شرح العقيدة الطحاوية/قوله ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين
شرح : قال تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون . ولا تعارض هذه الآية قوله : حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ، وقوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى - : لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها ، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ، ويتولونها بعده ، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره ، وحكمه وأمره ، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه .
وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي ؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن ؟ أو عرض من أعراضه ؟ أو جسم مساكن له مودع فيه ؟ أو جوهر مجرد ؟ وهل هي الروح أو غيرها ؟ وهل الأمارة ، وهل اللوامة ، والمطمئنة - نفس واحدة ، أم هي ثلاثة أنفس ؟ وهل تموت الروح ، أو الموت للبدن وحده ؟ وهذه المسألة تحتمل مجلداً ، ولكن أشير إلى الكلام عليها مختصراً ، إن شاء الله تعالى :
فقيل : الروح قديمة ، وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة . وهذا معلوم بالضرورة من دينهم ، أن العالم محدث ، ومضى على هذا الصحابة والتابعون ، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة ، فزعم أنها قديمة ، واحتج بأنها من أمر الله ، وأمره غير مخلوق ! وبأن الله أضافها إليه بقوله : قل الروح من أمر ربي ، وبقوله : ونفخت فيه من روحي ، كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده . وتوقف آخرون . واتفق أهل السنة والجماعة أنها مخلوقة . وممن نقل الإجماع على ذلك : محمد بن نصر المروزي ، و ابن قتيبة وغيرهما . ومن الأدلة على أن الروح مخلوقة ، قوله تعالى : الله خالق كل شيء ، فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما ، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى ، فإنها داخلة في مسمى إسمه . فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال ، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته - داخل في مسمى إسمه فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق ، وما سواه مخلوق ، ومعلوم قطعاً أن الروح ليس هي الله ، ولا صفة من صفاته ، وإنما هي من مصنوعاته . ومنها قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً . وقوله تعالى لزكريا : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً . والإنسان إسم لروحه وجسده ، والخطاب لزكريا ، لروحه وبدنه ، والروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال ، وهذا شأن المخلوق المحدث . وأما احتجاجهم بقوله : من أمر ربي - فليس المراد هنا بالأمر الطلب ، بل المراد به المأمور ، والمصدر يذكر ويراد به إسم المفعول ، وهذا معلوم مشهور. وأما استدلالهم بإضافتها إليه بقوله : من روحي - فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله نوعان : صفات لا تقوم بأنفسها ، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر ، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها ، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له ، وكذا وجهه ويده سبحانه . والثاني : إضافة أعيان منفصلة عنه ، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح ، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه ، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً ، يتميز بها المضاف عن غيره .
واختلف في الروح : هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده ؟ وقد تقدم عند ذكر الميثاق الإشارة إلى ذلك .
واختلف في الروح : ما هي ؟ قيل : هي جسم ، وقيل : عرض ، وقيل : لا ندري ما الروح ، أجوهر أم عرض ؟ وقيل : ليس الروح شيئاً أكثر من اعتدال الطبائع الأربع ، وقيل : هي الدم الصافي الخالص من الكدرة والعفونات ، وقيل : هي الحرارة الغريزية ، وهي الحياة ، وقيل : هو جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان ، على جهة الإعمال له والتدبير، وهي على ما وصفت من الانبساط في العالم ، غير منقسمة الذات والبنية ، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير، وقيل : النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس ، وقيل غير ذلك . وللناس في مسمى الإنسان : هل هو الروح فقط ، أو البدن فقط ، أو مجموعهما ، أو كل منهما ؟ وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه : هل هو اللفظ ، أو المعنى فقط ، أوهما ، أو كل منهما ؟ فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه . والحق : أن الإنسان إسم لهما ، وقد يطلق على أحدهما بقرينه ، وكذا الكلام .
والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل : أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، وهو جسم نوراني علوي ، خفيف حي متحرك ، ينفذ في جوهر الأعضاء ، ويسري فيها سريان الماء في الورد ، وسريان الدهن في الزيتون ، والنار في الفحم . فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف ، بقي ذلك الجسم اللطيف سارياً في هذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار ، من الحس والحركة الإرادية ، وإذا فسدت هذه ، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار ، فارق الروح البدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح . والدليل على ذلك قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها ، الآية . ففيها الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها . وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ، ففيها بسط الملائكة أيديهم لتناولها ، ووصفها بالإخراج والخروج ، والإخبار بعذابها ذلك اليوم ، والإخبار عن مجيئها إلى ربها . وقوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه الآية . ففيها الإخبار بتوفي النفس بالليل ، وبعثها إلى أجسادها بالنهار ، وتوفي الملائكة لها عند الموت . وقوله تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي . ففيها وصفها بالرجوع والدخول والرضى . وقال ﷺ : إن الروح إذا قبض تبعه البصر . ففيه وصفه بالقبض ، وأن البصر يراه . وقال ﷺ في حديث بلال : قبض أرواحكم وردها عليكم . وقال ﷺ : نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة . وسيأتي في الكلام على عذاب القبر أدلة كثيرة من خطاب ملك الموت لها ، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، وأنها تصعد ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح ، ومن الكافر كأنتن ريح ، إلى غير ذلك ، من الصفات . وعلى ذلك أجمع السلف ودل العقل ، وليس مع من خالف سوى الظنون الكاذبة ، والشبه الفاسدة ، التي لا يعارض بها ما دل عليه نصوص الوحي والأدلة العقلية .
وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح : هل هما متغايران ، أو مسماهما واحد ؟ فالتحقيق : أن النفس تطلق على أمور ، وكذلك الروح ، فيتحد مدلولهما تارة ، ويختلف تارة . فالنفس تطلق على الروح ، ولكن غالب ما يسمى نفساً إذا كانت متصلة بالبدن ، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها . ويطلق على الدم ، ففي الحديث : ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه . والنفس : العين ، يقال : أصابت فلاناً نفس ، أي عين . والنفس : الذات ، فسلموا على أنفسكم لا تقتلوا أنفسكم ، ونحو ذلك . وأما الروح فلا يطلق على البدن ، لا بانفراده ، ولا مع النفس . وتطلق الروح على القرآن ، وعلى جبرائيل ، وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا . نزل به الروح الأمين . ويطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضاً . وأما ما يؤيد الله به أولياءه ، فهي روح أخرى ، كما قال تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه . وكذلك القوى التي في البدن ، فإنها أيضا تسمى أرواحاً ، فيقال : الروح الباصر، والروح السامع ، والروح الشام . ويطلق الروح على أخص من هذا كله ، وهو : قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته . ونسبة هذا الروح إلى الروح ، كنسبة الروح إلى البدن ، فالعلم روح ، والإحسان روح ، والمحبة روح ، والتوكل روح ، والصدق روح ، والناس متفاوتون في هذه الروح : فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانياً ، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضياً بهمياً . وقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس : مطمئنة ، ولوامة ، وأمارة ، قالوا : وإن منهم من تغلب عليه هذه ، ومنهم من تغلب عليه هذه ، كما قال تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة . ولا أقسم بالنفس اللوامة . إن النفس لأمارة بالسوء . والتحقيق : أنها نفس واحدة ، لها صفات ، فهي أمارة بالسوء ، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة ، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها ، وتلوم بين الفعل والترك ، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة . ولهذا قال ﷺ : من سرته حسنته وساءته سيته فهو مؤمن . مع قوله : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، الحديث .
واختلف الناس : هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة : تموت ، لأنها نفس ، وكل نفس ذائقة الموت ، وقد قال تعالى : كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . وقال تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه . قالوا : وإذا كانت الملائكة تموت ، فالنفوس البشرية أولى بالموت . وقال آخرون : لا تموت الأرواح ، فإنها خلقت للبقاء ، وإنما تموت الأبدان . قالوا : وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها . والصواب أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها ، فإن أريد بموتها هذا القدر ، فهي ذائقة الموت ، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية ، فهي لا تموت بهذا الإعتبار ، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد . وأما قول أهل النار : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ، وقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فالمراد : أنهم كانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ، ثم أحياهم بعد ذلك ، ثم أماتهم ، ثم يحييهم يوم النشور ، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة ، وإلا كانت ثلاث موتات . وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء ، وأشرقت الأرض بنوره ، وليس ذلك بموت . وسيأتي ذكر ذلك ، إن شاء الله تعالى . وكذلك صعق موسى عليه السلام لم يكن موتاً ، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق - والله أعلم - موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق ، وأما من ذاق الموت ، أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم ، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية . والله أعلم .