سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/تنفيذ المعاهدة
قد راعى رسول الله ﷺ تنفيذ هذه المعاهدة بدقة فكان في مدة الصلح يرد الرجال المهاجرين ولا يرد النساء بعد الامتحان وكان الامتحان أن تستخف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزا ولا هاجرت إلا لله ورسوله، قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَآءكُمُ الْمُؤْمِنَتُ مُهَجِرتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} (الممتحنة: 10)، فلما هاجرت إليه أم كلثوم بنت عقبة بن معيط رضي الله عنها وكانت أسلمت بمكة وبايعت قبل أن يهاجر ﷺ ثم خرجت في مدة الصلح مهاجرة ماشية على قدميها من مكة إلى المدينة وصحبت رجلا من خزاعة وهي أخت عثمان بن عفان لأمه - لم يردها النبي ﷺ ـ لأن الشرط يقضي برجوع الرجال فقط، ولما خرج أخوها عمارة والوليد في ردها بالعهد، أخبرهما رسول الله بأن النساء المؤمنات لا يرجعن وأن الشرط في الرجال فقط، وأن النساء يمتحن فرجعا إلى مكة وأخبرا قريشا بذلك فرضوا به.
ورد رسول الله ﷺ أبا بصير فذهب - بعد أن قتل خنيسا الذي كان جاء في طلبه - إلى محل في طريق الشام يمر به ذوو الميرة واجتمع إليه جمع من المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة فكانوا يتسللون إليه وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده ﷺ يوم الحديبية وخرج من مكة في سبعين راكبا أسلموا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله ﷺ في مدة الهدنة خوفا من أن يردهم إلى أهلهم وانضم إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل فقطعوا مارة قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه ولا تمرّ بهم عير إلا أخذوها حتى كتبت قريش له ﷺ تسأله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم، فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه وأن مَن معهم من المسلمين يلحقون ببلادهم وأهليهم ولا يتعرضوا لأحد مرّ بهم من قريش ولا لعيرهم فقدم كتاب رسول الله ﷺ عليهما وأبو بصير مشرف على الموت لمرض حصل له فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده يقرأه فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل على رسول الله ﷺ مع ناس من أصحابه ورجع باقيهم إلى أهلهم وأمنت قريش على عيرهم وتحقق قول رسول الله ﷺ يوم الحديبية: «سيجعل الله لأبي جندل وأصحابه فرجا ومخرجا».
ولما أمن الكفار القتال اختلطوا بالمسلمين فأثر فيهم الإسلام فأسلم كثير منهم، وكان أبو بكر الصديق يقول: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد ﷺ وربه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.