مقالات مجلة المنار/بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد/4
الفصل الثالث: في التوراة والإنجيل
[عدل]التوراة كلمة عبرية معناها الشريعة، وتطلق في الأصل على كل ما أوحاه الله تعالى إلى موسى - عليه السلام - ليبلغه للناس من مواعظ وقصص وشرائع وغير ذلك، وسميت كل هذه الأشياء بالتوراة؛ لأن أعظم شيء فيها هو ( الشريعة ).
ويرى الناظر في كتب العهد القديم أن موسى- عليه السلام - اعتنى بشريعته اعتناءً كليًّا وجزئيًّا حتى إنه أعاد تبليغ هذه الشريعة لبني إسرائيل بعد أن بلغها لهم المرة الأولى، وكتبها لهم بنفسه وسلمها لهم مكتوبة هي والوصايا العشر التي كانت مكتوبة بقلم القدرة الإلهية على لوحين من الحجر وأمرهم بحفظها، وشدد عليهم في ذلك تشديدًا عظيمًا، والشريعة الموسوية هذه مع الوصايا العشر توجد ملخصة في كتاب على حدتها يسمى الآن ( سفر التثنية ) لأن موسى أعادها فيه كما قلنا بعد أن كان بلغها لهم من قبل، وهذا السفر يسمى في العهد القديم سفر التوراة وسفر الشريعة ( تث 30: 10 و31: 9 و11 و12 و24 وتحميا ص 7: 8 ودا 9: 13 و2 أي 25: 4 ) ولا يوجد عند أهل الكتاب دليل على أن موسى كتب الأسفار الأخرى المنسوبة إليه غير سفر التثنية.
وهذا السِّفر حافظت عليه الأمة اليهودية محافظة شديدة ( إلا في أوقات ارتدادها وكثيرة هي ) لأنه كان مرجع جميع الأنبياء من عهد موسى - عليه السلام - إلى عيسى - عليه السلام - ومن راجع هذا السفر ظهر له أنه لم يدخله شيء يذكر مما دخل غيره من الفساد الكبير، نعم قد زيد عليه الإصحاح الأخير منه المتعلق بموت موسى - عليه السلام - وغلط في عده الأرنب الجبلي من الحيوانات المجترة ( 14: 7 ) وربما زيد عليه بعض كلمات قليلة في أوله، وما عدا ذلك يمكننا أن نقول: إن جل ما جاء فيه هو من التوراة الحقيقية ( أو هو ملخص الشريعة الموسوية ) التي أوحاها الله تعالى إلى موسى، وهذا السفر هوالذي كان معروفًا بين بني إسرائيل ( باسم التوراة ) و ( سفر الشريعة ) كما يظهر من باقي كتب العهد العتيق، ويعرف أيضا في العهد الجديد بالناموس 1 ( متى 22: 40 ).
أما باقي الكتب المنسوبة إلى موسى - عليه السلام - فلم تسم ( بالتوراة ) ولا ( بسفر الشريعة ) بين اليهود الأقدمين كما هو ظاهر من كتب العهد القديم، والغالب أنها ما كانت كثيرة التداول بينهم قبل أسر بابل، ولا كانت معروفة لجميع الناس اللهم إلا الشرائع التي تتضمنها هذه الكتب، فالظاهر أن فسادها قليل جدًّا كالكلام على اجترار الأرنب الجبلي مع أنه لا يجتر ( تث 14: 7 ولا 11: 6 ) ومثل شريعة برص الثياب ( لا 13: 47 - 51 ) وبرص البيوت ( لا 14: 33 إلى 55 ) فإنها كلها شريعة لا فائدة منها ولا يفهم أحد لها معنى للآن.
ولا ننكر أن موسى - عليه السلام - بلغهم كثيرًا من القصص التي في تلك الكتب ولكنه لم يكتبها لهم، فهي بمنزلة الأحاديث عندنا، ويجوز أن يكون بعض الناس كتب شيئًا منها في زمنه عليه السلام، كما كُتب بعض الأحاديث في زمن النبي ﷺ قبل أن ينهى عن كتابتها، وكثير مما في هذه الكتب من التواريخ قد حضره بنو إسرائيل بأنفهسم وعلموه، فهو لا يحتاج لتبليغ موسى بل تناقله اليهود بينهم بالروايات الشفوية أو بكتابة بعضه كما قلنا، فدخله كثير من التحريف والتبديل والنقص والزيادة.
وقبل سبي بابل لم تجتمع هذه الكتب على هيئتها الحاضرة كما جزم بذلك علماؤهم ( راجع قاموس الكتاب المقدس لبوست مجلد 1 ص 559 ) ولا يعرف باليقين من كتب الأسفار الأخرى غير سفر التثنية، والظاهر أنها كتبت في أوقات مختلفة وتم وجودها بين اليهود قبل سنة 720 ق. م أي قبل وجود السامريين، وكانت جمعت من الرويات الشفوية ومن بعض المحفوظات القديمة المكتوبة، فهي ككتب السير والتواريخ عند المسلمين، وليست متواترة عند اليهود بخلاف سفر الشريعة ( التوراة ) الذي كانت الأنبياء تقيم أحكامه من عهد موسى إلى عيسى عليهما السلام ( انظر متى 5: 17 و18 ).
وقد استدل كثير من العلماء بوجود بعض عبارات من حوادث متأخرة، ومن وجود بعض أسماء لم تكن معروفة في زمن موسى، بل حدثت بعده، أنه عليه السلام لم يكتب كل هذه الأسفار المنسوبة إليه ( راجع كتاب إظهار الحق تجد من ذلك كثيرًا، وكتابنا الدين في نظر العقل الصحيح، فقد ذكرنا فيه بعض هذه الشواهد ).
قال الدكتور بوست في قاموسه صفحة 432 مجلد أول: ( إنه من المؤكد أن موسى - عليه السلام - لم يكن يعرف دان ( تك 14: 14 ) ولا حبرون ( 37: 14 ) ( بهذين الاسمين ) اهـ؛ فهما من الأسماء التي استجدت بعده ووجودهما في هذه الأسفار، مما يدل على أن واحدًا غيره كتبها بعد وفاته أو غيَّرهما فيها.
ونحن نستدل أيضا من ذكر لفظ ( الله ) فيها بالجمع ( تك 1: 1 ) 2 وذكر مصارعة الله ليعقوب ( تك 32: 24 - 29 ) وقصة زنا لوط 3 بابنتيه، وشربه الخمر وسردها بطريقة لا تشعر بشناعتها وبشاعتها ( تك 19: 30 - 38 ) وندم الله تعالى على خلقه الإنسان، وحزنه لذلك ( تك 6: 6 )، وقصة الحية وأكلها التراب ( تك 3: 14 )، والكلام على برص الثياب والبيوت ( لا 14: 55 ) وغير ذلك، نستدل بهذا أن موسى ما كتب هذه الكتب، بل كتبها أناس مجهولون في أزمنة مختلفة، وما ذكرناه من سفر التكوين يدل على أن الذي كتبه رجل لم يقدِّر الله تعالى حق قدره ولا أنبياءه، وربما كان مشركًا به أي من اليهود المرتدين الذين عبدوا الأصنام، ولا مانع من أن اليهود حوروه بعد ذلك وتوسعوا فيه.
