كتاب الأم/كتاب النكاح/اللعان
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: قال الله تبارك وتعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} الآية وقال تعالى {والذين يرمون أزواجهم} إلى {أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} فلما حكم الله في الزوج القاذف بأن يلتعن دل ذلك على أن الله إنما أراد بقوله {والذين يرمون المحصنات} الآية القذفة غير الأزواج وكان القاذف الحر الذمي والعبد المسلم والذمي إذا قذفوا الحرة المسلمة جلدوا الحد معا فجلدوا الحر حد الحر والعبد حد العبد وأنه لم يبرأ قاذف بالغ يجري عليه الحكم من أن يحد حده إن لم يخرج منه بما أخرجه الله تعالى به من الشهود على المقذوفة لأن الآية عامة على المقذوفة كانت الآية في اللعان كذلك والله تعالى أعلم عامة على الأزواج القذفة فكان كل زوج قاذف يلاعن أو يحد إن كانت المقذوفة ممن لها حد أو لم تكن لأن على من قذفها إذا لم يكن لها حد تعزيرا وعليها حد إذا لم تلتعن بكل حال لأنه لا افتراق بين عموم الآيتين معا وكما جعل الله الطلاق إلى الأزواج قال {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} وقال عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} وقال {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} فكان هذا عاما للأزواج والنساء لا يخرج منه زوج مسلم حر ولا عبد ولا ذمي حر ولا عبد فكذلك اللعان لا يخرج منه زوج ولا زوجة [وقال] فيما حكى عن رسول الله ﷺ إذ لاعن بين أخوي بني العجلان ولم يتكلف أحد حكاية حكم النبي ﷺ في اللعان أن يقول قال للزوج قل كذا ولا للمرأة قولي كذا إنما تكلفوا حكاية جملة اللعان دليل على أن الله عز وجل إنما نصب اللعان حكاية في كتابه فإنما لاعن رسول الله ﷺ بين المتلاعنين بما حكم الله عز وجل في القرآن وقد حكى من حضر اللعان في اللعان ما احتيج إليه مما ليس في القرآن منه [قال]: فإذا لاعن الحاكم بين الزوجين وقال للزوج قل " أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا " ثم ردها عليه حتى يأتي بها أربع مرات فإذا فرغ من الرابعة وقفه وذكره وقال " اتق الله تعالى أن تبوء بلعنة الله فإن قولك " إن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا " موجبة يوجب عليك اللعنة إن كنت كاذبا فإن وقف كان لها عليه الحد إن قامت به وإن حلف لها فقد أكمل ما عليه من اللعان وينبغي أن يقول للزوجة فتقول أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا حتى تقولها أربعا فإذا أكملت أربعا وقفها وذكرها وقال " اتقي الله واحذري أن تبوئي بغضب الله فإن قولك: علي غضب الله إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا " يوجب عليك غضب الله إن كنت كاذبة فإن مضت فقد فرغت مما عليها وسقط الحد عنهما وهذا الحكم عليهما والله ولي أمرهما فيما غاب عما قالا.
فإن لاعنها بإنكار ولد أو حبل قال أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا وإن ولدها هذا أو حبلها هذا إن كان حبلا لمن زنا ما هو مني ثم يقولها في كل شهادة وفي قوله وعلي لعنة الله حتى تدخل مع حلفه على صدقه على الزنا لأنه قد رماها بشيئين بزنا وحمل أو ولد ينفيه فلما ذكر الله عز وجل الشهادات أربعا ثم فصل بينهن باللعنة في الرجل والغضب في المرأة دل ذلك على حال افتراق الشهادات في اللعنة والغضب واللعنة والغضب بعد الشهادة موجبتان على من أوجب عليه لأنه متجرئ على النفي وعلى الشهادة بالله تعالى باطلا ثم يزيد فيجترئ على أن يلتعن وعلى أن يدعو بلعنة الله فينبغي للوالي إذا عرف من ذلك ما جهلا أن يفقههما نظرا لهما استدلالا بالكتاب والسنة. أخبرنا ابن عيينة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس (أن النبي ﷺ حين لاعن بين المتلاعنين أمر رجلا أن يضع يده على فيه في الخامسة وقال إنها موجبة) أخبرنا مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره (أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له يا عاصم أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله ﷺ قال فسأل عاصم رسول الله ﷺ فكره رسول الله ﷺ المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله ﷺ فلما رجع إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله ﷺ؟ فقال عاصم لعويمر لم تأتني بخير قد كره رسول الله ﷺ المسألة التي سألته عنها فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فجاء عويمر ورسول الله ﷺ وسط الناس فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله ﷺ قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها فقال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله ﷺ فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله ﷺ) قال مالك وقال ابن شهاب فكانت تلك سنة المتلاعنين.
