مقالات مجلة المنار/بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد/3
( 5 ) قال ميخا 5: 2 ( أما أنت يا بيت لحم أفراتة ( وأنت ) صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل ) والذي يفهم من هذه العبارة أن الله قضى بخروجه منذ الأزل وهذا لا نزاع فيه، أما إذا كانوا يفهمون منها أن خروج المسيح كان منذ الأزل فهو خطأ؛ لأنه باعتبار ناسوته ما خرج منذ الأزل باعترافهم، وباعتبار لاهوته لا معنى لخروجه، فإن ذاته هي عين ذات الله على حسب اعتقادهم، وذات الابن لم تفارق ذات الله تعالى لا أزلا ولن تفارقه أبدًا، فإنها لا تقبل الانقسام ولا التفرق فكيف إذًا يفسرون هذا اللفظ ( مخارجه )؟ ولماذا أتى جمعًا لا مفردًا؟ والذي يدلك على صحة تفسيرنا - أن المراد خروجه في علم الله وقضائه أزلا - قول سِفْر الرؤيا 13: 8 كما في الترجمة الإنكليزية ( في سفر حياة الخروف الذي ذبح منذ تأسيس العالم ) والمراد به عندهم صلب المسيح الذي وقع في عهد بيلاطس لا منذ تأسيس العالم وإنما قال ذلك؛ لأنه واقع في علم الله تعالى منذ الأزل كما يزعمون، وقال بولس في رسالته إلى أهل أفسس 1: 4 ( كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم ) مع أنهم ما كانوا موجودين في ذلك الوقت، وإنما يريد أنه اختارهم في علمه، وقال في رسالته الثانية إلى تيموثاوس 1: 9 ( بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية ) فكيف تعطى لمن ليسوا موجودين؟ اللهم إلا في علم الله فكذلك عبارة ميخا يراد بخروجه فيها خروجه في علم الله؛ ولذلك لما نقل متى هذه العبارة في إنجيله نقلها هكذا 2: 6 ( وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل ) فلو كان قول ميخا يفهم منه ألوهية المسيح لما تركه متى. فالمراد بجميع هذه العبارات المتقدمة أن الله تعالى قضى في علمه بوقوع هذه الأشياء منذ الأزل فهي واقعة لا محالة، ولا يمكن أن يتخلف شيء مما قضاه تعالى، فقوله: ( مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل ) المراد به أن خروجه لا بد من وقوعه؛ لأنه مقضي أزلا. قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ( الحديد: 22 ) راجع أيضا قول المزمور 44: 1 ( آباؤنا أخبرونا بعمل عملته في أيامهم في أيام القدم ) وقول أشعياء 64: 4 ( ومنذ الأزل لم يسمعوا ولم يصغوا ).
ثم قال ميخا بعد هذه العبارة السابقة في حق المسيح 4 ( ويقف ويرعى بقدرة الرب بعظمة اسم الرب إلهه ) وهذا نص على أن الله إلهه فكيف يكون هو إلهًا، وهذا أيضا دليل على أن مراده من قوله: ( مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل ) هو ما قلناه سابقًا، وأننا لسنا متعسفين، ويجوز أيضا أن ذلك مما حرفه اليهود في كتبهم؛ لأجل مسيحهم المنتظر كما سبق في المقدمة، فلما جاءهم كفروا به. أو مما حرفه النصارى، كما سيأتي في الفصل الثالث، وإن كان له أصل صحيح.
( 6 ) قال في مزمور 45: 6 ( كرسيك يا الله 1 إلى دهر الدهور ) ولفظ ( الله ) هنا في العبرية ( ألوهيم ) ويطلق أيضا على القوي من أفاضل البشر، وقد بينا لك فيما سبق أن موسى سمي ( إلهًا ) وكذلك غيره فلا حاجة للتكرار، والذي يدلك على أن المراد بهذا اللفظ ليس الإله الحقيقي قوله بعد ذلك 7 ( مسحك الله إلهك ) والإله الحقيقي لا إله له، على أن هذا المزمور هو قطعًا في حق محمد ﷺ، بدليل ذكر صفات النبي ﷺ فيه التي لا تنطبق على المسيح، كقوله 3 ( تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار 5 نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك 9 بنات ملوك بين حظياتك 16 يكون بنوك تقيمهم رؤساء في كل الأرض إلخ إلخ ) والمسيح لم يكن له سيف ولا نبل ولا نساء ولا بنون ويجوز أن يكون سقط من الكاتب لفظ ( عبد ) قبل لفظ ( الله ) سهوًا، كما يعترفون هم في كثير من المواضع التي وقع فيها خطأ الكاتب كما ستعرف.
( 7 ) قال داود - عليه السلام - مز 110: 1 قال: ( الرب لربي اجلس عن يميني ) ولا يخفى أن لفظ الرب يطلق في اللغات التي نعرفها على السيد فكذلك ههنا المعنى ( قال الرب لسيدي ) كما في حاشية الكتاب المقدس للبروتستنت وكما ترجمها الكاثوليك في نسخهم، وهذا أمر معروف فلا حاجة لذكر شيء من شواهده هنا، ولذلك قال قاموس الكتاب المقدس للدكتور ( بوست ): ( إنها تستعمل أحيانًا بمعنى سيد أو مولى دلالة على الاعتبار والإكرام ).
هذا وقول اليهود: إن هذا المزمور هو لداود معناه عندهم أنه في حقه كما يقولون: إن مزمور ( 72 ) هو لسليمان ويريدون أنه هو المقصود به وأنه في حقه لا أنه هو قائله.
