مقالات مجلة المنار/البابا لاون الثالث عشر – ترجمته
في يوم الإثنين الماضي ( 20 يوليو ) توفي عظيم النصرانية ورئيس الطائفة الكبرى فيها بابا رومية عن ثلاث وتسعين سنة، قضى جُلها في خدمة مذهبه الكاثوليكي منها خمس وعشرون سنة، أو ربع قرن في منصب البابوية، وقد كان لسياسته من التأثير في عالم النصرانية والمدنية ما لم يكن في حسبان أحد من العالمين، وكاتب هذه السطور يعتقد أنه كان أعقل رجال أوربا وأعلاهم كعبًا في السياسة. وإننا نذكر من ترجمته ما فيه العبرة للمسلمين كما يليق بمجلة إسلامية مثل المنار، فلا تقل - أيها المسلم - ما لهذه المجلة الإسلامية ولزعماء النصرانية؟!
الكاثوليك أكثر فرق النصارى عددًا، واعتقادهم في البابا كاعتقاد أكثر المسلمين في الخليفة أو أمير المؤمنين من حيث الرياسة الدينية والدنيوية في الجملة، وكاعتقاد بعض الفرق الإسلامية في وجوب عصمة الإمام الحق، ثم إنه يُنتخب من طائفة مخصوصة ولا يأخذ هذا المنصب بالوراثة، وتلك سنة الإسلام في انتخاب الإمام من طائفة مخصوصة.
قال ياقوت في معجمه: ( والبابا رئيس الفرنج هو عندهم نائب المسيح كما هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم )، وقال الشريف الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق: ( وفي مدينة رومة قصر الملك المسمى البابة، وليس فوق البابة فوق في القدر والملوك دونه، ويقيمونه مقام الباري جل وعز!! ) إلى أن قال: ( وحكمه نافذ ماضٍ على جميع ملوك الروم، ولا يقدر أحد منهم يرد عليه ) وقال أبو الفداء في كتاب تقويم البلدان عن أهل بيزة: ( وليس لهم ملك، وإنما مرجعهم إلى الباب خليفة النصارى ) وقال عن رومية: ( وهي مدينة مشهورة ومقر خليفة النصارى المسمى بالباب )، وقد تكلم ابن خلدون عن هذه الرياسة وصاحبها بإيضاح تام؛ ولهذا كله قال بعض علماء أوربا: إن البابوية أو النصرانية مقتبسة من الإسلام!
جلس لاون الثالث عشر على كرسي هذه الخلافة ( سنة 1778م )، وأوربا بقضّها وقضيضها وعلومها وصنائعها ومدنيتها معادية للكاثوليك أشد من معاداتها للإسلام؛ لأنها تعتقد أن الكاثوليك والبابوية من الأمراض الباطنية التي أصابت الوطن في القلب والكبد والرئتين، فهي تفتأ تفتك به، حتى تبيده، فالكثلكة خطر في الباطن تحارب خوفًا وحذرًا من شرها، وأما الإسلام فهو عدو على البعد يحارب طمعًا في أرضه ودياره. ولكن البابا لاون الثالث عشر حول بسياسته ودهائه ذلك العداء إلى ولاء، وذلك الاستخفاف والاحتقار واعتبار، والفضل في ذلك لحسن الانتخاب والاختيار، إذ لو كان هذا المنصب وراثيًّا لما ارتقى إليه مثل هذا الرجل.
ولد ليون الثالث عشر ( وكان اسمه قبل البابوية بتشي ) في 2 مارث سنة 1810م في بلدة كاربنتو من إيطاليا، وتعلم التعليم الابتدائي في مدرسة للجزويت ببلدة فيترب، وجاء رومية سنة 1824 وأتم دروسه بمدرسة الجزويت فيها، ثم بمدرسة رومية الجامعة، وعني أولا بالعلوم الطبيعية والكيمياء حتى نبغ فيها، ثم اشتغل بآداب اللغة اللاتينية حتى عد من الكتاب البلغاء والشعراء المجيدين، ثم درس علوم الفلسفة واللاهوت فأتقنها ومنح لقب ( دكتور ) في الفلسفة. ثم وجه عنايته إلى علم الحقوق فبرع حتى أخذ الشهادة العالية فيه من مدرسة رومية الجامعة.
