مقالات مجلة المنار/شبهات المسيحيين على الإسلام وحجج الإسلام على المسيحيين/2
النبذة السادسة
[عدل]لو أراد الإنسان أن يناقش هؤلاء المسيحيين الذين يؤلفون الكتب في دعوة المسلمين إلى النصرانية، ويحكم العلم في مصنفاتهم، فيرد على كل خطأ يجب رده لاحتاج أن يكتب على كل صحيفة من صحائفهم السوداء كتابًا مستقلا؛ لأنهم يرمون الكلام على عَوَاهنه فيخطئون من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون، ويتعمدون الإيهام والتغرير لأنهم يكتبون للعامة الذين لا يدققون.
يقول صاحب كتاب ( أبحاث ) الجدليين لا ( المجتهدين ) في الفصل الأول من البحث الأول إنه يثبت صحة التوراة والإنجيل ( بالحجة الدامغة والبرهان المنطقي ) ثم يورد الآيات القرآنية وهي عنده جدلية لا منطقية ويحرفها عن معناها كما حرَّف هو وسلفه التوراة والإنجيل، وقد بيَّنا من قبل معنى التوراة والإنجيل وإثبات القرآن لهما، وكون هذا الإثبات لا ينافي إرسال نبي آخر بشريعة جديدة أكمل منها، وبيَّنا أيضا وجه كون الديانة الإسلامية أصلح لحال البشر وأهدى لسعادتهم، بل وبيَّنا كيف أبطل بولس شريعة التوراة والإنجيل وجعل المسيحية إباحية لا قيمة فيها للعمل الصالح؛ وإنما العمدة فيها على الإيمان بأن المسيح جاء ليخلص العالم.
فكيف جاز عند محبينا من دعاة المسيحيين أن يبطل هذا الرجل اليهودي بذلاقة لسانه وخلابته شريعة موسى و عيسى عليهما الصلاة والسلام، ولا يجوز في نظرهم أن يرسل الله محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام بالبراهين العقلية فيصدق المرسلين، ويقضي على المارقين، ويؤنب المحرِّفين، ويبين الحق في اختلاف المختلفين، ويخاطب اليهود والمسيحيين، بمثل ما خاطب عيسى الكتبة والفريسيين بأنهم لم يقيموا الكتاب، بل أخذوا بالقشر وتركوا اللباب، وأنهم لو أقاموه لما ساءت حالهم، ولما وجب خزيهم ونكالهم؛ ولكن اليهود والنصارى كانوا في زمن البعثة في أشد الخزي والنكال، وعند آخر طرف من الغواية والضلال؛ ولذلك تقلص بشمس الإسلام ظل سلطانهم بعد حين { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } ( الروم: 47 ).
أورد صاحب الأبحاث سبع آيات من القرآن المجيد، وقال إن الآية الأولى تفيد أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس، نعم وقد اهتدى بهما من قبل أقوام فسعدوا، ثم حرَّفوا وفسقوا، وانحرفوا فشقوا، حتى جاء الإسلام بالهداية الكبرى، والحجة العظمى، فاهتدى به بعضهم فسعدوا وسادوا على الآخرين، وكانوا مع أهله الأعلين ما كانوا به مهتدين.
وقال إن الآية الثانية وهي: { يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } ( المائدة: 68 ) تبين صحتهما، وهو كذلك ولكن للآية تتمة لم يذكرها المصنف؛ لأنه غير منصف وهي قوله: { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } ( المائدة: 68 ) فكأنه يأمرنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض كما فعل هو ومن على شاكلته بالتوراة، والمراد بما أُنزل إليهم من ربهم القرآن؛ فإنه لم ينزل بعد التوراة والإنجيل غيره، فالله تعالى يأمر أهل الكتاب بأن يكونوا مسلمين يؤمنون بالكتب كلها، ويبين أن تعللهم واحتجاجهم على عدم اتِّباع القرآن بأنهم أصحاب كتاب سماوي لا حاجة لهم بغيره احتجاج باطل وتعلل كاذب؛ لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل وأوضح هذا بالآيات الأخرى الناطقة بأنهم حرَّفوا، وبأنهم نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به، وأنهم لو أقاموهما لما حل بهم الخزي والنكال { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ( المائدة: 66 ) وكذلك وقع لإخوانهم الذين أسلموا فقد فازوا ببركات السماء والأرض، وتتمة الآية التي نحن بصددها { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانا وَكُفْرا فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ } ( المائدة: 68 ) وهذه الحجة قائمة عليهم إلى يوم القيامة؛ فإن هؤلاء الدعاة يخدعون عوام المسلمين بوجوب اتِّباع التوراة ويوهمونهم أنهم متبعون لها، ويقول صاحب الأبحاث أن محمدا يطلب إقامة حدودها، ولا يوجد في الدنيا نصراني يقيم حدًّا من حدود التوراة أو يعمل بأحكامها في العبادات والمعاملات، فما لهم يشفقون على المسلمين وينصحون لهم بإقامة هذه الحدود ولا ينصحون لأنفسهم ولا يشفقون عليها؟
وقال: والثالثة تبين أن الإنجيل مُنَزَّل من عند الله، وأن محمدا راضخ لأحكامه، والآية الثالثة هي قوله تعالى: { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ } ( المائدة: 47 ) وليس فيها إخبار بأن محمدا عليه الصلاة والسلام راضخ لأحكامه؛ ولكن هؤلاء الناس يستبيحون أن يُحَمِّلوا الآيات ما لا تحمله لتأييد أهوائهم، وبذلك أفسدوا كتبهم وجاءوا يفسدون علينا كتابنا؛ ولكن الله حفظه من التحريف والتبديل، في الآية قراءتان إحداهما بكسر لام ( وليحكم ) وهي متعلقة بقوله تعالى قبلها: { وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ } ( المائدة: 46 ) أي أعطينا عيسى الإنجيل ليحكم أهله فيه، وأهله هم بنو إسرائيل لأن القرآن أخبرنا بأنه أرسل إلى بني إسرائيل فعرف أنهم أهله، وكذلك الإنجيل الذي عندهم الآن يقول إن المسيح قال: ( لم أبعث إلا إلى خراف إسرائيل الضالة ).
والقراءة الثانية بسكون اللام، وهي حكاية للأمر السابق عند الإتيان، أي آتيناه الإنجيل وأمرنا من أرسل إليهم بالعمل به، ويحتمل اللفظ أن يكون أمرًا مبتدأ ورد على سبيل الاحتجاج على النصارى بعدم العمل بالإنجيل المُصَدِّق للتوارة والمقتضي للعمل بها على ما تقدم بيانه آنفًا، وإذا جاز لدعاة المسيحيين اليوم أن يحتجوا على المسلمين بأن القرآن يأمرهم بالإيمان والعمل بالتوراة والإنجيل ولا يرون هذا الاحتجاج مقتضيًا لإيمانهم بالقرآن، فكيف يدعون أن أمر محمد ﷺ لهم بالحكم بالإنجيل يستلزم أن يكون هو راضخًا لأحكامه.
يتصل الكلام
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش