مقالات مجلة المنار/التبشير والمبشرون في نظر المسلمين
(س2-8) من القس المحترم ألفرد نيلسن الدانيمركي بدمشق.
1- هل يحسب المسلم كل تبشير مسيحي للمسلمين مفسد وغير لائق مهما كان منصفًا وبعيدًا عن الطعن؟
2- هل يحسب المسلم على حد سوى المسيحي الغيور في دينه والمريد نشره للغير، والمسيحي الذي لا يعمل بدينه في حياته ولا لأجله عند غيره؟
3- أليس من واجبات كل متنور أن يعرف الكتاب المقدس الذي أسس عليه تمدن الغرب ( قابل الحديث: اطلبوا العلم ولو في الصين )؟
4- ألا يستحق التبشير بالكتاب المقدس شكر كل إنسان؛ إما لأنه يعرف الإنسان فوائد لم يحصل عليها قبل، أو لأنه يجعل الإنسان بعد التأمل بتدقيق يفضل كتابه الخاص؟
5- أليس عصرنا الحاضر في كل دين عصر الاجتهاد فيطلب من أصحاب الدين أن يتمسكوا به، ليس لأنهم هكذا وجدوا آباءهم، لكن لأنهم تدققوا، فوجدوا الدين نافعًا لأنفسهم وللهيئة الاجتماعية أكثر من أي شيء في الدنيا؟
6- من هو أحسن: الذي يتمسك بدين من الأديان بعد الاقتناع ويطبق حياته عليه، أم الذي يبقى في دين آبائه بدون اعتقاد داخلي، وبدون أن يطبق حياته على أعلى مبادئ الدين وأشرفها؟
( الجواب ):
[عدل]عبارة هذه الأسئلة ضعيفة؛ لضعف عربية صاحبها. ونجيب عن الأول والثاني جوابًا واحدًا؛ لاشتراكهما في المعنى فنقول:
إن المسلم يميز بقدر ما أوتي من العقل والعلم بين التبشير النزيه الخالي من الطعن، والتبشير البذيء المبني عليه، ويميز بين المسيحي الغيور في دينه العامل به وبين من اتخذه تجارة كأكثر المبشرين الذين عرفنا حالهم، ومن جعله سياسة كالذين رباهم هؤلاء المبشرون على التعصب وعداوة المخالف لدينهم من أبناء وطنهم، فصار الدين جنسية سياسية لهم، فهم لا يعملون بأمره بالفضائل ولا بنواهيه عن الرذائل، وإنما حظهم منه مقاومة المخالف، ولا يحتقر المسلم بطبيعة دينه شيئًا من الأشياء كاحتقاره للنفاق وأهله. وأما كون كل تبشير يوجهه النصارى إلى المسلمين مفسدًا وغير لائق، فهو ما أثبته الاختبار إلى الآن، وإن لم يكن من الضروريات المنطقية في حد نفسه - وأعني بهذا الاختبار سيرة جماعات المبشرين العامة، ولكن يوجد أفراد يدعون إلى دينهم بإظهار ما فيه من الفضائل، والدفاع عما يرد على عقائده وأصوله من الاعتراضات، بما أوتوه من معرفة مع مراعاة النزاهة واجتناب كل ما يؤذي المناظر، وقد عاشرت بعضهم في طرابلس الشام أيام طلبي للعلم، وجرت بيني وبينهم مناظرات كثيرة في بضع سنين، لم يشك أحد منا صاحبه في شيء، بل كنا نحترمهم لآدابهم وعدم اتجارهم بدينهم، وإن كانوا يأخذون الرواتب من بعض جمعيات التبشير.
ومن أضر أعمال المبشرين في مدارسهم حتى الأميركانية منها، وهي أنزهها أنهم يشككون الطلاب المسلمين في دينهم، ولا يقنعونهم بالنصرانية، فيخرج الكثيرين منهم ملحدين أو منافقين وكذا طلاب النصارى وغيرهم، وهذا إفساد عظيم لا يخفى على ذكاء السائل المحترم، بل يوافق رأيه كما يؤخذ من سؤاليه 5و6 دع خدمة هذه المدارس ومثلها مستشفياتهم لمطامع السياسة الاستعمارية، حتى قال لورد سالسبوري الوزير الإنكليزي المشهور: إن مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات الاستعمار؛ لأن أول تأثيرها إحداث الشقاق في الأمة التي تنشأ فيها، فينقسم بعضهم على بعض باختلاف الأفكار والشك في الاعتقاد؛ أي: فيتمكن الأجنبي من ضرب بعضهم ببعض، وينتهي ذلك بتمكين المستعمرين من نواصيهم، وسلب استقلالهم وإذلالهم وسلب ثروتهم.
