مقالات مجلة المنار/المسلمون والقبط/2
سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم أفراد أرقى من القبط في كل علم، وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي أرقى من المسلمين، فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما حمدتهم وأحمدهم عليه، وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله، وإن كنت أعلم أنه لو أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية لَمَا وجدوا في القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا، ويجعل عنان خطابته ( مصريون قبل كل شيء ) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوروبا، ويقول الجميع: إن المسلمين في مصر يُحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية، ويدعون إلى ارتباط بعضهم ببعض لمقاومة النصارى في مصر، بل في جميع الأرض.
لم تكد تقر شقشقة أحمد زكي بك من دعوة المسلمين في جمعية الرابطة المسيحية إلى توثيق عقد الأخوة بينهم وبين القبط، ويقنعهم بالأدلة الدينية والتاريخية أن الإسلام في هديه وسيرة سلفه يوجب عليهم المودةَ للقبط - حتى قام بعض الكتاب من القبط يكتبون في بعض الجرائد القبطية وغيرها أن حقوقهم مهضومةٌ بين المسلمين، وأنهم يطلبون المساواةَ بتعيين المديرين ومأموري المراكز منهم، فوافقتهم جرائد المسلمين الكبرى في مطالبهم، فلم يقنعهم ذلك، بل تَمَادَوْا في الكتابة حتى جعلوا أنفسَهم أصحابَ البلاد، وجعلوا المسلمين من قبيل المحتلين بغير حقٍّ، وأغلظوا القولَ للواء والحزب الوطني، فكتب الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير جريدة اللواء قولا ثقيلا في الرد على بعض كتابهم سخر فيه منهم، وهزى بهم، وافتخر عليهم، فكان ذلك جل ما يبغون من حركتهم الجديدة. 1
قامت قيامتهم ولم يكتفوا بما يكيلون كل يوم للشيخ عبد العزيز من الصيعان الكثيرة في مقابلة صاعه، بل أنشأوا يكتبون في جرائدهم: إن المسلمين يريدون بتعصبهم الديني استئصال القبط وجميع النصارى من مصر، وإنه يجب عليهم أن يوفدوا الوفود إلى أوربا للاستغاثة بدولها وأممها المسيحية قبل أن يبيدهم المسلمون المتعصبون، أو يضطروهم إلى الجلاء عن بلادهم، والهجرة إلى بلاد أخرى يأمنون فيها على أنفسهم من المسلمين، ثم هم يطلبون أيضا معاقبة الشيخ عبد العزيز شاويش الذي أهانوه أضعافَ ما أهانهم، وأن يرد عليه ويتبرأ منه كُبَرَاء المسلمين، ويعقدون الأندية والسّمار للبحث في هذه النازلة، ويكتتبون بالأموال لها.
من علم أن القبط في القطر نحو نصف مليون في نحو أَحَدَ عَشَرَ مليونًا مِن المسلمين - وأنّ العمال والمستخدمين منهم في الحكومة أكثر من المسلمين - وأنّ المسلمين قاموا منذ سنين يدعون إلى الرابطة الوطنية، فكان لهذه الدعوة من التأثير في نفوس القارئين والسامعين، والأساتذة والمتعلمين أن صار يفضل كثير منهم القبطي على المسلم الشامي والحجازي...، بل سمعت غير واحد من المعلمين والمتعلمين يقول: لا فَرْقَ عندي بين أن يكون أمير البلاد مسلمًا أو قبطيًّا - وأن المسلمين جعلوا أحزابهم وأنديتهم شُرعًا بينهم وبين القبط - وأن القبط يتعصب بعضهم لبعض في كل مصلحة وكل عمل حتى في القضاء - وأن المسلمين على شدتهم في انتقاد حكامهم قَلَّمَا ينتقدون القبط؛ فهم ينتقدون وزير المعارف المسلم على إحسانه في عمله بحُجّة أنه لم يكن فيه مرغمًا للإنكليز ولا معاندًا لهم، أو أنه يجب عليه أن يعمل أكثر مما عمل، ولا ينتقدون وزير الخارجية القبطي الذي هو ألصق بالمحتلين وبالاتفاق معه سلخ لورد كرومر السودان من ملك الدولة العَلِيّة وملكه للإنكليز، وكان رئيس محكمة دنشواي التي ظلت الجرائد الإسلامية تعير وتسب العضو المسلم فيها، ولم تذكر رئيسها بسوء - من علم هذا وأمثاله يتعجب أشد التعجب لهذه الثورة المعنوية التي أثارتها القبط في الوقت الذي يبالغ فيه المسلمون في موادتهم وتوثيق عُرَى الإخاء بينهم وبينهم. حقًّا، إن في الأمْر مثارًا للعَجَب، قَلَّمَا رَأَيْنَا من بحث في حقيقة السبب.