أما قائل هذا المزمور ( 110 ) فهو ( على قول كثير منهم ) أحد أتباع داود يقصد به داود نفسه وحربه مع أعدائه وانتصاره عليهم، وفي قول آخر لهم: إن قائله اليعازر الدمشقي خادم إبراهيم - عليه السلام - ( تك 15: 2 ) وأنه يريد به إبراهيم سيده حينما حارب الملوك الخمسة وكسرهم.
وعليه فقول النصارى: إن اليهود تعترف أن قائل هذا المزمور هو داود كذب عليهم، ويوجد مزامير أخرى كثيرة لا يُعرف من الذي قالها، ويقال: إن موسى هو القائل للمزمور التسعين، فليست جميع المزامير لداود، ولم تؤلف كلها في زمنه كما يتوهم الجاهلون، بل منها ما كتب قبله وبعده بسنين ( راجع قاموس بوست م 1 ص 513 - 516 ).
وللمسلمين أن يقلدوا المسيحيين ويقولوا في هذه العبارة: إنها في حق محمد ﷺ، فإنها كأغلب نبوات العهدين ليست نصًّا في شيء معين، بل هي مبهمة ويمكننا حملها عليه بأحسن مما يفعلون.
فإذا تذكرنا أن محمدا أحيا دين إبراهيم، وسماه أبًا للمسلمين، وأوجب عليهم تعظيمه، وأن يصلُّوا على نبيهم محمد كما صلَّى الله على إبراهيم الذي يتبعونه في ملته وإسلامه لله، إذا تذكرنا ذلك تجلى لنا مغزى قول داود فيما بعد ( مز 110: 4 ) ( أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق ( فإن ملكي صادق كان أطعم إبراهيم وسقاه، وباركه وأكرمه ( تك 14: 18 و19 ) فكأن حب محمد وتعظيمه لإبراهيم هو كحب ملكي صادق وإكرامه له، ولذلك تجد المسلمين يذكرون إبراهيم دون غيره من الأنبياء في كل صلاة من صلواتهم الكثيرة في كل يوم.
ولا يخفى أن الكاهن عند أهل الكتاب هو الذي يرأس الحفلات الدينية الخاصة بالعبادة، ولما كانت أهم عبادة للقدماء هي تقديم القرابين والضحايا، كان الكهنة يساعدون الناس في تأدية هذه الفروض الدينية، فيرشون دم الذبائح على المذبح ويحرقون المحرقات والقرابين، وقد يذبحون لهم بعض الذبائح أيضا، وإن كان الذبيح في الغالب هو الشخص المقرّب نفسه.
وزيادة على ذلك كان الكهنة ينظرون في بعض مصالح العباد، ويفسرون لهم الشريعة، ويُفتونهم، ويقضون بينهم في بعض المسائل، ويرشدونهم إلى كيفية تأدية عباداتهم.
فالكاهن إذًا هو عبارة عن إمام لهم في عباداتهم، ورئيس لهم في دينهم ومعلم، ولما كان محمد ﷺ هو رئيس المسلمين وإمامهم الأعظم فكان يعلمهم الدين، ويقضي بينهم، وينظر في جميع مصالحهم، ويرأسهم في عباداتهم، ويأتمون به في جميع صلواتهم وفي حجهم، ويخطب فيهم في أيام أعيادهم وجمعهم وموقفهم بعرفة، ويقلدونه في ضحاياهم وذبائحهم، ويقتدون به في كل شيء، وهو الذي أحيا فيهم سنن إبراهيم في الحج والذبح وغيرهما، وكان كما رواه أبو داود يضحي عن نفسه وعمن لم يضحِّ من أمته وهم الفقراء؛ فلهذا كله كان ﷺ هو كاهنهم الأعظم، وكل إمام لهم غيره إنما هو نائب عنه، فهو إمامهم في كل مكان وزمان، وبمثل تعبيرهم هو كاهنهم الأعظم إلى الأبد، فهو رئيس وكاهن ومعظِّم لإبراهيم ومحب له كملكي صادق من كل وجه.
ولا شك أن المسيح كان أقل درجة من محمد في كل تلك الوظائف الكهنوتية السابقة، ولم يكن له من الشأن في قومه مثل ما لمحمد؛ فلذا كان محمد أولى بالتشبيه بالكاهن 2 من المسيح عليه السلام.
وإذا لاحظنا أن صلب المسيح المزعوم لم يكن برغبته ولا بإرادته كما سبق بيانه ( في مقالة القرابين والضحايا )، وسنزيد ذلك إيضاحًا: أعني أنه لم يقرِّب نفسه باختياره، ولم يعمل أي عمل أثناء صلبه من أعمال الكهنة في القرابين: كالإحراق، ورش المذبح بالدم، فهو لم يمتز في هذه المسألة بشيء عن محمد عليهما السلام، بل هو فيها لم يكن بكاهن مطلقًا، بل كان نفس ( القربان ) ولذا تسميه كتبهم ويسمونه ( الخروف المذبوح ) ( راجع مثلا سفر الرؤيا 5: 12 ) وشتان ما بين القربان نفسه وبين الكاهن، ففي حادثة الصلب كان اليهود والرومانيون مقربوه أحقّ باسم الكاهن منه، فإن قيل: إنهم ما كانوا يقصدون تقريبه لله، قلت: وكذلك هو ما كان راغبًا في ذلك القربان، وكان يود أن يعتق منه بخلاف محمد وأصحابه فإنهم كانوا يدخلون القتال، وكانوا يتمنون أن يستشهدوا في سبيل الله وفي سبيل هداية الناس وإنقاذهم من الضلال. ( راجع الفصل الثالث ) وعليه فالتشبيه بالكاهن وبملكي صادق غير منطبق على المسيح تمامًا كانطباقه على محمد عليهما السلام.