[قال الشافعي]: رحمه الله سمعت إبراهيم بن سعد بن إبراهيم يحدث عن ابن شهاب عن سهل بن سعد أنه أخبره قال (جاء عويمر العجلاني إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال: يا عاصم بن عدي سل لي رسول الله ﷺ عن رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله ﷺ عن ذلك فعاب رسول الله ﷺ المسائل فلقيه عويمر فقال ما صنعت؟ قال صنعت أنك لم تأتني بخير سألت رسول الله ﷺ فعاب المسائل فقال عويمر والله لاتين رسول الله ﷺ ولاسألنه فأتاه فوجده قد أنزل الله عليه فيهما فدعاهما فلاعن بينهما فقال عويمر لئن انطلقت بها لقد كذبت عليها ففارقها قبل أن يأمره رسول الله ﷺ) قال ابن شهاب فصارت سنة في المتلاعنين ثم " قال رسول الله ﷺ (أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا) قال فجاءت به على النعت المكروه.
[قال الشافعي]: رحمه الله الوحرة دابة تشبه الوزغ أخبرنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة " أن النبي ﷺ قال (إن جاءت به أشقر سبطا فهو لزوجها وإن جاءت به أديعج فهو للذي يتهمه) فجاءت به أديعج أخبرنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ في المتلاعنين مثل معنى حديث مالك وإبراهيم فلما انتهى إلى فراقها قال في الحديث ففارقها وما أمره رسول الله ﷺ بفراقها فمضت سنة المتلاعنين وقال رسول الله ﷺ (انظروها فإن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وحرة فلا أحسبه إلا كذب عليها وإن جاءت به أسحم أعين ذا أليتين فلا أحسبه إلا قد صدق عليها) فجاءت به على الأمر المكروه. أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن ابن شهاب عن سهل بن سعد أخي بني ساعدة (أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فأنزل الله عز وجل في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المتلاعنين وقال رسول الله ﷺ قد قضى فيك وفي امرأتك) فتلاعنا وأنا شاهد ثم فارقها عند رسول الله ﷺ فكانت السنة بعد فيهما أن يفرق بين المتلاعنين قال فكانت حاملا فأنكره فكان ابنها يدعى إلى أمه.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: في حديث ابن أبي ذئب دليل على أن سهل بن سعد قال فكانت سنة المتلاعنين وفي حديث مالك وإبراهيم كأنه قول ابن شهاب وقد يكون هذا غير مختلف يقوله مرة ابن شهاب ولا يذكر سهلا ويقوله أخرى ويذكر سهلا ووافق ابن أبي ذئب إبراهيم بن سعد فيما زاد في آخر الحديث على حديث مالك وقد حدثنا سفيان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد قال شهدت المتلاعنين عند رسول الله ﷺ وأنا ابن خمس عشرة سنة ثم ساق الحديث ولم يتقنه إتقان هؤلاء أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن يحيى بن سعيد حدثه عن القاسم بن محمد عن ابن عباس (أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله: والله ما لي عهد بأهلي منذ عفار النخل وعفارها أنها إذا كانت تؤبر تعفر أربعين يوما ولا تسقى إلا بعد الإبار قال فوجدت مع امرأتي رجلا قال وكان زوجها مصفرا حمش الساقين سبط الشعر والذي رميت به خدلا إلى السواد جعدا قططا مستها فقال رسول الله ﷺ اللهم بين ثم لاعن بينهما فجاءت برجل يشبه الذي رميت به) أخبرنا ابن عيينة عن أبي الزناد عن القاسم بن محمد قال شهدت ابن عباس رضي الله عنهما يحدث بحديث المتلاعنين قال فقال له رجل أهي التي قال رسول الله ﷺ " لو كنت راجما أحدا بغير بينة رجمتها؟ " فقال ابن عباس لا، تلك امرأة كانت قد أعلنت أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن يزيد بن الهاد عن عبد الله بن يونس أنه سمع المقبري يحدث عن محمد بن كعب القرظي قال المقبري وحدثني أبو هريرة رضي الله عنه " أنه سمع رسول الله ﷺ يقول (لما نزلت آية المتلاعنين قال رسول الله ﷺ أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه به على رءوس الأولين والآخرين) وسمعت ابن عيينة يقول أخبرنا عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر (أن النبي ﷺ قال للمتلاعنين حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها قال يا رسول الله مالي قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها أو منه) [أخبرنا] سفيان بن عيينة عن أيوب عن سعيد بن جبير قال " سمعت ابن عمر يقول (فرق رسول الله ﷺ بين أخوي بني العجلان قال هكذا بأصبعه المسبحة والوسطى فقرنهما الوسطى والتي تليها يعني المسبحة قال الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب.) [أخبرنا] مالك عن نافع عن ابن عمر (أن رجلا لاعن امرأته في زمان رسول الله ﷺ وانتفى من ولدها ففرق رسول الله ﷺ بينهما وألحق الولد بالمرأة).
