الروح/المسألة الثانية عشرة
و هي أن سؤال منكر ونكير هل هو مختص بهذه الأمة أو يكون لها ولغيرها.
هذا موضع تكلّم فيه الناس، فقال أبو عبد اللّه الترمذي: إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة، فإذا أبوا كفّت الرسل واعتزلوهم، وعولجوا بالعذاب؛ فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالرحمة إماما للخلق كما قال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِينَ ١٠٧﴾ [الأنبياء:107] أمسك عنهم العذاب وأعطي السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف، ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فأمهلوا، فمن هاهنا ظهر أمر النفاق، وكانوا يسرّون الكفر ويعلنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا قيض اللّه لهم فتّاني القبر ليستخرجا سرّهم بالسؤال وليميز اللّه الخبيث من الطيّب فـ ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِی ٱلۡءَاخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاۤءُ ٢٧﴾ [إبراهيم:27].
و خالف في ذلك آخرون منهم عبد الحق الإشبيلي والقرطبي وقالوا: السؤال لهذه الأمة ولغيرها.
و توقف في ذلك آخرون منهم أبو عمر بن عبد البر فقال: وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها»، ومنهم من يرويه «تسأل»، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصّت بذلك فهذا أمر لا يقطع عليه.
و قد احتج من خصه بهذه الأمة بقوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها»، وبقوله: «أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة، قالوا: ويدل عليه قول الملكين له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول المؤمن: أشهد أنه عبد اللّه ورسوله، فهذا خاص بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقوله في الحديث الآخر: «إنكم بي ممتحنون وعنّي تسألون».
و قال آخرون: لا يدل هذا على اختصاص السؤال بهذه الأمة دون سائر الأمم، فإن قوله إن هذه الأمة إما أن يراد به أمة الناس كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾ [الأنعام:38] وكل جنس من أجناس الحيوان يسمى أمة، وفي الحديث: «لو لا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» 1 وفيه أيضا حديث النبي الذي قرصته نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى اللّه إليه من أجل أن قرصتك نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبّح اللّه.
و إن كان المراد به أمته صلى اللّه عليه وسلم الذي بعث فيهم لم يكن فيه ما ينفي سؤال غيرهم من الأمم. بل قد يكون ذكرهم إخبارا بأنهم مسئولون في قبورهم وأن ذلك لا يختص بمن قبلهم لفضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم.
و كذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم: «أوحي إليّ أنّكم تفتنون في قبوركم».
و كذلك إخباره عن قول الملكين: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ هو إخبار لأمته بما تمتحن به في قبورها، والظاهر- واللّه أعلم- أن كل نبي مع أمته كذلك وأنهم معذّبون في قبورهم بعد السؤال لهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذّبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة. واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
- ↑ أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام والفوائد باب ما جاء في قتل الكلاب (4/ 66) برقم 1486 وزاد عليه: «فاقتلوا منها كل أسود بهيم» والكلب الأسود البهيم هو الذي لا يكون فيه شي ء من البياض، وقد كره بعض أهل العلم صيد الكلب الأسود البهيم، وقيل أنه شيطان.