وفي سنة 1837 عين قسًا ونائبًا عن البابا في بعض البلاد، وفي سنة 1843 عين رئيسًا لأساقفة دمياط، ثم وكيلا للبابا في بروكسل عاصمة بلجيكا فأقام في تلك البلاد ثلاث سنين منحه ملكها في آخرها وسام ( ليوبولد ) من الدرجة الأولى وهو من أعلى الوسامات عنده، وفي سنة 1846 عين رئيسًا لأساقفة بيروز. وقد لبث في منصب الأسقفية 32 سنة كان فيها حسن السلوك يستتيب اللصوص والبغاة المعتدين حتى خلت منهم السجون التي كانت ممتلئة بهم قبل عهده. وفي سنة 1877 صار كردينالا ومديرا في الفاتيكان والكنيسة الرومانية، وفي سنة 1878 توفي البابا بيوس التاسع فانتخب خلفًا له.
وقد ذكرنا هذه النبذة الوجيزة في تعليمه وتقلبه في الأعمال الدينية لأجل المقابلة بين تربية رؤسائهم ورؤسائنا حتى لا يعجب أحد من تقدمهم وتأخرنا.
إذا سأل المسلم عن كيفية تربية رئيس أمته العام من أمير وسلطان أو ولي عهدهما أو الرئيس الخاص كشيخ الإسلام في الآستانة وشيخ الأزهر في مصر، وسأل: ماذا تعلم هؤلاء من العلوم التي لا بد منها للأمة التي يرأسونها، وما هي الأعمال والمناصب التي تقلبوا فيها فظهر استعدادهم لخدمة الأمة فرشحوا لها بسببها فماذا يكون جواب هذا السائل؟ لعل الأكثرين يجيبونه بأن الواجب علينا أن نقبل رياستهم من غير سؤال عن استعدادهم، وعن علومهم وأعمالهم، ومن تحدث بشيء من ذلك فهو عدو للملة والدين. وفتنة لجميع المسلمين، وذلك أن الأمة في طور الضعف لا يرضيها إلا أن يمدح منها كل شيء، وذلك أنها تشعر بفقد مقومات السعادة بالفعل فتحب أن تخادع نفسها بالمدح كما يتكبر الوضيع ويتنفج ليظهر في مظهر الكبراء.
فقد الكاثوليك السلطة الدنيوية، سلبها الملوك من البابا الذي كان يفيضها عليهم ولو تسنى لهم في أي يوم من الأيام إرجاعها لوجدوا في الفاتيكان رجالا يديرونها أحسن مما يديرها ملك إيطاليا، وحكومته في جميع أصولها الإدارية والمالية والقضائية والعسكرية؛ لأن رجال الدين عندهم يتعلمون كل شيء.
أرأيتك هؤلاء الذين يسمون رجال الدين في الإسلام إذا قيل لهم - وهم يشكون من خروج الأحكام عن الشرع إلا ما يسمونه الأمور الشخصية ومحاكمها على خطر -: تعالَوْا فأديروا أعمال الحكومة الكلية من إدارية ومالية وحربية وقضائية وسياسية ( خارجية ) وغير ذلك، أيجدون في الأزهر من يحسن عملا من هذه الأعمال كما يجد الكاثوليك في الفاتيكان؟ أنَّى وهم إلى اليوم يتنازعون بينهم: هل علم تقويم البلدان يقطع على الطالب طريق الدين أم لا؟ الجمهور على أنه يقطع وأنه ينبغي أن لا يُقرأ في الأزهر. وهل الحساب العملي والهندسة العملية يفسدان العقل حتى يضعف استعداده لفهم العلوم الدينية أم لا؟ الجمهور على أنه يفسد العقل وينبغي أن لا يدرس في الأزهر كما صرح بذلك الشيخ ( ثابت بن منصور ) والشيخ محمد راضي البحراوي من كبار المدرسين هنالك في مقالاتهما المنشورة في المؤيد. ثم أَنَّى يجدون في الأزهر مَن يحسن عملا ما وليس فيه من يعد لعمل ما إلا القضاء الشرعي، وهؤلاء القضاة الخارجون منه تبكي من سيرة أكثرهم السماء والأرض وتستغيث العدالة بلسان المظلومين المهضومين بأن ينقذها الله منهم ويرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون!!
