البداية والنهاية/الجزء الرابع/سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر
قال الإمام مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر قال: بعث رسول الله ﷺ بعثا قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح وهم ثلثمائة.
قال جابر: وأنا فيهم، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد، فأتوا أبا عبيدة بأزواد ذلك الجيش، فجمع كله فكان مزودي تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا، حتى فني ولم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة.
قال: فقلت: وما تغني تمرة؟
فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت.
قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الضرب، قال: فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشر ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلته فرحلت ثم مر تحتها فلم يصبهما.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك بنحوه.
وهو في الصحيحين أيضا: من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: بعثنا رسول الله ﷺ في ثلثمائة راكب، وأميرنا أبو عبيدة ابن الجراح نرصد عيرا لقريش، فأصابنا جوع شديد، حتى أكلنا الخبط فسمى ذلك الجيش جيش الخبط.
قال: ونحر رجل ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم ثلاثا، فنهاه أبو عبيدة.
قال: وألقى البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، وادهنا حتى ثابت إلينا أجسامنا وصلحت.
ثم ذكر قصة الضلع، فقوله في الحديث: نرصد عيرا لقريش دليل على أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، والله أعلم.
والرجل الذي نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو بكر ابن إسحاق، ثنا إسماعيل بن قتيبة، ثنا يحيى بن يحيى، ثنا أبو خيثمة - وهو زهير بن معاوية - عن أبي الزبير، عن جابر قال: بعثنا رسول الله ﷺ وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم نجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.
قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟
قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله.
قال: فانطلقنا إلى ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه، فإذا به دابة تدعى العنبر.
فقال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله ﷺ وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا.
قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا، ولقد كنا نغرف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه القدر كالثور - أو كقدر الثور - ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا، فأقعدهم في عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها، وتزودنا من لحمها وشايق.
فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله ﷺ فذكرنا ذلك له، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمه تطعمونا؟».
قال: فأرسلنا إلى رسول الله ﷺ فأكل منه.
ورواه مسلم: عن يحيى بن يحيى، وأحمد بن يونس، وأبو داود، عن النفيلي ثلاثتهم، عن أبي خيثمة - زهير بن معاوية الجعفي الكوفي - عن أبي الزبير - محمد بن مسلم بن تدرس المكي - عن جابر بن عبد الله الأنصاري به.
قلت: ومقتضى أكثر هذه السياقات أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، ولكن أوردناها ها هنا تبعا للحافظ البيهقي رحمه الله، فإنه أوردها بعد مؤتة وقبل غزوة الفتح والله أعلم.
وقد ذكر البخاري بعد غزوة مؤتة سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، فقال: حدثنا عمرو بن محمد، ثنا هشيم، أنبأنا حصين بن جندب، ثنا أبو ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول:
بعثنا رسول الله ﷺ إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناهم قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته.
فلما قدمنا بلغ النبي ﷺ فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟».
قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه فيما سلف.
ثم روى البخاري: من حديث يزيد بن أبي عبيدة، عن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع رسول الله ﷺ سبع غزوات، وخرجت فيما يبعث من البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر، ومرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
ثم ذكر الحافظ البيهقي ها هنا موت النجاشي صاحب الحبشة على الإسلام، ونعي رسول الله ﷺ له إلى المسلمين وصلاته عليه.
فروى: من طريق مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ نعى إلى الناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
أخرجاه من حديث مالك، وأخرجاه أيضا من حديث الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة بنحوه.
وأخرجاه من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة».
وقد تقدمت هذه الأحاديث أيضا والكلام عليها، ولله الحمد.
قلت: والظاهر أن موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير، فإن في صحيح مسلم أنه لما كتب إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي وليس هو بالمسلم، وزعم آخرون كالواقدي أنه هو، والله أعلم.
وروى الحافظ البيهقي، من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن موسى بن عقبة، عن أبيه، عن أم كلثوم قالت: لما تزوج النبي ﷺ أم سلمة قال: «قد أهديت إلى النجاشي أواق من مسك وحلة، وإني لأراه قد مات، ولا أرى الهدية إلا سترد علي، فإن ردت علي - أظنه قال - قسمتها بينكن، أو فهي لك».
قال: فكان كما قال رسول الله ﷺ، مات النجاشي وردت الهدية، فلما ردت عليه أعطى امرأة من نسائه أوقية من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها الحلة، والله أعلم.