[قال الشافعي]: ففي حكم اللعان في كتاب الله ثم سنة رسول الله ﷺ دلائل واضحة ينبغي لأهل العلم أن ينتدبوا بمعرفته ثم يتحروا أحكام رسول الله ﷺ في غيره على أمثاله فهو دون الفرض وتنتفي عنهم الشبه التي عارض بها من جهل لسان العرب وبعض السنن وغبي عن موضع الحجة منها (أن عويمرا سأل رسول الله ﷺ عن رجل وجد مع امرأته رجلا فكره رسول الله ﷺ المسائل). وذلك أن عويمرا لم يخبره أن هذه المسألة كانت، وقد أخبرنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه " أن النبي ﷺ قال (إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن فحرم من أجل مسألته) وأخبرنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن عامر بن سعد عن أبيه عن النبي ﷺ مثل معناه قال الله عز وجل: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} إلى قوله {بها كافرين}.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: كانت المسائل فيها فيما لم ينزل إذا كان الوحي ينزل بمكروه لما ذكرت من قول الله تبارك وتعالى ثم قول رسول الله ﷺ وغيره فيما في معناه وفي معناه كراهية لكم أن تسألوا عما لم يحرم فإن حرمه الله في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ حرم أبدا إلا أن ينسخ الله تحريمه في كتابه أو ينسخ على لسان رسوله ﷺ سنة لسنة. وفيه دلائل على أن ما حرم رسول الله ﷺ حرام بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة بما وصفت وغيره من افتراض الله تعالى طاعته في غير آية من كتابه وما جاء عنه ﷺ مما قد وصفته في غير هذا الموضع، وفيه دلالة على أن رسول الله ﷺ حين وردت عليه هذه المسألة وكانت حكما وقف عن جوابها حتى أتاه من الله عز وجل الحكم فيها (فقال لعويمر قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك) فلاعن بينهما كما أمر الله تعالى في اللعان ثم فرق بينهما وألحق الولد بالمرأة ونفاه عن الأب وقال له (لا سبيل لك عليها) ولم يردد الصداق على الزوج فكانت هذه أحكاما وجبت باللعان ليست باللعان بعينه فالقول فيها واحد من قولين، أحدهما أني سمعت ممن أرضى دينه وعقله وعلمه يقول إنه لم يقض فيها ولا غيرها إلا بأمر الله تبارك وتعالى قال: فأمر الله إياه وجهان أحدهما وحي ينزله فيتلى على الناس والثاني رسالة تأتيه عن الله تعالى بأن افعل كذا فيفعله ولعل من حجة من قال هذا القول أن يقول قال الله تبارك وتعالى {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم} فيذهب إلى أن الكتاب هو ما يتلى عن الله تعالى والحكمة هي ما جاءت به الرسالة عن الله مما بينت سنة رسول الله ﷺ وقد قال الله عز وجل لأزواجه ﷺ {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} ولعل من حجته أن يقول (قال رسول الله ﷺ لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم والذي نفسي بيده لاقضين بينكما بكتاب الله عز ذكره أما إن الغنم والخادم رد عليك وإن امرأته ترجم إذا اعترفت) وجلد ابن الرجل مائة وغربه عاما، ولعله يذهب إلى أنه إذا انتظر الوحي في قضية لم ينزل عليه فيها انتظره كذلك في كل قضية وإذا كانت قضية أنزل عليه كما أنزل في حد الزاني وقضاها على ما أنزل عليه وإذا ما أنزلت عليه جملة في تبيين عن الله يمضي معنى ما أراد بمعرفة الوحي المتلو والرسالة إليه التي تكون بها سنته لما يحدث في ذلك المعنى بعينه [وقال غيره] سنة رسول الله ﷺ وجهان: أحدهما ما تبين مما في كتاب الله المبين عن معنى ما أراد الله بحمله خاصا وعاما، والآخر ما ألهمه الله من الحكمة وإلهام الأنبياء وحي ولعل من حجة من قال هذا القول أن يقول قال الله عز وجل فيما يحكى عن إبراهيم {إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} فقال غير واحد من أهل التفسير رؤيا الأنبياء وحي لقول ابن إبراهيم الذي أمر بذبحه {يا أبت افعل