شرح العقيدة الطحاوية/قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار)
والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار 1
شرح: الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.
النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى، الخاصة بنبينا ﷺ من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، أحاديث الشفاعة.
منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى رسول الله ﷺ بلحم، فدفع إليه منها الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه ؟ ألا ترون الى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم الى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون ابراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى: فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، قال: هكذا هو، وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنباً، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ﷺ، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ذنبك، ما تقدم منه وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأقول: يا رب إمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى. 2، 3.
والعجب كل العجب، من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا الى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار. وكان مقصود السلف - في الإقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم، فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث. وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله، لكن من مضمونه: أنهم يأتون آدم ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمداً ﷺ، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك ؟ وهو أعلم، قال رسول الله ﷺ، فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني، في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم، قال: فأرجع فأقف مع الناس، ثم ذكر انشقاق السموات، وتنزل الملائكة في الغمام، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح، قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع أقوالكم، وأرى أعمالكم، فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، إلى أن قال: فإذا أفضى أهل الجنة الى الجنة، قالوا: من يشفع لنا الى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم، إنه خلقه الله بيده، ونفخ فيه روحه، وكلمه قبلاً، فيأتون آدم، فيطلبون ذلك إليه، وذكر نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمد ﷺ.. إلى أن قال: قال رسول الله ﷺ: فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب، ثم استفتح، فيفتح لي، فأحيا ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررت له ساجداً، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول الله لي: ارفع يا محمد، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي، قال الله - وهو أعلم -: ما شأنك ؟ فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عز وجل: قد شفعتك، وأذنت لهم في دخول الجنة... الحديث. 4.
النوع الثاني والثالث من الشفاعة: شفاعته ﷺ في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار، أن لا يدخلونها.
النوع الرابع: شفاعته ﷺ في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. وقد وافقت المعتزلة هذه الشفاعة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات، مع تواتر الأحاديث فيها.
النوع الخامس: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن، حين دعا له رسول الله ﷺ أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، 5.
النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه. ثم قال القرطبي في التذكرة بعد ذكر هذا النوع: فإن قيل: فقد قال تعالى: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } 6. قيل له: لا تنفعه في الخروج من النار، كما تنفع عصاة الموحدين، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة.
النوع السابع: شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة، كما تقدم. وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: أنا أول شفيع في الجنة.
النوع الثامن: شفاعته في أهل الكبائر من أمته، ممن دخل النار، فيخرجون منها، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث. وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة، فخالفوا في ذلك، جهلاً منهم بصحة الأحاديث، وعناداً ممن علم ذلك واستمر على بدعته. وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً. وهذه الشفاعة تتكرر منه ﷺ أربع مرات. ومن أحاديث هذا النوع، حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. 7.
وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنزي، قال: اجتمعنا، ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه، يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا، فأذن لنا وهو قاعد على فراشه، فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة، جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد ﷺ، قال: إذا كان يوم القيامة، ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، لكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد ﷺ، فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأستأذن علي ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها، لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان بما قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل. قال: فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا لو مررنا بالحسن، وهو متوار في منزل أبي خليفة، فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك، فأتيناه، فسلمنا عليه، فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد، جئناك من عندك أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة، فقال: هيه ؟ فحدثاه بالحديث، فانتهى الى هذا الموضع، فقال: هيه ؟ فقلنا لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميع، منذ عشرين سنة، فما أدري، أنسي أم كره أن تتكلوا ؟ فقلنا: يا أبا سعيد، فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً ! ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به، قال: ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أئذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله. وهكذا 8.
وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء. وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً، قال: فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيرا قط، الحديث.
ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال: فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم: يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا.
والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا ﷺ وغيره في أهل الكبائر.
وأما أهل السنة والجماعة، فيقرون بشفاعة نبينا صﷺ في أهل الكبائر، وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً، كما في الحديث الصحيح، حديث الشفاعة: إنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأقول: ربي: أمتي، فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أنطلق فأسجد، فيحد لي حداً ذكرها ثلاث مرات.
وأما الاستشفاع بالنبي ﷺ وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء، ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين: أحدهما: أنه أقسم بغير الله. والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً. ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } 9.
وكذلك ما ثبت في الصحيحين من ﷺ لمعاذ رضي الله عنه، وهو رديفه: يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم. فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً.
وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ، في قول الماشي الى الصلاة: أسألك بحق ممشاي هذا، وبحق السائلين عليك، فهذا حق السائلين، هو أوجبه على نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم، وللعابدين أن يثيبهم، ولقد أحسن القائل:
فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي: بحق السائلين عليك وبين قوله: بحق نبيك أو نحو ذلك ؟ فالجواب: أن معنى قوله: بحق السائلين عليك أنك وعدت السائلين بالإجابة، وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي، بخلاف قوله: بحق فلان - فإن فلاناً وإن كان له حق على الله بوعده الصادق - فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل. فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعاي ! وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة ؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء ! وقد قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } 10.
وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم ينقل عن النبي ﷺ، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتب بها الجهال والطرقية.
والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والإتباع، لا على الهوى والإبتداع.
وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور أيضاً، لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق ؟! وقد قال ﷺ: من حلف بغير الله فقد أشرك. ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة و محمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه. وتارة يقول: بجاه فلان عندك، يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك. ومراده أن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا.
وهذا أيضاً محذور، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي ﷺ لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات ﷺ قال عمر رضي الله عنه - لما خرجوا يستسقون -: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل اليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك، إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي ﷺ أعظم وأعظم من جاه العباس.
وتارة يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم، ونحو ذلك. فهذا من أحسن ما يكون في الدعاء والتوسل والاستشفاع.
فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم معناه: فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً، وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، وذلك أهل للمحبة والطاعة والإقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، أو يراد به الاقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه.
وكذلك السؤال بالشيء، قد يراد به التسبب به، لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به.
ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم، فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.
فهؤلاء: دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله، ويتوجه به إليه، ويسأله به، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
فالحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعة في الطلب، بمعنى أنه صار شفعاً فيه بعد أن كان وتراً، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، وبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه، والله تعالى وتر، لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه. فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: ارفع رأسك، وقل يسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع، فيحد له حداً فيدخلهم الجنة، فالأمر كله لله.
{ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } 11 وقال تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } 12 وقال تعالى: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } 13، فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته، كما قال ﷺ: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء.
وفي الصحيح: أن النبي ﷺ قال: يا بني عبد مناف، لا أملك لكم من الله شيئاً، يا صفية يا عمة رسول الله ﷺ لا أملك لك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله، لا أملك لك من الله شيئا.
وفي الصحيح أيضاً عن النبي ﷺ: لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو شاة لها يعار، أو رقاع تخفق، فيقول: أغثني أغثني، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء. فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به: لا أملك لكم من الله من شيء فما الظن بغيره ؟ وإذا دعاه الداعي، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء، وقبل الشفاعة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه. وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء.
هامش
- ↑ [قال الألباني: وهي متواترة أيضا وقد عقد لها ابن أبي عاصم في " السنة " ستة أبواب ( 163 - 168 ) رقم الأحاديث ( 784 - 832 ) وساق طائفة منها الشارح رحمه الله في شرحه تضمنت أن شفاعته ﷺ ثمانية أنواع فليراجع من شاء البحث والتحقيق فإنه هام ]
- ↑ [أخرجاه في الصحيحين بمعناه]
- ↑ [واللفظ للإمام أحمد]
- ↑ [رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، والبيهقي وغيرهم]
- ↑ [والحديث مخرج في الصحيحين]
- ↑ [المدثر: 48]
- ↑ [رواه الإمام أحمد رحمه الله]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [الروم: 47]
- ↑ [الأعراف: 55]
- ↑ [آل عمران: 154]
- ↑ [آل عمران: 128]
- ↑ [الأعراف: 54]