إعراب القرآن للسيوطي/الثلاثون
المتمم الثلاثين ما جاء في التنزيل وقد حمل فيه اللفظ على المعنى وحكم عليه بما يحكم على معناه لا على اللفظ
فمن ذلك قوله تعالى: قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين.
من وقف على قوله فاقع وجعا فاقعاً تابعاً لصفراء ابتدأ لونها ورفعها بالابتداء وجعل قوله تسر الناظرين خبراً عنها.
وإنما قال: تسر ولم يقل: يسر حملاً على المعنى لأن قوله لونها: صفرتها فكأنه قال: صفرتها تسر الناظرين.
ومثله قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم.
فعدى رفثاً بإلى حملاً على الإفضاء وكما قال: أفضى بعضكم إلى بعض كذا قال: الرفث إلى نسائكم.
ومثل ذلك قول أبي علي في قوله تعالى: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم.
ثم قال: أن يؤتي أحد فقال: هذا محمول على المعنى لأنه لما قال: ولا تؤمنوا كأنه قال: أجحدوا أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم ومثله: ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا فعداه بمن كأنه قال: ونجيناه من القوم الذين كذبوا.
وقال: فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا كأنه قال: من يعصمنا من بأس الله إن جاءنا وقال: وتقسطوا إليهم فحمله على الإحسان كأنه قال: وتحسنوا إليهم.
ومن هذا الباب قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء إلى قوله وفي الرقاب والغارمين.
في الرقاب لم يعطف على الفقراء لأن المكاتب لا يملك شيئاً وإنما ذكر لتعريف الموضع والغارمين عطف على الفقراء إذ لا يملكون وفي سبيل الله مثل قوله وفي الرقاب لأن ما يخرج في سبيل الله يكون فيه ما لا يملك المخرج فيه مثل بناء القناطر وعقد الجسور وسد الثغور وقوله وابن السبيل عطف على اللام في الغارمين أو في ابن السبيل لم يكن سهلاً.
والمكاتب عبد لقوله: هل لكم مما ملكت أيمانكم.
ومن هذا الباب قوله تعالى: ما لكم من إله غيره فيمن رفع قوله غيره.
وكذلك هل من خالق غير الله فيمن رفع.
وكذلك قوله: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر فيمن رفع.
كان ذلك كله محمولاً على المعنى إذ المعنى: ما لكم إله غيره وهل خالق غير الله وما يعزب عن ربك مثقال ذرة.
ومثله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل.
ثم قال: ومن الذين قالوا إنا نصارى لأم معنى قوله: أخذ الله ميثاق بني إسرائيل.
واحد فجاء قوله ومن الذين قالوا على المعنى لا على اللفظ.
ومن ذلك قوله تعالى: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي أي: هذا الشخص أو: هذا المرئي.
وكذلك قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه لأن الوعظ والموعظة واحد.
وقالوا في قوله تعالى: إن رحمة الله قريب من المحسنين: إنه أراد به الرحمة هنا: المطر ويجوز أن يكون التذكير هنا إنما هو لأجل فعيل على قوله: بأعين أعداء وهن صديق وقوله: وأما قوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة فإنه حمله على النفس لأن الإنسان والنفس واحد وقيل: بل التاء للمبالغة وقيل: بل التقدير: عين بصيرة فحذف الموصوف.
وقال مجاهد: بل الإنسان على نفسه شاهد: عينه وياه ورجلاه فيكون الإنسان مبتدأ والظرف فيما ارتفع به خبر والهاء العائد من الجملة إلى المبتدأ وهو المجرور بالإضافة كما تقول: زيد في داره عمرو.
وعكس الأول قول الحطيئة: ثلاثة أنفس وثلاثة ذود لقد جار الزمان على عيالي حمل الأنفس على الأشخص كأنه قال: ثلاثة أشخص.
ومنه قوله تعالى: فله عشر أمثالها.
أنث العشر لما كان الأمثال بمعنى: الحسنات حمل الكلام على المعنى.
ومن ذلك قوله: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ألم تر إلى الملأ ألم تر إلى الذي حاج ألم تر إلى ربك.
عدي ترى بإلى حملاً على النظر كأنه قال: ألم تنظر.
وإن شئت كان المعنى: ألم ينته علمك إلى كذا.
وعكس هذا قوله: أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ولم يقل: إلى ملكوت لأن المعنى: أو لم يتفكروا في ملكوت السموات.
ومن الحمل على المعنى قوله: أو كالذي مر على قرية بعد قوله: إلى الذي حاج كأنه قال: أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه أو كالذي مر على قرية فجاء بالثاني على أن الأول كأنه قد سيق كذلك.
ومنه قوله تعالى: وأنفقوا مما رزقناكم إلى قوله: فأصدق و أكن لأن معناه: إن يؤخني أصدق وأكن فحمل أكن على موضع فأصدق لأنه في موضع الجزم لما كان جواب لولا.
