دمعة وابتسامة (1914)/أيتها الريح
تَمُرِّينَ آنًا فرحة مترنحة، وآونةً متأوهة نادبة، فنسمعك ولا نشاهدك، ونشعر بك ولا نراك، فإنك بحر من الحب يغمر أرواحنا ولا يغرقها، ويتلاعب بأفئدتها وهي ساكنة.
تتصاعدين مع الروابي وتنخفضين مع الأودية وتنبسطين مع السهول والمروج، ففي تصاعدك عزم، وفي انخفاضك رقة، وفي انبساطك رشاقة، فكأنك مليك رءوف يتساهل مع الضعفاء الساقطين، ويترفع مع الأقوياء المتشامخين.
في الخريف تنوحين في الأودية فتبكي لنواحك الأشجار، وفي الشتاء تثورين بشدة فتثور معك الطبيعة بأسرها، وفي الربيع تعتلِّين وتضعفين ولضعفك تستفيق الحقول، وفي الصيف تتوارين وراء نقاب السكون فنخالك ميتًا قتلته سهام الشمس ثم كفنته بحرارتها
لكن- أنادبة كنت أيام الخريف، أم ضاحكة من خجل الأشجار بعد عريتها من ملابسها؟ أغاضبة كنت أيام الشتاء، أم راقصة حول قبور الليالي المكلسة بالثلوج؟ أعليلة كنتِ أيام الربيع، أم حبيبة أضناها البعاد فجاءت تسعد بالتنهد أنفاسها على وجه حبيبها شاب الفصول لتنبهه من رقاده؟ أميتة كنت أيام الصيف أم هاجعة في قلوب الأثمار، وبين جفنات الكروم، وعلى بيادر القش؟
أنت تحملين من أزفة المدينة أنفاس العلل، ومن الروابي أرواح الأزهار، وهكذا تفعل النفوس الكبيرة التي تحمل أوجاع الحياة بسكينة، وبسكينة تلتقي بأفراحها
أنت تهمسين في أذن الوردة أسرارًا غريبة تفهم مفادها، فتضطرب تارة، وطورًا تبتسم، وهكذا تفعل الآلهة بأرواح البشر
أنت تبطئين هنا وتسارعين هناك وتراكضين هنالك، ولكنك لا تقفين قط، وهكذا تفعل فكرة الإنسان التي تحيا بالحركة وتموت بالسبات.
أنت تكتبين على وجه البحيرة أشعارًا ثم تمحينها، وهكذا يفعل الشعراء المترددون
من الجنوب تجيئين حارة كالمحبة، ومن الشمال تأتين باردة كالموت، ومن المشرق لطيفة كملامس الأرواح، ومن المغرب تتدفقين شديدة كالبغضاء، أمتقلبة أنتِ كالدهر، أم أنتِ رسول الجهات تبلغين إلينا ما تأتمنك عليه؟
تمرين غاضبة في الصحاري فتدوسين القوافل بقساوة ثم تلحِّدينها بلحف الرمال، فهل أنتِ أنتِ ذاك السيال الخفي المتموج مع أشعة الفجر بين أوراق الغصون، المنسل كالأحلام في منعطفات الأودية، حيث تتمايل الأزهار شغفًا بك، وتتخاصر الأعشاب سكرًا من أنفاسك؟
تثورين ظلمًا في البحار فتحركين ساكن أعماقها، حتى إذا أزبدت حنقًا عليك فتحت فاها لجة ولقمتها من السفن والأرواح لقمًا مرة، فهل أنت أنت ذلك المحب المتلاعب حنوًّا بغدائر الأطفال المتراكضين حول المنازل؟
إلى أين تتسارعين بأرواحنا وتنهداتنا وأنفاسنا؟ إلى أين تحملين رسوم ابتساماتنا؟ وماذا تفعلين بشعلات قلوبنا المتطايرة؟ هل تذهبين بها إلى ما وراء الشفق، إلى ما وراء هذه الحياة؟ أم تجرينها فريسة إلى المغاور البعيدة والكهوف المخيفة، وهناك تقذفينها يمينًا وشمالًا حتى تضمحل وتختفي؟ في سكينة الليل تبيح لك القلوب أسرارها، وعند الفجر تحلك العيون اهتزازات أجفانها، فهل أنت ذاكرة ما شعرت به القلوب وما رأته العيون؟
بين جنحيك يستودع الفقير صدى انسحاقه، واليتيم حرقته، والحزينة تأوهاتها، وطي أثوابك يضع الغريب حنينه، والمتروك لهفته، والساقطة عويل نفسها، فهل أنت حافظة لهؤلاء الصغار ودائعهم؟ أم أنت كهذه الأرض لا نودعها شيئًا إلا وتحوله إلى جسمها؟
أسامعة أنت هذا النداء، وهذا العويل وهذا الضجيج وهذا البكاء، أم أنت كالأقوياء من البشر تمتد إليهم الأكف فلا يلتفتون، وتتصاعد نحوهم الأصوات فلا يسمعون؟
أسامعةٌ أنت يا حياة للسامع؟