دمعة وابتسامة (1914)/مخبآت الصدور
مخبآت الصدور
في صرح فخيم واقف تحت جنح الليل وقوف الحياة بين ستائر الموت جلست صبية بقرب منضدة عاجية تسند رأسها الجميل بيدها، مثلما تتكئ زنبقة ذابلة عَلَى اوراقها وتنظر الى ما حولها نظرات سجين يائس يريد ان يخرق بعينيهِ جدران حبسه ليرى الحياة السائرة في موكب الحرية
مرَّت الساعات مرور اشباح الظلمة، وتلك الصبية
مستأنسة بدموعها، مستأمنة بانفرادها ولوعتها، حتى اذا ما
اشتدت على قلبها وطأة عواطفها، وامتلكت شواعرها خزائن
اسرارها تناولت قلماً واخذت تمزج عَلَى صفحات الورق
قطرات الحبر بدموعهـا وتجمع بين الكلام ومكنونات نفسها. وهاك ما كتبت:
«ايتها الاخت المحبوبة!
عندما يضيق القلب باسراره، وتتقرح الاجفان من
حرارة دموعها، وتكاد الضلوع تتمزَّق من نمو مخبآت الصدور
لا يجد المرء غير الكلام والشكوى. فالحزين يا صديقتي
يستعذب الشكوى. يجد المحب تعزية بالتشبب، والمظلوم
لذة بالاسترحام.. فانا اكتب اليكِ الان لانني اصبحت
كشاعر يرى جمال الاشياء فينظم تأثيرات ذلك الجمـال
محكوماً بقوة الوهيته. او كطفل الفقير الجائع يستغيث
مدفوعاً بمرارة جوعه غير راحم فاقة امه وانكسارها -
اسمعي قصتي الموجعة يا اختي وابكي من اجلي، لان
البكاء كالصلاة، ودموع الشفقه كالاحسان لا تذهب سدى،
لانها متصاعدة من اعماق نفس حية شاعرة… شاءَ
والدي وجمع بالقران بيني وبين رجل شريف غني شأن كل والد غني شريف يروم تعزيز المال بالمال مخافة الفقر
وضم الشرف الى الشرف هرباً من ذل الايام. فكنت مع
عواطفي واحلامي ضحية عَلَى مذبح ذهب احتقره وشرف
موروث اكرهه، وفريسة ترتعد بين اظافر المادة التي اذا لم
تكن خادمة مطيعة للروح كانت اقسى من الموت وامرَّ
من الهاوية. انا اعتبر بعلي، لانهُ كريم الخلق، شريف القلب،
يجهد النفس في سبيل سعادتي، ويبذل المال لرضاي، لكنني
وجدت تأثير هذه الاشياء كلها لا يساوي دقيقة محبة حقيقية
مقدسة، تلك المحبة التي تستصغر كل شي وتبقى عظيمة..
لا تسخري بي يا رفيقتي، فانا الان اعلم الناس بحاجات قلب
المرأة -هذا القلب الخفوق - هذا الطائر السابح في فضاء
المحبة- هذا الاناء الطافح من خمرة الدهور المعدة لمراشف
الارواح – هذا الكتاب المطبوعة فيه فصول السعادة
والشقاء، واللذة والألم، والمسرَّة والاحزان، فلا يقرأه الا الرفيق الحقيقي نصف المرأَة المخلوق لها منذ الازل والى
الابد… نعم صرت ادرى النساء باغراض النفس واميال
القلب عندما وجدت ان خيول بعلي المطهمة ومركباته
البديعة وخزائنه الطافحة وشرفه الرفيع لا تساوي نظرة
واحدة من عيون ذلك الفتى الفقير الذي جاءَ هذه الحياة
من اجلي وجئت من اجله، ذلك الصابر عَلَى مضض البلوى
وذل التفريق، ذلك المظلوم عفواً بارادة والدي،
والمسجون بلا اثم في ظلمة العمر .. اياكِ يا صديقتي محاولة
تعزيتي، لان لي من مصائبي معزّياً هو ادراكي قوة حبي،
ومعرفتي شرف شوقي وحنيني، فانا انظر الآن من ورآء
الدموع فأَرى المنية تقترب مني يوماً فيومـاً لتقودني الى
حيث انتظر رفيق نفسي والتقي بهِ واعانقهُ عناقاً طويلاً
مقدساً. ولا تلوميني فانا قائمة بواجبات الزوجة الامينة،
خاضعة لاحكام الشرائع البشرية بتجلد وهدوء، اكرم بعلي بعاقلتي، واعتبره بقلبي، واجلهُ بنفسي، ولا يمكنني ان
اهبه كليتي، لان الله اعطاها الى حبيبي قبل معرفتي حبيبي
شاءَت السماء لحكمة خفية ان اصرف العمر مع رجل خلقت
لغيره فانا انفق هذا العمر حسب مشيئة السماء بسكينة،
ولكن اذا ما انفتحت ابواب الابدية التحمت بنصف نفسي
الجميل ونظرت الى الماضي – وذاك الماضي هو هذا الان-
نظرة الربيع الى الشتاء. وتأَملت في حياتي هذه، مثلما يتامل
في العقبات من بلغ قمة الجبل»
هنا وقفت تلك الصبية عن الكتابة. وحجبت وجهها
بيديها. وبكت بكاءً مرّاً، كأن نفسها الكبيرة ابت ان تسلم
اقدس اسرارها الى الورق، فاعطتها الى دموع سخية تجف
بسرعة وتمتزج بالاثير اللطيف موطن انفاس المحبين وأرواح
الازهار. وبعد هنيهة اخذت القلم وكتبت – «هل تذكرين
يا صديقتي ذلك الفتى؟ هل تذكرين تلك الاشعة المنبعثة من عينيه وتلك الاحزان المرسومة عَلَى جبينه؟ هل تذكرين
ابتسامه المشابه دموع الثكلى؟ هل تذكرين صوته المحاكي
صدى الوادي البعيد؟ هل تذكرينه اذ كان يتأمل في الاشياء
بنظرات طويلة هادئة، ثم يتكلم عنها بغرابة، ثم يحني رأسه
ويتنهد كأنه يخاف ان يشف حديثه عن خفايا قلبه الكبير؟
وهل تذكرين احلامه وعقائده ؟ هل تذكرين كل هذه
الاشياء في فتىً بحسبهُ البشر من البشر ويحتقره والدي لانهُ
اسمى من المطامع الترابية واشرف من ان يرث الشرف عن
الجدود؟ إِي يا اختي انتِ تعلمين انني شهيدة صغائر هذا
لعالم وضحية الغباوة وترحمين اختاً ساهرة في سكينة
الليل المخيف لتكشف لكِ ستائر صدرها عن اسرار قلبها.
انتِ ترحمين لان الحب قد زار قلبك»
جاءَ الصباح فقامت تلك الصبية واستسلمت للكرى
علها تجد فيهِ احلاماً الطف من احلام اليقظة . . . .