وقول داود في هذا المزمور 110: 2 ( يرسل الرب قضيب ( أو صولجان ) عزك من صهيون ) وهي أورشليم معناه أنه يُخرج الصولجان منها ويبعثه إليه في بلاده، وهو كناية عن نقل الملك والوحي والنبوة من اليهود والنصارى إلى محمد ﷺ وأمته، التي قال فيها المسيح لليهود كما في متَّى 21: 43: ( إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطَى لأمة تعمل أثماره ).
وقول داود بعد ذلك 5 و6: ( الرب عن يمينك يحطم في يوم زجره ملوكًا، يدين بين الأمم، ملأ جثثًا أرضًا واسعة سحق رءوسها ) إشارة واضحة لحروب النبي ﷺ وانتصاراته الباهرة على أعدائه، وهي لا تنطبق على المسيح.
فأنت ترى مما تقدم أن محمدا أولى بهذا المزمور من المسيح، ولكننا نحن المسلمين ولله الحمد في غنى عن مثل هذه البراهين؛ ولذلك لا نعبأ بها كثيرًا كما تفعل النصارى؛ لشدة احتياجهم وفقرهم إليها، وإنما أطلنا الكلام هنا فيها مجاراة لهم لعلهم يرشدون. ( 8 ) قال أرميا 23: 5: ( ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر، فيملك ملك، وينجح ويجري حقًّا وعدلا في الأرض 6 في أيامه يخلص يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنًا، وهذا هو اسمه الذي يدعونه به ) الرب برنا 7 لذلك ها أيام تأتي يقول الرب ولا يقولون بعد حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض مصر 8 بل حي هو الرب الذي أصعد وأتى بنسل بيت إسرائيل من أرض الشمال، ومن جميع الأراضي التي طردتهم إليها فيسكنون في أرضهم ).
فالظاهر من هذه العبارة أن المراد بها نحميا كما سبق بيانه، وهو الذي كان أعظم من حكم أورشليم بعد السبي، بل هو الوالي الوحيد من بيت داود بعد تمام عمارتها الذي كان في عصره ببنائه لسورها، وفي أيامه رجع إليها جمهور المسبيين من بابل، وسكنوا في أرضهم ومعنى اسمه ( نحميا ) ( من يعزيه الله ) وكان أيضا يسمى ( الرئيس ) فكلمتا ( الرئيس نحميا ) تقرب من كلمتي ( الرب - أي السيد - برنا ) في المعنى فكأنه قال: ( السيد الذي به تعزيتنا وصلاحنا ) وعدم انطباق هذه العبارة على المسيح عيسى -عليه السلام - ظاهر فيها من أولها إلى آخرها، إذ لم يأت في زمنه بنو إسرائيل من بابل إلى أرضهم، وعلى فرض أنه هو المراد بها فليس في هذا الاسم شيء يدل على ألوهيته، فإذا كان معناه ( هو الرب وهو برنا ) أي ( هو السيد وهو برنا ) فالأمر ظاهر، وإن كان المعنى أنه يسمى بهذه الجملة ( الرب برنا ) فمن سمي بالجمل الآتية لم يكن إلهًا، فمن باب أولى من سمي بهذه فمن بني إسرائيل من سمي ( يهو صاداق ) أي الله يبرر يوئيل ( يهوه الله ) أليهو ( الله هو أي يهوه ) يواخ ( يهوه أخ ) يا هو ( هو يهوه ) أليشع ( الله خلاص ) يشوع ( الله يعين ) يا زيز ( من يحركه يهوه ) ( يهوه شمه ) وهو اسم أورشليم ومعناه ( يهوه هناك ) ويهوه هو اسم الله بالعبرية، والاسمان الأخيران أدل على الحلول الإلهي من اسم عمانوئيل السابق الذي معناه ( الله معنا ).
وهذه هي طريقة اليهود في كثير من أسمائهم كما تقدم 3 ويشوع بمعنى ( الله يعين ) هي ( عين يسوع ) اليونانية ( وعيسى ) العربية، وهو اسم لكثير من اليهود قبل المسيح وبعده كما قلنا، فهو ليس خاصًّا به ولم يكن من سمي به إلهًا ولا مخلصًا بموته من الآثام، على أننا لا ننكر أن المسيح عليه السلام كان ( منقذًا من الضلالة ) ( منجيًا من الغواية ) ( مخلصنا من الشيطان ) ( مرشدًا للهداية ولعبادة الرحمن ).
هذا وقد قال أرميا أيضا في الإصحاح الثالث والثلاثين في حق أورشليم ما يأتي 16: ( في تلك الأيام يخلص يهوذا وتسكن أورشليم آمنة، وهذا ما تتسمى به ( الرب برنا ) فهنا أيضا سمى أرمياء أورشليم ( الرب برنا ) فعلى قول النصارى تكون إلهة!! إن أمر النصارى والله لعجيب!!