وأما الجواب عن السؤال الثالث ففيه تفصيل لا يتسع لبسطه باب الفتوى فنلخص الكلام فيه بأن مجموعة الأسفار التاريخية الدينية التي تسمى ( الكتاب المقدس ) هي من الكتب التي ينبغي للمشتغلين بالتاريخ وبعلم الملل والنحل وأمثالهم أن يطلعوا عليها، ولكن لا يجب على كل متنور أن يعرفها، ودعوى بناء تمدن الغرب عليها ممنوعة على إطلاقها وباطلة بالصفة التي يدعيها المبشرون في هذه الأيام؛ لاستمالة المفتونين بالمدنية الأوربية إلى النصرانية بها، فقوانين الغرب أبعد شرائع الأمم عن شريعة التوراة إلا في القسوة على الضعفاء المغلوبين، وآداب أهله أبعد من آداب جميع شعوب البشر عن آداب الإنجيل من كل وجه، فمدنية الأمم الغربية مادية شهوانية قوامها الكبرياء والتعالي، وعبادة المال والطمع والرياء والإسراف في الزينة والشهوات، فأين هي من أصول آداب الإنجيل المبنية على التواضع والزهد، والإيثار والصدق ونبذ الزينة واحتقار الشهوات؟ وقد فصلنا ذلك مرارًا كثيرًا في المنار.
وأما العلوم والفنون وشكل الحكومات المقيدة فلم تكن أثرًا من آثار انتشار تلك المجموعة في بلاد الغرب، بل كانت من آثار العرب والإسلام؛ إذ من المسلمات التي لا جدال فيها أن تأثير الدين في الأمم يكون على أشده وأكمله في أول العهد بالاهتداء به، وبعد أن يأخذ مده غاية حده من النماء يضعف بالتدريج، وقد مكث الغرب عدة قرون بعد انتشار النصرانية فيه، ولم يظهر فيه شيء من مبادئ هذه العلوم والفنون، واستقلال الفكر والسلطة المقيدة، بل كان هذا مما انتقل إلى أوربة من الأندلس العربية الإسلامية، ومما حمله غزاة الحروب الصليبية إليها من سورية ومصر الإسلاميتين ولا يجهل القس الفاضل ما لاقى الدعاة إلى ذلك في أوربة من اضطهاد حملة تلك المجموعة المقدسة، وحماتها من الظلم والاضطهاد في محاكم التفتيش وغيرها، ولو اقتبس الغرب من الشرق دين العرب كما اقتبس علمهم وحكمتهم؛ لجمعت مدنيته بين الكمال في الدين والدنيا؛ ولم تكن مادية محضة كما هي الآن.
وأما الجواب عن السؤال الرابع: فهو أن التبشير بهذا الكتاب ليس نعمة على كل فرد من أفراد البشر، حتى يجب شكره على كل فرد منهم، وإنما الشكر على النعم، بل نقول: إنه كان نقمة ومصيبة على جميع أهل البلاد التي نعرفها، بما أحدث من الشقاق والتعادي بين أهلها وفاقًا لما قررها اللورد سالسبوري، وإن جميع أهل العلم والبصيرة من أهل البلاد السورية التي يقيم فيها السائل يعلمون اليوم حق العلم أنه ما أفسد ذات بينهم، وفرق كلمة طوائفهم وحرمهم نعمة الرابطة الوطنية التي تفتخر بها البلاد الغربية إلا مدارس المبشرين ونزعاتهم، وقد صر ح بهذا أشهر كتابهم وخطبائهم وأهل الرأي فيهم من المسلمين والنصارى جميعًا، ومن المتفق عليه بين هؤلاء العارفين بشؤون البلاد الدينية والاجتماعية، أن التدين بالنصرانية كان أقوى وأصدق بين أهلها قبل هؤلاء المبشرين، والتعصب الذميم كان أضعف، وإن كانوا لا ينكرون أن المعرفة بالديانة كانت أقل، ولا نعرف لهم أثرًا في تنصير أناس ارتقوا بتنصيرهم إياهم، فصاروا خيرًا مما عليه أهل دينهم فضيلة وآدابًا وعبادة لله عز وجل، دع ما يعتقده المسلمون من بطلان كل عبادة مشوبة بالشرك.