ما تؤمر} ومعرفته أن رؤياه أمر أمر به وقال الله تبارك وتعالى لنبيه {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} إلى قوله {في القرآن} [وقال غيرهم] سنة رسول الله ﷺ وحي وبيان عن وحي وأمر جعله الله تعالى إليه بما ألهمه من حكمته وخصه به من نبوته وفرض على العباد اتباع أمر رسول الله ﷺ في كتابه [قال]: وليس تعدو السنن كلها واحدا من هذه المعاني التي وصفت باختلاف من حكيت عنه من أهل العلم وأيها كان فقد ألزم الله تعالى خلقه وفرض عليهم اتباع رسوله فيه، وفي انتظار رسول الله ﷺ الوحي في المتلاعنين حتى جاءه فلاعن ثم سن الفرقة وسن نفي الولد ولم يرد الصداق على الزوج وقد طلبه دلالة على أن سنته لا تعدو واحدا من الوجوه التي ذهب إليها أهل العلم بأنها تبين عن كتاب الله إما برسالة من الله أو إلهام له وإما بأمر جعله الله إليه لموضعه الذي وضعه من دينه وبيان الأمور منها أن الله تعالى أمره أن يحكم على الظاهر ولا يقيم حدا بين اثنين إلا به لأن الظاهر يشبه الاعتراف من المقام عليه الحد أو بينة ولا يستعمل على أحد في حد ولا حق وجب عليه دلالة على كذبه ولا يعطي أحدا بدلالة على صدقه حتى تكون الدلالة من الظاهر في العام لا من الخاص فإذا كان هذا هكذا في أحكام رسول الله ﷺ كان من بعده من الولاة أولى أن لا يستعمل دلالة ولا يقضي إلا بظاهر أبدا فإن قال قائل ما دل على هذا؟ قلنا (قال رسول الله ﷺ في المتلاعنين إن أحدكما كاذب) فحكم على الصادق والكاذب حكما واحدا أن أخرجهما من الحد وقال رسول الله ﷺ (إن جاءت به أحيمر فلا أراه إلا قد كذب عليها وإن جاءت به أدعج فلا أراه إلا قد صدق) فجاءت به على النعت المكروه وقال رسول الله ﷺ (إن أمره لبين لولا ما حكم الله) فأخبر أن صدق الزوج على الملتعنة بدلالة على صدقه وكذبه بصفتين فجاءت دلالة على صدقه فلم يستعمل عليها الدلالة وأنفذ عليها ظاهر حكم الله تعالى من ادراء الحد وإعطائها الصداق مع قول رسول الله ﷺ (إن أمره لبين لولا ما حكم الله) وفي مثل معنى هذا من سنة رسول الله ﷺ قوله (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار) فأخبر أنه يقضي على الظاهر من كلام الخصمين وإنما يحل لهما ويحرم عليهما فيما بينهما وبين الله على ما يعلمان، ومن مثل هذا المعنى من كتاب الله قول الله عز وجل: {إذا جاءك المنافقون} إلى قوله {الكاذبون} فحقن رسول الله ﷺ دماءهم بما أظهروا من الإسلام وأقرهم على المناكحة والموارثة وكان الله أعلم بدينهم بالسرائر فأخبره الله تعالى أنهم في النار فقال {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وهذا يوجب على الحكام ما وصفت من ترك الدلالة الباطنة والحكم بالظاهر من القول أو البينة أو الاعتراف أو الحجة ودل أن عليهم أن ينتهوا إلى ما انتهى بهم إليه كما انتهى رسول الله ﷺ في المتلاعنين إلى ما انتهى به إليه ولم يحدث رسول الله ﷺ في حكم الله وأمضاه على الملاعنة بما ظهر له من صدق زوجها عليها بالاستدلال بالولد أن يحدها حد الزانية فمن بعده من الحكام أولى أن لا يحدث في شيء لله فيه حكم ولا لرسوله ﷺ غير ما حكما به بعينه أو ما كان في معناه وواجب على الحكام والمفتين أن لا يقولوا إلا من وجه لزم من كتاب الله أو سنة أو إجماع فإن لم يكن في واحد من هذه المنازل اجتهدوا عليه حتى يقولوا مثل معناه ولا يكون لهم والله أعلم أن يحدثوا حكما ليس في واحد من هذا ولا في مثل معناه ولما حكم الله على الزوج يرمي المرأة باللعان ولم يستثن إن سمى من يرميها به أو لم يسمه ورمى العجلاني امرأته برجل بعينه فالتعن ولم يحضر رسول الله ﷺ المرمي بالمرأة والتعن العجلاني استدللنا على أن الزوج إذا التعن لم يكن للرجل الذي رماه بامرأته عليه حد ولو كان أخذه له رسول الله ﷺ وبعث إلى المرمي فسأله فإن أقر حد وإن أنكر حد له الزوج.