شرح العقيدة الطحاوية/قوله:(وهو مستغن عن العرش وما دونه)
وهو مستغن عن العرش وما دونه ، محيط بكل شيء وفوقه ، وقد أعجز عن الاحاطة خلقه
شرح : أما قوله : وهو مستغن عن العرش وما دونه . فقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1 وقال تعالى : {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 2 . وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا ، لأنه لما ذكر العرش والكرسي ، ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش ، ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ، ليس لحاجته إليه ، بل له في ذلك حكمة اقتضته ، وكون العالي فوق السافل ، لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي ، محيطاً به ، حاملاً له ، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه .
فانظر إلى السماء ، كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها ؟ فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك ، بل لوازم علوه من خصائصه ، وهي حمله بقدرته للسافل ، وفقر السافل ، وغناه هو سبحانه عن السافل ، وإحاطته عز وجل به ، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته ، وغناه عن العرش ، وفقر العرش إليه ، وإحاطته بالعرش ، وعدم إحاطة العرش به ، وحصره للعرش ، وعدم حصر العرش له . وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق .
ونفاة العلو ، أهل التعطيل ، لو فصلوا بهذا التفصيل ، لهدوا إلى سواء السبيل ، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل ، ولسلكوا خلف الدليل ، ولكن فارقوا الدليل ، فضلوا عن سواء السبيل . والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله ، لما سئل عن قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 3 وغيرها : كيف استوى ؟
فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول . ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي ﷺ .
وأما قوله : محيط بكل شيء وفوقه ، وفي بعض النسخ : محيط بكل شيء فوقه ، بحذف الواو من قوله : فوقه ، والنسخة الأولى هي الصحيحة ، ومعناها : أنه ، تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء .
ومعنى الثانية : أنه محيط بكل شيء فوق العرش . وهذه - والله أعلم - إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً ، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة ، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد ، وإنكار لصفة الفوقية ! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات ، فلا يبقى لقوله : محيط - بمعنى : محيط بكل شيء فوق العرش ، والحالة هذه : معنى ! إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحيط به ، فتعين ثبوت الواو . ويكون المعنى : أنه سبحانه محيط بكل شيء ، وفوق كل شيء .
أما كونه محيطاً بكل شيء ، فقال تعالى: { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } 4... { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } 5، { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا } 6 .
وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك ، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . وإنما المراد : إحاطة عظمته . وسعة علمه وقدرته ، وأنها بالنسبة إلى عظمته كخردلة .
كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن - إلا كخردلة في يد أحدكم .
ومن المعلوم - ولله المثل الأعلى - أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة ، إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها ، وإن شاء جعلها تحته ، وهو في الحالين مباين لها ، عال عليها فوقها من جميع الوجوه ، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف . فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم ، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة ، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن ، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته ؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه ؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره .
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي ﷺ في رؤية الرب تعالى : فقال له أبو زرين : كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر، آية من آيات الله ، كلكم يراه مخلياً به ، والله أكبر من ذلك ، وإذا أفل تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء . فهذا يزيل كل إشكال ، ويبطل كل خيال .
وأما كونه فوق المخلوقات ، فقال تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } 7، { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } 8 . وقال ﷺ في حديث الأوعال المتقدم ذكره : والعرش فوق ذلك ، والله فوق ذلك كله .
وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي ﷺ ، وأقره على ما قال : وضحك منه .
وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله :
فقال النبي ﷺ : وأنا أشهد .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ، أنه قال : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرشرح : أن رحمتي سبقت غضبي وفي رواية : تغلب غضبي 9 .
وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه ، قال : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رؤوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى: { سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } 10 . فينظر إليهم ، وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه .
وروى مسلم عن النبي ﷺ ، في تفسير قوله تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } 11 بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } 12 ، أي يعلوه . فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته ، واسمان لعلوه وقربه .
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : أتى رسول الله ﷺ أعرابي ، فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس 13 ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، فقال رسول الله ﷺ : ويحك ! أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله ﷺ ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك ! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك ! أتدري ما الله ؟ إن الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته ، وقال بأصابعه ! مثل القبة عليه ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب . وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة ، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ، فقال النبي ﷺ : لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات . 14 .
وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها ، أنها كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ ، وتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات .
وعن عمر رضي الله عنه : أنه مر بعجوز فاستوقفته ، فوقف معها يحدثها ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست الناس بسبب هذه العجوز ؟ فقال : ويلك ! أتدري من هذه ؟ أمرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة التي أنزل الله فيها . { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } 15). 16 .
وروى عكرمة عن ابن عباس ، في قوله : { ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } 17 ، قال : ولم يستطع أن يقول من فوقهم ، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم .
ومن سمع أحاديث الرسول ﷺ وكلام السلف ، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر . ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك ، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته ، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات ، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم ، لكان متصفاً بضد ذلك ، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده ، وضد الفوقية : السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ، لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده .
فإن قيل : لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها . قيل : لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها ، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه ، غير مخالط للعالم ، وأنه موجود في الخارج ، ليس وجوده ذهنياً فقط ، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً ، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو : إما داخل العالم وإما خارج عنه ، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه ، وأوضح وأبين . وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال ، لا نقص فيه ، ولا يستلزم نقصاً ، ولا يوجب محذوراً ، ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً . فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله ، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله - : إلا بذلك ؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه ، وكونه فوق عباده ، التي تقرب من عشرين نوعاً :
أحدها : التصريح بالفوقية مقروناً بأداة : من ، المعينة للفوقية بالذات ، كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 18.
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة؛ كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 19.
الثالث: التصريح بالعروج إليه؛ نحو: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 20، وقوله ﷺ: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم).
الرابع: التصريح بالصعود إليه؛ كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} 21.
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه؛ كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 22. وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} 23.
السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً، وقدراً، وشرفاً؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 24.. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 25.. {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 26
السابع : التصريح بتنزيل الكتاب منه ، كقوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } 27.. { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } 28.. { تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } 29.. { تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } 30.. { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } 31 { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } 32]</ref>
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} 33. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} 34 . ففرق بين من له عموماً وبين من عنده من ملائكته وعبيده خصوصاً . وقول النبي ﷺ في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه : أنه عنده فوق العرش .
التاسع : التصريح بأنه تعالى في السماء ، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين : إما أن تكون في بمعنى على ، وإما أن يراد بالسماء العلو ، لا يختلفون في ذلك ، ولا يجوز الحمل على غيره .
العاشر : التصريح بالاستواء مقروناً بأداة على مختصاً بالعرش ، الذي هو أعلى المخلوقات ، مصاحباً في الأكثر لأداة : ثم الدالة على الترتيب والمهلة .
الحادي عشر : التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى ، كقوله ﷺ : إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً . والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط - باطل بالضرورة والفطرة ، وهذا يجده من نفسه كل داع ، كما يأتي إن شاء الله تعالى .
الثاني عشر : التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل .
الثالث عشر : الإشارة إليه حساً إلى العلو ، كما أشار إليه من هو أعلم بربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر ، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله ، في اليوم الأعظم ، في المكان الأعظم ، قال لهم : أنتم مسؤولون عني ، فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا . نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء ، قائلاً : اللهم أشهد . فكأنا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله ، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه : اللهم أشهد ، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين ، وأدى رسالة ربه كما أمر ، ونصح أمته غاية النصيحة ، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين ، وحذلقة المتحذلقين ! والحمد لله رب العالمين .
الرابع عشر : التصريح بلفظ : الأين كقول أعلم الخلق به ، وأنصحهم لأمته ، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح ، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه : أين الله ، في غير موضع .
الخامس عشر : شهادته ﷺ لمن قال إن ربه في السماء - بالإيمان .
السادس عشر : إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ، ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات ، فقال : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } 35 . فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني ، ومن أثبته فهو موسوي محمدي .
السابع عشر : إخباره ﷺ : أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة ، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار .
الثامن عشر : النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى ، من الكتاب والسنة ، وإخبار النبي ﷺ أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ، فلا يرونه إلا من فوقهم ، كما قال ﷺ : بينا أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى : { سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } 36 . ثم يتوارى عنهم ، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم 37 .
ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية . ولهذا طرد الجهمية الشقين ، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً ، وأقروا بهما ، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل ، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله ! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك ! وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً : فمنه : ما روى شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق ، بسنده إلى مطيع البلخي : أنه سأل أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقال : قد كفر ، لأن الله يقول : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 38 وعرشه فوق سبع سماواته ، قلت : فإن قال : إنه على العرش ، ولكن يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال : هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء ، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر . وزاد غيره : لأن الله في أعلى عليين ، وهو يدعى من أعلى ، لا من أسفل . انتهى .
ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم ، مخالفون له في كثير من اعتقاداته . وقد ينتسب إلى مالك و الشافعي و أحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم . وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي ، لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش - : مشهورة . 39 .
ومن تأول فوق ، بأنه خير من عباده وأفضل منهم ، وأنه خير من العرش وأفضل منه ، كما يقال : الأمير فوق الوزير ، والدينار فوق الدرهم - : فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة ، وتشمئز منه القلوب الصحيحة ! فإن قول القائل ابتداء : الله خير من عباده ، وخير من عرشه : من جنس قوله : الثلج بارد ، والنار حارة ، والشمس أضوأ من السراج ، والسماء أعلى من سقف الدار ، والجبل أثقل من الحصى ، ورسول الله أفضل من فلان اليهودي ، والسماء فوق الأرض ! ! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه ! فكيف يليق بكلام الله ، الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ؟! بل في ذلك تنقص ، كما قيل في المثل السائر :
ولو قال قائل : الجوهر فوق قشر البصل وقشرالسمك ! لضحك منه العقلاء ، للتفاوت الذي بينهما ، فإن التفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم . بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك ، بأن كان احتجاجاً على مبطل ، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } 40 وقوله تعالى: { آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } 41.. { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } 42 .
وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه ، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر ، وفوقية القدر ، وفوقية الذات . ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص ، وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه .
فإن قالوا ، بل علو المكانة لا المكان ؟ فالمكانة : تأنيث المكان ، والمنزلة : تأنيث المنزل ، فلفظ المكانة والمنزلة تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية ، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية ، فإذا قيل : لك في قلوبنا منزلة ، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان ، كما جاء في الأثر : إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه ، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه . فقوله : منزلة الله في قلبه : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك ، فإذا عرف أن المكانة والمنزلة : تأنيث المكان والمنزل ، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى ، وتابع له ، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة ، إذا كان مطابقاً كان حقاً ، وإلا باطلاً .
فإن قيل : المراد علوه في القلوب ، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء . قيل : وكذلك هو ، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء ، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء ، كان علو ، في القلوب غير مطابق ، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى .
وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع ، ثابت بالعقل والفطرة ، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه :
أحدها : العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين ، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات ، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر .
الثاني : أنه لما خلق العالم ، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته ، والأول باطل :
أما أولاً : فبالاتفاق ، وأما ثانياً : فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
والثاني يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته ، فيكون منفصلاً ، فتعينت المباينة ، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه - غير معقول .
الثالث : أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه - : يقتضي نفي وجوده بالكلية ، لأنه غير معقول : فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه . والأول باطل فتعين الثاني ، فلزمت المباينة .
وأما ثبوته بالفطرة ، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء ، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى . وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين ، وهو يتكلم في نفي صفة العلو ، ويقول : كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان ! فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ؟ فإنه ما قال عارف قط : يا الله ، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا ؟ قال : فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل ! وأظنه قال : وبكى ! وقال : حيرني الهمداني حيرني ! أراد الشيخ : أن هذا أمر فطر الله عليه عباده ، من غير أن يتلقوه من المرسلين ، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو .
وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته ، لأنه أنكره جمهور العقلاء ، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء ، بل هو قضية وهمية خيالية ؟ والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه ، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة ، وهو أن يقال : إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل ، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم فإن كان قولنا باطلاً في العقل ، فقولكم أبطل ، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل ، فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل . فإن دعوى الضرورة مشتركة ، فإنا نقول : نعلم بالضرورة بطلان قولكم ، وأنتم تقولون كذلك ، فإذا قلتم : تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل ؟ قابلناكم بنظير قولكم ، وعامة فطر الناس ، - ليسوا منكم ولا منا - موافقون لنا على هذا ، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم ، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية ، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية ، وبطلت عقلياتنا أيضاً ، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم ، فنحن مختصون بالسمع دونكم ، والعقل مشترك بيننا وبينكم .
