مقالات مجلة المنار/تنوير الأفهام في مصادر الإسلام
تفنيد الكتاب بكلمة
نشرت الجمعية الإنكليزية المكلفة بالدعوة إلى النصرانية كتابًا سُمي بهذا الاسم خاضت في أمره الجرائد الإخبارية، ويا ليتها لم تخض، فإنها بتهويلها تشوق الناس إلى الاطلاع على هذا الهزء والتمويه الباطل من حيث لا تزيل تمويهه ولا تبين هزؤه، حتى إنه ربما علقت ببعض الأذهان الضعيفة بعض شبهه وإن كانت سخيفة، وقد رمينا بالبصر إلى جمل منه في مواضع متفرقة؛ فرأيناه قد سلك في الرد على الإسلام المسلك الذي جرى عليه بعض علماء أوربا في هدم الديانتين اليهودية والنصرانية؛ إذ ألفوا كتبًا بينوا فيها مصادر كتب العهد العتيق المُسَّمَى بالتوراة، وكتب العهد الجديد المُسَّمَى بالإنجيل أو الأناجيل، ورسائل الرسل.
يعرف الناظرون في كتب العهد الجديد أن مؤلفيها لم يستدلوا على الدين المدون فيها بأدلة عقلية نظرية أو كونية وإنما يقيمون أساسه على كلمات انتزعوها من العهد العتيق على أنها بشارات أنبياء بني إسرائيل فهذا الدين الذي يسمونه مسيحيًّا ونسميه نحن وبعض فلاسفتهم وعلمائهم ( كتولستوي الروسي ( بولسيا )؛ مبني على كتب العهد العتيق، وينهدم بهدمها، وتبطل الثقة به بظهور بطلان الثقة بها. وقد قال الحكيم الأفغاني ما مثاله: إن الناظر في كتب العهدين يتراءى له أن مؤلفي كتب العهد الجديد قد فصلوا ثوبًا من كتب العهد العتيق، وألبسوه للمسيح بما زعموا من انطباقه عليه.
ماذا فعل هؤلاء العلماء في بيان مصادر اليهودية والنصرانية؟ بينوا بالدلائل التاريخية والأثرية واللغوية مصدر عقائد هذه الكتب، ومآخذ أحكامها من ديانات الأولين وتقاليدهم، وأثبتوا أن الأسفار المنسوبة إلى موسى قد كتبت بعده، وكذلك سائر الأسفار قد كتبت بعد من نسبت إليهم أو زيد فيها بعدهم، فهم يقولون مثلا: إن السفر الفلاني فيه كلمة كذا وكذا من اللغة البابلية، وهي لم تدخل اللغة العبرانية إلا بعد السبي الأول أو الثاني، وفيه حكم كذا، وهو من تقاليد البابليين دون العبرانيين بدليل كذا وكذا. وقد وضع بعض علماء الألمان جدولا للكلام الدخيل في الكتاب الذي يلقبونه بالمقدس، وبين ذلك بالتاريخ تحديدًا أو تقريبًا. فهذه المطاعن في الكتاب الذي ظهر بالبراهين أنه غير مقدس، لا معارض لها؛ لأن هذا الكتاب مؤلف من كتب كثيرة لم تعرف أزمنة تأليفها، ولم تنقل بالتواتر، وكانت عرضة للتغيير والتبديل والتحريف من الرؤساء الذين كانوا مستقلين بها في الأزمنة الماضية، إذ لم تكن مما يتناوله سائر الناس.
ونحن معاشر المسلمين نعتقد أن منها ما هو وحي من الله في الأصل، وقد وفقنا في المجلد السادس للجمع بين شهادة القرآن لها وبين ما أثبته العلم من كونها وضعيه مقتبسة من أديان الأمم السابقة؛ فليراجع ذلك في مقالة ( النبأ العظيم ) التي شرحنا فيها اكتشاف شريعة حمورابي التي ظهر أن معظم التوارة الحاضرة مأخوذ منها.
صدم القسيسون ودعاة النصرانية بهذا النحو من الطعن بدينهم وهو ما يسميه علماء أوربا - الانتقاد العالي أو الأعلى - فكانت صدمة صادعة حاروا فيها فأرادوا أن يحاربوا الإسلام بالسلاح الذي حوربوا به، وجهلوا الفرق بين الزجاج الملون والياقوت، والفرق بين بيت الحديد وبيت العنكبوت. فالإسلام أصلب من الياقوت، وأقوى من الحديد؛ لأن كتابه قد ظهر على لسان النبي الأمي الأمين، وحفظ من حوادث التاريخ وعبث العابثين.
نشرت جمعية التبشير أو التنصير الإنكليزية الكتاب الذي تبحث فيه عن مصادر الإسلام فرأينا أن مؤلفيه قد أخذوا ألفاظًا وردت في الكتاب والسنة مما كان مستعملا عند العرب أو غيرهم من الأمم، ودخلت في اللغة العربية قبل الإسلام، وألفاظًا قريبة في اللفظ من ألفاظ أعجمية أخرى، ولكن لم يعرف أن العرب نقلوها عنها وجعلوا هذه وتلك دلائل على أن دين الإسلام نفسه مأخوذ عن الأمم التي وجد في الكلم العربي ما هو معرب عنها، أو يشبه أن يكون معربًا، فهذا أصل من أصول مطاعنهم في ذلك الكتاب، وهناك أصل آخر وهو أن ما أقره الإسلام مما كانت عليه العرب وسواها قد عد دليلا على أن الإسلام مأخوذ عن الجاهلية ومن هم على مقربة من الجاهلية في اصطباغ أديانهم بصبغة الشرك وإن كان لبعضها أصل صحيح.