يقول بعض الناس تبعًا لبعض الجرائد: إن قطبي الرَّحَى لهذه الحركة أُخْنُوخ أفندي فانوس رئيس جمعية الرابطة المسيحية، ومجمع الإصلاح القبطي، وصاحب جريدة مصر اللذان يسعى كل منهما لجعل ولده مديرًا، فهما اللذان أَيْقَظَا هذه الفتنةَ لحظ شخصي، فكانت فتنة جنسية أو طائفية باتباع الجمهور لهما.
ومن رأيي أنهما بريئان من هذه التهمة، ولو كان ذلك هفوة لهما لَمَا خفي على جمهور طائفتهما الحازمة اليقظة، بل يغلب على ظنّي أن هذه الطائفة تجل عن أن تتوسل إلى تقرير جعل المديرين منها بهذه الوسيلة؛ لأن ربح مدير لا يوازي خسارة مودة المسلمين لهم، ودعوتهم إلى مساواتهم ومؤاخاتهم - هذه الخسارة التي تعرضوا لها الآن بمنتهى ما عندهم من الجرأة والإقدام.
والراجح عندي أن القوم شعروا بالتغير الجديد في السياسة، وعلم بعض كبرائهم بالنبأ الذي نشرناه في الجزء الماضي قبل أن نعلم به - وهو عزم الإنكليز على السماح لأمير البلاد بإنشاء مجلس نيابي - ومن البديهي أن جمهور القبط لا يرغبون في أن يكون في مصر مجلس نيابي، ولا أن يقلل المحتلون من سيطرتهم على البلاد. فلما علموا بذلك رَأَوْا أنه لا سبيلَ إلى تحويل الإنكليز عن هذه السياسة الجديدة إلا بإقناع أُمّتهم بانفجار بركان تعصب المسلمين على القبط، وسائر المسيحيين؛ ليقولوا: إن هؤلاء إذا جُعِلَ لهم رأي نافذ في سلطة بلادهم يهضمون وهم الاكثرون حقوق الأقلين. وإنني لمعظم لقدرهم بهذا الظن، ومعتقد فيهم الحزم والتكاتف، وإن ترجح عندي أنهم ربما أخطئوا في اجتهادهم، وجاء الأمر على خلاف مرادهم، وحينئذ يكون شرّ هذه الحركة أكثر من خيرها، وإثمها أكبر من نفعها.
سمعنا غير واحد من أهل الفهم والرأي يقولون: إن تعصب القبط بعضهم لبعض، وتعاونهم على مصالحهم المِلِّيَّةِ يُعَدُّ مِن الأمور الطبيعية في الاجتماع، فإن الفئة القليلة إذا لم تعتصم بعروة التعصب فإنها تذوب وتفنى في الأُمّة الكبيرة التي تعيش معها، فالقبط معذورون في سيرتهم التي هم عليها؛ لأنها طبيعية لا بُدَّ منها.
ونقول: نعم، إن ذلك طبيعيّ وبديهيّ، ولكن ما كان كذلك يجب الاعتراف به، ويستنكر جحوده فما بالك بادعاء ضده. ثم إنه ليس من الطبيعي البديهي أن تكون الفئة القليلة في الأمة الكبيرة مهاجمة في جهادها الاجتماعي، فتطلب ما تبغي بالطريقة التي جرت عليها القبط في هذه الأيام إلا إذا كان لها حدث جديد، أو أوت إلى ركن شديد.
