البداية والنهاية/الجزء الرابع/عمرة الجعرانة في ذي القعدة
قال الإمام أحمد: ثنا بهز وعبد الصمد المعنى قالا: ثنا همام بن يحيى، ثنا قتادة قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله ﷺ؟
قال: حجة واحدة، واعتمر أربع مرات.
عمرته زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذي القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته.
ورواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا داود - يعني العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله ﷺ أربع عمر؛ عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته.
ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث داود بن عبد الرحمن العطار المكي، عن عمرو بن دينار به. وحسنه والترمذي.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، ثنا حجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص - قال: اعتمر رسول الله ﷺ ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر.
غريب من هذا الوجه. وهذه الثلاث عمر اللاتي وقعن في ذي القعدة ما عدا عمرته مع حجته فإنها وقعت في ذي الحجة مع الحجة، وإن أراد ابتداء الإحرام بهن في ذي القعدة فلعله لم يرد عمرة الحديبية لأنه صد عنها، ولم يفعلها، والله أعلم.
قلت: وقد كان نافع ومولاه ابن عمر ينكران أن يكون رسول الله ﷺ اعتمر من الجعرانة بالكلية، وذلك فيما قال البخاري: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية فأمره أن يفي به.
قال: وأصاب عمر جاريتين من سبي حنين، فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال: فمنَّ رسول الله ﷺ على سبي حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبد الله انظر ما هذا؟
قال: منَّ رسول الله ﷺ على السبي.
قال: اذهب فأرسل الجاريتين.
قال نافع: ولم يعتمر رسول الله ﷺ من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخف على عبد الله.
وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر به.
ورواه مسلم أيضا، عن أحمد بن عبدة الضبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله ﷺ من الجعرانة فقال: لم يعتمر منها.
وهذا غريب جدا عن ابن عمرو عن مولاه نافع في إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد، وذكر ذلك أصحاب المغازي والسنن كلهم.
وهذا أيضا كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح، عن عروة، عن عائشة أنها أنكرت على ابن عمر قوله: إن رسول الله ﷺ اعتمر في رجب، وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما اعتمر رسول الله ﷺ إلا وهو شاهد، وما اعتمر في رجب قط.
وقال الإمام أحمد: ثنا نمير، ثنا الأعمش، عن مجاهد قال: سأل عروة بن الزبير ابن عمر في أي شهر اعتمر رسول الله ﷺ؟
قال: في رجب، فسمعتنا عائشة فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها، وما اعتمر قط إلا في ذي القعدة.
وأخرجه البخاري، ومسلم من حديث جرير، عن منصور عن مجاهد به نحوه.
ورواه أبو داود، والنسائي أيضا من حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن مجاهد: سئل ابن عمر كم اعتمر رسول الله ﷺ؟
فقال: مرتين، فقالت عائشة: لقد علم ابن عمر أن رسول الله ﷺ اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع.
قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا مفضل، عن منصور، عن مجاهد قال: دخلت مع عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وأناس يصلون الضحى، فقال عروة: أبا عبد الرحمن ما هذه الصلاة؟
قال: بدعة.
فقال له عروة: أبا عبد الرحمن كم اعتمر رسول الله؟
فقال: أربعا إحداهن في رجب.
قال: وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة: إن أبا عبد الرحمن يزعم أن رسول الله اعتمر أربعا إحداهن في رجب.
فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر النبي ﷺ إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط.
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن منصور.
وقال: حسن صحيح غريب.
وقال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا ابن جريج، أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن مخرش الكعبي:
أن رسول الله ﷺ خرج من الجعرانة ليلا حتى أمسى معتمرا، فدخل مكة ليلا يقضي عمرته، ثم خرج من تحت ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق - طريق المدينة - بسرف.
قال مخرش: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس.
ورواه الإمام أحمد: عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك، وهو من أفراده.
والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابتة بالنقل الصحيح الذي لا يمكن منعه ولا دفعه، ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها، والله أعلم.
ثم هم كالمجمعين على أنها كانت في ذي القعدة بعد غزوة الطائف، وقسم غنائم حنين.
وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في (معجمه الكبير) قائلا: حدثنا الحسن بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن الحسن الأسدي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن عمير - مولى عبد الله بن عباس - عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله ﷺ من الطائف نزل بالجعرانة فقسم بها الغنائم، ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال، فإنه غريب جدا، وفي إسناده نظر، والله أعلم.
وقال البخاري: ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إسماعيل، ثنا ابن جريج، أخبرني عطاء بن صفوان بن يعلى بن أمية، أخبره أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله ﷺ حين ينزل عليه.
قال: فبينا رسول الله ﷺ بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، قال: فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي ﷺ محمر الوجه يغط كذلك ساعة، ثم سرى عنه، فقال: «أين الذي يسألني عن العمرة آنفا؟»
فالتمس الرجل فأتي به.
قال: «أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك».
ورواه مسلم من حديث ابن جريج، وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما، عن صفوان بن يعلى بن أمية به.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو أسامة، أنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل رسول الله ﷺ عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من كدى.
وقال أبو داود: ثنا موسى أبو سلمة، ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثا ومشوا أربعا، وجعلوا أرديتهم تحت أباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى.
تفرد به أبو داود.
ورواه أيضا، وابن ماجه من حديث ابن خثيم، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس مختصرا.
وقال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثني الحسن بن مسلم، عن طاووس: أن ابن عباس أخبره، أن معاوية أخبره قال: قصرت عن رسول الله ﷺ بمشقص - أو قال: رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة -
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به.
ورواه مسلم أيضا: من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاووس، عن ابن عباس، عن معاوية به.
ورواه أبو داود، والنسائي أيضا: من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه به.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عمرو بن محمد الناقد، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن ابن عباس، عن معاوية قال: قصرت عن رأس رسول الله ﷺ عند المروة.
والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة، وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها، بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم، ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله ﷺ، بل خرجوا منها وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك الثلاثة الأيام.
وعمرته التي كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا التقصير الذي تعاطاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما من رأس رسول الله ﷺ عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا، والله تعالى أعلم.
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: ثم خرج رسول الله ﷺ من الجعرانة معتمرا، وأمر ببقاء الفيء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران.
قلت: الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من الأعراب فيما بين مكة والمدينة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله ﷺ من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم القرآن.
وذكر عروة وموسى بن عقبة، أن رسول الله ﷺ خلف معاذا مع عتاب بمكة قبل خروجه إلى هوازن، ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة.
وقال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال: لما استعمل رسول الله ﷺ عتاب بن أسيد على مكة، رزقه كل يوم درهما، فقام فخطب الناس فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني رسول الله ﷺ درهما كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد.
قال ابن إسحاق: وكانت عمرة رسول الله ﷺ في ذي القعدة، وقدم المدينة في بقية ذي القعدة، أو في أول ذي الحجة.
قال ابن هشام: قدمها لست بقين من ذي القعدة فيما قال أبو عمرو المديني.
قال ابن إسحاق: وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتاب بن أسيد وهي سنة ثمان.
قال: وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذي القعدة إلى رمضان من سنة تسع.