انتقل إلى المحتوى

الروح/المسألة الثامنة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: المسألة الثامنة (عدم ذكر القرآن لعذاب القبر)


و هي قول السائل: ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليحذر ويتقي؟ فالجواب من وجهين:
مجمل، ومفصل.
أما المجمل: فهو أن اللّه سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما، والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، وقال تعالى ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113] وقال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] وقال تعالى ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34].
و الكتاب: هو القرآن، والحكمة: هي السنّة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول عن اللّه فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكر، إلا من ليس منهم، و قد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إني أوتيت الكتاب ومثله معه».
و أما الجواب المفصل: فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكور في القرآن في غير موضع. فمنها قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93] وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم اليوم تجزون.
و منها: قوله تعالى ﴿فَوَقَىٰهُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِ مَا مَكَرُواْۖ وَحَاقَ بِـَٔالِ فِرۡعَوۡنَ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ ۝٤٥ ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوࣰّا وَعَشِيࣰّاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوۤاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ ۝٤٦ [غافر:45–46] فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.
(و منها) قوله تعالى ﴿فَذَرۡهُمۡ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِی فِيهِ يُصۡعَقُونَ ۝٤٥ يَوۡمَ لَا يُغۡنِی عَنۡهُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـࣰٔا وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ۝٤٦ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَابࣰا دُونَ ذَ ٰلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ۝٤٧ [الطور:45–47] وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر، لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا، وقد يقال وهو أظهر: إن من مات منهم عذاب في البرزخ، ومن بقي منها عذب في الدنيا بالقتل وغيره، فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ.
(و منها) قوله تعالى ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ۝٢١ [السجدة:21] وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد اللّه بن عباس على عذاب القبر وفي الاحتجاج بها شي ء، لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعي به رجوعهم عن الكفر، ولم يكن هذا مما يخفى على حبر الأمة وترجمان القرآن، ولكن فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر، فإنه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا، ولهذا قال: من العذاب الأدنى، ولم يقل ولنذيقنهم العذاب الأدنى فتأمله. و هذا نظير قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها»، ولم يقل: فيأتيه حرها وسمومها، فإن الذي وصل إليه بعض ذلك وبقي له أكثره، والذي ذاقه أعداء اللّه في الدنيا بعض العذاب وبقي لهم ما هو أعظم منه.
(و منها) قوله تعالى: ﴿فَلَوۡلَاۤ إِذَا بَلَغَتِ ٱلۡحُلۡقُومَ ۝٨٣ وَأَنتُمۡ حِينَئِذࣲ تَنظُرُونَ ۝٨٤ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنكُمۡ وَلَـٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ ۝٨٥ فَلَوۡلَاۤ إِن كُنتُمۡ غَيۡرَ مَدِينِينَ ۝٨٦ تَرۡجِعُونَهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِينَ ۝٨٧ فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ۝٨٨ فَرَوۡحࣱ وَرَيۡحَانࣱ وَجَنَّتُ نَعِيمࣲ ۝٨٩ وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡيَمِينِ ۝٩٠ فَسَلَـٰمࣱ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡيَمِينِ ۝٩١ وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّاۤلِّينَ ۝٩٢ فَنُزُلࣱ مِّنۡ حَمِيمࣲ ۝٩٣ [الواقعة:83–93]﴿وَتَصۡلِيَةُ جَحِيمٍ ۝٩٤ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡيَقِينِ ۝٩٥ فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ ۝٩٦ [الواقعة:94–96].
فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر، وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية، إذ هي أهم وأولى بالذكر، وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام، كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام.
(و منها) قوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ۝٢٧ ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةࣰ مَّرۡضِيَّةࣰ ۝٢٨ فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی ۝٢٩ وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی ۝٣٠ [الفجر:27–30] وقد اختلف السلف: متى يقال لها ذلك؟ فقالت طائفة: يقال لها عند الموت، وظاهر اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطاب للنفس التي تجردت عن البدن وخرجت منه، وقد فسر ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله في حديث البراء وغيره: فيقال لها اخرجي راضية مرضيا عنك، وسيأتي تمام تقرير في هذا في المسألة التي يذكر فيها مستقر الأرواح في البرزخ إن شاء اللّه تعالى وقوله تعالى فَادْخُلِي فِي عِبادِي مطابق لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى» 1. و أنت إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن وباللّه التوفيق.


هامش

  1. رواه البخاري في المرضى 19، وفضائل الصحابة 5، ومسلم في السّلام 46، وفضائل الصحابة 85، والترمذي في الدعوات 76، وابن ماجة في الجنائز 64، ومالك في الموطأ باب الجنائز 46، وأحمد في مسنده 45/6.


الروح
المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون