سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/غزوة فتح مكة رمضان سنة 8 هـ
(يناير سنة 630 م)
لما كان صلح الحديبية بين رسول الله ﷺ وبين قريش كان فيما شرطوا لرسول الله ﷺ وشرط لهم أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله ﷺ وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله ﷺ وعهده.
والسبب في دخول خزاعة في عقد رسول الله ﷺ أن خزاعة كانت حليفة جده عبد المطلب حين تنازع مع عمه نوفل في ساحات وأفنية من السقاية كانت في يد عبد المطلب فأخذها منه نوفل فاستنهض عبد المطلب قومه فلم ينهض معه منهم أحد وقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك، ثم كتب إلى أخواله بني النجار فجاء منهم سبعون وقالوا: ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ما أخذت منه وإلا ملأنا منك السيف، فرده، ثم حالف نوفل بني أخيه عبد شمس فخالف عبد المطلب خزاعة وكان عليه الصلاة والسلام عارفا بذلك ولقد جاءته خزاعة يوم الحديبية بكتاب جده عبد المطلب فقرأه عليه أُبيّ بن كعب رضي الله عنه فأقرهم النبي ﷺ
وقد كان بين بني بكر وبين خزاعة حروب وقتلى في الجاهلية وتشاغلوا في ذلك لما ظهر الإسلام.
فلما كانت هدنة الحديبية ووقف القتال بين المسلمين وقريش، اغتنمتها طائفة من بني بكر يُقال لهم «بنو نفاثة» ذلك أن شخصا منهم هجا رسول الله ﷺ وصار يتغنى بالهجاء، فسمعه غلام من خزاعة أي من القبيلة التي دخلت في عقد رسول الله فثارت ثائرته فضربه وشجّه فثار الشر بين القبيلتين مما كان بينهم من العداوة، فطلب بنو نفاثة من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة فأمدوهم، فجاءوا خزاعة ليلا وهم آمنون على ماء لهم يقال له الوتير وقتلوا منهم عشرين أو ثلاثة وعشرين وقاتل معهم جمع من قريش مستخفيا - منهم: صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، وعكرمة بن أبي جهل، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو - وهؤلاء أسلموا جميعا بعد ذلك - وما زالوا بهم حتى أدخلوهم دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة فلما ناصرت قريش بني بكر على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله من الميثاق، ندموا، وجاء الحارث بن هشام إلى أبي سفيان وأخبره بما فعل القوم، فقال:
«هذا أمر لم أشهده ولم أغب عنه، وإنه لشر والله ليغزونا محمد، ولقد حدثتني هند بنت عتبة - يعني زوجته - أنها رأت رؤيا كرهتها، رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة، فكره القوم ذلك».
وعند ذلك خرج عمرو بن سالم الخزاعي، سيد خزاعة حتى قدم على رسول الله المدينة ودخل المسجد ووقف على رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد بين الناس وأنشد:
يا رب إني ناشد محمدا ** حلفَ أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدَا ** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا ** وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ** إن سيم خَسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا ** إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا ** وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا ** وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هُجدا ** وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله ﷺ «نصرت يا عمرو بن سالم» ودمعت عيناه، وفي رواية: فقام ﷺ وهو يجر رداءه ويقول: «لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر به نفسي»، وفي رواية قال: «والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي وأهل بيتي»، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لقد رأيت رسول الله ﷺ غضب مما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان ثم قال ﷺ لعمرو بن سالم وأصحابه بعد أن علم منهم حقيقة ما حدث: ارجعوا وتفرقوا في الأودية، فرجعوا وتفرقوا وكان عددهم نحو أربعين راكبا من خزاعة، وقصد رسول الله بتفرقهم إخفاء مجيئهم.
وخرج بُدَيلُ بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله المدينة فأخبروه بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ولكن لم يبلغنا ماذا قال وفد بديل وبما أجابهم رسول الله.