يعبرون عن أنفسهم في مقام مطالبة المسلمين بما يطلبون بالأمة القبطية، وُيدلون بأنهم أصحاب البلاد؛ لأنهم سلالة فرعون ذي الأوتاد، ويجهرون بأن المسلم فيها أجنبي محتلّ، وأتاويّ معتدٍ، وينكرون على المسلمين أن يكون لهم فيها حق مِنْ حيثُ هم مسلمون فاتحون، ولا ينكرون على أنفسهم أن يَدّعوا الحقوق فيها من حيث هم قبط مسيحيون، وهم في الحقيقة رعايا ذِمِّيُّونَ، فما هو الحدث الجديد الذي أنطقهم بهذا اللسان؟ وما هو الركن الشديد الذي يأوون إليه الآن؟
لا يظهر لنا حدث غير ما بيناه من تغير السياسة الإنكليزية في البلاد، وعزمها على السماح للأمير بتأليف مجلس نيابي فيها يشترك معه فيما يسمونه مسئولية إدارتها. ولا نعرف لهم ركنًا فيما صمدوا إليه إلا رغبة السياسة الأوربية عامة والإنكليزية خاصة في نبز نهضة المسلمين بالتعصب الديني - فهذا ما رأوه من موقع الضعف في المسلمين والقوة لهم؛ لهذا جعلوا قول الشيخ عبد العزيز شاويش - وهو على رأيهم دخيل في مسلمي مِصْرَ - برهانًا على أن في مصر تعصبًا إسلاميًّا، لا يلبث أن ينفجر بركانُه، فيدفن القبط وسائر النصارى معهم تحت مقذوفاته النارية.
وقد طلبوا من الحزب الوطني أن يتبرأ من هذا القول، ففعل، ومن العجب أنهم لم يرضوا، ويقال: إنه قد تجددتْ لهم صلةٌ وديةٌ برئيس أساقفة الكنيسة الإنكليزية، وإنه رغب إليهم في الرجوع إليه، والتعويل في رغائبهم عليه.
ولكن فاتهم على حذقهم أن السياسة ( لا سِيَّمَا الإنكليزية منها ) إذا قررت أمرًا أنفذته لا محالة لا يصدها عنه مراعاة فئة صغيرة ولا كبيرة، ولا مسألة اختراعية كمسألة التعصب الإسلامي، أو حقيقية كإزالة السلطة الشخصية وحماية الحرية القومية، فنبشرهم بأن السياسة الجديدة التي بينها المنار في الجزء الماضي واقعة ما لها من دافع. وأمر مجلس النواب في هذه البلاد صار موكولا إلى إرادة أميرها باختيار المحتلين ورضاهم أو كاد.
فإنْ نجحت الحركة القبطية فقصارى نجاحها أن تكون سببًا في تأخيره عامًا أو أكثر وما ذلك بالربح الكثير في جنب ما يخسرون من مودة المسلمين بما اشتملت عليه مقالاتهم من التّهكم بمجد الإسلام الأول، والشماتة بزواله كالتعبير عنه ( بالعظمة البالية ) ورمي المسلمين السابقين بظلمهم وظلم غيرهم، واللاحقين بالتعصب عليهم وعلى أهل دينهم، وبمطالبة جميع كُبَراء المسلمين وكتابهم بأن يعتذروا لهم عن مقال الشيخ عبد العزيز، وإنْ كانوا هم البادئين بالعدوان، وقد أصروا عليه بجعل ذنب الشيخ عبد العزيز ذنبًا لجمهور المسلمين، وبالسعي في جمع كلمة نصارى السوريين والروم والأرمن إليهم؛ لمقاومة المسلمين كما روي لنا، ويؤيده ما يكتبون في الجرائد، وبترجمة الأقوال السيئة التي يكتبونها، ويكتبها الآخرون باللغات الأوربية، لإيهام أوربا أن في البلاد تعصبًا ربما يفضي إلى ثورة دينية.
