دمعة وابتسامة (1914)
مقدمة
قد انتقل جبران خليل جبران في الاعوام العشرة الاخيرة من ربيع الحياة الى صيفها، فنمت امياله ونضجت افكاره ، وتدرجت روحه من عالم الخيال الشعري الى عالم اسمى واوسع يتعانق فيه الخيال المطلق والحقيقة المجردة ، وتلتقي في جنباته اشباح العواطف الدقيقة بجبابرة المبادئ الأساسية الصحيحة .
جبران اليوم ليس بجبران الامس، فالشاب الحساس الذي كتب « دمعة وابتسامة » بقلم محبر بالدمع قد تحول الى رجل قوي" يكتب برؤوس الحراب المغموسة بالدماء . والفرق بين مقالة « جمال الموت » وحكاية « حفار القبور » هو الفرق بين جبران الامس وجبران اليوم، فالنفس اللطيفة التي كانت ترتعش لهبوب نسيمات السحر قد تشددت بالعزم فلم تعد تهتز الا للعواصف فالعواصف هي من حاضر جبران بمقام النسيم من ماضيه
ولكن لو تمعنا مليا بجموع كتابات جبران وتآليفه ، وعلاقتها بالنهضة الأدبية الحديثة ، لوجدنا أن « لدمعة وابتسامة » مقاماً خاصاً بها لأنها كانت أول نغمة من نوعها في العالم العربي ، لأنها خالفت بما فيها من التراكيب ودقة البيان كل ما جاء قبلها من الكتابات ، لأنها أنت كتوطئة لحركة عربية جديدة يشعر بها ويتأثر لها الطالب في مدرسته والمتأدب في مكتبته والصحافي في ادارته .
عندما ظهرت « دمعة وابتسامة » كان الكتاب والشعراء في مصر وسوريا والمهجر يملأون الصحف والمجلات بمقالات ورسائل وقصائد عقيمة بليدة خالية من الشعور بعيدة عن القلب ، وكان اكثر الناس يحسبون كل من وزن الكلام شاعراً وكل من رتب الفقرات كاتباً . ولكن لما ابتدأَ جبران بنشر « دمعة وابتسامة » غيَّر الناس افكارهم وعلموا للمرة الاولى ان الشاعر الحقيقي هو الذي يضرب باصابعه السحرية عَلَى اوتار قلوبهم ويعيد عَلَى مسامعهم في اليقظة ما تسمعه أرواحهم في المنام ، ومن ذلك الحين ابتدأ فتيان الكتاب والشعراء بتقليد « دمعة وابتسامة » والنسيج على منوالها فلم يمر عامان او ثلاثة عَلَى ظهورها حتى كان لجبران تلاميذ واتباع منتشرون في كل مكان من العالم العربي
عندما طلبنا الى جبران جمع « دمعة وابتسامة » ونشرها في كتاب اجابنا ببيت من احد موشحاته قائلاً :
فقلنا له « ذاك عهدٌ من حياتك قد مضى ، ولكنهُ لم يزل حاضراً في حياة محبيك ومريديك »
فاجابنا « ان الشاب الذي كتب « دمعة وابتسامة » قد مات ودفن في وادي الاحلام فلماذا تريدون نبش قبره؟»
فقلنا له « أن ذلك الشاب قد ترنم باغنية علوية قبل ان يموت وعلينا ان نحفظ تلك الاغنية كيلا لتلاعب بهـا ايدي الضياع »
فاجابنا « افعلوا ما شئتم، ولكن لا تنسوا ان روح ذلك الشاب قد تقمصت في جسد رجل يحب العزم والقوة محبته للظرف والجمال ويميل الى الهدم ميله الى البناء فهو صديق الناس وعدوهم في وقت واحد »
فقلنا له « سوف لا ننسى وان حاولنا التناسي ففي « حفار القبور » ما ينبهنا ويذكرنا »
نيويورك في ٢٤ نيسان سنة ١٩١٤