فإن قلتم : أكثر العقلاء يقولون بقولنا ؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم شيء موجود ليس فوق العالم ، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم - : طائفة من النظار ، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم ابن صفوان وأتباعه .
واعترض على الدليل الفطري : أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء ، كما أن الكعبة قبلة للصلاة ، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض ؟ وأجيب على هذا الإعتراض من وجوه :
أحدها : أن قولكم : إن السماء قبلة للدعاء - لم يقله أحد من سلف الأمة ، ولا أنزل الله به من سلطان ، وهذا من الأمور الشرعية الدينية ، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها .
الثاني : أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة ، فإنه يستحث للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي ﷺ يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة ، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة ، أو أن له قبلتين : إحداهما الكعبة والأخرى السماء - : فقد ابتدع في الدين ، وخالف جماعة المسلمين .
الثالث : أن القبلة : هي ما يستقبله العابد بوجهه ، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء ، والذكر والذبح ، وكما يوجه المحتضر والمدفون ، ولذلك سميت وجهة . والإستقبال خلاف الإستدبار، فالإستقبال بالوجه ، والإستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازاً ، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ، وهذا لم يشرع ، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازاً ، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تنبع فيه الشرائع ، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقل السماء بوجهه ، بل نهواً عن ذلك .
ومعلوم أن التوجه بالقلب ، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري ، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل ، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله ، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله ، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل ، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة . وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك ، بخلاف الداعي ، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه ، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده .
وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض ، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له ، لا أن يميل إليه إذ هو تحته ! هذا لا يخطر في قلب ساجد . لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده : سبحان ربي الأسفل ! ! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً .
وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال حري أن يتزندق ، إن لم يتداركه الله برحمته ، وبعيد من مثله الصلاح ، قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } 43. وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } 44 . فمن لم يطلب الإهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان . نسأل الله العفو والعافية .
وقوله : وقد أعجز عن الإحاطة خلقه - أي لا يحيطون به علماً ولا رؤية ، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة ، بل هو سبحانه محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء .
هامش
- ↑ [آل عمران:97]
- ↑ [فاطر:15]
- ↑ [الأعراف:54]
- ↑ [البروج:20]
- ↑ [فصلت:54]
- ↑ [النساء:126]
- ↑ [الأنعام:18]
- ↑ [النحل:50]
- ↑ [رواه البخاري وغيره]
- ↑ [يس:58]
- ↑ [الحديد:3]
- ↑ [الكهف:97]
- ↑ [وضاعت العيال]
- ↑ [وهو حديث صحيح ، أخرجه الأموي في مغازيه ، وأصله في الصحيحين]
- ↑ [المجادلة:1]
- ↑ [أخرجه الدارمي]
- ↑ [الأعراف:17]
- ↑ [النحل:50]
- ↑ [الأنعام:61]
- ↑ [المعارج:4]
- ↑ [فاطر:10]
- ↑ [النساء:158]
- ↑ [آل عمران:55]
- ↑ [البقرة:255]
- ↑ [سبأ:23]
- ↑ [الشورى:51]
- ↑ [الزمر:1]
- ↑ [غافر:2]
- ↑ [فصلت:2]
- ↑ [فصلت:42]
- ↑ [النحل:102]
- ↑ [الدخان:1-5]
- ↑ [الأعراف:206]
- ↑ [الأنبياء:19]
- ↑ [غافر:36-37]
- ↑ [يس:58]
- ↑ [رواه الإمام أحمد في المسند ، وغيره ، من حديث جابر رضي الله عنه]
- ↑ [طه:5]
- ↑ [رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره]
- ↑ [يوسف:39]
- ↑ [النمل:59]
- ↑ [طه:73]
- ↑ [الأنعام:110]
- ↑ [الصف:5]