فهذه الكتب الأربعة المنسوبة لموسى - عليه السلام - تشتمل على تاريخ اليهود منذ الخليقة إلى زمن موسى، وبعض رواياتها صحيح والبعض الآخر كذب أو خطأ فلذا لا نعول عليها.
وكما نسبوا إليه هذه الكتب نسبوا إليه غيرها ومثل ( كتاب المشاهدات وكتاب التكوين الصغير وكتاب المعراج وكتاب الأسرار وكتاب الإقرار ) وكتاب التكوين الصغير هذا كان باللسان العبري إلى المائة الرابعة بعد المسيح، واستشهد به بعض النصارى الأولين، وترجمته كانت موجودة إلى القرن السادس عشر، ثم رفضوه ففقد، ويجوز أن هذه الكتب المذكورة هنا كانت تشتمل على بعض روايات صحيحة عن موسى عليه السلام.
ومما فقد أيضا من الكتب المنسوبة لموسى عليه السلام كتاب يسمى ( حروب الرب ) ذكر اسمه في سفر العدد 21: 14 ولا وجود له الآن، وكذلك ضاع كلامه عن البعث والنشور، فلا يوجد في هذه الأسفار ذكر لهذه العقيدة الكبرى التي تضارع الإيمان بالله ولا يعقل أن موسى لم يخبرهم بها صراحة.
والخلاصة أن شريعة موسى - عليه السلام - ( التوراة بالمعنى الأصلي ) أو ملخصها موجودة مع شيء قليل جدًّا من الغلط كما بينا، وتكاد تكون متواترة بين اليهود في سفر التثنية لولا كثرة ارتدادهم، وأما باقي الكتب فهي تشتمل على روايات منها الصحيح ومنها الكاذب ومنها الغلط.
فتوراة موسى بالمعنى الأعم ( أي كل ما أوحي إليه وبلغه إلى الناس ) لم تصل إلينا، بل بعضها فقد وبعضها زيد فيه وبعضها تحرف فهي كالأحاديث عند المسلمين.
وبعد سنة 721 ق. م أي بعد انقراض مملكة إسرائيل وجد السامريون، وكانت الوثنية فاشية في آبائهم وفيهم وما كانوا يهتمون بالتوراة، ولكنهم بعد ذلك اتخذوا لهم نسخة من هذه الكتب تشتمل على الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى وعلى سفري يشوع والقضاة، وتختلف نسختهم عن نسخة اليهود العبرية في كثير من المواضع: كأعمار القدماء وكجبلي جرزيم وعيبال، ويوجد في السامرية وصية زيادة عن الوصايا العشر 4 .
وفي سنة 285 ق. م اجتمعت لجنة من اليهود بأمر بطليموس فيلادلفوس، وترجموا ما عندهم من الكتب العبرية إلى اللغة اليونانية، وكان عددهم 72 نفرًا وسميت هذه الترجمة بالترجمة السبعينية أواليونانية، وكانت تشتمل على كثير من الكتب الأبوكريفية ( أي غير القانونية ) وهذه الترجمة كانت مستعملة بين النصارى من عهد وجودهم إلى القرن الخامس عشر وهي الآن مستعملة في الكنيسة الشرقية، وبينها وبين العبرية اختلافات كثيرة في كثير من العبارات والفقرات والألفاظ، ومع ذلك لم يقتبس مؤلفو العهد الجديد إلا منها وكانت أيضا محترمة عند اليهود.
أما هذه الكتب الأبوكريفية ( أي المكذوبة الموضوعة ) بحسب اعتقاد البروتستنت فهي أربعة عشر ( 1 ) اسدراس الأول ( 2 ) اسدراس الثاني ( 3 ) طوبيت ( 4 ) يهوديت ( 5 ) بقية إصحاحات سفر استير غير الموجودة في العبراني والكلداني ( 6 ) حكمة سليمان ( 7 ) حكمة يشوع بن سيراخ ( 8 ) باروخ ( 9 ) نشيد الثلاية الفتية المقدسين والإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر دانيال ( 10 ) تاريخ سوسنة ( 11 ) تاريخ انقلاب بيل والتنين ( 12 ) صلاة منسى ملك يهوذا ( 13 ) مكابيين1 و ( 14 ) مكابيين 2، وهذه الكتب موجودة في الترجمة السبعينية كما قلنا وفى الترجمة اللاتينية وفي التوراة الكاثوليكية الرومانية، وكانت مسلَّمة عند جميع فرق النصارى قبل وجود البروتستنت ما عدا كتابي اسدراس وصلاة منسى، ولا تزال كذلك إلى اليوم عند الأرثوذكس والكاثوليك.
وأما أبوكريفا العهد الجديد فتحتوى على كثير من الأناجيل والرسائل وعددها 74 كتابًا، ولا يعتقد فيها النصارى الآن وكانت قديمًا منسوبة إلى المسيح - عليه السلام - وإلى تلاميذه وإلى بولس، فانظر كيف كان هؤلاء الناس يدسون الكتب الكثيرة بين كتب الله!
أما كلمة ( الإنجيل ) فهي يونانية ومعناها البشارة، وسمي الوحي إلى عيسى بذلك؛ لأنه جاء مبشرًا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال تعالى عن لسانه: { وَمُبَشِّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } ( الصف: 6 )، فعيسى - عليه السلام - بَشَّرَ الناس بقرب مجيء خاتم النبيين لهم بأكمل شريعة وأرقى دين لأرقى أطوار البشر وأنسب شريعة لطبيعة الإنسان في كل زمان ومكان، والتي ترفع ما وضع على الأمم السابقة من الإصر والأغلال، وأجمع دين لمصالح الدنيا والآخرة ولحاجات الروح والجسد، فقال عليه السلام: ( يو16: 12 - 14 إن لي أمورًا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن 13، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية 14 ذاك يمجدني؛ لأنه يأخذ مما لي ويخبركم ).
