مقالات مجلة المنار/شبهات النصارى وحجج المسلمين/3
( تتمة الكلام في الشبهة الثانية على القرآن )
( الشاهد الرابع ) زعم المعترض أن ما في سورة ( المؤمن ) من أن موسى أرسل إلى فرعون و هامان و قارون يدل على أن قارون من قوم فرعون فهو مناقض لقوله تعالى في سورة القصص: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ } ( القصص: 76 ).
ونقول في الجواب: إن كون قارون من قوم موسى مجمع عليه عند المسلمين سلفهم وخلفهم كما قال ابن عطية، وقالوا: إنه من ذوي القربى لموسى عليه السلام ولكنهم اختلفوا في جهة القرابة، فنقل عن ابن عباس وغيره أنه كان ابن خالته، وقيل غير ذلك مما لا يعنينا. ولم يفهم أحد من العرب ولا ممن بعدهم من أهل اللغة ما فهم هذا النصراني في آخر الزمان.
قال تعالى في سورة ( القصص ) أن رجلا اسمه قارون كان من قوم موسى وكان طاغيًا بطرًا بماله، فبغى على قومه بني إسرائيل فأنذروه عاقبة البغي ونصحوا له بأن يبتغي بماله الدار الآخرة إلى ما يتمتع به من الدنيا فلم يقبل، وكل هذا يدل على أنه كان كافرًا طاغيًا جاحدًا من قوم سبق لهم إيمان وكتاب.
وقال في سورة ( المؤمن ) أنه أرسل موسى إلى فرعون وهامان وقارون فذهب بعض المفسرين إلى أن قارون هذا كان مصريًّا وكان قائدًا لجند فرعون، وذهب بعض إلى أنه قارون الإسرائيلي، ولكنه ذكره مع فرعون ووزيره هامان لأنه كان رئيسًا باغيًا مثلهما وهؤلاء الرؤساء الطغاة البغاة هم الذين يحُولون بين الرسل والأمم، وإنما أرسل الله تعالى موسى لهداية بني إسرائيل كما علم من النص ومن الواقع، ولما كان بنو إسرائيل مستعبَدين مقهورين لفرعون وكبار أعوانه كهامان وقارون ابتدأ موسى بدعوة هؤلاء بأمر الله تعالى حتى أراهم آياته وكانت العاقبة إخراج بني إسرائيل من مصر وإيتاءهم الشريعة.
لا دليل بل لا شبهة على التناقض في قول من القولين. أي مانع يمنع أن يكون هناك قارونان في زمن واحد أو زمنين مختلفين، فإن قارون قوم موسى ذكر ولم يذكر في قصته أن موسى نصح له أو دعاه إلى شيء، بل جاء فيها أن قومه هم الذين نصحوا له: { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } ( القصص: 76 )، إلى آخر الآيات فيجوز بل يقرب أنه كان بعد موسى. ثم أي مانع يمنع أن يتخذ فرعون لنفسه رجلا إسرائيليًّا باغيًا فسق عن تقاليد قومه وصار لا يهمه إلا بيع مصالحهم بما ينفع شخصه، ويجعله عونًا له على الإسرائيليين ويحكمه فيهم لأنه أعلم بدخائلهم، وأدرى بمقاتلهم؟ أليس من المعهود في كل زمان أن يستعين الذين يحكمون أقوامًا غير قومهم بأفراد أولئك الأقوام يبيعون مصالح قومهم للحكام الأجانب بالمال والجاه لأشخاصهم؟ فلماذا يستنكر أن يصطنع فرعون لنفسه طاغية من الإسرائيليين يكون واسطة بينه وبينهم فيما يريد من ضروب الاستبداد والاستعباد؟ ثم إذا فرضنا أنه لم يكن عاملا لفرعون ولا صنيعة له وإنما كان أغنى بني إسرائيل وأقواهم سلطانًا وأنفذهم شوكةً كما تدل عليه سورة ( القصص ) أفليس هذا مسوغًا لأن يذكر مع فرعون وهامان وقد استنَّ بسنتهما وجرى على طريقتهما؟ بلى ولكن الذي يتلمس التناقض في القرآن لا يظفر إلا بمثل هذا الخذلان!.
( الشاهد الخامس ) زعم أن قوله تعالى في موسى: { فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ } ( غافر: 25 ) يناقض قوله تعالى: { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ } ( طه: 38-39 ) فإن هذا القذف لم يكن إلا هروبًا من أن يقتله قوم فرعون فدل ذلك على أنهم كانوا يقتلون الأطفال قبل بعثته.
