ( عرائس المجالس ) وغيره في قَصص الأنبياء، و ( خريدة العجائب )، وأمثالها، وهي كتب طافحة بالمَوْضُوعات والأكاذيب، كما نَبَّه على ذلك حُفَّاظُ الحديث، حتى كان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يقول: ( لا يصح في التفسير شيء )، وعلى أمثال هذه الكتب يَعْتَمِدُ صاحب كتاب ( تنوير الأفهام في تفسير القرآن )، وبيانه مع ما علمت من شَرْطه الخادع. ومن ذلك ما أورده في الصفحة ( 42 ) وما بعدها من قصة إبراهيم - عليه السلام - أخذها من ( عرائس المجالس ) ينبوع الكذب، واستدل منها على أن القرآن يستمد أحكامه وأخباره من كتب اليهود، ثم اعترف بأن ما في القرآن، وعرائس المجالس غير مطابق لما في كتبهم، وسببه بزعمه أن محمدا أخذها عن اليهود مشافهة، ولم يرها في كتبهم!! على أن موافقة القرآن نفسه أو الحديث الصحيح لبعض ما في كتب اليهود دون بعض لا يدل على أنه أخذ عنهم، وإنما يدل على أن الله تعالى بيَّن له حق كلامهم من باطله، وصدقه من كذبه، فإن كتبهم كأقوالهم لا يعتمد عليها كلها لظهور الكذب والتناقض فيها إلى اليوم، ولظهور تلفيقها واقتباسها من الأمم الأخرى كما بيَّنَّا ذلك مرارًا فهي ككتب القصص عندنا فيها شيء من القرآن والسنة، ولكنه ممزوج بالأكاذيب والآراء المقتبسة من الأمم. ولا شيء يعول عليه في صحة بعض أقوال كتب اليهود دون بعض، بعدما طرأ عليها من الضياع والتحريف والخلط إلا الوحي، وقد ثبتت نبوة محمد ﷺ بالدلائل الساطعة، والآثار النافعة، وهم يقولون: إن المسيح فَرَّقَ بين الأنبياء الصادقين، والأنبياء الكذبة بآثارهم وثمارهم، فوجب الاعتماد على ما جاء به هذا النبي الكريم دون غيره. والبحث بأنه سمع أو اطلع من الهذيان. وأَنَّى يعول النبي الذي لا ينكر الكافرون رجحان عقله على قول أولئك اليهود الذين شرح للناس مكرهم وكذبهم، وتلطَّف في شأن ما يَعْزُونه إلى الوحي، فأمر أصحابه بأن لا يصدِّقوهم فيه ولا يكذِّبوهم!!
كذلك تراه قد اعتمد على ( عرائس المجالس ) في قصة سليمان مع ملكة سبأ ( كما في ص 61 )، وفي قصة ( هاروت وماروت ) ( كما في ص64 ) وقد مرَّ تفسير القصة في المجلد السادس من المنار بما يكذب القَصاصين، كصاحب (عرائس المجالس ) وغيره ومَنْ على رأيهم من المفسرين ( راجع ص 443 من المجلد المذكور )، وفي ( سبع دركات الأرض ) ( كما في ص 85 ) واعتمد على كتاب ( قَصص الأنبياء ) في وصف اللوح المحفوظ بناء على أنه تفسير لقوله تعالى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج: 21-22 ) ذكر ذلك في ( ص 93 ) وعبر عنه بمعلومات المسلمين التي استفادوها من أحاديثهم. ثم رَجَّحَ في الصفحة الـ 99 أن النبي ﷺ اقتبس هذه الكلمة من اليهود حين سمعهم يقولون: إن الوصايا التي أعطاها الله لموسى كتبت في لوحين. كأنه يرى أن محمدا - عليه أفضل الصلاة والسلام - ما كان يعرف هذا اللفظ ( لوح محفوظ ) لولا أنه سمعه من اليهود، وإن كان اللفظ عربيًّا، والسورة التي ورد فيها مكية أنزلت قبل أن يعرف النبي أحدًا من اليهود؛ إذ كانوا في المدينة لا في مكة. ثم رَجَّحَ بناءً على تحكمه هذا أن المسلمين لم يفهموا معنى قوله ( لوح محفوظ ) فكذَّبُوا له تلك الكذبة المذكورة في قَصص الأنبياء!!