وكان عيسى - عليه السلام - وتلاميذه يبشرون دائمًا بمملكة محمد ﷺ، تلك المملكة المجيدة الجليلة التي زانها الحق وعبادة الله تعالى وحده؛ فلذا سماها المسيح ( ملكوت السماوات ) و ( ملكوت الله ) لأنها مملكته تعالى في الأرض وقانونها هو كتابه ورؤساؤها هم خلفاؤه ( راجع إنجيل متى 3: 2 و4: 17 و23 و6: 15 و13: 31 و32 و20: 1 - 16 و21: 33 - 44 ولوقا 10: 9 و11 ) وهم الصديقون الذين يرِثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد ( مزمور 37: 29 ) ويدخلون باب الرب ( مز 118: 20 ) ومملكتهم هي المملكة التي لا تنقرض أبدًا كما قال دانيال ( 2: 44 ) وتفنى مملكتي الفرس والرومان ( راجع فصل البشائر ).
فلذلك سمي الوحي إلى عيسى - عليه السلام - بالبشارة؛ لأن أعجب شيء فيه وأعظمه إنما هو البشارة بمحمد ﷺ، وقرب مجيئه وهو الذي كانت تنتظره الأمم من قديم الزمان، وهو مشتهى كل الأمم ( حجي 2: 7 ) الذي به مُلئ بيت أورشليم مجدًا وعمرانًا، وعادت إليه عبادة الله بدون شرك ولا تشبه، وبمجيئه يعلم قرب مجيء يوم الدين، يوم القصاص العادل بين عباد الله أجمعين وإنصاف المظلومين، ورحمة المتقين الصابرين وخلاص المؤمنين.
هذا والإنجيل لم يكتب في زمن عيسى عليه السلام، وبعد زمنه بقليل وجدت أناجيل عديدة ( لوقا 1: 1-3 ) تشمل كثيرًا من أقواله وأفعاله مع زيادة ونقصان وتحريف وتبديل وكذب، فاختارت النصارى منها أربعة لا يعرف باليقين من كتبها؟ ومتى كتبت، وهي منسوبة لمتى ومرقص ولوقا ويوحنا، واثنان من هؤلاء من الحواريين كما يقولون، واثنان ليسا منهم وهما مرقص ولوقا، وهذه الأناجيل مختلفة اختلافًا عظيمًا، ومشتملة على كثير من الخطأ والغلط والوهم، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في كتابنا ( الدين في نظر العقل الصحيح ) واستقصى هذه المسألة كتاب إظهار الحق فليراجعه من شاء.
وهذه الأناجيل الحالية كتب أصلها باللغة اليونانية ما عدا إنجيل متى فإنه كان بالعبرية كما اتفقت على ذلك شهادة جميع الآباء من النصارى الأقدمين، ولكنه فقد وبقيت ترجمته اليونانية، ولا يعرف من ترجمها؟ ولا متى ترجمت؟ وقولهم: إن متى كتبه أيضا باليونانية، لا يوجد عليه دليل عندهم، وإنما هو ظن لا يوثق به ولم يقل بذلك أحد من قدمائهم.
واعلم أنه لا يوجد عند أهل الكتاب نسخة عبرية من كتبهم قبل القرن العاشر، وأهم ما عندهم من النسخ اليونانية القديمة ثلاث:
( 1 ) النسخة السينائية، ويظنون أنها كتبت في القرن الرابع.
( 2 ) والنسخة الفاتيكانية، ويقال: إنها كتبت في القرن الرابع أيضا.
( 3 ) والنسخة الإسكندرية، ويظنون أنها كتبت في الخامس.
ولا دليل لهم قاطعًا على شيء من هذه الظنون، واختلف علماؤهم في ذلك اختلافًا كبيرًا.
أما السينائية: فوجدت في دير طور سيناء، وتشتمل على كتب العهد الجديد وجزء من العهد القديم، وهي توجد الآن في بطرسبورج.
وأما الفاتيكانية: فوجدت في مكتبة البابا بالفاتيكان برومة، وفيها العهد القديم والجديد ولا تزال برومة.
وأما الثالثة: فوجدت في الإسكندرية، وتشتمل على العهدين مع كتب أخرى غير قانونية، وتوجد الآن في لندن.
ولما قابلوا الكتب التي في أيديهم على هذه النسخ القديمة وُجِدَ بينها ألوف من الاختلافات بالزيادة والنقص والتبديل، وهم يقولون: إنها اختلافات طفيفة وليست جوهرية، ولكنا نورد هنا شيئًا من هذه الاختلافات التي نقول: إنها هامة:
( 1 ) ما في مرقص 16: 9 - 20 وهذه العبارات تتضمن ظهور المسيح بعد قيامته لتلاميذه ودعوة العالم كله للنصرانية وغير ذلك، وهي غير موجودة في النسخة السينائية ولا في الفاتيكانية، وعليها علامات الريب في نسخ أخرى قديمة، وأنكرها في القرن الرابع كل من أوسابيوس وأبرونيموس.
( 2 ) ما في يوحنا 7: 53 - 8: 11 وهو قصة عدم رجم المسيح للزانية وهي غير موجودة في أكثر النسخ القديمة ولا في السينائية والإسكندرية والفاتيكانية.
( 3 ) ما في رسالة يوحنا الأولى 5: 7 وهي العبارة الصريحة الوحيدة في عقيدة التثليث 5 وهي غير موجودة في النسخ القديمة ولا بمعتبرة، وعند أكثر المحققين منهم أنها زائدة؛ ولذا يضعونها في نسخهم بين قوسين إشارة لذلك، فهذا شيء من الاختلافات التي يقولون عنها: إنها طفيفة.
قال صاحب كتاب ( الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية ): إن من هذه الاختلافات:
( 1 ) ما نتج من فقد جملة صحيحة من النسخة.
( 2 ) ما نتج من مخالفة ترتيب الكلمات.
( 3 ) ما نتج من وضع الكُتَّاب خطأ كلمة عوضًا عن أخرى، إذ لا تختلفان إلا في حرف أو اثنين.
( 4 ) ما نتج من إدخال عبارات أو جمل كاملة من ( بشارة ) أو اثنتين إلى الثالثة لجعل الأناجيل متشابهة.
( 5 ) ما نتج من قصد النساخ أن يجعلوا الاقتباسات من العهد القديم في الجديد مضبوطة.
( 6 ) ما نتج من استبدال بعض جمل بأخرى كانت في الحاشية.
( 7 ) ما نتج من استبدال بعض الألفاظ القديمة بغيرها من الحديثة.
( 8 ) ما نتج من تبديل أوحذف كلمات تحدث تغييرًا طفيفًا في المعنى.
( 9 ) ما نتج من إهمال بعض النساخ في وضع أو ترك أداة التعريف.