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولا للإمام إذا رمى رجل رجلا بزنا أو حدا أن يبعث إليه ويسأله عن ذلك لأن الله عز وجل يقول {ولا تجسسوا} [قال]: وإن شبه على أحد (أن النبي ﷺ بعث أنيسا إلى امرأة رجل فقال إن اعترفت فارجمها) فتلك امرأة ذكر أبو الزاني بها أنها زنت فكان يلزمه أن يسأل فإن أقرت حدث وسقط الحد عمن قذفها وإن أنكرت حد قاذفها وكذلك لو كان قاذفها زوجها لزمه الحد إن لم تقر وسقط عنه إن أقرت ولزمها فلا يجوز والله أعلم أن يحد رجل لامرأة ولعلها تقر بما قال ولا يترك الإمام الحد لها وقد سمع قذفها حتى تكون تتركه فلما كان القاذف لامرأته إذا التعن لو جاء المقذوف بعينه يطلب حده لم يؤخذ له الحد في القذف الذي يطلبه المقذوف بعينه لم يكن لمسألة المقذوف معنى إلا أن يسأل ليحد ولم يسأله رسول الله ﷺ وإنما سأل المقذوفة والله أعلم للحد الذي يقع لها إن لم تقر بالزنا، ولم يلتعن الزوج. ولو أقرت بالزنا لم تحد زوجها ولم يلتعن وجلدت أو رجمت وإن رجعت لم تحد لأن لها فيما أقرت به من حد الله عز وجل الرجوع ولم يحد زوجها لأنها مقرة بالزنا ولما حكى سهل بن سعد شهود المتلاعنين مع حداثته وحكاه ابن عمر استدللنا على أن اللعان لا يكون إلا بمحضر طائفة من المؤمنين لأنه لا يحضر أمرا يريد رسول الله ﷺ ستره ولا يحضره إلا وغيره حاضر له وكذلك جميع حدود الزنا يشهدها طائفة من المؤمنين أقلهم أربعة لأنه لا يجوز في شهادة الزنا أقل منهم وهذا يشبه قول الله عز وجل في الزانيين {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} وقال سهل بن سعد في حديثه فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله ﷺ وقال ابن أبي ذئب وابن جريج في حديث سهل وكانت سنة المتلاعنين. وقال ابن شهاب في حديث مالك وإبراهيم بن سعد فكانت سنة المتلاعنين فاحتمل معنيين أحدهما أنه إن كان طلقها قبل الحكم فكان ذلك إليه لم يكن اللعان فرقة حتى يجددها الزوج ولم يجبر الزوج عليها، وقد روي عن سعيد بن المسيب مثل معنى هذا القول ولو كان هذا هكذا كان رسول الله ﷺ يعيب على المطلق ثلاثا أن يطلقها لأنه لو لم يكن له أن يطلقها إلا واحدة قال لا تفعل مثل هذا والله أعلم فسأل وإذ لم ينهه النبي ﷺ عن الطلاق ثلاثا بين يديه فلو كان طلاقه إياها كصمته عند النبي ﷺ وكان اللعان فرقة فجهله المطلق ثلاثا أشبه والله أعلم أن يعلمه أنه ليس له أن يطلق ثلاثا في الموضع الذي ليس له فيه الطلاق ويحتمل طلاقه ثلاثا أن يكون بما وجد في نفسه بعلمه بصدقه وكذبها وجراءتها على اليمين طلقها ثلاثا جاهلا بأن اللعان فرقة فكان كمن طلق من طلق عليه بغير طلاقه وكمن شرط العهدة في البيع والضمان والسلف وهو يلزمه شرط أو لم يشرط فإن قال قائل ما دل على أن هذا المعنى أولى المعاني به؟ قيل قال سهل بن سعد وابن شهاب ففارقها حاملا فكانت تلك سنة المتلاعنين فمعنى قولهما الفرقة لا أن سنة المتلاعنين أنه لا تقع فرقة إلا بطلاقه ولو كان ذلك كذلك لم يكن عليه أن يطلق وزاد ابن عمر (عن النبي ﷺ أنه فرق بين المتلاعنين) وتفريق النبي ﷺ غير فرقة الزوج إنما هو تفريق حكم. فإن قال قائل هذان حديثان مختلفان فليسا عندي مختلفين وقد يكون ابن عمر شهد متلاعنين غير المتلاعنين اللذين شهدهما سهل وأخبر عما شهد وأخبر سهل عما شهد فيكون اللعان إذا كان فرقة بطلاق الزوج وسكوته سواء أو يكون ابن عمر شهد المتلاعنين اللذين شهد سهل فسمع النبي ﷺ حكم أن اللعان فرقة فحكى أنه فرق بين المتلاعنين سمع الزوج طلق أو لم يسمعه وذهب على سهل حفظه أو لم يذكره في حديثه وليس هذا اختلافا هذا حكاية لمعنى بلفظين مختلفين أو مجتمعي المعنى مختلفي اللفظ أو حفظ بعض ما لم يحفظ من حضر معه ولما (قال رسول الله ﷺ للمتلاعنين حسابكما على الله أحدكما كاذب) دل على ما وصفت في أول المسألة من أنه يحكم على ما ظهر له