ولقد كان رجال الكاثوليك في يوم مضى مثل رجال الأزهر يعدون كل علوم العمران حجابًا دون الدين حتى كأن الدين آلة الخراب والدمار، وكان أكثر عامتهم على رأي رجال الدين كما هو الشأن عندنا حتى اليوم، ولكنهم لم يلبثوا أن علموا على أن بقاء الدين محال ما لم تجعل علوم العمران نصيرة له فعكفوا على العلوم حتى برعوا في جميع فنونها، فمدارسهم جامعة تفوق غيرها نظامًا وإحكامًا، وعلماؤهم من القسيسين وغير القسيسين مستعدون لكل عمل يرتقي فيه العمران. فمتى يعود قومنا إلى هذا وهم أحق به من كل أحد؟
أنت يا رب مسئول بتوفيق العقلاء للسعي وإليك وحدك المشتكى.
قلنا: إن لاون الثالث عشر قد ولي البابوية والأخطار محدقة بها من كل جانب فقد كان في عهد سلفه بيوس التاسع ما كان من الثورات والانقلاب حتى نشر على عهده في باريس ( إعلان ) في تحريض بلاد إيطاليا على إنشاء جمهورية إيطالية، لا يكون فيها بابا ولا دين بالمرة. وأصابت البلاد سَنة فذهب الجماهير إلى أن المحل والقحط من شؤم السلطة البابوية، وقد أشاع المرجفون على عهده بأن النمسا تعضد مؤامرة سرية على خلع البابا، وإقامة حكومة عسكرية في البلاد البابوية كلها فاضطربت رومية، وكثر فيها الهرج، وعجزت الحكومة عن ضبط النظام؛ إذ كانت المدينة غاصة بجماهير المسلحين من الأهلين. ثم فتح مجلس الشورى فطلب إناطة الأعمال الإدارية بالعوام ( يطلق لفظ العوام في مقابل لفظ ( الأكليروس ) في اصطلاحهم ) وحرية المطابع وطرد اليسوعيين ( الجزويت ) وإعتاق اليهود، وكان الشعب الثائر يؤيد طلب المجلس. ثم عم الهياج بلاد إيطاليا من شمالها إلى جنوبها، وكان على أشده في رومية، وتوقع الناس سقوط الدولة البابوبة من الأرض، وقلّ احترام البابا في البلاد الأجنبية حتى ما كان يجد نصيرًا.
ونقول بالاختصار: إنه لم يستقر للسلطة البابوية قرار من بعد ثورة فرنسا سنة 1848، بل كانت الفتن تتفاقم يومًا بعد يوم، وقد أظهر البابا بيوس التاسع من حب الإصلاح وإرادة الخير للشعب ما لا مزيد عليه، ولم ينقص ذلك من قوة الحزب الجمهوري شيئًا. ولقد بلغ من الاستهانة بالبابا أن كتب إلى إمبراطور النمسا يلتمس إخراج عساكره من إيطاليا فكان كتابه سخرية في فينا بعد أن كان لا مرد لأمره، ولا معقب لحكمه. وحدث في هذه السنة من الأحداث ما زعزع الكرسي البابوي من الشعب الذي كان يقول: إن هذا الكرسي هو كرسي بطرس الرسول نائب المسيح. ومن ذلك اتفاق الشعب والحرس المدني والعساكر المنظمة والجيش الروماني على محاصرة الكويرنال وقتل أمين أسرار البابا، وإكراهه بعد ذلك على قبول وزارة إصلاحية وجعْله كالأسير في قصره تاركًا الأحكام الدينية والمدنية جميعًا، حتى اضطر إلى الفرار متنكرًا بهيئة قسيس إلى غايتا. ثم اشتعلت نيران الفتن والثورات في جميع البلاد التابعة له كما أشرنا إليه آنفًا؛ حتى خسر سلطته في تلك البلاد، وسنذكر نبذة من سلوك لاون الثالث عشر في مقاومة الأخطار، وصرف التيار، وما في ذلك من العظة والاعتبار.
((يتبع بمقال تالٍ))
هامش