فأي شيء من هذه الأسماء يدل على الألوهية، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ( 9 ) قال دانيال 7: 13: ( كنت أرى في رؤيا الليل وإذا مع سحاب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه 14 فأُعطي سلطانًا ومجدًا وملكوتًا؛ لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض ) فهذه البشارة لا يوجد فيها شيء يدل على أنها خاصة بالمسيح - عليه السلام - أما قوله فيها: ( ابن الإنسان ) فكل الناس أبناء الإنسان راجع مثلا الترجمة الإنكليزية لسفر أشعيا ( 52: 14 )، وكذلك حزقيال سمي فيها ( ابن الإنسان ) في كثير من المواضع من كتابه، وسمي في الترجمة العربية ( ابن آدم ) وكذلك قال أيوب 25: 6: ( فكم بالحري الإنسان الرمة وابن آدم الدود وفي الإنكليزية وابن الإنسان )، وفي المزمور الثامن: 4 ( فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم ( الإنسان ) حتى تفتقده )، وفي سفر العدد 23: 19 ( ليس الله إنسانًا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم )، وقال أشعيا 51: 12: ( أنا أنا هو معزيكم، من أنت حتى تخافي من إنسان يموت ومن ابن الإنسان الذي يجعل كالعشب ) وعلى فرض أن هذا اللقب خاص بالمسيح يسوع أفلا يدل على أن المراد باختصاصه به أن الله تعالى يريد أن ينبه الناس على أنه ليس إلهًا ولا ابن إله ( بالمعنى الحقيقي ) كما يزعمون؟ ومن راجع إنجيل يوحنا ( إصحاح 10: 31 - 38 ) في محاورة المسيح مع اليهود في إطلاق لفظ ( ابن الله ) عليه وجد أن المسيح يعترف أنه أُطلق عليه؛ لأنه أولى به ممن أُطلق عليهم اسم آلهة لأنه رسول من الله عظيم مؤيد بالمعجزات الباهرة، ومنه يفهم أن إطلاقه عليه هو من باب إطلاق اسم آلهة عليهم، لا أنه حقيقة ابن الله، تعالى عن ذلك وجل شأنه.
ومما يدلك على بطلان قول النصارى بألوهية المسيح ما جاء في سفر أخبار الأيام الثاني 6: 18 وهو قوله: ( لأنه هل يسكن الله حقًّا مع الإنسان على الأرض هو ذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت ) ثم إن قول دانيال: ( وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه فأعطى سلطانًا ومجدًا إلخ ) يدل على أن الله تعالى هو الذي أعطاه هذه الأشياء فهي ليست له من ذاته، وعليه فهو ليس إلهًا حقيقيًّا، أما قوله: ( لتتعبد له كل الشعوب ) فالمراد به لتخضع وتطيع وتنقاد قال في سفر القضاه 3: 13: ( فعبد بنو إسرائيل عجلون ملك مواب ثماني عشرة سنة ) أي خضعوا له، وفي سفر التكوين 44: 18 ( ثم تقدم يهوذا وقال: استمع يا سيدي، ليتكلم عبدك كلمة إلى قوله 19 سيدي سأل عبيده )، وفي سفر القضاة 8: 14 ( وكان جميع الأدوميين عبيدًا لداود ) أي خاضعين له، وفي الترجمة الإنكليزية تستعمل كلمة عَبَدَ ( Serve ) بمعنى ( خَدَمَ ) أيضا، وجاء في سفر أرميا قوله في بختنصر 27: 7 ( فتخدمه كل الشعوب ) وهي عين الكلمة المترجمة في العربية في بعض المقامات الأخرى ( تتعبد ) كقول داود في سليمان ابنه مز 72: 11: ( كل الأمم تتعبد له ) أو تخدمه، والمعنى تنقاد وتخضع له، وفي القرآن الشريف { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ( الشعراء: 22 ): أي استعبدتهم.
أما قوله: ( إن سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض ) فالمسلمون يسلمون ذلك، ويقولون: إن عظمة المسيح - عليه السلام - وسلطانه على النفوس والقلوب لن يزول أبدًا، ولذلك قال تعالى في القرآن الشريف: { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ } ( آل عمران: 55 ) كما تقدم فأتباع المسيح من النصارى أو أتباعه الحقيقيين من المسلمين هم فوق الذين كفروا به ( وهم اليهود ) إلى يوم القيامة [**].
هذا إذا سلم أن هذه البشارة هي في حق المسيح، والصواب أنها في حق محمد ﷺ كما يدل عليه كل هذا الإصحاح السابع من سفر دانيال ( راجع كتاب فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام ) ومحمد ﷺ بشر مثلنا؛ فلذلك سماه ( ابن إنسان ) وليست هذه العبارة خاصة بالمسيح كما تقدم ولذلك قال القرآن له: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } ( الكهف: 110 ) وبتعبير كتبهم إنسان أو ابن إنسان مثلهم، وفي قوله: ( في رؤيا الليل ومع سحاب السماء ) إشارة صريحة إلى معراجه الروحاني ( فإنه كان في رؤيا الليل ) 4 وقد أوتي فيه سلطانًا ومجدًا وشرعًا وملكوتًا تتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة، وسلطانه أبدي لا يزول ولو كره الكافرون، ﷺ.
( 10 ) قال ملاخي في كتابه عن الله 4: 5: ( هاأنذا أُرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف ) والمراد بيوم الرب يوم القيامة، فإنه هو اليوم العظيم المخيف، وأما يوم المسيح فلم يكن كذلك ولم يخف منه أحد، بل أُخذ على قولهم وقُتل وصُلب، وإذا سلم جدلا أن المراد به يوم المسيح فلفظ الرب كما قلنا يطلق على السيد.