ومن ذلك قوله تعالى: ويهديهم إليه سراطاً مستقيماً.
الهاء في إليه يعود إلى ما تقدم ذكره من اسم الله والمعنى: يهديهم إلى صراطه صراطاً مستقيماً.
كما قال: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله وإن حملت صراطاً على أنه لما قال: ويهديهم إليه دل هذا الكلام على انه قال: يعرفهم فنصب صراطاً على أنه مفعول لهذا الفعل المضمر والأول أشبه.
ومن ذلك قوله: ديناً قيماً يحتمل ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه لما قال: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم استغنى بجري ذكر الفعل عن ذكره ثانياً فقال ديناً قيماً أي: هداني ديناً قيماً كما قال: اهدنا الصراط المستقيم.
وإن شئت نصبته على اعرفوا لأن هدايتهم إليه تعريف لهم فحمله على اعرفوا.
وديناً قيماً إن شئت حملته على الإتباع كأنه قال: اتبعوا ديناً قيماً والتزموه كما قال: ابعوا ما أنزل إليكم من ربكم.
ومن ذلك قوله تعالى: يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ.
قال أبو علي: وجه الجر في ولؤلؤ أنهم يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ أي منهما.
وهذا هو الوجه لأنه نصب فقال: يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً حمله على: ويحلون لؤلؤاً واللؤلؤ إذا انفرد من الذهب والفضة لم يكن حلية.
فإن قلت: فقد قال الله تعالى: وتستخرجون حلية تلبسونها فعلى أن يكون حلية إذا وضع في الذهب والفضة صار حلية كما قال في العصير إني أراني أعصر خمراً لأنه قد يستحيل إليها بالشدة كما يكون ذلك حلية على الوجه بخلافه.
ويحتمل النصب وجهاً آخر وهو أن تحمله على موضع الجار والمجرور لأن موضعهما نصب.
ألا ترى أن معنى يحلون فيها من أساور: يحلون فيها أساور فتحمله على الموضع.
وقيل في قوله: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا إن من دخلت لأن معنى قوله: أحرص الناس: أحرص من الناس فقال: ومن الذين أشركوا حملاً على المعنى.
وقد ذكرنا ما في هذا في حذف الموصوف.
ومن الحمل على المعنى قوله: فمن بدل بعد ما سمعه والمتقدم ذكر الوصية ولكن معناه الإيصاء أي: من بدل الإيصاء.
كقوله: وإذا حضر القسمة ثم قال: فارزقوهم منه حملاً على الحظ والنصيب.
ومن ذلك قوله تعالى: مالي لا أرى الهدهد وما لنا لا نرى رجالاً لما كان المعنى في قولك: ما لي لا أراه وما لنا لا نراهم أخبرونا عنهم صار الاستفهام محمولاً على معنى الكلام حتى كأنه قال: أخبروني عن الهدهد أشاهد هو أم كان من الغائبين وكذلك الآية الأخرى فيمن وصل الهمزة ولم يقطعها في قوله: أتخذناهم سخرياً.
وكما استقام الحمل على المعنى في هذا النحو كذلك حمل الآية عليه فيما ترى أنه مذهب أبي الحسن.
يعني قوله: إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله.
ومن ذلك قوله: وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين.
من منصوب الموضع حملاً على المعنى لأن معنى جعلنا لكم فيها معايش: أعشناكم وكأنه قال: وأعشنا من لستم له برازقين.
ويجوز أن يكون من مبتدأ والخبر مضمر.
والتقدير: ومن لستم له برازقين جعلنا لكم فيها معايش.
ومن ذلك ما قال سيبويه: قال: سألت الخليل عن قوله تعالى: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة قال: هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت: انتبه إن الله أنزل من السماء ماء وكان كذا وكذا.
ومن ذلك قوله: من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة فيمن قرأ بالنصب لأنه إنما ينصب إذا كان السؤال على القرض لو كان: أيقرض زيد فيضاعفه عمرو.
وفي الآية السؤال عن المقرض لا عن الإقراض ولكنه حمل على المعنى فصار السؤال عن المقرض كالسؤال عن الإقراض.
ومن ذلك قوله: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم فيمن جزم يكفر حملاً على موضع الفاء لأن الفاء في موضع الجزم.
ومن الحمل على المعنى: لستن كأحد من النساء أن أتقيتن هم محمول على المعنى إذا جعلته يسد مسد الجواب لأن ليس لنفي الحال والجزاء لا يكون بالحال تقديره: باينتم نساء المسلمين.
ويجوز أن يكون الجواب فلا تخضعن دون لستن ولستن أوجه.
ومن ذلك قوله: من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم فيمن جزم حمله على موضع الفاء.
ومن ذلك قوله: قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله في قراءة الجمهور غير أبي عمرو.
لأن معنى: من رب السموات: لمن السموات فقال: لله حملاً على المعنى.
كما أن من قال في الأول وهو رواية العباس وأبي عمرو سيقولون الله حمل قوله: لمن الأرض على المعنى كأنه قال: من رب الأرض فقال: الله.
