شرح العقيدة الطحاوية/قوله:(ولا تثبت قدم الإسلام الا على ظهر التسليم والاستسلام)
ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام 1
شرح: هذا من باب الاستعارة، اذ القدم الحسي لا تثبت إلا على ظهر شيء. أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه. روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وهذا كلام جامع نافع.
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن العالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً، فدل عليه عامياً آخر. ثم اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي، دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي، لأني أنا الأصل في علمك بأنك مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرف أنه مفت، فلزم القدح في فرعه ! فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت، ودللت عليه، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين، لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطىء.
والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والإنقياد لأمره، وقد علمنا بالإضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحاً في ما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب العقول الناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هدياً ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول، ولم يرض منه الرسول بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوسواس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به ! ! وقد قال تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ } 2، وقال: { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } 3 وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } 4، { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } 5، { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } 6، { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } 7، { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } 8، { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } 9.
ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أم لا ؟ الثاني باطل، وإن كان قد تكلم بما يدل على الحق بألفاظ مجملة محتملة، فما بلغ البلاغ المبين، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين، فقد افترى عليه ﷺ.
هامش
- ↑ [هذه الفقرة مقدمة على الفقرة السابقة في المخطوطات الثلاث وكذا في نسخة شيخنا الطباخ رحمه الله ولعلها أولى. منهم بوهم (أي توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا فيتوهم تشبيها. شرح الطحاوية. ) أو تأولها بفهم (أي ادعى أنه فهم لها تأويلا يخالف ظاهرها وما يفهمه كل عربي عن معناها ) إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين (في المخطوطات الثلاث والمطبوعات " المرسلين " ). ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه (قلت: وذلك لأن نفاة الصفا والرؤية من المعتزلة وغيرهم إنما ينفونها تنزيها لله تعالى بزعمهم عن التشبيه وهذا زلل وزيغ وضلال إذ كيف يكون ذلك تنزيها وهو ينفي عن الله صفات الكمال ومنها الرؤية إذ المعدوم هو الذي لا يرى فالكمال في إثبات الرؤية الثابتة في الكتاب والسنة والمشبهة إنما زلوا لغلوهم في إثبات الصفا وتشبيه الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى. والحق بين هؤلاء وهؤلاء إثبات بدون تشبيه وتنزيه بدون تعطيل. وما أحسن ما قيل: المعطل يعبد عدما والمجسم يعبد صنما ). فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية ]
- ↑ [النور: 54]
- ↑ [النحل: 35]
- ↑ [ابراهيم: 4]
- ↑ [المائدة: 15]
- ↑ [الزخرف: 1، 2]
- ↑ [يوسف: 1]
- ↑ [يوسف: 111]
- ↑ [النحل: 89]