على أن إيليا لم يأتِ للآن، وأما يوحنا الذي يقولون: إنه جاء بروح إيليا ( أي على طريقته ومثاله ) ( لوقا 1: 17 ) فهو ليس إيليا الحقيقي كما قال هو عن نفسه: ( يو 1: 21 ) والظاهر من عبارة ميخا أنه يريد مجيء إيليا الحقيقي قبل يوم القيامة. فلننتظر!!
هذا كل ما يستشهدون به على ألوهية المسيح من العهد القديم، وقد أريناك ما فيه، وقبل ترك هذا الموضوع نسأل النصارى:
لماذا لم يشرح المسيح ولا تلاميذه في الأناجيل عقائدكم شرحًا مفصلا وافيًّا كما تفعلون أنتم في كتبكم الآن؟ وما هذا التدرج في نشوئها الذي نراه فيها في العهد الجديد كما سبقت الإشارة إليه؟ وإذا كان المسيح - عليه السلام - باعتبار ناسوته بشرًا مثلكم، وكان يعبد الله كثيرًا، ويصوم له طويلا، ويدعوه ليلا ونهارًا فلماذا تعبدون ناسوته مع لاهوته؟ 5 وما الفرق بينكم وبين من عبد غير الله أو عبد عباد الله أو الأصنام أو الآلهة الباطلة المنهي عن عبادتها في كتبكم من أولها إلى آخرها؟ وإذا كانت ذات الأب ( أو جوهره كما تعبرون ) لم تحل في المسيح، ولم تتحد به فكيف حل الابن مع أن ذاته هي عين ذات الله التي لا تقبل التفرق ولا الانقسام؟ ولماذا قام جسد المسيح من الأموات؟ ولماذا لم يُرِ نفسه للمكابرين من اليهود وغيرهم؟ وأين هو الآن وماذا يفعل؟ وهل وجود جسده الآن ضروري للعالم أو غير ضروري؟ فإن كان ضروريًّا فما فائدته؟ ولِمَ لَمْ يكن ضروريًّا منذ الأزل؟ وإن كان غير ضروري فلماذا أقامه الله من الأموات؟ وما حكمة ذلك وهو لم يره إلا المؤمنون به من قبل كما يدعون 6؟ وهل يبقى لاهوت الابن متحدًا به إلى الأبد أم يفارقه؟ فإن كان باقيًا فيه إلى الأبد فلماذا ذلك؟ وإن فارقه فأين يذهب ( الإنسان الكامل )؟ وهل تعبدونه بعد ذلك أم ماذا؟ وما الداعي إلى هذا كله؟ ألأجل آدم وبنيه يبقى رب العالمين مقيدًا في هذا الجسد إلى أبد الآبدين؟! مع أن الأرض وما عليها ليست إلا ذرة من ذرات هذا الكون العظيم الكبير { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ( الزمر: 67 ) { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } ( المائدة: 77 ) { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } ( المائدة: 78 ) 7 { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } ( آل عمران: 64 ).
تذييل لهذا الفصل
[عدل]يحتج النصارى على المسلمين بقوله تعالى: { وَأَيَّدْنَاهُ } ( البقرة: 87 ) أي المسيح { بِرُوحِ القُدُسِ } ( البقرة: 87 ) زاعمين أنها تدل على ألوهيته، ونقول: قد قال القرآن أيضا في حق محمد ﷺ ما يقرب من ذلك، وهو قوله تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } ( النحل: 102 ) وقوله: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ } ( الشعراء: 193- 194 ) بل قال أيضا في حق المؤمنين جميعًا: { وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } ( المجادلة: 22 ) وهو ( إذا صح قول النصارى ) أدل على الألوهية من قوله: { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } ( البقرة: 87 ) فإنه لم يقل: إن روح القدس هذه هي من الله.
أما قول القرآن هذا فقد ورد مثله في العهد الجديد، فقال: إن الروح نزلت على المسيح كالحمامة واستقرت عليه ( يو 1: 32 ) وقيل: إن ملكًا نزل من السماء؛ ليقويه ( لو 22: 43 ) وأن الروح القدس نزل على التلميذ بعده ( أ ع 2: 3 و4 ).
فإذا كان المسيح - عليه السلام - إلهًا كاملا وإنسانًا كاملا كما يقولون، وأقنوم الابن متحدًا به، وهو الله عندهم، فأي حاجة بعد ذلك لنزول روح القدس عليه؟ ولماذا لم يقم الروح بوظيفته فيه بدون حلول كما كان يقوم بها في الأب بعد حلوله في الابن؟ وإذا كان أقنوم الابن وأقنوم روح القدوس متحدين به ولم يكفيا لتقويته، فهل الملك الذي نزل عليه ( لو 22 43 ) كان أقوى من هذين الأقنومين الإلهين المتحدين به؟ وإلا فما معنى قول لوقا: إن الملك نزل عليه لتقويته؟ وهل بعد ذلك يكون المسيح إلهًا وهو محتاج لتقوية هذا الملك؟ وهل لا يدل ذلك على أن كلا من الابن وروح القدس ليسا أقنوميين إلهيين؛ ولذلك احتاج ناسوت المسيح مع وجودهما فيه لنزول هذا الملك عليهما مقويًا له؟ أم يقولون: إن هذا الملك كان أقوى من الله تعالى؛ ولذلك نجح في تقوية المسيح دون الأقنومين الإلهيين اللذين احتاجا إليه لتقويته معهم؟ إني والله لا أفهم ولا يمكن لعقلي الضعيف أن يدرك هذه الأقوال المتناقضة المتضاربة!!
ومما تقدم يتبين لك أيها المسلم حكمة قول القرآن الشريف: { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ } ( البقرة: 87 ) لينبه النصارى إلى هذه المسألة وهي مذكورة في كتبهم كما بينا.
فكأنه يقول: ( إنكم تسلمون أنه مؤيد بروح القدس كما في كتبكم فكيف بعد ذلك تقولون: إنه إله أو ابن الله مع اعترافكم أن الروح القدس نزلت عليه؟ فهل أقنوم الابن الذي فيه من قبل لم يكن كافيًا؟ وإذا كان المسيح إلهًا بوجود هذين الأقنومين الإلهيين فيه، فكيف بعد ذلك يحتاج لتقوية الملك؟ فهل الله يحتاج لتقوية عبيده له؟ وإذا كان ناسوته محتاجًا، فهل لم يكفه وجود الأقنومين الإلهيين المتحدين به؟ وإذا كان وجود روح القدس فيه يدل على أنه إله، فلماذا لم تَصِرْ الحواريون أيضا آلهة وهم ممتلئون منه ( أ ع 2: 4 )؟ وإذا كان حلول الله أو أحد أقانيمه في الناس لا يجعلهم آلهة، فلماذا صار المسيح إلهًا لحلوله فيه؟ ولماذا يعبد ناسوته مع لاهوته ولا تُعبد أيضا تلاميذه الممتلئون من روح الله؟ الحق أن كلَّ محتاجٍ لا يكون إلهًا فلا الابن إلهًا؛ لأنه احتاج لروح القدس ولا الروح إله؛ لأنه احتاج للملك ليستعين به على تقوية المسيح فالكل ليسوا آلهة ) وعليه فقول القرآن الشريف هذا مبطل لقول النصارى من أوله إلى آخره؛ ولذلك تكررت هذه العبارة فيه في حق عيسى - عليه السلام - ولم تذكر بهذا اللفظ في حق غيره من الأنبياء عليهم السلام 8 .
ولتعلم النصارى أن روح القدس المذكور في القرآن المراد به الملك جبريل كما يفهم من مجموع هذه الآيات { مَن كَانَ عَدُوا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } ( البقرة: 97 ) الآية، وقوله: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ } ( الشعراء: 193-194 ) وقوله: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } ( النحل: 102 )، ومعنى روح القدُس الروح الطاهرة وهو جبريل ملك الوحي والإلهام الإلهي ( انظر دا 8: 16 و19: 21 ولو: 19 و26 ) وهو عبد من عبيد الله الواحد الأحد تعالى الله عما يشركون.
أما قول النصارى: إن روح القدس هي الأقنوم الثالث أو هي الله، وأنها تشكلت بصورة حمامة ( متى 3: 16 ) فلا أدري كيف يتفق ذلك مع قولهم: إن السموات والأرض لا تحصره تعالى ولا تحيط به، وأنها كلها في قبضة يده، راجع سفر أخبار الأيام الثاني 6: 18 وقول سفر التثنية 4: 12 ( فكلمكم الرب من وسط النار وأنتم سامعون صوت كلام، ولكن لم تروا صورة بل صوتًا.... 15 فاحتفظوا جدًّا لأنفسكم، فإنكم لم تروا صورة ما يوم كلمكم الرب.... 16 لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالا منحوتًا صورة مثال ما شبه ذكر أو أنثى 17 شبه بهيمة ما مما على الأرض شبه طيرما ذي جناح مما يطير في السماء ) إلخ إلخ ومع ذلك فقد عبد النصارى صورة الحمامة وصورة الثالوث كله، وصور أخرى كثيرة ولا يزالون يعبدونها إلى الآن إلا طائفة منهم ظهرت منذ زمن غير بعيد مستنيرة بنور الإسلام، فانظر وتعجب لميل هؤلاء الناس إلى الوثنية - كما قلنا - من قديم الأزمان.
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ حاشية: (الله) هنا أصلها في العبرية (ألوهيم) كما قلنا: بمعنى إله أو أي قوي من البشر فترجموها في هذا المزمور بلفظ (الله) وقد وردت هذه الكلمة عينها في سفر أشعياء 9: 6 فترجموها بلفظ (إله) كما سبق، والفرق بين لفظ (الله) بالتعريف وبين لفظ (إله) بدونه لا يخفى على لبيب.
- ↑ الكاهن المراد به في هذا الكتاب: هو المعروف عند النصارى واليهود لا كاهن العرب الذي يزعم اتصاله بالجن، ويخبرهم عن المستقبل مدعيًا علم الغيب.