والله ولي ما غاب عنه ولما قال رسول الله ﷺ (لا سبيل لك عليها) استدللنا على أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا إذ لم يقل رسول الله ﷺ إلا أن تكذب نفسك أو تفعل كذا أو يكون كذا كما قال الله تبارك وتعالى في المطلق الثالثة {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} واستدللنا بأن رسول الله ﷺ نفى الولد وقد قال عليه الصلاة والسلام (الولد للفراش) ولا يجوز أن ينفي الولد والفراش ثابت. فإن قال قائل فيزول الفراش عند النفي ويرجع إذا أقر به قيل له لما (سأل زوج المرأة الصداق الذي أعطاها قال له رسول الله ﷺ إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها أو منه) دل ذلك على أن ليس له الرجوع بالصداق الذي قد لزمه بالعقد والمسيس مع العقد وكانت الفرقة من قبله جاءت فإن قال قائل على أن الفرقة جاءت من قبله وقد رماها بالزنا قيل له قد كان يحل له المقام معها وإن زنت وقد يمكن أن يكون كذب عليها فالفرقة به كانت لأنه لم يحكم عليه بها إلا بقذفه والتعانه وإن كانت هي لها سببا كما يكون سببا للخلع فيكون من قبله من قبل أنه لو شاء لم يقبل الخلع والملاعن ليس بمغرور من نكاح فاسد ولا بحرام وما أشبهه يرجع بالمهر على من غره ولما قال ابن جريج في حديث سهل الذي حكى فيه حكم النبي ﷺ بين المتلاعنين أنها كانت حاملا فأنكر حملها فكان ولدها ينسب إلى أمه دل ذلك على معان منها قد شبه على بعض من ينسب إلى العلم فيها أنه رماها بالزنا ورميه إياها بالزنا يوجب عليه الحد أو اللعان ومنها أنه أنكر حملها فلاعن رسول الله ﷺ بينهما بالرمي بالزنا وجعل الحمل إن كان منفيا عنه إذ زعم أنه من الزنا وقال إن جاءت به كذا فهو للذي يتهمه فجاءت به على ذلك النعت.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فلو أن رجلا قال لامرأته وهي ترى أنها حبلى ما هذا الحمل مني قيل له أردت أنها زنت؟ فإن قال لا وليست بزانية ولكني لم أصبها قيل له فقد يحتمل أن يخطئ هذا الحبل فتكون صادقا وتكون غير زانية فلا حد ولا لعان حتى تضع فإذا استيقنا أنه حبل قلنا ما أردت؟ فإن قال كما قال أول مرة قلنا قد يحتمل أن تأخذ نطفتك فتدخلها فتحبل منك فتكون أنت صادقا في الظاهر بأنك لم تصبها وهي صادقة بأنه ولدك فإن قذفت لاعنت ونفيت الولد أو حددت ولا يلاعن بحمل لا قذف معه لأنه قد يكون حملا وقد ذهب بعض من نظر في العلم إلى أن النبي ﷺ لم يلاعن بالحمل وإنما لاعن بالقذف ونفى الولد إذا كان من الحمل الذي به القذف ولما نفى رسول الله ﷺ الولد عن العجلاني بعدما وضعته أمه وبعد تفريقه بين المتلاعنين استدللنا هذا الحكم وحكم أن الولد للفراش على أن الولد لا ينفى إلا بلعان وعلى أنه كان للزوج نفيه وامرأته عنده وإذا لاعنها كان له نفي ولدها إن جاءت به بعد ما يطلقها ثلاثا لأنه بسبب النكاح المتقدم وأن رسول الله ﷺ نفاه يوم نفاه وليست له بزوجة ولكنه من زوجة كانت وبإنكار متقدم له [قال]: وسواء قال رأيت فلانا يزني بها أو لم يسمه فإذا قذفها بالزنا وادعى الرؤية للزنا أو لم يدعها أو قبل استبرائها قبل أن تحمل حتى علمت أن الحمل ليس مني أو لم يقله يلاعنها في هذه الحالات كلها وينفي عنه الولد إذا أنكره فيها كلها إلا في خصلة واحدة، وهي في أن يذكر أنها زنت في وقت من الأوقات لم يرها تزني قبله ببلد لأقل من ستة أشهر من ذلك الوقت فيعلم أنه ابنه وأنه لم يدع زنا يمكن أن يكون هذا الحبل منه إنما ينفى عنه إذا ادعى ما يمكن أن يكون من غيره بوجه من الوجوه أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أنه قال لعطاء: الرجل يقذف امرأته وهو يقر بأنه قد أصابها في الطهر الذي رأى عليها فيه ما رأى أو قبل أن يرى عليها ما رأى أي قال يلاعنها والولد لها. [قال ابن جريج] قلت لعطاء أرأيت إن نفاه بعد أن تضعه؟ قال يلاعنها والولد لها.
