انتقل إلى المحتوى

دمعة وابتسامة (1914)/امام عرش الجمال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


امام عرش الجمال

***

هربت من الاجتماع وهِمْتُ في ذاك الوادي الوسيع متبعًا مجاري الجدول تارة ومصغيًا إلى محاورات العصافير طورًا، حتى بلغت مكانًا حمته الأغصان من نظرات الشمس فجلست أسامر وحدتي وأناجي نفسي، نفس ظامئة رأت كل ما يرى سرابًا، وكل ما لا يرى شرابًا.

ولما انطلقت عاقلتي من محبس المادة إلى فضاء، التفتُّ فإذا بفتاة واقفة على مقربة مني، حورية لم تتخذ من الحلي والحلل سوى غصن من الكرمة تستر به بعض قامتها، وإكليل من الشقيق يجمع شعرها الذهبي ... وإذ عَلِمَتْ من نظراتي أنني صرت مسلوب الفجأة والحيرة، قالت:

«أنا ابنة الأحراج فلا تجزع» قلت وقد رَدَّتْ حلاوة صوتها بعض رمقي: «وهل يقطن من كان مثلك بَرِّيَّةً سكنتها الوحشة والوحوش؟ قولي لي بعيشك من أنت ومن أين أتيت؟» فقالت وقد جلست على الأعشاب: «أنا رمز الطبيعة، أنا العذراء التي عبدها آباؤك فبنوا مذابح وهياكل في بعلبك وأفقا وجبيل، قلت: «تلك الهياكل قد انهدمت وعظام أجدادي ساوت أديم الأرض ولم يبقَ من آثار ألهتهم وأديانهم سوى صفحات قليلة في بطون الكتب» قالت: «بعض الآلهة يحيون بحياة عبادهم ويموتون بموتهم، وبعضهم يحيون بألوهية أزلية أبدية، أما ألوهيتي فهي مستمدَّة من جمالٍ تراه كيفما حوَّلت عينيك، جمال هو الطبية بأسرها، جمال كان بدءَ سعادة الراعي بين الرُّبى، والقروي بين الحقول، والعشائر الرُّحَّلِ بين الجبل والساحل، جمال كان للحكيم مرقاةً إلى عرش حقيقة لا تجرح» قلت ودقات قلبي تقول ما لا يعرفه اللسان: «إن الجمال قوة مخيفة رهيبة». فقالت وعلى شفتيها ابتسامة الأزهار وفي نظرها أسرار الحياة: «أنتم البشر تخافون كل شيء حتى ذواتكم، تخافون السماء وهي منبع الأمن، تخافون الطبيعة وهي مرقد الراحة، وتخافون إله الآلهة وتعزون إليه الحقد والغضب وهو إن لم يكن محبة ورحمة لم يكن شيئًا.»

وبعد سكينة مازجتها الأحلام اللطيفة سألتها: «ما هذا الجمال؟ فقد تباين الناس بتعريفه ومعرفته مثلما اختلفوا بتمجيده ومحبته». قالت: «هو ما كان بنفسك جاذب إليه – هو ما تراه وتود أن تعطي لا أن تأخذ – هو ما شعرت عند ملقاه بأيادٍ ممدودة من أعماقك لضمه إلى أعماقك – هو ما تحسبه الأجسام محنة والأرواح منحة – هو ألفة بين الحزن والفرح – هو ما تراه محجوبًا وتعرفه مجهولًا وتسمعه صامتًا – هو قوة تبتدئ في قدس أقداس ذاتك وتنتهي في ما وراء تخيلاتك......»

واقتربت ابنة الأحراج مني ووضعت يدها المعطرة على عيني، ولما رفعتها رأيتني وحيدًا في ذلك الوادي، فرجعت ونفسي مرددة «إن الجمال هو ما تراه وتود أن تعطي لا أن تأخذ»