- ↑ حاشية: يحتمل أن الأصل العبري لعبارة أشعياء المذكورة في صفحة 44 أن المولود يسمى بهذه الجملة (الله قدير) كما سمي بمثلها غيره هنا، والتشابه بين هذا الاسم (الله قدير) وبين اسم (حزقيا) ومعناه (قوة الله) (لا يخفى على بصير، وهذا مما يؤيد تفسير اليهود لهذه العبارة، ولعل النصارى حرقت الترجمة أو حصل تحريف في الأصل العبري من الكاتب سهوًا أو قصدًا (راجع الفصل الثالث من هذا الكتاب) وقول أشعياء في آخر نبوءته هذه 9: 7: (من الآن إلى الأبد) يشعر بأن هذا الأمر قريب الحصول، وأنه يقع في زمن أشعياء نفسه، وقد كان ذلك فقد ولد (حزقيا) لآحاز ملك يهوذا في مدة أشعياء النبي، وبشر أشعياء حزقيا أيضا بإطالة الله تعالى لعمره (15) سنة كما في (2 مل 20: 5 و6) وإنما لم يبق الملك إلى الأبد في نسله كما أنبأ أشعياء؛ لعصيان اليهود وخروجهم عن طاعة الله تعالى، وكفرهم وعبادتهم الأصنام (راجع إصحاح 21 و 23 و24 و 25 من سفر الملوك الثاني) وقد بينا ذلك في صفحة 46 من هذا الكتاب (راجع أيضا سفر أخبار الأيام الثاني 7: 18 - 22). (**) استدراك: فاتنا أن نذكر وجهًا آخر لتفسير عبارة دانيال في صفحة 24 من هذا الكتاب وهي قوله 9: 26: (و بعد اثنين وستين أسبوعًا يقطع المسيح وليس له)، فقوله (يقطع) أصله العبري (ينقطع) وقد ورد مثله في سفر أرمياء (راجع إصحاح 33 منه عدد 17 و18) والمراد بذلك أنه بعد 62 سنة يموت نحميا، وبموته ينقطع جلوس أحد من بيت داود على كرسيه، ويزول الملك من نسله فلا يكون منه مسيح على اليهود (انظر أيضا مزمور 89) وقد كان ذلك، فلم يتول عليهم أحد من نسل داود بعد (نحميا) فانقطع مسيحهم ولم يكن زوال ملكهم لذنب فعله نحميا البار، بل لِمَا أتاه قومه ويأتونه من المنكرات والذنوب والآثام (راجع مثلا تح 13) فهي التي انقطع بسببها جلوس ابن لداود مسيحًا عليهم، ومحت كل أثر من آثار ملكهم؛ ولذلك قال دانيال: (يقطع المسيح) أو ينقطع (وليس له) أي أن انقطاع مسيحهم وانقراض ملكهم ليس لأجل فعل (نحميا) نفسه، بل بسبب أفعالهم السيئة ومعاصيهم، ونقضهم لعهد الله كل حين وآخر، كما قال أرميا 33: 20 و21: (إن نقضتم عهدي فإن عهدي أيضا مع داود عبدي ينقض، فلا يكون له ابن مالكًا على كرسيه) ولولا ذلك لوُجد لنحميا أو غيره نسل يملكهم ولبقي فيهم كرسي داود إلى الأبد.
- ↑ حاشية: في اعتقادنا أن المعراج كان روحانيًّا لا جسدانيًّا.
- ↑ هذا الكلام موجه للبروتستنت والكاثوليك الذين يعتقدون أنه إنسان كامل وإله كامل، ومع ذلك يعبدونه كله لا نصفه.
- ↑ حاشية: جاء في إنجيل متى 12: 38 - 40 أن اليهود طلبوا من المسيح - عليه السلام - معجزة (فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق، يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي؛ لأنه كما كان يونان في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال) وجاء أيضا في هذا الإنجيل 16: 1 - 4 أن الفريسيين والصدوقيين جاءوا إليه ليجربوه وطلبوا منه آية فأجاب: (جبل شرير فاسق يلتمس آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي، ثم تركهم ومضى) فبقطع النظر عن كون المسيح لم يمكث في بطن الأرض كل هذه المدة المذكورة هنا بل مكث يومًا وليلتين فقط، تجد أن المسيح لم يظهر لهؤلاء الناس الذين طلبوا منه آية مع أنه أخبرهم أنهم لن يروا منه سوى هذه المعجزة، وحيث إنهم لم يروها ولم يعطوا غيرها كما قال لهم، فيستفاد من هذه العبارة أن المسيح ما أتى بمعجزة ما كما هو ظاهر من قوله هذا، فلولا أن القرآن شهد بمعجزاته لجاز للإنسان أن يقول: إن المسيح باعترافه لم يأت بالمعجزات، ولا أظهر واحدة منها لخصومة، فجميع ما ينسبه إليه تلاميذه في الأناجيل بعد ذلك من الآيات هو كذب في كذب على أن ظهور هذه الآيات ليست بحسب كتبهم دليلا على صحة النبوة؛ لأنها قد تظهر على أيدي الكذابين والدجالين، جاء في سفر التثنية 13: 1 - 5 أنه إذا ادعى شخص النبوة، ودعا لعبادة غير الله، وأظهر معجزة أو آية فهو مع ذلك كاذب ويجب قتله، وقال المسيح كما في إنجيل متى 7: 22: (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة 23 فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) وقال أيضا كما في متى 24: 24: (لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضا) ومما سبق يتبين لك الأمور الآتية: 1- أن المسيح باعترافه لم يأت إلا بآية واحدة، لم يرها أحد ممن وعدهم بها، فكأنه لم يظهر للناس أي معجزة كانت 2- لولا القرآن لما صدقنا جميع ما روي عنه من الآيات والمعجزات، ولقلنا: إنها أكاذيب واختراعات كما يقولون هم فيما يرويه المسلمون من المعجزات لنبيهم 3- أن المعجزات كثيرًا ما تظهر على أيدي الأنبياء الكذبة والدجالين لإضلال للناس كما هو نص التوراة والإنجيل 4- لو صح قول النصارى لكان عيسى داعيًا لعبادة نفسه، وكل من دعا لعبادة غير الله فهو كنص التوراة كاذب ويجب قتله ولو أتى بالمعجزات والآيات، فما بالك إذا اعترف أنه لم يأت بها 5- إن كثيرين سيقومون بعد المسيح ويتنبأون باسمه، ويصنعون عجائب وآيات كثيرة ومعجزات باسمه أيضا، ومع ذلك هم كما قال عليه السلام: كذبة دجالون ملعونون، فكيف بعد ذلك يمكننا الإيمان بتلاميذه وبصدق بولس؟ فيا أيها المبشرون أنتم تدعون المسلمين لترك دينهم والكفر بربهم ونبيهم، فهل بعد ذلك أعددتم لهم براهين لإقناعهم بصدق مسيحكم فضلا عن صحة ألوهيته؟ فإذا كذب المسلمون القرآن فبأي شيء تقنعونهم بصدق المسيح وبصدق تلاميذه؟ وهم يروون عن نبيهم وعن أوليائهم أضعاف ما تروون من المعجزات للمسيح وللتلاميذ (الرسل)!! على أن المسيح اعترف بأنه لم يأت بالمعجزات، وإذا سلم أنه أتى بها فهي ليست دليلا على الصدق كما قال، ومن ادعى الألوهية وجب قتله كنص التوراة ولو أتى بالمعجزات فبماذا إذن تقنعون المسلمين إذا هم رفضوا دينهم كما ترجون؟ أبنبوات العهد القديم، وقد أظهرنا لكم بطلانها وأنها ليست نصًّا في المسيح دون غيره؟، وبماذا تثبتون لهم صحة هذه الكتب وصدق أنبيائها بعد ما علموا أن المعجزات والنبوات ليست دليلا على صحة النبوة، وكثيرًا ما تخترع للناس وتنسب إليهم كذبًا فاتقوا الله أيها النصارى في عقولكم وفي دينكم، فإنكم بمحاربتكم الإسلام تحاربون دينكم أيضا، فأنتم ساعون إلى حتفكم بظلفكم، وذلك جزاء الظالمين.
- ↑ راجع مثلا إنجيل متى 7: 22 و23.
- ↑ حاشية: يحتار بعض الناس لعدم ذكر القرآن أسماء الأنبياء فيه مرتبة بحسب أزمنتهم أو درجاتهم أو منازلهم عند الله كما في سورة النساء المدنية (4: 163 و164) وكما في سورة الأنعام المكية (6: 84 - 86) والسبب في ذلك والله أعلم أن القرآن جاء للقضاء على خصلة سيئة في البشر، وهي أنهم كثيرًا ما يتشاجرون ويتغاضبون للخلاف في بعض مسائل تافهة وأشياء صغيرة ما كان يليق بالعقلاء أن تكون سببًا للنزاع بينهم، لأنها ليست من جوهر الأمور بل من عرضها فمن هذه المسائل تفضيل بعض النبيين على بعض والتنازع في ذلك لدرجة أخرجت الدين عن المراد منه، فبعد أن كان الدين يراد به التوفيق بين الناس صار أعظم سبب للتفريق بينهم، فمن الناس من يظن أن السبق في الزمن أو التأخر فيه أو كثرة المعجزات أو كثرة الأتباع أو سعة الملك أو نحو ذلك سبب في إكرام بعض النبيين والحظ من قدر البعض الآخر منهم والتفريق بينهم، فالقرآن الذي علم المؤمنين أن يقولوا: [ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ] (البقرة: 136) لم يرد أن يذكر النبيين بحسب أي ترتيب كان مما قد يتخذه بعض ضعاف العقول سببًا في تفضيل بعضهم على بعض؛ ليرشد المسلمين بذلك إلى أنه لا يليق بهم أن يتنازعوا مع غيرهم أو بعضهم مع بعض في مثل هذه المسائل الصغيرة والمباحث العقيمة، بل يجب عليهم أن يتركوا إدانة الخلق والحكم عليهم لخالقهم مالك يوم الدين وحده، فهو أعلم بقدر عباده وبضمائرهم وسرائرهم وأعمالهم ظاهرة وباطنة، وسيجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، ألا ترى أن يحيى (يوحنا) الذي يظنه الناس نبيًّا صغيرًا قال فيه عيسى: إنه لم تلد النساء نبيًّا أعظم منه (لوقا 7: 28) فتأدبًا مع الله ومع أنبيائه ورفعًا لسبب من أسباب الشقاق والتباغض والتنافر بين الناس وترفعًا عن سفاسف الأمور تجد القرآن الشريف يذكر الأنبياء بدون أي ترتيب، بل إذا كرر ذكرهم قدم وأخر في أسمائهم حتى لا يفهم أحد من ذكرهم أي وجه لتفضيل بعضهم على بعض، ولو أمكن النطق بأسمائهم جميعًا دفعة واحدة لفعل ذلك بدلا من ذكر بعضهم معطوفًا على بعض بالواو، وإن كانت لا تفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا، فكان الغرض وضعهم جميعًا في مستوى واحد بلا تفرقة بينهم وقد جرى محمد ﷺ على هذا الأدب العالي الذي جاء به القرآن، فنهى الناس عن تفضيل بعض الأنبياء على بعض فقال كما رواه القاضي عياض في الشفاء: (لا تفضلوا بين الأنبياء) وروي عنه أنه قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متَّى) نعم قال الله تعالى: [ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ] (البقرة: 253)، ولكن هذا شيء مما اختص بعلمه نفسه تعالى ولم يعلمنا به أو يرشدنا إليه لكي يزول من بيننا سبب من أسباب الشقاق والنزاع، فإن الدين جاء للتوفيق لا للتفريق بين عباد الله