ومثله: قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين جواباً لقولهم: أتتخذنا هزواً.
ولو حمل على اللفظ لقال: أن أكون من الهازئين.
وأما قوله تعالى: ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة.
فقد قال في التذكرة: إنه محمول على ما قبله من المصدر والمصدر مفعول له وهو: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً أي: للغرور.
وغرورهم على ضربين: إما أن يغري بعضهم بعضاً أو يغروا جميعاً من يوسوسون له ويوالونه ممن لا يؤمنون.
فتقديره: للغرور ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون.
والضمير في إليه لزخرف القول.
أو لوحيهم أو ليرضوه.
ولا يكون أن تحمله على الأمر على قوله: واستفزز من استطعت لثبات الألف في الفعل وليست بفاصلة فتكون مثل السبيلا.
فإذا كان كذلك لم يتجه إلا على هذا الذي ذكرنا أو على قول أبي الحسن مع أن ذلك عزيز غامض ما علمته مر بي إلا هذا البيت الذي أنشده فيه.
قال وللقائل أن يقول: إن المقسم عليه محذوف مضمر كأنه: أي: قلت: بالله لتشربن أو لتقتمحن جميع ما في الإناء فحذف لتقتمحن لدلالة الحال عليه ولأن ما في الكلام من قوله: لتغني عني وإن أجاز ذلك فيه لم يكن فيه حجة.
قلت: الذي قال بلام الأمر في الآية هو الجبائي ولم ينظر إلى إثبات الألف ولم يعلم أن قوله لا ترضاها وأخواته من الضرورة كأنه استأنس بقراءة زبان: لا تخاف دركاً ولا تخشى.
فزعم الفارسي أن ذاك للفاصلة كالظنونا والسبيلا وليس قوله: ولتصغى فاصلة.
ومن ذلك ما ذهب إليه أبو علي في قراءة أبي عمرو في نصبه ويقول الذين آمنوا فزعم أنه محمول على قوله: فعسى الله أن يأتي بالفتح.
وأنت لا تقول: فعسى الله أن يأتي بأن يقول الذين آمنوا ولكن حمله على المعنى لأن معنى: فعسى الله أن يأتي بالفتح و فعسى أن يأتي الله بالفتح واحد.
وجوز أن يكون بدلاً من قوله أن يأتي.
أجزنا في قديماً أن يكون محمولاً على الفتح أي: وأن يأتي بالفتح ويقول المؤمنون.
كما قال الخليل في قوله تعالى: أو يرسل رسولاً أنه محمول على الوحي.
وكرواية هبيرة فنجي بالنصب.
حملاً على نصرنا من قوله: جاءهم نصرنا فنجي.
ومن ذلك قوله: أنا خير منه.
ومنه: فليحذر الذين يخالفون عن أمره حمله على يعدلون فعداه بعن.
وهذا النحو كثير.
ألا ترى أن سيبويه قال في قولهم: ألست أتيتنا فتحدثنا - بالرفع والنصب - فحمل مرة على اللفظ وأجاز النصب وعلى المعنى فمنع النصب إذ معناه الإثبات.
ولهذا جاء: أليس منكم رجل رشيد بخلاف قوله: ألست بربكم قالوا بلى.
فجاء الاختلاف في الآيتين كما جاء الرفع والنصب في المسألة فحمل مرة على الإثبات وأخرى على النفي.
ومن ذلك قوله: يا حسرة على العباد إن اللفظ لفظ النداء والمعنى على غيره.
كما أن قوله: اغفر لنا أيتها العصابة اللفظ على النداء والمعنى على غير النداء إنما هو الاختصاص.
قال أبو علي: مثل ما يكون اللفظ على شيء والمعنى على غيره قولهم: لا أدري أقام أم قعد ألا ترى أن اللفظ على الاستفهام والمعنى على غيره.
وكذلك قولهم: حسبك اللفظ لفظ الابتداء والمعنى على غيره.
وكذلك قولهم: اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الدعاء.
وكذلك: فليمدد له الرحمن مداً.
وإلى هذا النحو ذهب أبو عثمان في قولهم: ألا رجل ظريف فقال اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى التمني.
وليس هذا بسائغ لأن الكلام قد دخله ما منع هذا المعنى ألا ترى أن هذا ارتفع بالابتداء وقد دخل الكلام من المعنى ما أزال معنى الابتداء ألا ترى أن معنى الطلب قد أزال معنى الابتداء من حيث جرى مجرى: اللهم غلاماً أي: هب لي.
وكذلك قولك: ألا رجل بمنزلة قوله: هب لي وألا آخذ وألا أعطي ونحو ذلك.
فإذا دخل هذا المعنى أزال معنى الابتداء وإذا زال معناه لم يجز ارتفاعه بالابتداء لمعاقبة هذا المعنى له وإذا عاقبه ذلك وأزاله لم يجز أن يرتفع أفضل بأنه خبر لبطلان كون الأول أن يكون