[قال الشافعي]: رحمه الله وبهذا كله نقول وهو معنى الكتاب والسنة إلا أن يقر بحملها فلا يكون له نفيه بعد الإقرار به أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أنه قال لعطاء الرجل يقذف امرأته قبل أن تهدى إليه قال يلاعنها والولد لها [قال]: أخبرنا سعيد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار أنه قال يلاعنها والولد لها إذا قذفها قبل أن تهدى إليه أخبرنا سعيد عن ابن جريج في الرجل يقول لامرأته يا زانية وهو يقول لم أر ذلك عليها قال يلاعنها وبهذا كله نأخذ وقد ذهب بعض من ينسب إلى العلم إلى أنه ينفي الولد إذا قال قد استبرأتها فكأنه إنما ذهب إلى نفي الولد عن العجلاني إذ قال لم أقربها منذ كذا وكذا ولسنا نقول بهذا نحن ننفي الولد عنه بكل حال إذا أنكره فيما يمكن أن يكون من غيره فإن قال قائل آخذ بالحديث على ما جاء قيل له فالحديث على أن العجلاني سمى الذي رأى بعينه يزني بها وذكر أنه لم يصب هو امرأته منذ أشهر ﷺ وذكر ﷺ العلامة التي تثبت صدق الزوج في الولد أفرأيت إن قذف الرجل امرأته ولم يسم من أصابها ولم يدع رؤيته؟ فإن قال يلاعنها قيل له أفرأيت إن أنكر الحمل ولم ير الحاكم فيه علامة بصدق الزوج أينفيه؟ فإن قال نعم قيل فقد لاعنت قبل ادعاء رؤيته وإنما لاعن رسول الله ﷺ بادعاء رؤية الزوج ونفيت بغير دلالة على صدق الزوج وقد رأى النبي ﷺ صدق الزوج في شبه الولد. فإن قال: فما حجتنا وحجتك في هذا؟ قلت مثل حجتنا إذا فارق الرجل امرأته قلنا قبل أن يأمره رسول الله ﷺ وكانت سنة المتلاعنين الفرقة ولم يقل حين فرق إنها ثلاث. فإن قال وما الدليل على ما وصفت من أن ينفى الولد وإن لم يدع الزوج الاستبراء، ويلاعن وإن لم يدع الزوج الرؤية؟ قيل مثل الدليل على كيف لاعن رسول الله ﷺ وإن لم يحك عنه فعلمنا أنه لم يعد ما أمره الله به. فإن قال قائل: فأوجدنا ما وصفت قلت قال الله تبارك وتعالى في الذين يرمون المحصنات {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} فكانت الآية عامة على رامي المحصنة فكان سواء قال الرامي لها رأيتها تزني أو رماها ولم يقل رأيتها تزني فإنه يلزمه اسم الرامي قال الله تبارك وتعالى {والذين يرمون أزواجهم} إلى {فشهادة أحدهم} الآية فكان الزوج راميا قال رأيت أو علمت بغير رؤية فلما قبل منه ما لم يقل فيه ممن القذف رأيت يلاعن به بأنه داخل في جملة القذفة غير خارج منهم إذا كان إنما قبل في هذا قوله وهو غير شاهد لنفسه قبل قوله إن هذا الحمل ليس مني وإن لم يذكر استبراء قبل القذف لاختلاف بين ذلك. [قال]: وقد يكون استبرأها وقد علقت من الوطء قبل الاستبراء ألا ترى أنه لو قال وقالت قد استبرأني تسعة أشهر حضت فيها تسع حيض ثم جاءت بعد بولد لزمه وإن الولد يلزمه بالفراش وأن الاستبراء لا معنى له ما كان الفراش قائما فلما أمكن أن يكون الاستبراء قد كان وحمل قد تقدمه فأمكن أن يكون قد أصابها والحمل من غيره وأمكن أن يكون كاذبا في جميع دعواه للزنا ونفي الولد وقد أخرجه الله من الحد باللعان ونفى رسول الله ﷺ عنه الولد استدللنا على أن هذا كله إنما هو بقوله ولما كنا إذا أكذب نفسه حددناه وألحقنا به الولد استدللنا على أن نفي الولد بقوله ولو كان نفي الولد لا يكون إلا بالاستبراء فمضى الحكم بنفيه لم يكن له أن يلحقه نفسه لأنه لم يكن بقوله فقط دون الاستبراء والاستبراء غير قوله فلما قال الله تبارك وتعالى بعد ما وصف من لعان الزوج {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله} الآية استدللنا على أن الله عز وجل أوجب عليها العذاب والعذاب الحد لا تحتمل الآية معنى غيره والله أعلم. فقلنا له حاله قبل التعانه مثل حاله بعد التعانه لأنه كان محدودا بقذفه إن لم يخرج منه باللعان فكذلك أنت محدودة بقذفه والتعانه بحكم الله أنك تدرئين الحد به فإن لم تلتعني حددت حدك كان حدك رجما أو جلدا لا اختلاف في ذلك بينك وبينه.
