الروح/المسألة الحادية والعشرون/فصل الفرق بين الأخبار بالحال وبين الشكوى
والفرق بين الأخبار بالحال وبين الشكوى وإن اشتبهت صدرتهما: أن الإخبار بالحال يقصد المخبر به قصدا صحيحا من علم سبب إدانته أو الاعتذار لأخيه من أمر طلبه منه أو يحذره من الوقوع في مثل ما وقع فيه فيكون ناصحا بإخباره له أو حمله على الصبر بالتأسي كما يذكر عن الأحنف أنه شكا إليه رجل شكوى فقال: يا ابن أخي لقد ذهب ضوء عيني كذا وكذا سنة فما أعلمت به أحدا ففي ضمن هذا الإخبار من حمل الشاكي على التأسي والصبر ما يثاب عليه المخبر وصورته صورة الشكوى ولكن القصد ميز بينهما، ولعل هذا قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، لما قالت عائشة: وا رأساه، فقال بل أنا وا رأساه 1 أي الوجع القوي بي أنا دونك فتأسي بي فلا تشتكي، ويلوح لي فيه معنى آخر وهو أنها كانت حبيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بل كانت أحب النساء إليه على الإطلاق.
فلما اشتكت إليه رأسها أخبرنا أن بمحبها من الألم مثل الذي بها وهذا غاية الموافقة من المحب ومحبوبه يتألم بتألمه ويسر بسروره حتى إذا آلمه عضو من أعضائه آلم المحب ذلك العضو بعينه وهذا من صدق المحبة وصفاء المودة فالمعنى الأول يفهم أنك لا تشتكي واصبر في من الموجع مثل ما بك فتأسى بي في الصبر وعدم الشكوى.
و المعنى الثاني يفهم إعلامها بصدق محبته لها أي انظري قوة محبتي لك كيف واسيتك في ألمك ووجع رأسك فلم تكوني متوجعة وأنا سليم من الوجع بل يؤلمني ما يؤلمك كما يسرني ما يسرك كما قيل:
وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن
وأما الشكوى فالإخبار العاري عن القصد الصحيح بل يكون مصدره السخط وشكاية المبتلي إلى غيره فإن شكا إليه سبحانه وتعالى لم يكن ذلك شكوى بل استعطاف وتملق واسترحام له كقول أيوب ﴿رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء:83] وقول يعقوب ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف:86] وقول موسى:
اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك، وقول سيد ولد آدم اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملّكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك فالشكوى إلى اللّه سبحانه لا تنافي الصبر بوجه فإن اللّه تعالى قال عن أيوب ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص:44]، مع إخباره عنه بالشكوى إليه في قوله مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وأخبر عن نبيه يعقوب أنه وعد من نفسه بالصبر الجميل والنبي إذا قال وفي مع قوله ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف:86]، ولم يجعل ذلك نقصا لصبره. ولا يلتف أن غير هذا من ترهات القوم، كما قال بعضهم لما قال: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء:83]. قال تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ [ص:44] ولم يقل صبورا حيث قال مسّني الضر. وقال بعضهم لم يقل ارحمني وإنما قال أنت أرحم الراحمين فلم يزد على الإخبار بحاله ووصف ربه، وقال بعضهم إنما شكا مس مضر حين ضعف لسانه عن الذكر فشكا مس ضر ضعف الذكر لا ضر المرض والألم. وقال بعضهم استخرج منه هذا القول ليكون قدوة للضعفاء من هذه الأمة، وكأن هذا القائل رأى أن الشكوى إلى اللّه تنافي الصبر وغلط أقبح الغلط فالمنافي للصبر شكواه لا الشكوى إليه فاللّه يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه ولا يحب التجلد عليه وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره فاحذر كل الحذر إظهار التجلد عليه وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم.
هامش
- ↑ أخرجه البخاري وابن ماجه.