نعم إن هذه المدارس نفعت البلاد بما بثته فيها من العلوم والفنون العملية ولا سيما الطب والزراعة والتجارة، وهذه نعم تشكر، ولكنها ليست من التبشير في شيء، وإن الذين حذقوها في المدارس أبعد عن تعاليم الكتاب المقدس في عقائده وأحكامه ممن لم يدخل فيها.
وما علل السائل المحترم به وجوب هذا الشكر، من كون هذا التبشير يعرف الإنسان فوائد لم يحصل عليها من قبل، أو يجعله بعد التأمل الدقيق يفضل كتابه الخاص - ففيه بحث ونظر من حيث كونه ليس من لوازم هذا التبشير الخاص به؛ فإن كل ما يتعلمه الإنسان يفيده ما لم يعلمه من قبل، ويقل من يدرس هذا الكتاب بسبب التبشير وبدلالة المبشرين دراسة استقلال تهديه إلى تفضيل كتابه عليه، على أن كل مسلم عرف حقيقة الإسلام ثم درس هذا الكتاب، يزداد به علمًا بتفضيل القرآن على جميع الكتب وكونه مهيمنًا عليها، وحكمه هو الحكم الفصل فيها وهؤلاء قليلون وأنا منهم، وهذا الكتاب الجامع لما عندهم منها من جملة الكتب التي أضعها بجانبي دائمًا لكثرة مراجعتي لها.
وأما الجواب عن السؤال الخامس، فنقول فيه: إن القرآن أوجب الاجتهاد والاستقلال في فهم الدين، والاستدلال الذي ينتج اليقين في كل زمن وكل عصر، وإن الحاجة إلى هذه الهداية في هذا العصر أشد؛ لانتشار التعليم الاستقلالي وحرية الفكر فيه، فصار التقليد فيه أضر مما كان في العصور التي قبله، وآيات القرآن في ذم التقليد واتباع الآباء والأجداد صريحة لا تحتمل التأويل، ولكنها لم تمنع أدعياء العلم الدجالين من تحريم الاجتهاد وذم الاستقلال، ولولا رواج دعوة هؤلاء الدجالين واغترار كثير من العوام لهم، لكان المسلمون على أحسن حال، ولما صاروا حجة على الإسلام، ينفرون الناس عنه بجهلهم وصدودهم عنه؛ لستر جهلهم، حتى صاروا يحرمون العلم بالدين نفسه وهو المسمى عندهم بالاجتهاد الذي أوجبه الله، ويوجبون الجهل وهو التقليد الذي حرمه الله تعالى.
وأما الجواب عن السؤال السادس فنجيب عنه بما يصححه فنقول: إن المنتحل للدين لا يكون صادقًا في انتسابه إليه إلا إذا كان موقنًا بصحته مذعنًا لأحاكمه إذعانًا نفسيًّا عمليًّا بأداء عباداته وترك محارمه، والتزام سائر أحكامه وآدابه إلا ما يعرض للبشر عادة من بعض المخالفات، التي يستغفرون الله منها ويتوبون إليه، وأما مجرد اللقب الموروث فلا قيمة له، والاعتقاد اليقيني هو المعبر عنه بالإيمان، والإذعان النفسي العملي هو المعبر عنه بالإسلام، هذا إذا قوبل أحدهما بالآخر وإلا فالمؤمن والمسلم يصدقان على شيء واحد، وقد بينا هذه المسائل في مواضع كثيرة من المنار بالتفصيل والدلائل.
ومن القواعد المقررة عند علماء العقائد الإسلامية أن دين الإسلام ليس فيه شيء يحكم العقل باستحالته، وأن المسلم لا يكلف أن يعتقد ما هو محال عقلا، وأنه إن وجد في الشريعة ما يعارض القطعي حسًّا أو عقلا وجب تأويله بما يجمع بين العقل والنقل؛ لأن الله تعالى يقول: { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسا إِلاَّ وُسْعَهَا } ( البقرة: 286 ) والقاعدة عند غيرنا بخلاف ذلك، وهي أنه يجب الإيمان ولو بالمحال وإن كان بديهيًّا كالجمع بين النقيضين، أو الضدين المساويين للنقضين كالتوحيد الحقيقي والتثليث الحقيقي؛ أي: كون الإله واحدًا حقيقة وغير واحد حقيقة - فالمسلم الذي يتبع ما يوجبه عليه دينه من العلم الصحيح به والأخذ باليقين في عقائده لا يخشى أن تؤثر في نفسه دعوة دين آخر، وقد بينا في الرد على دعاة النصرانية بمصر منذ بضع سنين أن المسلم لا يمكن أن يصير نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة كما قال السيد جمال الدين الأفغاني، أو لأن من وصل إلى الكمال في أمر لا يختار أن يستبدل به ما دونه كما نقول نحن.