انتهى باختصار ( راجع ص 56 و57 و58 و59 ) من الكتاب المذكور، وقال في ص 101 و102 عن قول متى ( 23: 35 ) أن زكريا بن برخيا ( إن المذكور في كتاب أخبار الأيام الثاني 24: 20 و21 أن زكريا بن يهوداع هو الذي قتل، وأما ابن برخيا فلا يعرف أنه قتل، فالأرجح أن ذكر اسم الأب هنا من خطأ الكاتب ) اهـ باختصار.
فأي برهان يا قوم على تلاعب النصارى بكتبهم أصرَح مما ذكر؟، وهل بعد ذلك نثق بأي شيء فيها مع أنها مملوءة بخطأ الكُتّاب باعترافهم؟ أضف إلى ذلك أن هذه الكتب ما كانت محفوظة في الصدور، وقل منهم من كان يعرف كل ما فيها وما كانت نسخها كثيرة؛ لجهلهم في الأزمنة القديمة، وما كانت نسخها بأيدي العامة من الناس؛ فلذا كان مجال التحريف والتبديل واسعًا، ولذلك نرى أن غلط النساخ وتحريفهم انتشر فيما بعد في جميع نسخهم، ولولا وجود تلك النسخ القديمة لما عرفوا ذلك.
فما يُدرينا أن النسخ التي كانت قبل التي وجدوها وقع فيها مثل هذه التحريفات أيضا؟ ومن يضمن صحة نسبة هذه الكتب إلى أربابها مع أنه كان لهم كتب مثلها كثيرة، وقالوا: إنها غير قانونية ورفضوها؟ ومن يثبت لنا صدق كَتَبَتها وعصمتهم من الخطأ والغلط؟ كيف وإننا نرى فيها كثيرًا من الغلط كما تقدمت الإشارة إلى بعضه، ويظهر من بعض عبارات كتبهم كمقدمة إنجيل لوقا 1: 1 -4 أنها لم تكتب بالإلهام بل بالاجتهاد.
والخلاصة: أن هذه الأناجيل لا يثق المسلمون بشيء منها الآن، وهم لا يعتدُّون إلا بما قاله المسيح نفسه، وثبت لهم أنه وصل إليهم بدون تحريف ولا تبديل وهيهات أن يثبت ذلك.
وكما حرفت النصارى الأناجيل وغيرها كذلك دست على يوسيفوس المؤرخ اليهودي الشهير في ( التاريخ القديم ) كتاب 18 فصل 3 رأس 3 عبارة مقتضاها ( أنه يجوز أن عيسى لم يكن إنسانًا وأنه صلب، وقام من الموت في اليوم الثالث )، وقد جزم المحققون منهم بأن هذه العبارة مدسوسة عليه وأنه لم يكتبها، بل إن يوسيفوس سكت عن سيرة المسيح بأكملها، ولم يشر إليه إشارة تذكر ( راجع أيضا ما قالته دائرة المعارف الإنكليزية في هذا الموضوع ) وللعلماء الذين أنكروا صحة عبارة يوسيفوس هذه أدلة كثيرة يطول بنا شرحها في مثل هذا الكتاب، وأهمها أنها لم تكن معروفة لأوريجانوس المتوفى سنة 254 بعد الميلاد، وهوالذي كان صارفًا همه كله إلى جمع كل ما جاء في تاريخ يوسيفوس عن المسيح عليه السلام، ومع ذلك لم يذكر هذه العبارة، فإذا كانت موجودة في أيامه في التاريخ المذكور فلمَ تركها وهي من الأهمية بمكان عظيم؟
فترى النصارى كما حرفوا كتب قدمائهم - كما اعترف بذلك لاردنر في تفسيره، وآدم كلارك ويوسى بيس في تاريخه وغيرهم كثيرون - كذلك حرفوا كتب اليهود، فزادوا في تاريخ يوسيفوس ما رأوه يؤيد دعاويهم، ومن ذلك يظهر لنا أن اليهود كانوا في غاية الجهل والضعف والتفرق والذل والبعد عن البحث والقدرة على المعارضة لدرجة جعلت النصارى تلعب بكتبهم كما شاءوا، فلا يبعد أنهم حرفوا أيضا أشياء في كتبهم المقدسة من غير أن يعرفوها أو يجرؤوا على المعارضة.
وإذا كان هذا حالهم باعتراف علمائهم، فهل بعد ذلك نثق بأي شيء نقلوه في دينهم وهم يحرفون فيه ما أرادوا أن يحرفوه، ولو كان موجودًا عند اليهود أيضا؟
وقد بين هورن في الباب الثامن من المجلد الثاني من تفسيره أسباب اختلافات نسخهم بمثل ما نقلناه هنا عن ( كتاب الأدلة السنية على صدق الديانة المسيحية ) ومما زاده أنهم كانوا أحيانًا يحرفون قصدًا؛ لأجل تأييد مسألة أو دفع اعتراض وقال: ( إنهم كانوا تركوا قصدًا العدد 43 من الإصحاح 22 من إنجيل لوقا ) وهو قوله: ( وظهر له ملاك من السماء يقويه ) لأن بعضهم خشي أن تكون تقوية الملك للمسيح منافية لألوهيته انتهى باختصار 6 .
فإن قيل: إذا كانت كتب اليهود الأخرى المنسوبة لموسى غير سفر التثنية ليست صحيحة، فلماذا لم يوبخ المسيح - عليه السلام - اليهود عليها؟ قلت
. ( يتلى )
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش
- ↑ حاشية: (الناموس) كلمة يونانية معناها أيضا (الشريعة) وكانت في الأصل عند اليهود الأقدمين تطلق خاصة على سفر الشريعة أوالتوراة (وهوالمسمى الآن بالتثنية) ولكن توسع فيها اليهود المعاصرون للمسيح والذين بعده، وصاروا يطلقونها أيضا على أي كتاب من كتب العهد القديم ولوكان خاليًا من الشريعة كالمزامير (راجع إنجيل يوحنا 12: 34) ومن ذلك نشأ عند أهل الكتاب من العرب إطلاق لفظ (التوراة) على كتب العهد القديم كلها سواء كانت لموسى أو لغيره، وعليه فيجوز في بعض المواضع من القرآن أن يذكر لفظ التوراة بهذا الاصطلاح ويريد بها كتابًا آخر من كتب أنبياء بني إسرائيل، فإذا قال القرآن الشريف: إن كذا وكذا موجود في التوراة ولم نجده في (سفر التثنية) كان ذلك مما فُقد من كتب موسى كما سيأتي أو كان موجودًا في كتاب آخر من كتب أنبياء بني إسرائيل الموجودة الآن أو المفقودة، فتنبه لذلك تسلم من الخلط والخبط
- ↑ حاشية: اعلم أن النصارى تتخذ مثل هذه العبارة (وهي ذكر الله بلفظ الجمع في العبرية) إشارة إلى التثليث مع أنهم يقرون في بعض المواضع الأخرى أن كتابهم المقدس قد يستعمل الجمع بدل المفرد؛ لأجل التعظيم والتفخيم كما هومعروف في كثير من اللغات الأخرى، مثال ذلك أن المرأة التي كانت تستحضر الأرواح قالت لشاول لما رأت روح صموئيل: (رأيت آلهة يصعدون من الأرض ) تريد روح صموئيل؛ فلذا أجابها شاول: ما هي صورته؟ لأنه يعلم أنها تريد بالجمع هنا المفرد لتعظيم صموئيل كما كان معهودًا عندهم؛ فلذا سمته (بالآلهة) راجع سفر صموئيل الأول (28: 13 و 14) ومثل ذلك قول القرآن في سورة يونس: [ َعلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ] (يونس: 83) بدل ملئه فكذلك عبارة سفر التكوين هذه (1: 1) وغيرها إن لم يكن المراد بالجمع فيها التعظيم لكانت إشراكًا بالله تعالى، وهوما ننزه الديانة الموسوية عنه لمخالفته سائر نصوصها الصريحة في التوحيد والتنزيه.