وليت شعري! كيف لم يفهموا هذه الكلمة وهي من لسانهم، والكتابة في الألواح معهودة عندهم؟ وكيف اختص النبي بالسماع من اليهود دونهم؟ مع أنه كان يراهم ويحاجهم إذ يدعوهم إلى الإسلام والمسلمون حاضرون، ولم يُعْرَفْ أنه كان يخلو بهم!! نعم إن ما ذكره صاحب قصص الأنبياء يجوز أن يكون بسوء فَهْم، وأن يكون بسوء قَصْد، ثم عاد إلى تفصيل القول في تفسير ( ق ) بجبل قاف ناقلا عن ( عرائس المجالس )، وقصص الأنبياء، وذكر موافقة ما فيهما لما قاله أحد اليهود في كتابٍ لهم اسمه ( حكيكاه ).
ويا ليت مؤلف الكتاب كان سأل أحد علماء المسلمين عن كتاب ( عرائس المجالس )، وكتاب ( قصص الأنبياء ) قبل أن يطالعهما، ويستخرج منهما تفسير القرآن: هل هذان الكتابان معتمدان عندكم في التفسير وغيره؟ وهل تعدُّ روايتهما صادقة؟ إذن لأجابه بما كان يكفيه مؤنة التعب والعناء بمطالعة تلك الخُرافات والأكاذيب، وتلخيص الأخبار منها. إننا نشفق عليه من مطالعة كتب يحرم المسلمون قراءتها لما فيها من الكذب والكفر؛ إذا كان قد طالعها ظانًّا أنها معتمدة يحتج بها، ولكن الراجح أنه يعلم أنها كتب خرافية، بدليل أنه ذكر كتب الحديث المعتبرة عند المسلمين وإن كانوا لا يحتجون بجميع ما فيها، ولكنه مع وعده بأنْ سينقل منها المشهور والمتواتر؛ لم ينقل منها حتى ما لم يشتهر ولم يتواتر. لماذا؟ لأنه يريد أن يشكك عوامّ المسلمين في دينهم بإيهامهم أنه يعرف كتبهم المعتمدة، وينقل عنها وينتقدها، وعند ذلك يتسنى له أو لغيره من شيعته أن ينصر بعض هؤلاء العوام الجهال بعد تشكيكهم مرغبًا لهم بمنفعة دنيوية، كما عهد من المبشرين في دعوة المسلمين. ولم يعلم المسكين أن من عرف من الإسلام شيئًا يصعب أن يهين نفسه بالنصرانية ويعبد البشر ( المسيح ) من دون الله ويقول: إن الله مولود من أنثى.
إن كتاب ( عرائس المجالس ) و (قصص الأنبياء ) على شحنهما بما يخالف عقائد الإسلام وأخباره وأحكامه هما أمثل من كتب النصرانية، ولا يرضى لنفسه من لم يعرف من الدين والعلم شيئًا غير خرافاتهما أن يستبدل بها عقيدة النصارى الوحيدة التي هي مناط الخلاص عندهم، وهي أن الإله عجز عن التوفيق بين صفتَيْه المتناقضتين من الأزل وهما العدل والرحمة فلم يهتد وسيلة لذلك إلا منذ 1904؛ إذ رأى أن يحل في بطن امرأة ويولد منها فيكون إنسانًا، ثم يصلب كارهًا راضيًا ويجعل نفسه ملعونًا لأجل أن يخلِّص الناس؛ بحملهم على تصديق هذه القصة التي لا تعقل، ويجعل من يصدق بها من أهل الإباحة، له الملكوت وإن كان أفسق الفاسقين وأظلم الظالمين!!! هل يمكن لمَن له ذرة من العقل أن يفضل هذا الاعتقاد الخرافي على خرافات عرائس المجالس وقصص الأنبياء؟ لا، لا، لا.
هذا نموذج من الشواهد التي زعم مؤلف الكتاب أن القرآن أخذها من كتب اليهود بناءً على تفسير الأحاديث المتواترة المشهورة في كتب المسلمين على زعمه وما هي إلا في كتب الخرافات كما علمت.
وقد ذكرنا لك في الجزء الثالث شاهدًا مما طعن فيه بالقرآن من حيث اقتباسه من العرب، ونذكر لك الآن شاهدًا آخر على سبيل الفُكاهة لتعرف مبلغ علم هذا المؤلف بالعربية وأساليبها، كما عرفت مبلغ علمه بالأحاديث المتواترة، وهي عند المسلمين ما رواه جَمْع عظيم في كل زمن من عهد النبي ﷺ إلى الآن، وما أورده لم يروه جمع ولا واحد.