وقد بين الله تعالى في كتابه المعجز للبشر من وجوه كثيرة أنه قد أكمل دينه الذي بعث به رسله، وعلى لسان خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين فقال: { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا } ( المائدة: 3 ) وهذا يوافق سنته تعالى في النشوء والارتقاء.
على أن كتب من قبله من الرسل لم تحفظ كلها كما حفظ كتابه، وسننهم وتواريخهم لم تحفظ كما حفظت سنته وتاريخه، فهذا المسيح عليه السلام ليس في الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة من الأناجيل الكثيرة إلا الشيء القليل من تاريخه، وهي غير منقولة بالأسانيد المتصلة، وقد وقع الخلاف في تواريخ كتابتها وفي اللغة التي كتبت بها، وفي بعض أشخاص كاتبيها كما صرحوا به في تواريخ الكنيسة، وفي معاجمهم العلمية الكبرى ( دوائر المعارف ).
ونحن إنما نذكر هذه المسألة هنا على سبيل الاستطراد، وغرضنا منه أن المسلم العارف بدينه المتلقي له بالدلائل كما أمر لا يخاف أن يزداد بتبشير المبشرين إلا ثباتًا ويقينًا فيه، ولكن هؤلاء المبشرين يبثون دعوتهم في العوام الذين لا يعرفون من الإسلام إلا بعض الأحكام التقليدية، وفي التلاميذ المبتدئين في طلب العلوم والفنون، وقد تمر السنين على هذا ولا يوجد واحد في الألف من هؤلاء الجاهلين بأكثر حقائق الإسلام من عوام وتلاميذ يتنصر، ولكن يكون كثيرون منهم ملاحدة معطلة أو مشككة ( لا أدريين ) والسائل المحترم يرى أن هؤلاء شر من المتدين بأي دين من الأديان التي تنهى عن الشر، وتأمر بالخير وهو مصيب في ذلك.
وليعلم القس المحترم أن من أصول ديننا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } ( البقرة: 285 ) وأنه تعالى بعث في جميع الأمم القديمة رسلا هادين مرشدين إلى توحيده وعبادته، وفعل الخير وترك الشر، وأن أمر هدايتهم جرى على سنة الارتقاء بالتدرج؛ لاختلاف استعداد البشر كما قلنا آنفًا، حتى كمل ذلك الاستعداد ختم الله النبوة بمحمد عليه وعلى سائر إخوانه النبيين صلوات الله وسلامه، وأن ما جاء به مكمل لما سبقوه به، وأن من معجزاته أنه جاء بالخلاصة الصحيحة الفضلى لما كان عليه أشهر الرسل القريبي العهد به، الذين حفظ من دينهم ما لم يحفظ من تعاليم من قبلهم ولاسيما موسى و عيسى ( عليهما السلام ) على كونه أميًّا لم يطلع على شيء من الكتب مطلقًا. قال تعالى: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ } ( العنكبوت: 48 ) فلا يسع عاقلا منصفًا عرف دينه أن يؤمن بغيره ولا يؤمن به، والذي نعهده من هؤلاء المبشرين أنهم ينظرون في الإسلام بقصد العثور على شيء فيه قابل للطعن فيه، ولو بالتمحل لا بقصد معرفة حقيقته، ولا المقايسة بينه وبين غيره بالإنصاف.
ولقد كان من العجب عندي أن أرى هذا المبشر- السائل المحترم - يكتب بأسلوب واثق بما يرمي إليه كلامه، وقلما عرفنا منهم من هو كذلك، وإنما تدل كتابة أشدهم مبالغة في التبشير وتفضيلا لما عندهم على ما عند غيرهم، على أنهم يكتبون ما لا يعتقدون ويقولون الكذب وهم يعلمون، ويحرفون الكلم عن مواضعه كما فعل سلفهم الأولون، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون، فهؤلاء لا يحترمون عندنا، وأما من دعا إلى دينه عن عقيدة هو مذعن لها ومخلص فيها، فكل عاقل يحترمه وقليل ما هم.
هامش