دمعة وابتسامة (1914)/الطفل يسوع والحب الطفل
الطفل يسوع
والحب الطفل
كنت بالأمس وحيدًا في هذا العالم يا حبيبتي، وكانت الوحدة قاسية كالموت، وكنت منفردًا كالزهرة النابتة في ظل الصخور المتعالية فلا تشعر الحياة بوجودي، ولا أنا أشعر بكيان الحياة، واليوم قد استيقظت نفسي ورأتك منتصبة بقربها، فتهيبت وتهللت، ثم سجدت أمامك مثلما فعل ذلك الراعي عندما رأى العليقة مشتعلة.
كانت بالأمس ملامس الهواء خشنة يا حبيبتي، وأشعة الشمس ضعيفة، وكان الضباب يستر وجه الأرض، وضجيج أمواج البحر يشابه الرعود القاصفة، وكنت أتلفَّت إلى كل ناحية فلا أرى غير ذاتي المتوجعة واقفة بجانبي وخيالات الظلمة تهبط وتتصاعد حولي كالغربان الجائعة، واليوم قد خَفَّ الهواء، وغمر النور الطبيعة وسكنت الأمواج، وانقشعت الغيوم، فكيفما نظرت أراك وأرى أسرار الحياة محيطة بك كالهالات التي يحدثها جسم العصفور على وجه البحيرة الهادئة، عندما يتحمَّم بمائها
كنت بالأمس كلمة صامتة في خاطر الليالي، فأصبحت أغنية مفرحة على ألسن الأيام، وقد تَمَّ هذا كله في دقيقة واحدة مؤلَّفة من نظرة وكلمة، وتنهدة وقبلة، تلك الدقيقة يا حبيبتي قد جمعت بين استعدادات نفسي الغابرة وأمانيِّها الآتية، فكانت كالوردة البيضاء الخارجة من قلب الأرض المظلم إلى نور النهار، تلك الدقيقة هي من كل حياتي بمنزلة ميلاد يسوع من كل الأجيال لأنها كانت مملوءة روحًا وطهرًا ومحبة- لأنها جعلت الظلمة في أعماقي شعاعًا، والكآبة مرحًا، والشقاء سعادة
إن شعلات المحبة يا حبيبتي تهبط من السماء متموجة بصور متباينة، وأشكال متنوعة، لكن فعلها وتأثيرها في هذا العالم هو واحد! فالشعلة الصغيرة تنير خلايا قلب الإنسان الفرد، هي كالشعلة العظيمة المشعشعة التي تنحدر من الأعالي وتنير ظلمات الأمم جميعها؛ لأن في النفس الواحدة عناصر وأميال وعواطف لا تختلف قط عن العناصر والأميال والعواطف الكائنة في نفس العائلة البشرية.
كان اليهود يا حبيبتي يترقبون مجيء عظيم موعود به منذ ابتداء الدهر ليخلصهم من عبودية الأمم، وكانت النفس الكبيرة في اليونان ترى أن عبادة المشترى ومينرفا قد ضعفت فلم تعد تشبع الأرواح من الروحيات، وكان الفكر السامي في روما يتأمل فيجد أن ألوهية أبولون أصبحت تتباعد عن العواطف، وجمال فينوس الأبدي قد أخذ يقترب من الشيخوخة، وكانت الأمم كلها تشعر على غير معرفة منها بمجاعة نفسية إلى تعاليم مترفعة عن المادة، وبميل عميق إلى الحرية الروحية التي تعلم الإنسان أن يفرح مع قريبه بنور الشمس وجمال الحياة، تلك هي الحرية الجميلة التي تخول الإنسان أن يقترب من القوة غير المنظورة بلا خوف ولا وجل، بعد أن يقنع الناس طُرًّا بأنه يقترب منهم من أجل سعادتهم
كان ذلك كله من ألفي سنة يا حبيبتي، عندما كانت عواطف القلب البشري تحوم مرفرفة حول المرئيات وتخشى الدنو من الروح الكلي الخالد، عندما كان «بان» إله الأرواح يملأ نفوس الرعاة جزعًا، وبعل إله الشمس يضغط بأيدي كهانه على قلوب المساكين والضعفاء
ففي ليلة واحدة، بل في ساعة واحدة، بل في لمحة واحدة تنفرد عن الأجيال لأنها أقوى من الأجيال انفتحت شفاه الروح ولفظت «كلمة الحياة» التي كانت في البدء عند الروح، فنزلت مع نور الكواكب واشعة القمر وتجسدت وصارت طفلاً بين ذراعي ابنة من البشر، في مكان حقير، حيث يحمي الرعاة مواشيهم من كواسر الليل.. ذلك الطفل النائم على القش اليابس في مذود البقر - ذلك الملك الجالس فوق عرش مصنوع من القلوب المثقلة بنير العبودية، والنفوس الجائعة الى الروح، والافكار التائقة الى الحكمة – ذلك الرضيع الملتف باثواب امه الفقيرة قد انتزع بلطفه صولجان القوة من المشتري واسلمهُ للراعي المسكين المتكئ على الاعشاب بين اغنامه، واخذ الحكمة من مينرڤا برقته ووضعها على لسان الصياد الفقير الجالس في زورقه على شاطئ البحيرة، واستخلص الغبطة بحزن نفسه من ابولون ووهبها لكسير القلب الواقف مستعطياً امام الابواب، وسكب الجمال بجماله من ڤينس
وانزل البعل عن كرسي جبرؤُوته واقام مكانه الفلاح البائس الذي ينثر في الحقل البذور مع عرق الجبين
او لم تكن عواطفي بالامس كاسباط اسرائيل يا حبيبتي؟ اما ترقبت في سكينة الليل محيء مخلص ينقذني من عبودية الايام ومتاعبها؟ اما شعرت كالامم الغابرة بالمجاعة الروحية العميقة؟ اما سرت على طرق الحياة مثل صبي ضائع بين الاحياء المهجورة، او لم تكن نفسي كالنواة المطروحة على الصخرة: لا الطير يلتقطها فيميتها، ولا العناصر تشقها فتحييها
قد كان ذلك كله بالامس يا حبيبتي عندما كانت احلامي تدب في جوانب الظلمة وتخاف الاقتراب من النور - عندما كان اليأس يلوي اضلعي والضجر يقوّمها
ففي ليلة واحدة، بل في ساعة واحدة، بل في لمحة واحدة تتنحى عن سني حياتي، لانها اجمل من سني حياتي هبط الروح من وسط دائرة النور الاعلى، ونظر الي من وراء عينيك، وتكلم معي بلسانك. ومن تلك النظرة وهاتيك الكلمة انبثق الحب وحل في اعشار قلبي... هذا الحب العظيم الجالس في هذا المذود المنزوي في صدري - هذا الحب الجميل الملتف باقمطة العواطف - هذا الرضيع اللطيف المتكئ على صدر النفس قد جعل الاحزان في باطني مسرة واليأس مجداً والوحدة نعيماً. هذا الملك المتعالي فوق عرش الذات المعنوية قد اعاد بصوته الحياة لايامي الميتة، وارجع بملامسه النور الى اجفاني المقرحة بالدموع، وانتشل بيمينه امالي من لجة القنوط
كان كل الزمن ليلاً يا حبيبتي، فصار فجراً، وسيصير نهاراً، لان انفاس الطفل يسوع قد تخللت دقائق الفضاء ومازجت ثانويات الاثير. وكانت حياتي حزناً، فصارت فرحاً، وستصير غبطة، لان ذراعي الطفل قد ضمتا قلبي وعانقا نفسي