أول خسارة خسروها بهذه المغاضبة هي اعتقاد المسلمين أن دعوة الوطنية التي قاموا بها في هذه السنين قد كانت خسارًا عليهم، وربحًا للقبط وحدهم. فإن دعاة هذه الوطنية من المسلمين كانوا يبغون بها أن يتحدوا بالقبط، ويتعاونوا معهم على مقاومة السلطة الأجنبية؛ ولذلك رضوا بأن يساووهم ويؤاخوهم مع العلم بأن الحكومة في صفتها الرسمية إسلامية تابعة لخليفة المسلمين باتفاق الدول، بل غضوا النظر في الغالب عن رجحانهم عليهم لهذا الغرض. فتبين لهم أن القبط لا يرضون بهذا الاتحاد من كل وجه، بل يستفيدون منه ويحولون دون استفادة المسلمين شيئًا منهم، حتى نفي التعصب عنهم، ثم يبنون أعمالهم كلها على أنهم أُمّة ممتازة لا عضو في جسم الأمة المصرية أو الشعب المصري - وأنهم لا يرضون بمقاومة الأجنبي ولا يودون استقلال البلاد دونه - وأنهم إذا وجدوا فرصة لمواثبة المسلمين واثبوهم من أضعف جانب فيهم، كنبزهم بلقب التعصب ومعاداة النصارى في هذه الأيام. فإذا كانت نتيجة دعوة المسلمين إلى الوطنية المصرية بلسان جرائدهم وخطبائهم وأحزابهم وعد القبطي أخًا له، والمسلم غير المصري ( دخيلا ) فيهم، أن تقوم عليهم جرائد القبط وجمعياتها الدينية، وأنديتها القومية، ترميهم بالغلو في التعصب والتواطؤ على إبادة النصارى، فأي فائدة لهم في هذه الوطنية؟ بل أي غائلة شر عليهم منها؟.
أقول: إن في هذا خسارًا للقبط؛ لأنه ربما يغري المسلمين بمناظرتهم، والتشبه بهم في جمعياتهم الدينية، وترجيحهم لأبناء مِلَّتِهِمْ في جميع الأعمال والمصالح. وإذا دبّ في المسلمين الشعور بوجوب ترجيح المسلم على القبطي كما تفعل القبط فإن ذلك يثمر حرمان ألوف من القبط من موارد الرزق السائغة في دوائر المسلمين الخاصة، بل ربما يعوزهم معه - إذا تمادى وعظم - القيام باستغلال أرضهم كما يستغلونها الآن بمساعدة المسلمين. دَعْ عَنْكَ مصالح الحكومة التي أكثر عمالها من القبط، ولولا تساهل المسلمين، وعدم عنايتهم بالمسابقة والمناظرة، لَكَان الأمر على غير ما هو عليه الآن.
وناهيك بالخسارة المعنوية التي هي عند أهل الآداب العالية شرّ من خسارة المال، وهي ما يخشى أن يكون من التقاطع والتدابر بين العُشَرَاء والخُلَطَاء والجِيرَان والأصدقاء.
فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم في الشكوى من المسلمين، والقول بتعصبهم ولا من سرور بعض الإنكليز به - إنْ كان ما قِيلَ من ذلك حقًّا - فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين فهو لا يكون خلفًا صالحًا لمودّتهم فيما أرى. فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا، ويعتذروا عنه، ويعودوا إلى سابق شأنهم، أو إلى خير منه إِنِ اسْتَطَاعوا، والمسلمون تغلب عليهم سلامةُ القلب فلا يلبثون أن يغفروا لهم، وينسوا ما كان منهم، ففي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي: ( المؤمن غِرٌّ كَرِيمٌ ) أي: ليس بِذِي نكر ولا مكر ولا خداع. ولولا أنني أحب الوفاق لَمَا نصحت لهم بهذا، فإنني أعلمُ أنّ هذه المشاقة لا تَزِيد المسلمين إلا قوةً في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها، وحفظًا لحقوقهم التي أَغَار عليها، ولكنني أفضل أن يكونَ تنبيههم لذلك بغير هذا، أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا يتفرقوا، وأن يكونوا مع ذلك على وفاق ووئام مع من يعيش معهم.
وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرَّدِّ على القبط - ولو لم يكتبوا في الماضي ما كتبوا لَكَان خيرًا لهم وأحسن إطفاءً لِتِلْكَ الفتنة وخذلانًا لموقظيها - ولكن لا بأْسَ ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية، وذكر الوقائع في تعصب بعضهم لبعض، وتعاونهم المِلِّيّ المَحْض مِن باب بيان الحقيقة والاعتبار بها بشرط أن يتحرى الصحيح، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب والتجريح فضلا عن الهجر والتقبيح.
ومما يحسن البحث فيه أيضا بيان أن القبط لا يمتازون بحق رسمي على غيرهم من النصارى المتجنسين بالجنسية المصرية من السوريين والأرمن والروم، ومن اليهود أيضا، وإنما ميزهم المسلمون في مقالاتهم وخطبهم التي يجعلون فيها المصريين عنصرين فقط، ويعدون القبط إخوانهم دون غيرهم من الذين جعلوا مصر وطنًا لهم، ويعدهم القانون المصري مصريين؛ لولادتهم بمصر، أو لإقامتهم فيها 15 سنةً أو أكثر، فالنسب القديم ليس شرطًا للوطنية ولا للجنسية عند أحد من الأمم ولا في شيء من قوانينها. فإذا كان من الحق مطالبة القبطي بأن يكون مديرًا كان من الحق أن يكون السوري الذي تجنس بالجنسية المصرية مديرًا ووزيرًا، فالحق أنه لا فرق بين ابن أخنوخ أفندي فانوس، وابن يعقوب أفندي صروف، فالوطنية الحقيقية هي المساواة بين جميع العناصر التي تقيم في البلاد وتحكم بقوانينها. إلا أن يكون للطائفة الحاكمة بعض المزايا في القوانين العامة وطبيعة الحكومة.
فمما يبحث فيه هنا طبيعة الحكومة المصرية ودينها الرسمي، فإذا كانت لا تزال حكومة إسلامية خلافًا لما يقول بعض القبط علم أن طلب هذه الطائفة مساواة المسلمين في كل شيء في غير محله. وإذا كانت قد خرجت عن كونها إسلامية وعن كون أميرها وكيلا لخليفة المسلمين فيجب البحث في تعيينه للقضاة الشرعيين، ولإدارته لأوقاف المسلمين، ولتعيينه للخطباء وأئمة المساجد ونحو ذلك من المسائل الشرعية، هل هي مع ذلك حقوق شرعية له أم هو لا يملكها الآن إلا بالتغلب والقوة المستمدة من القبط وغيرهم دون ولاية الشرع؛ لأن البلاد خرجت عن كونها دار إسلام؟؟ يهم المسلمين جدًّا أن يعرفوا ذلك؛ لأنه يترتب عليه أحكام شرعية كثيرة منها ما هو ديني محض، وما هو مدني شرعي.
تسمي القبط ما تطلبه الآن مساواة بالمسلمين وهو مساواة من وجه، وامتياز عليهم من وجه آخر. فإذا كانت حكومة مصر غير إسلامية، وكان المسلمون فيها لا يمتازون بشيء قط فلماذا تكون أمورهم المِلِّيَّة الخاصّة كالمحاكم الشرعية، والأوقاف والمدارس الدينية تحت سلطة الحكومة المشتركة، وتكون أمور القبط المِلِّيَّة وأوقافها في أيديها؟ أليس يكون هذا من امتياز القبط على المسلمين؟
يغلب على ظني أن زعماء الحركة القبطية إذا فكروا في الأمر من جميع وجوهه فإنهم يفضلون السكون والسكوت على التمادي في هذا العدو والصياح إلا أن يكون الركن الشديد الذي يأوون إليه قد ضمن لهم أن يكونوا هم الرابحين بمشاقتهم للمسلمين، وإثارتهم لسخطهم، وتعرضهم لمقاومتهم.