- ↑ حاشية: يكثر في كتب اليهود والنصارى أمثال هذه الحكايات التي تخجل السيدات والعذارى، ولا يليق أن تنشر بين الناس، فلا أدري ما الحكمة من الإكثار من ذكر مثل القصص الآتية: (1) سُكْر نوح وانكشاف عورته (تك 9: 20 - 27) (2) سُكْر لوط وزناه بابنتيه (3) خداع أمنون بن داود لأخته العذراء، وافتضاضه لها (2 صمو13)، والذي دبر له هذه الخدعة يوناداب ابن عمه وسماه الكتاب المقدس (رجلا حكيمًا جدًّا) لأنه دبّر له هذه الحيلة الدنيئة (2 صمو13: 3)، ولما قتل أمنون هذا حزن عليه داود وبكاه بكاء مرًّا طول حياته مع أنه فسق بابنتيه (2 صمو13: 36 و37) (4) زنا داود بامرأة أوريا وتعريضه زوجها للقتل في الحرب بكتاب أرسله مع أوريا نفسه، مع أنه كان جارًا له (2 صمو11) (5) إحضارهم إلى داود في آخر أيامه فتاة جميلة جدًّا عذراء (وهو تعبير كثير الورود في الكتاب المقدس)؛ لتحتضنه ولتضطجع معه ليدفأ (املو1: 1 - 4) (6) دخول أبشالوم على سراري أبيه أمام جميع إسرائيل (2 صمو16: 22) (7) زنا يهوذا بن يعقوب بامرأة ابنه، فأتت بفارص أحد أجداد المسيح (تكوين 38 ومتى 1: 3) فهذا قليل من كثير مما ورد في هذه الكتب المقدسة من الحكايات التي نشرها لا ترتضيه الآداب، وتنفر منه الفضيلة وتشمئز منه أصحاب النفوس العالية ولو ورد أمثالها في جريدة من الجرائد السيارة لنبذها الناس نبذ النواة فما الفائدة من الإطناب والإكثار من حوادث السكر والزنا وفسق الإنسان ببناته وأخته وامرأة جاره ونساء أبيه وامرأة ابنه في كتب مقدسة جاءت لنشر الآداب والفضائل بين الناس؟ مع أن أمثال هذه الحكايات يسهِّل على الأشرار ارتكاب مثلها - بعد أن كانوا يظنون أن جرائمهم شاذة لم يسبقهم إليها أحد، وأنهم بإتيانها صاروا عارًا على المجتمع الإنساني - فكيف بهم إذا وجدوا في كتبهم المقدسة أن أنبياءهم وهم قدوة الناس وأولاد أنبيائهم أتوا بما هو أشنع مما اقترفوا؟ وقد غفر الله تعالى لأكثرهم ما فعلوا!! ومع ورود هذه القصص في الكتب المقدسة ترى النصارى يطعنون في الآداب الإسلامية، ويفضلون المسيحية عليها ويعيبون القرآن ويشنعون عليه لذكره بعض أشياء قليلة - بكل أدب ونزاهة وكمال - تتعلق بنساء النبي في سورة أوسورتين مع أن هذه الأشياء فضلا عن كونها تمثل الفضيلة تعلم الناس شيئًا من أخلاق النساء وطباعهن وكيف تكون معاملتهن وتأديبهن باللطف واللين والصبر عليهن أو إنذارهن إنذارًا بسيطًا، وترشد النساء عامةً إلى أنهن مسئولات وحدهن عن أعمالهن أمام الله تعالى ولا ينجيهن من الحساب نسبتهن لأزواجهن مهما كانوا عظامًا وكبارًا ومن العجيب أنك ترى النصارى يعيبون القرآن لإيراد بعض هذه الأشياء القليلة جدًّا المتعلقة بنساء النبي، والتي يراد بها تعليم الأمة وإرشادها ولا يعيبون رسائل بولس لورود أشياء فيها شخصية خصوصية لا فائدة منها لأي فرد من أفراد البشر مع زعمهم أن هذه الرسائل ليست خصوصية، بل هي مكتوبة بالوحي والإلهام لمنفعة جميع الأمم، فما فائدة العالم من ذكر الأشياء الآتية فيها؟ ولِمَ لَمْ تذكر في رسائل أخرى خصوصية؟ جاء في رسالته الثانية إلى تيموثاوس ما يأتي 4: 13 (الرداء الذي تركته في ترواس عند كاريس أحضره متى جئت والكتب أيضا ولا سيما الرقوق) 19 (سلم على فرسكا و أكيلا و بيت أنيسفورس 20 أراستس بقي في كورنثوس، وأما تروفيمس فتركته في ميليتس مريضًا 21 بادر أن تجيء قبل الشتاء) إلخ إلخ، وفي رسالته إلى فليمون: 22 (ومع هذا أعدد لي أيضا منزلا)، فهذه بعض أمثلة جاءت في كتبهم التي يقولون: إنها لا تتكلم إلا في المسائل الهامة العامة، والتي (كما يقول صاحب كتاب الهداية) يتعبدون بها في صلواتهم ويرتلونها في كنائسهم أما عناية القرآن بالمرأة وهي الجنس الضعيف المظلوم، وكثرة نزول آيات في أمورها وأحوالها وكيفية معاملتها وحفظ حقوقها إلخ، فهوعند النصارى مُنتقَد ولا يليق ذكره راجع مثلا سورة التحريم وهي السورة التي يكثر انتقاد النصارى عليها تجد أنها عامة لا خاصة، وتعلم الأمة الأدب والكمال واللطف واللين في معاملة النساء، والصبر على أعمالهن وتخويفهن بالحسنى وزجرهن على إفشاء سر أزواجهن، ثم بث النصح لهن وأمرهن بالتوبة والتقوى، وضَرَبَ الأمثال الصالحة لهن إلى غير ذلك مما تجده مبسوطًا في تفسير (نظام القرآن) المطبوع بالهند ومنه يتبين نفع هذه السورة لسائر البشر، ثم قارن هذه السورة وسائر القرآن الشريف بكتبهم المقدسة وما ذكر فيها من الحكايات في السكر والفسق والقتل وإهلاك الحرث والنسل، يتبين لك الفرق بين آداب القرآن وآدابهم، وأن مبشريهم ودعاتهم متعصبون عليه متحاملون أو جاهلون، وأنهم كما قال سيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام: ينظرون القذى الذي في عين إخوانهم ولا يفطنون للخشية التي في أعينهم يقولون: إن إله المسلمين ليس إله قداسة وطهارة؛ لأنه رضي لمحمد تعدد الزوجات ولا ندري لماذا رضي لهم إلههم الطاهر القدوس ولأنبيائهم كل تلك الجرائم والجنايات، ولم يخسف بهم الأرض كما فعل بقوم لوط؟ وكيف يتعبدون بمزامير داود وهم الذي قصوا علينا من أعماله ما قصوا؟ وكيف محيت ذنوبه وغفرت له ولا يغفر لمحمد ما فعله مما أباحته كتبهم وأتت أنبياؤهم بأضعاف أضعافه؟ وقد بينا حكمة أعمال النبي هذه في كتابنا (الإسلام) فإن قالوا: إن المسيح لم يفعل مثله قلت: يوجد بين الأنبياء مثل يوحنا (يحيى) وغيره كثيرون لم يبلغوا ما بلغه موسى وداود و سليمان ومحمد من الملك وسعة السلطان وطول العمر، فلم يفعلوا ما فعلوا؟ ولا ندري أن لو طال بهم الزمان وبلغوا ما بلغه هؤلاء من السلطان ماذا كانوا يفعلون؟ فالمقارنة يجب أن تكون بين مثلين متحدين في الأحوال والظروف لا بين مختلفين فيها وإلا كنا جائرين ظالمين ولنذكر هنا شيئًا من حياة رسول الله ﷺ الذي يدعى النصارى ظلمًا وزورًا أنه كان شهوانيًّا (1) أما أكله: فقد كان يطوي الليالي وهو جائع، ويشد الحجر على بطنه من ألم الجوع، وإذا أكل لا يشبع ولا يأكل إلا أصنافًا تافهة، ولم يجمع بين أدمين في إناء واحد، ولا أكل طعامًا ذا نارين، وكان يصوم شهر رمضان من كل سنة وأيامًا من كل شهر (2) وأما لبسه: فقد كان يرقع ثوبه ويخصف نعله بيده، ولا يلبس حريرًا ولا ثوبًا فاخرًا، وقد حرم على رجال أمته لبس الحرير (3) وأما مسكنه: فقد كان في حجرات حقيرة (4) وأما نومه: فقد كان ينام على الأرض أوعلى أحقر الفراش، ويبيت أكثر الليل قائمًا يصلي كما أمره القرآن، وإذا نام قليلا منه اضطر إلى اليقظة قبل طلوع الشمس؛ لأداء فريضة الفجر ولا يخفى ما كان يتكبده من المشاق للتطهر قبل الصلاة: كالاغتسال في ليالي الشتاء، وكثرة الوضوء (5) وأما نهاره فيقضيه في الصلوات الخمس في أوقاتها مع النوافل، وفي قضاء حاجاته وحاجات الناس، والنظر في مصالحهم وتعليمهم الدين والقرآن ومحاربة الأعداء وغير ذلك (6) وأما النساء فقد قضى شبابه مع عجوز واحدة، ولم يتزوج غيرها إلى ما بعد الخمسين، ولم يكن بين نسائه بِكر غير عائشة، وكانت في سن لا تُشتهى فيه، ثم حرم عليه النساء بعد ذلك مطلقًا غير التسع، وما كان يجوز له أن يبدلهن بغيرهن [ لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ] (الأحزاب: 52) (7) وأما المال فكان طول حياته فقيرًا يقترض المال من اليهود، وما اكتنز شيئًا لنفسه قط فهل هذه حياة الشهوانيين؟ وهل لمثل ذلك يتكبد دعوى النبوة وهو لم يحصل على شيء من ملاذِّ الحياة يقرب مما كان يحصل عليه مثله بلا تعب ولا نصب وهوهادئ البال مستريح الفؤاد؟ لا تنس انغماس العرب في اللذات والشهوات إذ ذاك وما الذي منعه عن الانغماس مثلهم فيها بعد أن دانت الرقاب له، وخضعت له العباد، وأتته الدنيا بخيراتها وهولا يزداد إلا بُعدًا عنها، فهل هذه حياة الشهوانيين؟ فما الذي منعه عن السكنى في القصور، وعن التزين بالذهب والحرير، وكنز القناطير المقنطرة من الأموال، وملء بيته بألذ المأكولات وأطيبها وأشهاها وبالخدم والحشم والعبيد وبالعذارى الجميلات الصغيرات؟ وقد كان له أن يحتذي بمن سبقه من الأنبياء كداود وسليمان، ما الذي حمله على إضاعة جميع أوقاته في الكد والتعب والنصب ليلا ونهارًا في الحروب وفي العبادات وفي إرشاد الناس وتربيتهم؟ وما الذي منعه عن أن يملأ بطنه ويقضي ليله في معانقة الغِيد الحسان والكواعب الأبكار بدل قيام الليل في عبادة الرحمن؟ هل هذا شأن الشهوانيين؟ اللهم لا! وما الذي ناله المسيح - عليه السلام - من الحياة حتى يقارَن بمحمد الذي كان كأعظم الملوك وأكبر القياصرة والسلاطين، فمن امتنع عن اللذات مع القدرة ليس كمن لم يجد منها شيئًا، فاتقوا الله أيها السبابون في خير نبي أُخرج للناس. (2) في سِفْر التثنية أن الوصايا العشر كانت مكتوبة على لوحين كسرهما موسى حينما رأى قومه يعبدون العجل (تث 9: 17) والقرآن الشريف يذكر هذه الألواح بالجمع، فالمراد بالجمع هنا ما زاد عن الواحد وهو معروف في اللغة العربية، وقوله تعالى: [ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَيْءٍ ] (الأعراف: 145) معناها كل شيء من أصول الدين وأسسه التي يُبنى عليها، والوصايا العشر هي كذلك ففيها تفصيل جميع أصول الدين الموسوي، وقد قال المسيح في وصيتين اثنتين فقط (متى 22: 40) (بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء) وورد في القرآن في قصة ملكة سبأ قوله تعالى: [ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ] (النمل: 23) أي من لوازم الملك في ذلك الزمن، فهو مثل قوله: [ وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَيْءٍ ] (الأنعام: 154) ويجوز أيضا أن هذه الألواح المذكورة في القرآن الشريف كانت عديدة، وكان منها لوحان فيهما الوصايا العشر المشهورة وكتبها الله تعالى بنفسه عليهما، وكان لهما المقام الأول عندهم، وأما الألواح الأخرى فكانت تشتمل على الشريعة (التوراة)، والذي كتبها هو موسى بعد أن سمعها من الله تعالى بأمره (خر 24: 4 و34: 27 و28) فكانت منزلة هذه الألواح أقل من منزلة اللوحين الأولين المشتملين على أصول الدين وأساس الشريعة؛ فلذا اقتصرت كتب اليهود على ذكر هذين اللوحين العظيمين اللذين كتبهما الله تعالى؛ لأن كرهما أمر كبير، ولم تذكر الألواح التي كتبها موسى عند الكلام على قصة العجل؛ لأن قيمتها أقل من قيمة لوحي العهد الربانيين، ولا يخفى أن عدم ذكرها في هذه القصة لا يدل على عدم وجودها وفي آخر حياة موسى - عليه السلام - نسخ من هذه الألواح الحجرية كتابًا سلمه لللاويين؛ ليضعوه بجانب تابوت عهد الرب المشتمل على لوحي الشهادة (تث 31: 24 - 26) وإنما فعل موسى ذلك ليكون حجم التوراة أصغر وحملها أيسر من حمل تلك الألواح الحجرية الثقيلة وقول القرآن: [ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ ] (الأعراف: 145) لا يستلزم أن الله تعالى هو الذي كتبها كلها بنفسه، بل منها ما كتبه هو ومنها ما أملاه على موسى، وأمره بكتابتها وكل عمل للعبد تصح نسبته للمولى تعالى.