جاء في الصفحة الرابعة والعشرين وما بعدها عقيب الكلام في التوحيد الذي مَرَّ الشاهد فيه، وفي الختان - الذي لم يذكر في القرآن - ما نصه:
( قال المعترضون: وبصرف النظر عن كل هذا؛ فإن بعض آيات القرآن مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد، وأوردوا بعض قصائد منسوبة إلى امرئ القيس مطبوعة في الكتب باسمه لتأييد قولهم هذا. ولا شك أنه ورد في هذه القصائد بعض أبيات تشبه بل هي عين آيات القرآن على حد سواء، أو تختلف عنها في لفظة أو لفظتين، ولكنها لا تختلف عنها في المعنى مطلقًا. وهاك الأبيات التي يوردها المعترضون وقد أشرنا على العبارات التي اقتبسها القرآن بوضع علامة تحتها كهذه:
دنت الساعة وانشق القمر ** عن غزال صاد قلبي ونفر
أحور قد حرت في أوصافه ** ناعس الطرف بعينيه حور
مر يوم العيد في زينته ** فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك ** فتركني كهشيم المحتظر
وإذا ما غاب عني ساعة ** كانت الساعة أدهى وأمر
كتب الحسن على وجنته ** بسحيق المسك سطرًا مختصر
عادة الأقمار تسري في الدجى ** فرأيت الليل يسري بالقمر
بالضحى والليل من طرته ** فرقه ذا النور كم شيء زهر
قلت إذ شق العذار خده ** دنت الساعة وانشق القمر
وله أيضا:
أقبل والعشاق من خلفه ** كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينته ** لمثل ذا فليعمل العاملون
لولا أن في القراء بعض العوامّ؛ لما كنت في حاجة إلى التنبيه على أن هذه القصيدة يستحيل أن تكون لعربي، بل يجب أن تكون لتلميذ أو مبتدئ ضعيف في اللغة من أهل الحضر المخنثين عشاق الغِلمان، فهي في ركاكة أسلوبها وعبارتها وضعف عربيّتها، وموضوعها بريئة من شعر العرب لا سيما الجاهليين منهم، فكيف يصح أن تكون لحامل لوائهم، وأبلغ بلغائهم، هب أن امرأ القيس زير النساء كان يتغزل بالغلمان - وافرضه جدلا - ولكن هل يسهل عليك أن تقول: إن أشعر شعراء العرب صاحب ( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ) يقول:
أحور قد حرت في أوصافه ناعس الطرف بعينيه حور
وتضيق عليه اللغة فيكرر المعنى الواحد في البيت مرتين؛ فيقول: أحور بعينيه حور. أتصدق أن عربيًّا يقول: انشق القمر عن غزال، وهو لغو من القول؟ وما معنى: دنت الساعة في البيت؟ وأي عيد كان عند الجاهلية يمر فيه الغلمان متزينين؟ وهل يسمح لك ذوقك بأن تصدق أن امرأ القيس يقول: فرماني فتعاطى فعقر، وأي شيء تعاطى بعد الرمي، والتعاطي: التناول، ومعناه في الآية { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } ( القمر: 29 ) أنه تناول رمحًا، أو خنجرًا، فعقر الناقة به، والإبل تعقر في نحورها، والعُشَّاق إنما يرمون باللحاظ في قلوبهم، فهل يقول العربي - بعد ما قال: إن محبوبه رماه -: إنه تعاطى بعد ذلك فعقر؟ وهل يقول امرؤ القيس: لحاظ فاتك؟ فيصف الجمع بالمفرد. وهل يشبه العربي طلوع الشعر في الخد بالسُرى في الليل؟ مع أنه سير في ضياء كالنهار؟ وكيف تفهم وتعرب قوله:
بالضحى والليل من طرته ** فرقه ذا النور كم شيء زهر
وهل يقول عربي، أو مستعرب فصيح في حبيبه: إن العذار شق خده شقًّا؟!