ونقول في الجواب:
أولا: إن هذه الآية لم تعلل بهذا التعليل، وإنما ذكرت غايتها المقصودة منها بالنص، وهي قوله تعالى: { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } ( طه: 39 ) أي أن الغاية من قذفه في اليم أن يأخذه فرعون ويربيه فيكون من أمره بعد ذلك ما يكون.
وثانيًا: إن الأمر بقتل الأبناء أولا لا ينافي إعادته ثانيًا لأجل التأكيد والتشديد عند وجود المقتضي. ومثال هذا حاضر بين أيدينا - نُظار الحكومة المصرية كانوا نهوا جميع المستخدمين في الحكومة أن يجمعوا مالا لإعانة سكة الحديد الحجازية أو يساعدوا الجامعين، وكان ذلك من عدة سنين ثم أعادوا هذا النهي الآن بمناسبة توجه الناس إلى الإعانة بعد أن أمر السلطان بمطالبة المسلمين كافة بإعانة اختيارية، أقلها خمسة قروش على الشخص، وأكثرها غير محدود، وقد ذكرت الجرائد هذا وذاك، فهل يقال: إن النهي الثاني مناقض للنهي الأول؟ كذلك كان فرعون قد أمر القوابل بأن يقتلن أبناء بني إسرائيل ليقل نسلهم، فلما ظهر موسى ودعاه إلى اتباعه وإلى إرسال بني إسرائيل معه - أكد الأمر الأول وأعاده وأمر بما هو أشد منه وهو أن يُقتل الأبناء جهرًا. هذا الأمر موافق لذلك لا مناقض له، فإن التناقض أن تكون إحدى القضيتين موجبة والأخرى سالبة، كقول يوحنا في الفصل الخامس من إنجيله حكاية عن المسيح عليه السلام: ( 31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا ) مع قوله في الفصل الثامن: ( 14 أجاب يسوع وقال لهم: وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق )! أرأيت أيها القارئ المنصف لو كان يوجد في القرآن أمثال هذا التناقض ماذا كان يقول ويكتب هؤلاء الجاحدون الذين يسمون الحكاية عن الأمر بمعنى الأمر تناقضًا ويسمون اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب توافقًا يدل على الألوهية؟!
( الشاهد السادس ) زعم المعترض أن قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ( البقرة: 62 ) وقوله عز وجل: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ } ( البقرة: 256 ) مناقضان لقوله تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ } ( آل عمران: 85 ). وقوله عز شأنه: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } ( التوبة: 73 ) وقوله تبارك اسمه: { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ } ( البقرة: 193 ).
ونقول في الجواب: إن للمعترض بعض العذر إن لم يفهم هذه الآيات حتى توهَّّم أنها متناقضة، وإن كانوا يقولون: إن الذي كتبها أو صححها هو أعلم النصارى بالعربية ( الشيخ إبراهيم اليازجي )، فإن هؤلاء ينظرون في كتاب الله ليعترضوا لا ليفهموا ولو ابتغوا الفهم لفهموا، على أن منهم من يفهم ويكابر نفسه ويماري الناس، فيقول غير ما يعتقد.
معنى الآيات ظاهر، وإن كان للمفسرين في فهم بعضها وجهان، فأمّا الآية الأولى فمعناها أن كل أمة من الأمم المؤمنة بالوحي والأنبياء لا تكون آمنة ناجية بمجرد انتمائها إلى دين النبي الذي بُعث فيها ولكن الناجين منها هم الذين يصح إيمانهم بالله وباليوم الآخر ويكون على وجه الحق ويعملون الصالحات. وهذا حكم لا يعارض كون الدين اختياريًّا لا إكراه فيه ولا إلزام، ولا يعارض الإذن بمحاربة المعتدين من الكافرين والمنافقين ولا البغاة من المؤمنين، فإن الله تعالى أمر بقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.
وأما الآية الثانية فمعناها أن الدين يقوم بالدعوة، والدعوة تؤيد بالحجة وبيان الرشد في الإيمان من الغي في الكفر.