- ↑ في سِفْر التثنية أن الوصايا العشر كانت مكتوبة على لوحين كسرهما موسى حينما رأى قومه يعبدون العجل (تث 9: 17) والقرآن الشريف يذكر هذه الألواح بالجمع، فالمراد بالجمع هنا ما زاد عن الواحد وهو معروف في اللغة العربية، وقوله تعالى: [ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَيْءٍ ] (الأعراف: 145) معناها كل شيء من أصول الدين وأسسه التي يُبنى عليها، والوصايا العشر هي كذلك ففيها تفصيل جميع أصول الدين الموسوي، وقد قال المسيح في وصيتين اثنتين فقط (متى 22: 40) (بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء) وورد في القرآن في قصة ملكة سبأ قوله تعالى: [ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ] (النمل: 23) أي من لوازم الملك في ذلك الزمن، فهو مثل قوله: [ وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَيْءٍ ] (الأنعام: 154) ويجوز أيضا أن هذه الألواح المذكورة في القرآن الشريف كانت عديدة، وكان منها لوحان فيهما الوصايا العشر المشهورة وكتبها الله تعالى بنفسه عليهما، وكان لهما المقام الأول عندهم، وأما الألواح الأخرى فكانت تشتمل على الشريعة (التوراة)، والذي كتبها هو موسى بعد أن سمعها من الله تعالى بأمره (خر 24: 4 و34: 27 و28) فكانت منزلة هذه الألواح أقل من منزلة اللوحين الأولين المشتملين على أصول الدين وأساس الشريعة؛ فلذا اقتصرت كتب اليهود على ذكر هذين اللوحين العظيمين اللذين كتبهما الله تعالى؛ لأن كرهما أمر كبير، ولم تذكر الألواح التي كتبها موسى عند الكلام على قصة العجل؛ لأن قيمتها أقل من قيمة لوحي العهد الربانيين، ولا يخفى أن عدم ذكرها في هذه القصة لا يدل على عدم وجودها وفي آخر حياة موسى - عليه السلام - نسخ من هذه الألواح الحجرية كتابًا سلمه لللاويين؛ ليضعوه بجانب تابوت عهد الرب المشتمل على لوحي الشهادة (تث 31: 24 - 26) وإنما فعل موسى ذلك ليكون حجم التوراة أصغر وحملها أيسر من حمل تلك الألواح الحجرية الثقيلة وقول القرآن: [ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ ] (الأعراف: 145) لا يستلزم أن الله تعالى هو الذي كتبها كلها بنفسه، بل منها ما كتبه هو ومنها ما أملاه على موسى، وأمره بكتابتها وكل عمل للعبد تصح نسبته للمولى تعالى.
- ↑ حاشية: مما يزيدك وقوفًا على أن عقائد النصارى لم تكن ناضجة في أذهان كُتَّاب العهد الجديد، وأنها كانت في طور النشوء والتكون ما جاء في إنجيل يوحنا، وهوعند المسيحيين أصرح الأناجيل وأرقاها بالنسبة لعقائدهم هذه، قال عن المسيح 14: 10: (الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحالّ فيّ هو يعمل الأعمال)، وقال 14: 24: (والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني) وكلاهما يدل على أن أقنوم الابن المتحد بالمسيح والحالّ فيه ليس إلهًا حقيقيًّا؛ لأن العامل في المسيح والمتكلم فيه هو الأب، وإلا فلماذا ترك ذكر الابن ولم ينسب إليه أي عمل أو قول إذا كان أقنوم الابن إلهًا كما يزعمون؟ ولماذا قال: (الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئًا) (يو 5: 19) ولماذا صلى الابن للأب حينما أراد إحياء العازر من الموت (يو11: 41 - 42)؟؟ فالظاهر من العهد الجديد كله أن الابن لم يكن إلهًا حقيقيًّا مساويًا لله تعالى، وإنما صنعه الله قبل جميع الخلائق فهو بِكْرها كما قال بولس: (كولوسي 1: 15) وأخضع له كل شيء (أفسس 1: 22) وبه عمل العالمين (عب 1: 2) فالله تعالى هو العامل فيه كل شيء (أع 2: 22) وهو الذي صيره إلهًا بعد أن وجد في البدء كما قال يوحنا 1: 1: (وكان) أي صار (الكلمة الله) سيخضع الابن لله تعالى (كور 15: 28) فهو ليس في مرتبة الإله الأب كما يفهم من جميع هذه النصوص؛ ولذلك يسميه دائمًا بولس وغيره (الرب يسوع) كلما ذكروا اسمه مع الله الأب (انظر مثلا أتسالونيكي 1: 1 و يعقوب 1: 1 و2 بطرس 1: 2 وغير ذلك كثير) والرب هو السيد فلذا ميزوه عن الأب بهذا اللقب، فهو على زعمهم رب العالم وإلهه، ولكن الله سيده وإلهه وخالقه والمعطي له كل سلطة، وسيخضع الابن له كما قال بولس: (كو15: 28) ألا ترى إلى قوله 1 كور 11: 3: (إن رأس كل رجل هو المسيح وأما رأس المرأة فهو الرجل، ورأس المسيح هو الله) وقوله 1 كور 8: 6: (لكن لنا إله واحد الأب الذي منه جميع الأشياء ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به)، وهما صريحان في أن المسيح أقل درجة من الله، وأن الله رئيسه وأن الإله واحد وهو (الأب) وأن المسيح هو سيد فقط وقد عمل الله الواحد به جميع الأشياء، ومن الغريب