[قال]: ولا يلاعن ولا يحد إلا بقذف مصرح ولو قال لم أجدك عذراء من جماع وكانت العذرة تذهب من غير جماع ومن جماع فإذا قال هذا وقف فإن أراد الزنا حد أو لاعن وإن لم يرد حلف ولا حد ولا لعان [أخبرنا] سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء في الرجل يقول لامرأته لم أجدك عذراء ولا أقول ذلك من زنا فلا يحد.
[قال الشافعي]: رحمه الله: وإن قذفها ولم يكمل اللعان حتى رجع حد وهي امرأته أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أنه قال لعطاء أرأيت الذي يقذف امرأته ثم ينزع عن الذي قال قبل أن يلاعنها؟ قال هي امرأته ويحد.
[قال الشافعي]: رحمه الله وإن طلق امرأته طلاقا لا يملك الرجعة أو خالعها ثم قذفها بغير ولد حد ولا لعان لأنها ليست زوجة وهي أجنبية إذا لم يكن ولد ينفيه عنه أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء أنه قال إذا خالع الرجل امرأته ثم قذفها حد وإن كان ولد ينفيه لاعنها بنفي الولد من قبل أن رسول الله ﷺ نفى الولد بعد الفرقة لأنه كان قبلها.
فإن قذفها فمات قبل أن يلاعنها ورثته لأنهما على النكاح حتى يلتعن هو وإن قذفها بعد طلاق يملك الرجعة في العدة لاعنها وإن انقضت العدة فهي مثل المبتوتة التي لا رجعة له عليها ومن أقر بولد امرأته لم يكن له نفيه وإن قذفها بعد ما يقر أنه منه جلد الحد وهو ولده وإن قال هذا الحمل مني وقد زنت قبله أو بعده فهو منه ويلاعنها لأنها قد تزني قبل الحمل منه وبعده وليس له نفي ولده بعد إقراره به مرة فأكثر بأن لا يراه يشبهه وغير ذلك من الدلالات إذا أقر بأنه ولد على فراشه فليس له إنكاره بحال أبدا إلا أن ينكره قبل إقراره أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة (أن رجلا من أهل البادية أتى النبي ﷺ فقال إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال له النبي ﷺ هل لك من إبل؟ قال نعم: قال: وما ألوانها؟ قال حمر قال هل فيها من أورق؟ قال نعم: قال أنى ترى ذلك؟ قال عرقا نزعه فقال له النبي ﷺ ولعل هذا عرق نزعه) أخبرنا سفيان بن عيينة عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن أعرابيا من بني فزارة أتى النبي ﷺ فقال إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال له النبي ﷺ هل لك من إبل؟ قال نعم: قال فما ألوانها؟ قال حمر: قال هل فيها أورق؟ قال إن فيها لورقا قال فأنى أتاها ذلك؟ قال لعله نزعه عرق قال النبي ﷺ وهذا لعله نزعه عرق).
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وبهذا نأخذ وفي الحديث دلالة ظاهرة على أنه ذكر أن امرأته ولدت غلاما أسود وهو لا يذكره إلا منكرا له وجواب النبي ﷺ له وضربه له المثل بالإبل يدل على ما وصفت من إنكاره وتهمته المرأة فلما كان قول الفزاري تهمة الأغلب منها عند من سمعها أنه أراد قذفها أن جاءت بولد أسود فسمعه النبي ﷺ فلم يره قذفا يحكم عليه فيه باللعان أو الحد إذا كان لقوله وجه يحتمل أن لا يكون أراد به القذف من التعجب والمسألة عن ذلك لا قذف امرأته استدللنا على أنه لا حد في التعريض وإن غلب على السامع أن المعرض أراد القذف إن كان له وجه يحتمله ولا حد إلا في القذف الصريح وقد قال الله تبارك وتعالى في المعتدة {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} إلى {ولكن لا تواعدوهن سرا} فأحل التعريض بالخطبة وفي إحلاله إياها تحريم وقد قال الله تبارك وتعالى في الآية {لا تواعدوهن سرا} والسر الجماع واجتماعهما على العدة بتصريح العقدة بعد انقضاء العدة وهو تصريح باسم نهى عنه وهذا قول الأكثر من أهل مكة وغيرهم من أهل البلدان في التعريض وأهل المدينة فيه مختلفون فمنهم من قال بقولنا ومنهم من حد في التعريض، وهذه الدلالة في حديث النبي ﷺ في الفزاري موضوعة بالآثار فيها والحجج في كتاب الحدود وهو أملك بها من هذا الموضع وإن كان الفزاري أقر بحمل امرأته عند النبي ﷺ وهو الدليل على ما قلنا بأنه ليس له أن ينفيه بعد إقراره [وقال] السر الجماع قال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة القوم أنني ** كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي.
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ** وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي.
وقال جرير يرثي امرأته:
كانت إذا هجر الخليل فراشها ** خزن الحديث وعفت الأسرار.