لولا أنني أظن صدق الخبر الذي أوردته في الجزء الذي قبل هذا عن السياسة الإنكليزية الجديدة بمصر لَغَلب على ظني أن الركن الذي تأوي إليه القبط في هجتهم هذه هي السر ألدن غورست نفسه والوزارة الإنكليزية من ورائه، أما وأنا مصدق لذلك الخبر فلا يبعد عندي أن يكون ركنهم بعض المحافظين من الإنكليز ورئيس أساقفة كنيستهم ( كنتربري )، وإلا كانت القبط طائفةً حمقاء، وما عهدتها إلا طائفة كياسة وروية، وحزم وتدبر، وستزيل لنا الأيام بين الحقائق والأوهام.
فإذا فازت القبط في سعيها فامتنع الإنكليز عن السماح للأمير بإنشاء المجلس النيابي، وتقرر بالفعل أنه لا فرْقَ بينهم وبين المسلمين في الحكومة - وما ذلك بمحال - فإنني أشهد للقبط بأنها أرقى طوائف الشرق الأدنى في السياسة والاجتماع، وجميع مقومات الحياة المِلِّيَّة لا أقرن بها تركيًّا ولا عربيًّا سوريًّا، ولا غير سوري ولا أرمنيًّا بل ولا يهوديًّا. ويتبع هذه الشهادة أنها تكون أحقّ في الواقع ونفس الأمر بالحكم في البلاد، وتُعذر في التشوّف إلى الاستقلال، وتكون مصيبة في تسمية نفسها ( أمة )، وحقيقة بأن تكون في المستقبل ذات دولة، ويقال: إنها تطمع في ذلك، فإن صحّ ما قيل كان برهانًا على عُلُوّ همّتها، وثقتها بنفسها في وحدتها.
وخلاصة القول أن طائفة القبط قامت تطلب مطالبَ لنفسها مِن حيثُ هي أمة ومن حيث هي صاحبة الحق في حكم البلاد، وظهر أنها فيه متكافلة متضامنة متحدة، فناقشها أفراد من المسلمين بصفتهم الشخصية لا باسم حزب من الأحزاب، ولا جمعية من الجمعيات، ووافقها بعض آخر كما وافقتها الأحزاب، وهي مع ذلك تنسب مناقشة الفرد إلى الحزب أو إلى الأمة.
وقد استعمل بعض الكاتبين من الفريقين الهُجر والسباب، والتنابز بالألقاب، فكانوا فيه سواءً، إلا ما هو من صناعة البلغاء، ولكن القبط تطلب أن يعتذر لها الجميع عن الأفراد، وهي لا تعتذر للجميع عما تقول بلسان الجميع، فإذا قلنا: إن الفريقين قد تعادلا في الإهانة فتساقطا، فليس لأحد حق في ذلك على آخر بقي معنا أنه ليس في البلاد وطنية حقيقية، وأنه لا يزال يغلب على الفريقين نزعة الرابطة الدينية ( وإن تنصل من ذلك كل منهما ) وأن هذه الحركة أضعفت ما قام بعض الأحزاب والأفراد من الدعوة إلى المساواة والاتحاد، وأن القبط أعرق في النزعة المِلِّيَّة، وأبعد عن حقيقة الوطنية؛ إذ من مقتضى الوطنية أن لا يطلبوا لأنفسهم شيئًا مِن حيثُ هم قبط، وأن لا يسموا أنفسهم أُمّة، وأن لا يتعصبَ بعضُهم لبعض في المصالح والأعمال، كما يعرف كل أحد منهم الآن، وأن يرضوا بما تختاره الحكومة من التدريج في نقل البلاد من حال إلى حال، أو يكتفوا ببث رغائبهم إلى وزيرهم الناصح لهم، الغَيُور عليهم، المتفاني في ترقيتهم، وهو لا يدع فرصة يتمكن فيها من إعطائهم حقًّا جديدًا إلا وينتهزها انتهازًا، ويجعلها سيفًا في يده لا عكّازًا.
وإذا كان الأمر كذلك في الوطنية، وفي هذه الحركة القبطية، فما هو تأثيره في رَغِيبة المسلمين، وهي المجلس النيابي، وفي رغيبة القبط، وهي نيل ما بقي من أعمال الحكومة بين الوزارة والقضاء، كالمديرية ومأمورية المركز؟.
