الروح/المسألة الحادية والعشرون/فصل الفرق بين الفراسة والظن
والفرق بين الفراسة، والظن أن الظن يخطئ ويصيب وهو يكون مع ظلمة القلب ونوره وطهارته ونجاسته ولهذا أمر تعالى باجتناب كثير منه وأخبر أن بعضه إثم.
و أما الفراسة: فأثنى على أهلها مدحهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَءَايَـٰتࣲ لِّلۡمُتَوَسِّمِينَ ٧٥﴾ [الحجر:75] قال ابن عباس رضي اللّه عنهما وغيره أي للمتفرسين وقال تعالى:
﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ﴾ [البقرة:273] وقال تعالى:﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد:30] فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهر وتصفى وتنزه من الأدناس وقرب من اللّه فهو ينظر بنور اللّه الذي جعله في قلبه. وفي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللّه).
وهذه الفراسة نشأت له من قربه من اللّه فإن القلب إذا قرب من اللّه انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه وكان تلقيه من مشكاة قريبة من اللّه بحسب قربه منه وأضاء له النور بقدر قربه فرأى في ذلك النور ما لم يره البعيد والمحجوب، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما يروي عنه ربه عز وجل أنه: قال ما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، فأخبر سبحانه أن تقرب عبده منه يفيده محبته له فإذا أحبه قرب من سمعه وبصره ويده ورجله فسمع به وأبصر به وبطش به ومشى به فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطى ء له فراسة فإن العبد إذا أبصر باللّه أبصر الأمر على ما هو عليه، فإذا سمع باللّه سمع على ما هو عليه، وليس هذا من علم الغيب بل علّام الغيوب قذف الحق في قلب قريب مستبشر بنوره غير مشغول بنقوش الأباطيل والخيالات والوساوس التي تمنعه من حصول صور الحقائق فيه وإذا غلب على القلب النور فاض على الأركان وبادر من القلب إلى العين فكشف بعين بصره يحسب ذلك النور وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يرى أصحابه به في الصلاة وهم خلفه كما يراهم وهم أمامه، ورأى بيت المقدس عيانا وهو بمكة، ورأى قصور الشام، وأبواب صنعاء، ومدائن كسرى وهو بالمدينة يحفر الخندق، ورأى أمراءه بمؤتة وقد أصيبوا وهو بالمدينة، ورأى النجاشي بالحبشة لما مات وهو بالمدينة فخرج إلى المصلي فصلى عليه، ورأى عمر سارية بنهاوند من أرض فارس هو وعساكر المسلمين وهم يقاتلون عدوهم فناداه يا سارية الجبل، ودخل عليه نفر من مذحج فيهم الأشتر النخعي فصعد فيه البصر وصوبه وقال أيهم هذا؟
قال مالك بن الحارث فقال ما له قاتله اللّه إني لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا.
و دخل عمرو بن عبيد على الحسن فقال هذا سيد الفتيان إن لم يحدث.
و قيل إن الشافعي ومحمد بن الحسن جلسا في المسجد الحرام فدخل رجل فقال محمد أتفرس أنه نجار، فقال الشافعي أتفرس أنه حداد، فسألاه فقال كنت حدادا وأنا اليوم أنجر، ودخل أبو الحسن البوسنجي والحسن الحداد على أبي القاسم المناوي يعودانه فاشتريا في طريقهما بنصف درهم تفاحا نسيئة فلما دخلا عليه قال ما هذه الظلمة؟ فخرجا وقالا ما علمنا لعل هذا من قبل ثمن التفاح فأعطيا القمن ثم عادا إليه وقع بصره عليهما فقال يمكن الإنسان أن يخرج من الظلمة بهذه السرعة؟
أخبراني عن شأنكما فأخبراه بالقصة فقال نعم كان كل واحد منكما يعتمد على صاحبه في إعطاء الثمن والرجل مستح منكما في التقاضي، وكان بين أبي زكريا النخشبي وبين امرأة سبب قبل توبته فكان يوما واقفا على رأس أبي عثمان الحيري فتفكر في شأنها فرفع أبو عثمان إليه رأسه وقال ألا يستحي، وكان شاه الكرماني جيد الفراسة لا تخطى ء فراسته وكان يقول من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الخلال لم تخطى ء فراسته. وكان شاب يصحب الجنيد يتكلم على الخواطر فذكر للجنيد فقال إيش هذا الذي ذكر لي عنك؟ فقال له أعتقد شيئا، فقال له الجنيد اعتقدت فقال الشاب اعتقدت كذا وكذا فقال الجنيد لا، فقال فاعتقد ثانيا قال اعتقدت فقال الشاب اعتقدت كذا وكذا فقال الجنيد لا، قال فاعتقد ثالثا قال اعتقدت قال الشاب هو كذا وكذا قال لا، فقال الشاب هذا عجب وأنت صدوق وأنا أعرف قلبي، فقال الجنيد صدقت في الأولى والثانية والثالثة لكن أردت أن أمتحنك هل يتغير قلبك؟
و قال أبو سعيد الخراز دخلت المسجد الحرام فدخل فقير عليه خرقتان يسأل شيئا فقلت في نفسي مثل هذا كل على الناس، فنظر إلي وقال: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ﴾ [البقرة:235] قال فاستغفرت في سري فناداني وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾ [الشورى:25]. وقال إبراهيم الخواص كنت في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه حسن الحرمة فقلت لأصحابنا يقع لي أنه يهودي! فكلهم كره ذلك فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم فقال: إيش قال الشيخ في؟
فاحتشموه فألح عليهم فقالوا قال إنك يهودي فجاء فأكب على يدي فأسلم فقلت ما السبب؟ فقال نجد في كتابنا أن الصديق لا تخطى ء فراسته فقلت أمتحن المسلمين فتأملتهم.
فقلت: إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة فلبست عليكم فلما اطلع هذا الشيخ علي وتفرسني علمت أنه صديق.
و هذا عثمان بن عفان دخل عليه رجل من الصحابة، وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: يدخل أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه فقلت: أوحى بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؟ فقال لا ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة.
فهذا شأن الفراسة وهي نور يقذفه اللّه في القلب فيخطر له الشي ء فيكون كما خطر له وينفذ إلى العين فيرى ما لا يراه غيرها.
هامش