أن النصارى لما وجدوا بولس وغيره لا يسميه إلهًا في رسائله إلا مجازًا كما سُمي موسى في التوراة (خر 7: 1) ولا يساويه بالله الأب، عمدوا إلى التحريف فزادوا اسم (الله) في حق المسيح ليساووه بالأب وقد عرف ذلك بمقابلة النسخ الحالية على النسخ القديمة، وأقر بذلك علماؤهم كما في الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 3: 16، فلم يكن فيها لفظ (الله) وأصل العبارة (الذي ظهر في الجسد) وكذلك أبدلوا لفظ (الرب) بلفظ (الله) في سفر الأعمال 20: 28 (كما قال كرسباخ أحد المحققين منهم) ولا يبعد على مثلهم التحريف في غير هذين الموضعين كما بين في المتن، ولكن المبشرين يكابرون ويزعمون أن كتابهم لم يمس بسوء وقد اعترف المسيح نفسه كما في إنجيل يوحنا أن الفاعل للأعمال التي يعملها والأقوال التي يقولها هو الله الأب كما سبق، ولو كان أقنوم (الابن) الموجود فيه إلهًا لقال ناسوت المسيح: إن العامل فيَّ لكل شيء هو (الله الابن) لكنه لم يقل ذلك قط، ولم يرد لفظ أقنوم في كتابهم مطلقًا، وترى النصارى الآن لا تقول: بحلول أقنوم الأب في المسيح مع أن المسيح يقول: (الأب الحال فيَّ) (يو14: 10)، فلا ندري أيها نصدق ولماذا اختلفوا؟ وإذا كان الأب حالا في المسيح كما قال وكذلك الابن والروح القدس (يو1: 32) فالمسيح حامل للثالوث كله الذي لا تسعه السماوات والأرض (2 أي 2: 6)، فلماذا إذًا يسمونه (الابن) مع أن فيه الثلاثة لا الابن وحده؟ ولماذا نرى المسيح يطلب من الأب وحده كل شيء؟ ولماذا لا يجعلون الأقانيم أربعة أخذًا من قول لوقا 1: 35: (الروح القدس يحل عليك وقوة العليَّ تظللك) فيكون الأقنوم الرابع اسمه (قوة العليَّ)؟ ولماذا لم تكن مريم إلهة مع أن روح القدس حل عليها وعلى غيرها أيضا كما سبق (أ ع 2: 4) وإذا كان الله حالًّا في الكل وعلى الكل وبالكل كما قال بولس في رسالته إلى أهل أفسس: (4: 6) وأنهم هيكل الله الحي (1 كور 3: 16) فلماذا اختص المسيح بالألوهية والعبادة مع أن الله ليس موجودًا فيه وحده بل في غيره أيضا؟ فهذه يا قوم هي العقائد السامية في اللاهوت التي تدعونا النصارى إليها، وهي كما ترى متضاربة متناقضة غير صريحة في كتبهم وناقصة، ولم تكمل في أذهانهم إلا بعد المسيح وتلاميذه، وبعد انتهاء زمن تأليف الأناجيل، وبعد أن اختلفوا واقتتلوا فيها دهورًا طويلة، سالت فيها دماؤهم أنهارًا، ولا يزالون إلى الآن مختلفين فانظر وتعجب!!.
- ↑ حاشية: يظهر من هذه العبارة التي كانوا حاولوا حذفها من الإنجيل أن المسيح كان منساقًا إلى الصلب رغم إرادته، وأنه كان يدعو الله بإلحاح شديد؛ ليصرف عنه كأس المنون حتى صار يتصبب عرقًا، فظهر له الملك؛ ليقويه ويشجعه (لوقا 22: 42 - 45) فأين إذًا شجاعته ورغبته في تقديم نفسه كفارة عن بني الإنسان؟ وهل يكون بعد ذلك قبوله للموت برغبته وإرادته وهو كان يتمنى النجاة منه لولا إرادة الله التي أكرهته عليه إكراهًا؟ وهل بهذا الخَوَر والضعف يتعلم النصارى كيف يضحون حياتهم في سبيل نفع الناس؟ وأين عمل المسيح هذا من عمل محمد وأصحابه الذين كانوا يستبشرون بالموت ويلاقونه بصدر رحيب غير هيابين ولا وَجِلين، وكل ذلك كان منهم في سبيل الله، وبقصد هداية الناس وإصلاح أحوالهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور؟ فمن منهما (محمد أم المسيح) كان أقدر على تعليم الناس تضحية نفوسهم في سبيل الله؟ انظر أصحاب عيسى كيف فروا من حوله، وحزنوا وأنكروه حتى كبيرهم بطرس (لوقا 22: 45 و57 - 61) نعم إن المسيح زجر بطرس ووبخه حينما أراد تثبيط همته (متى 16: 21 - 23) ولكن ذلك كان قبل دنو ساعة الصلب فلما اقتربت خاف وضجر وصار يستغيث بالله؛ لينجيه منه؛ لشدة فزعه ورعبه (مز 22: 14 ومتى 26: 36 - 45) ولذا جاء الملك وقواه أما محمد وأصحابه فكانوا يرجون من الله الموت والشهادة في سبيله وهم في ميدان القتال كما هو معروف متواتر عنهم، فأين هذا من ذاك؟؟ كيف ترقى رقيك الأنبياء ** يا سماء ما طاولتها سماء انظر إلى الخنساء إحدى نساء ذلك العصر كيف شجعت بنيها الأربعة، وحرضتهم على الجهاد في سبيل الله حتى قُتلوا جميعًا يوم القادسية فقالت: (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته) ولا أريد أن أستشهد هنا بأقوال الرجال من أصحاب رسول الله، فإنها شهيرة عديدة وكلها مثال الصبر والشجاعة وقوة الإيمان والثقة بوعد الله وتضحية النفس في سبيله؛ فلذا دوخوا العالم في سنين قليلة وهو الأمر العجيب الذي لم يُعهد له مثيل في تاريخ البشر أجمعين، وكل ذلك كان بسبب تأثير روح رسول الله فيهم وفي أخلاقهم.