أمّا الأول، فمِن الجَلِيّ الواضح أن ضعف الوطنية لا يقتضي أن تبقى حكومة البلاد استبدادية؛ لأن حكومة الشورى أبعد من الحكومة الشخصية المطلقة عن الظلم غالبًا؛ ولذلك فرح مسلمو روسيا بإنشاء مجلس النواب ( الدوما ) في حكومتهم على قِلّتهم في جانب الروس المشهورين بالتعصب. على أنه إذا فرض أن الحكومة الشخصية المطلقة خير للقبط من جهة التمتع بالوظائف فإن ذلك الحظّ الذي يصيب أفرادًا مِن فِئَةٍ قليلة في الأمة الكبيرة لا يصلح مرجحًا لعدم ترقية حكومتها؛ لأن ذلك ترجيح للأفراد القلائل على الجمهور الكبير، فهو من قبيل ترجيح المصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
وأما الثاني، فإذا فرضنا أن حكومة مصر خرجت عن كونها إسلاميةً، والبلاد عن كونها دارَ إسلامٍ فمن السياسة والحكمة في الإدارة أن لا يكونَ القبطي الآن مديرًا في مديرية فيها مِئات الألوف من المسلمين، وليس فيها إلا آحاد الألوف أو الْمِئِين من القبط، وأن ينتظر في ذلك تكوُّن الوطنية الحقيقية التي تمتزج فيها جميع العناصر المصرية، فلا ينزع أحد منها إلى الامتياز بجنسه ونسبه، ولا بدينه ومذهبه، فإن استعجلنا فجعلنا القبط مديرين لأمور المسلمين، والحال على ما نعلم منهما أو ما يدعي كل منهما - فإننا نكون قد أثرنا العدوان، وأرَّثنا الأضغان، ووضعنا في طريق الوطنية سدًّا لا يدك ولا يظْهَر، وعقبة لا تزول ولا تقتحم، أو قدمنا النتيجة على المقدمات، وطلبنا الثمرةَ قبل خروج الشجرة.
فالمعقول إذًا أن تكون حركة القبط الجديدة مبعدةً لهم عن مطلبهم الظاهر، ولكن ربما لا تكون مبعدةً عن غرضهم الباطن، والله أعلمُ بالسرائر، وإنما نحن نحكم بالظواهر، وهذا ما رآه الكاتب فيه من الصواب، فإنْ تبيَّنَ له أنه مُخطئ فيه بادَرَ إلى المَتَاب، واسْتَغْفَرَ ربَّه، وخَرَّ راكعًا وأَنَابَ.
هامش
- ↑ مما كتبوه من التحرش باللواء والحزب الوطني قبل مقالة الشيخ عبد العزيز التي جعلوها تُكَأَتَهم في إثبات ذلك الخطر المزعوم من تعصب المسلمين على النصارى ما جاء في العدد 3698 من جريدة مصر الصادر في 9 يونيو الماضي، وهذا نصه: اللواء والأقباط ( إننا بالنيابة عن جميع الأقباط في كافة أنحاء القطر نقابل ما جاء بصحيفة اللواء أمس من الوقاحة والسفاهة بالازدراء والاحتقار؛ فإنه إذا بلغ المرْء مبلغ اللواء من قلة الأدب والحياء نحو شعور أمة برمتها لم يجد من الناس من يصغى إلى قوله، أو يلتفت إلى وقاحته، بل ينبذ نبذ النواة، ويترك ينبح نبح الكلاب، وليس من يسمع له قولا )، ثم استشهدت جريدة مصر على أن القبط كلهم على هذا الرأي بالتلغرافات الكثيرة لما تكتبه وعبرت عنه بقولها: ( في خدمة الوطنية والحق اللذين خلق ( أي: اللواء ) لهما عدوًّا ليخزى هو وأتباعه ( أي: الحزب الوطني وسائر محبي اللواء) إذا كان من القوم المدركين ) ولم يكن اللواء كتب شيئًا بلسان الحزب الوطني ولا بلسانه.