وأما الآية الثالثة فمعناها أن الإسلام هو دين الأنبياء الذي كان عليه إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ولا يقبل الله تعالى دينًا غيره في الآخرة، ولم يكن يعني من الإسلام الذي دعي إليه الناس في القرآن ما سيكون عليه الطوائف الذين يسمون أنفسهم مسلمين كيفما كانت عقائدهم وتقاليدهم حتى المجسمة والباطنية والنُّصَيرية، وإنما معناه الدين الذي روحه إسلام الوجه ( القلب ) إلى الله تعالى والإخلاص له في العبادة والطاعة كما قال: { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } ( آل عمران: 20 ) وقال: { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ } ( الحج: 78 )، وقال: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ( البقرة: 132 )، فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن المراد بالإسلام دين الأنبياء من إبراهيم إلى محمد عليهم السلام. ولقد كان الأنبياء من قبل إبراهيم على دينه ولكن إبراهيم أقدم الأنبياء الذين لم يمت ذكرهم ولم ينقطع التوحيد من ذريته، وهذا المعنى مطابق لمعنى الآية الأولى مطابقة تامة.
وأما الآية الرابعة الآمرة بجهاد الكفار والمنافقين فليس فيها كلمة تومئ إلى أن الجهاد لأجل الإكراه على الدين، كيف والمنافقون كانوا متلبِّسين بالدين في الظاهر وكان النبي يعاملهم معاملة المسلمين، حتى إن المفسرين قالوا: إن الجهاد لا يصح هنا إلا إذا كان بمعنى المحاجّة بالبرهان، فإن الجهاد في اللغة ليس بمعنى القتال وإنما هو بذْلُك الجهد في مقاومة شيء، ولذلك أُمرنا بجهاد أنفسنا أي بذل الجهد في مقاومة شهواتها. ويصح أن يكون الأمر بجهاد الكافرين والمنافقين معًا بمعنى مقاتلتهم إذا كانت الآية نزلت في مثل غزوة الأحزاب التي اتحد فيها طوائف المشركين مع اليهود والمنافقين من الفريقين على استئصال المسلمين، وفيها هدد الله المنافقين بقوله: { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا } ( الأحزاب: 60 ).
نعم، إن القتال شرع في الإسلام لمقاومة المعتدين وتأمين المؤمنين الذين كانوا يُفتنون عن دينهم في أنفسهم وأهليهم ويدل على كونه مأذونًا فيه للضرورة الآيات الواردة فيه. أول هذه الآيات نزولا آية السيف وهي قوله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } ( الحج: 39-41 ) ولا تنس قوله تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ } ( البقرة: 190 ).
وأما الآية الخامسة وهي قوله تعالى: { وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } ( البقرة: 193 ) فهي مطابقة لهذه الآيات والمعنى الذي قلناه في حكمة الإذن بالقتال، أي قاتلوا هؤلاء المعتدين عليكم لأنكم مؤمنون، والذين يفتنونكم عن دينكم ليردوكم إلى دينهم إن استطاعوا حتى تزول هذه الفتنة والاعتداء لأجل الدين ويكون الدين خالصًا لله لا يكره عليه أحد ولا يفتن عنه أحد، أي لا ينتفي الإكراه بالإلزام به والإرجاع عنه وتكون الدعوة إليه أمينة لتظهر الحجة. هذا هو معنى الآيات لا يقبل تأويلا وهي ملتئمة يؤيد بعضها بعضًا.
( الشاهد السابع ) زعم المعترض أن قوله تعالى حكاية عن المسيح: { وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيا } ( مريم: 33 ) مناقض لقوله: { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } ( النساء: 157 ) إلى قوله: { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } ( النساء: 158 ) والجواب أن الله تعالى ذكر في آية أخرى أن الرفع يكون بعد الموت وهي قوله: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ( آل عمران: 55 ) فنفي القتل والصلب لا يستلزم نفي الموت؛ بل جرى عرف اللغة على أن لا يعبر بالوفاة والموت عن القتل والصلب بل عمن يموت حتف أنفه.
وبهذا وما قبله تبين أن شواهد المعترض على تعارض القرآن وتناقضه ظاهرة البطلان ويبعد أن يكون مثل ذلك المؤلف ( الإنكليزي ) والمصحح ( الشامي ) والناقل ( القبطي البروتستنتي ) معتقدين بها وإنما هم سيئو القصد يحبون أن يشككوا عامة المسلمين في دينهم ليجذبوهم بحبال الأوهام الدنيوية إلى ذلك الدين الذي يضم الشاكّين والملحدين، ويؤلف منهم عصبية لمقاومة المسلمين!
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش