انتقل إلى المحتوى

دمعة وابتسامة (1914)/موت الشاعر حياته

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


موت الشاعر حياته

***

خيم الليل بجنحه فوق المدينة والبسها الثلج ثوباً وهزم البرد ابن آدم من الاسواق فاختبأَ في أوكاره . وقامت الارياح تتأَوَّه بين المساكن كمؤَمن وقف بين القبور الرخامية يرثي فريسة الموت.

وكان في اطراف الاحياءِ بيتٌ حقير تداعت اركانهُ واثقلته الثلوج حتى أوشك ان يسقط وفي احدى زوايا ذلك البيت فراش بالٍ عليهِ محتضر ينظر الى سراج ضعيف يغالب الظلمة فتغلبهُ . فتى في ربيع العمر قد علم بقرب اجل انعتاقه من قيود الحياة فصار ينتظر المنية وعَلَى وجههِ المصفرّ نور الامل وعَلَى شفتيهِ ابتسامة محزنة. شاعرٌ جاء ليفرح قلب الانسان باقواله الجميلة يموت جوعاً في مدينة الاحياء الاغنياء . نفس شريفة هبطت مع نعم الآلهة لتجعل الحياة عذبة تودّع دنيانا قبل ان تبتسم لها الانسانية . منازعٌ يلفظ انفاسه الاخيرة وليس بقربه سوى سراج كان رفيق وحدته وأوراق عليها خيالات روحه اللطيفة ·

جمع ذلك الفتى المنازع بقايا قوة قاربت الفناء ورفع يديه نحو العلاء وحرَّك اجفانه الذابلة كانهُ يريد ان يخرق بنظراته الاخيرة سقف ذلك الكوخ البالي ليرى النجوم من وراء الغيوم ثم قال :

«تعالي ايتها المنية الجميلة فقد اشتاقتك نفسي . اقتربي وحلي قيود المادة فقد تعبت من جرّها · تعالي اليَّ يا ايتها المنية الحلوة وانقذيني من بين البشر الذين يحسبونني غريباً عنهم لاني اترجم ما اسمعهُ من الملائكة الى لغة البشر . اسرعي نحوي فقد تخلى عني الانسان وطرحني في زوايا النسيان لاني لم اكن طامعاً بالمال نظيره ولا باستخدام من هو اضعف مني· تعالي اليَّ ايتها المنية العذبة وخذيني فاولاد بجدتي لا يحتاجونني . ضميني الى صدرك المملوء محبة . قبلي شفتي التي لم تذق طعم قبلة الوالدة ولا لمست وجنة الاخت ولا لثمت ثغر المحبوبة . اسرعي وعانقيني يا حبيبتي المنية ·

إنتصبَ اذ ذاك بجانب فراش المنازع طيف امرأَة ذات جمال غير بشري ترتدي ثوباً ناصعاً كالثلج وتحمل بيدها اكليل زنابق من نبت الحقول العلوية. ثم دنت منهُ وعانقتهُ واغمضت عينيه كي يراها بعين نفسه . وقبلت شفتيه قبلة محبة – قبلةً تركت عَلَى شفتيه ابتسامة اكتفاء .

في تلك الدقيقة اصبح ذلك البيت خالياً الا من التراب وبعض أوراق منثورة في زوايا الظلمة.

مرَّت الاجيال وسكان تلك المدينة غرقى في سبات الجحود والاهمال ولما استفاقوا ورأَت عيونهم فجر المعرفة اقاموا لذلك الشاعر تمثالاً عظيماً في وسط الساحة العمومية وعيدوا له في كل عام عيداً ... اه ما اجهل الانسان !