أما البيتان الآخران فهما أبعد عن ذوق العرب وعباراتهم، وأذكر أنني رأيت من عزاهما إلى بعض المولِّدين، لا أدري هل هو ابن حُجَّة أو غيره على أنهما اقتباس من القرآن. على أن في الإشارة إلى موضع الاقتباس هنا خطأ نحو الخطأ في القصيدة ففي الآية { وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } ( الأنبياء: 96 ).
وأنت ترى أن المعنى في البيت لا يستوي، فإن الحدب هو النَّشْز؛ أي: المرتفع من الأرض، والعشاق لم يكونوا يسرعون مقبلين من ذلك المحل الذي يشبهه مثل هذا الشاعر بالحدب، وإنما يصح أن يكونوا مقبلين إليه!! أما مخالفة لفظ القرآن في البيت الثاني ففي استبدال ذا بهذا وانظر وزنه المجروح.
بعد هذه الإشارات الكافية في بيان أن الشعر ليس للعرب الجاهليين، ولا للمخضرمين، وإنما هو من خنوثة وضعف المتأخرين، أسمح لك بأن تفرض أنه لامرىء القيس إكرامًا واحترامًا للمؤلف، ولكن هل يمكن لأحد أن يكرمه ويحترمه فيقول: إن الكلمات التي وضع لها العلامات هي عين آيات القرآن؟ أما البيتان فقد رأيت ما فيهما، وأما ما في البيت الأول من القصيدة فهو دون جملة ولا يستقيم له معنى. وليس في القرآن ( فرماني فتعاطى فعقر ) وقد ذكرنا لك الآية آنفًا. وقوله: ( تركني كهشيم المحتظر ) مثله، وإنما الآية الكريمة: { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ } ( القمر: 31 ) فالمعنى مختلف والنظم مختلف، وليس في البيت إلا ذكر المشبه به، وهو فيه في غير محله؛ لأن تشبيه الشخص الواحد بالهشيم يجمعه صاحب الحظيرة لغنمه لا معنى له، وإنما يحسن هذا التشبيه لأمة فُنيت وبادت كما في الآية، ولعل في الأصل تركتني بدل ( فتركني ) وبها يستقيم اللفظ والمعنى في الشطر. وليس في القرآن أيضا: كانت الساعة أدهى وأمر، وإنما فيه { سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } ( القمر: 45-46 )، فههنا وعيدان شرهما الساعة المنتظرة فصح أن يقال: إنها أدهى وأمر، وليس في البيت شيء يأتي فيه التفضيل على بابه.
واعلم أن هذا الشعر من كلام المولدين المتأخرين هو أدنى ما نظموا في الاقتباس، ولم ينسبه إلى امرىء القيس إلا أجهل الناس.
ثم إن المعنى مختلف، والنظم مختلف، فكيف يصح قول المؤلف: إن هذه الكلمات من آيات القرآن، وإنها لا تختلف عنها في المعنى، ولو فرضنا أن هذه الكلمات العربية استعملت في معنى سخيف في الشعر ليس فيه شائبة البلاغة، ثم جاءت في القرآن العربي بمعان أخرى وأسلوب آخر، وكانت آيات في البلاغة كما أنها في الشعر عِبرة في السخافة، فهل يصح لعاقل أن يقول: إن صاحب هذا الكلام البليغ في موضوع الزجر والوعظ مأخوذ من ذلك الشعر الخنث في عشق الغلمان، وأن المعنى واحد لا يختلف؟ فمن كان معتبرًا باستنباط هؤلاء الناس وتهافتهم في الطعن والاعتراض على القرآن فليعتبر بهذا، ومن أراد أن يضحك من النقد الفاضح لصاحبه الرافع لشأن خصمه فليضحك. ومن أراد أن يزن تعصب هؤلاء النصارى بهذا الميزان فليزنه، وإنه ليرجح بتعصب العالمين. ومن أراد أن يقيس سائر ما قاله هذا المؤلف في الاستشهاد على كون القرآن مقتبسًا من كلام العرب وعقائدهم بعد ما أعياهم أمره، وقلَّب طباعهم هديه، ومن كتب سائر الملل في مشارق الأرض ومغاربها، وإن لم يسمع بها، بهذا الشاهد وبالشاهد الذي سبق، فله أن يقيس فإن كل مزاعمه من هذا القبيل.
وإن لنا كلمة أوضح في الرد عليه نؤخرها لجزء آخر، وهي فصل الخطاب إن شاء الله تعالى.
هامش