وإنني أذكر قبل الكلمة الموعودة مثالا من الأمثلة التي وردت في الكتاب؛ ليعرف سخافته من لم يره من أولي الألباب؛ فمن ذلك زعمه أن الإسلام أخذ حكم توحيد الله تعالى عن العرب؛ لأنه ورد اسم ( الله ) واسم ( الإله ) في أشعارهم قبل البعثة، وأورد شواهد منها قول النابغة:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ** من الجود والأحساب غير موارب
محلتهم ذات الإله ودينهم ** قويم فما يرجون غير العواقب
وقد جهل المؤلف المسكين أن كل الأمم تعتقد بالله تعالى، ولكنها تشرك به وتزعم أنه له أبناء أو أولياء يعمل بواسطتهم فهو غير مستقل بإرادته تمام الاستقلال، ولا يقدر أن يكفر خطيئة آدم مثلا بدون خطيئة صلب المسيح!! فما كل من عرف اسم الله موحدًا لله، وأنه هو يعرف هذا الاسم، ولكنه لا يعرف التوحيد، ولينظر قول النابغة: ( محلتهم ذات الإله ) وكان يغنيه عن التعب في استخراج الاسم الكريم من أشعار العرب استخراجه من القرآن في إثبات اعتقاد العرب وغيرها بالله مع الاحتجاج على نفي الشرك { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ( المؤمنون: 84-92 )، وأمثال هذه الآيات التي تثبت لهم الإيمان بالله والشرك به جميعًا مع إقامة البراهين على التوحيد، والاعتقاد الصحيح كثيرة جدًّا فهل كان مثل هذا عند العرب أو عند النصارى؟!
أراد مؤلف الكتاب أن يقلد علماء أوربا في هذه المسألة فأساء التقليد، فإن أولئك قد بينوا أن كلمة الإله والآلهة في التوراة مأخوذة من لغة أخرى، وأن العبرانيين استعملوها كما كانت مستعملة في الملة التي أخذوها منها، ولعلنا نفصل ذلك في فرصة أخرى بترجمة ما قالوه، ولكن صاحبنا أساء التقليد، وشبهته أن الإسلام وافق الجاهلية في تسمية خالق الكون، وهل ينطق النبي إلا بلسان قومه أم جاء نبي بلغة جديدة لا يعرفها أحد فأفاد الناس بها؟ { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ( إبراهيم: 4 ).
مثل هذا المؤلف في صنيعه هذا كمثل الذي قلد جوابًا فأساء التقليد، سمع جماعة رجلا ينادي: يا عبد الله. فقال له أحدهم: كلنا عبيد الله فمن تعني؟ وكان فيهم رجل بليد سمع مرة أخرى رجلا ينادي: يا حمزة. فأجابه: كلنا حماميز الله فمن تعني؟ ورأى أمير على غلام مخايل الذكاء والنجابة فامتحنه بأسئلة منها: ما أطيب الدجاج؟ قال: جلدها؛ فأجازه جائزة حسنة، وكان له أخ بليد فحسده وتعرض للأمير قائلا: سلني كما سألت أخي، فقال له الأمير: ما أطيب شيء في الجاموسة؟ قال: جلدها؛ فأمر بجلده.
أما الكلمة التي أهدم بها هذا الكتاب فهي أن محمدا النبي الأمي بعث ليهدي الناس إلى صراط الفطرة السليمة بإصلاح ما أفسدوا من دين الأنبياء وإقامة الدين على أساس الاستدلال والعلم دون التقليد للرؤساء، وهذا الكتاب يثبت للنبي الأمي الاطلاع على جميع أديان الأمم وتقاليدها، وعاداتها، ولغاتها، وانتخاب قواعد الإسلام وأحكامه منها كأنه كان ناشئًا في مكتبة كمكاتب باريس وبرلين ولندره حيث الكتب في جميع اللغات والعلوم والفنون تأتي طالبها بآلات كهربائية كلمح البصر مع أنه لم يقرأ، ولم يكتب، ولا نشأ بين قوم قارئين كاتبين، وإنما كان أميًّا ناشئًا في أمة جاهلية لا كتب عندها ولا علوم. ثم إن هذا الكتاب لا يعتبر الدين صحيحًا إلا إذا كانت أحكامه كلها مخالفة لما عليه البشر، وإن كان حقًّا وخيرًا وفضيلة كأنه يشترط في الدين أن يكون مصادمًا للفطرة في كل شيء حتى إذا ما أقرَّ شيئًا من الخير الذي لا يخلو من الناس كان فاسدًا ومقتبسًا كله من الناس. فجميع طعن هذا الكتاب في الإسلام لا يعدو موافقة بعض أحكامه لما كان عند الناس وإن كان عندهم فاسدًا فأصلحه أو ناقصًا فأتمه، وقد رأيت مثالا من طعنه، وسنريك غيره فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش