التاج في أخلاق الملوك/باب في صفة ندماء الملك/معاملة ابن الملك للملك
معاملة ابن الملك للملك
ومن حق الملك أن يعامله ابنه كما يعامله عبده، وأن لا يدخل مداخله إلا عن أذنه، وأن يكون الحجاب عليه أغلظ منه على من هو دونه من بطانة الملك وخدمه، لئلا تحمله الدالة على غير ميزان الحق.
فإنه يقال أن يزدجرد رأى بهرام ابنه بموضعٍ لم يكن له، فقال: مررت بالحاجب؟ قال: نعم. قال: وعلم بدخولك؟ قال: نعم. قال: فاخرج إليه واضربه ثلاثين سوطاً، ونحه عن الستر، ووكل بالحجابة أرادمرد.
ففعل ذلك بهرام، وهو إذ ذاك ابن ثلاث عشرة؛ ولم يعلم الحاجب فيم غضب الملك عليه.
فلما جاء بهرام، بعد ذلك ليدخل،أرادمرد في صدره دفعةً وقذه منها، وقال: إن رأيتك بهذا الموضع ثانيةً، ضربتك ستين سوطاً: ثلاثين منها لجنايتك على الحاجب أمس، وثلاثين لئلا تطمع في الجناية علي. فبلغ ذلك يزدجرد، فدعا أرادمرد، فخلع عليه وأحسن إليه.
ويقال أن يزيد بن معاوية كان بينه وبين أبيه باب. فكان إذا أراد الدخول عليه قال: يا جارية! انظري هل تحرك أمير المؤمنين.
فجاءت الجارية مرة حتى فتحت الباب، فإذا معاوية قاعد، وفي حجره مصحف، وبين يديه جارية تصفح عليه. فأخبرت يزيد بذلك.
فجاء يزيد، فدخل على معاوية. فقال له: أي بني! إني إنما جعلت بيني وبينك باباً، كما بيني وبين العامة. فهل ترى أحداً يدخل من الباب إلا بإذنٍ؟ قال: لا قال: فكذلك فليكن بابك! فإذا قرع عليك فهو إذنك.
وهكذا ذكر لنا أن موسى الهادي دخل على أمير المؤمنين المهدي، فزبره، وقال: إياك أن تعود إلى مثلها إلا أن يفتح بابك! وذكر لنا أن المأمون لما استعر به الوجع، سأل بعض بنيه الحاجب أن يدخله عليه ليراه، فقال: لا والله! ما إلى ذلك سبيل. ولكن إن شئت أن تراه من حيث لا يراك، فاطلع عليه من ثقبٍ في ذلك الباب. فجاء حتى اطلع عليه، وتأمله، ثم انصرف.
وذكر لنا أن إيتاخ بصر بالواثق في حياة المعتصم واقفاً في موضعٍ لم يكن له أن يقف فيه، فزبره، وقال: تنح! فوالله لولا أنى لم أتقدم إليك في ذلك، لضربتك مائة عصاً.
وليس لابن الملك من الملك إلا ما لعبده من الاستكانة والخضوع والخشوع، ولا له أن يظهر دالة الأبوة وموضع الوراثة. فإن هذا إنما يجوز في النمط الأوسط من الناس، ثم الذين يلونهم.
فأما الملوك، فترقى عن كل شيء يمت به.
وليس لابن الملك أن يسفك دماً، وإن أوجبت الشريعة سفكه، وجاءت الملة به، إلا عن إذن الملك ورأيه، لأنه متى تفرد بذلك، كان هو الحاكم دون الملك. وفي هذا وهن على الملك، وضعف في المملكة.
وكذلك ليس له أن يحكم في الحلال والحرام والفروج والأحكام، وإن كان ولي عهد الملك، والمقلد إرث أبيه، والمحكوم له بالطاعة، إلا عن أمره ورأيه.
وليس له، إذا جمعته والملك دار واحدة، أن يأكل إلا بأكل الملك. ولا أن يشرب إلا بشربه، ولا أن ينام إلا بمنامه. وكذا يجب عليه، في كل شيء من أموره السارة والضارة أن يكون له تابعاً، ولحركته تالياً.
وليس هذا على من دون ابن الملك من بطانته وسائر رعيته. لأن ابن الملك عضو من أعضائه، وجزء من أجزائه، والملك اصل، والابن فرع، والفرع تابع للأصل، والأصل مستغنٍ عن الفرع.
وليس لابن الملك أن يرضى عمن سخط عليه الملك، وإن كان المسخوط عليه لا ذنب له عنده، لأن من العدل والحق عليه أن يوالي من والى الملك، ويعادي من عاداه. ولا ينظر في هذا إلى خط نفسه، وارادة طبعه، حتى يبلغ من حق الملك ما أن وجد إلى غيلته سبيلاً أن يقتله، وعلى هذا ينبغي أن يكون نظام العامة لملكها.
شهوة الاستبدال لدى الملك: وقد تحدث في أخلاق الملك ملالة لشهوة الاستبدال فقط. فليس لصاحب الملك، إذا أحدث الملك خلقاً، أن يعارضه بمثله، ولا إذا رأى نبوةً وازورارةً، أن يحدث مثله، فإنه متى فعل ذلك فسدت نيته، ومن فسدت نيته عادت طاعته معصيةً، وولايته عداوةً. ومن عادى الملك، فنفسه عادى، وإياها أهان.
ولكن عليه، إذا أحدث الملك الخلق الذي عليه بنية أكثر الملوك، أن يحتال في صرف قلبه إليه. والحيلة في ذلك يسيرة: إنما هو يطلب خلوته، فيلهيه بنادرةٍ مضحكة، أو ضرب مثلٍ نادرٍ، أو خيرٍ كان عنه مغطى، فيكشفه له. كما فعل بعض سمار ملوك الأعاجم: أظهر الملك له جفوة الملالة فقط، فلما رأى ذلك، تعلم نباح الكلاب، وعواء الذئاب، ونهيق الحمير، وصياح الديوك، وشحيج البغال، وصهيل الخيل.
ثم احتال حتى دخل موضعاً يقرب من مجلس الملك وفراشه يخفي أمره. فنبح نباح الكلاب، فلم يشك الملك أنه كلب وابن كلب. فقال: انظروا ما هذا؟ فعوى عواء الذئاب، فنزل الملك عن سريره.
فنهق نهيق الحمار، ومر الملك هارباً.
وجاء غلمانه يتبعون الصوت، فلما دنوا منه، أحدث معنىً آخر، فأحجموا عنه. ثم اجتمعوا فاقتحموا عليه، فأخرجوه وهو عريان مختبئ.
فلما نظروا إليه، قالوا للملك:
هذا مازيار المضحك! فضحك الملك حتى تبسط، وقال: ويلك! ما حملك على هذا؟ قال: إن الله مسخني كلباً وذئباً وحماراً، لما غضب علي الملك.
فأمر أن يخلع عليه، ويرد إلى موضعه.
وهذا لا يفعله إلا أهل الطبقة السفلى. فأما الاشراف، فلهم حيل غير هذه، مما يشبه أقدارهم.
كما فعل روح بن زنباع، وكان أحد دهاة العرب. رأى من عبد الملك بن مروان نبوةً وإعراضاً. فقال للوليد: ألا ترى ما أنا فيه من إعراض أمير المؤمنين عني بوجهه، حتى لقد فغرت السباع أفواهها نحوي، وأهوت بمخالبها إلى وجهي؟ فقال له الوليد: احتل في حديث يضحكه! فقال روح: إذا اطمأن بنا المجلس، فسلني عن عبد الله بن عمر، هل كان يمزح أو يسمع مزاحاً؟ فقال الوليد: أفعل.
وتقدم، فسبقه بالدخول، وتبعه روح. فلما اطمأن بهم المجلس، فقال الوليد لروح: هل كان ابن عمر يسمع المزاح؟ قال: حدثني ابن أبي عتيق أن امرأته عاتكة بنت عبد الرحمن هجته فقالت:
ذهب الإله بما تعيش به ... وقمرت ليلك أيما قمر
أنفقت مالك غير محتشمٍ ... في كل زانيةٍ وفي الخمر!
قال: وكان ابن أبي عتيق صاحب غزل وفكاهة، فأخذ هذين البيتين، وهما في رقعة، فخرج بهما، فإذا هو بعبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن! انظر في هذه الرقعة، وأشر علي برأيك فيها.
فلما قرأها، استرجع عبد الله. فقال: ما ترى فيمن هجاني بهذا؟ قال عبد الله: أرى أن تصفو وتصفح! قال: والله، يا أبا عبد الرحمن، لئن لقيت قائلها لأنيلنه نيلاً جيداً! فأخذ ابن عمر أفكل واربد لونه، وقال: ويلك، أما تستحي أن تعصي الله؟ قال: هو والله ما قلت لك! وافترقا. فلما كان بعد ذلك بأيام، لقيه فأعرض ابن عمر بوجهه. فقال: بالقبر ومن فيه، إلا ما سمعت كلامي! فتحوب عبد الله، فوقف وأعرض عنه بوجهه. فقال: علمت، يا أبا عبد الرحمن، أني لقيت قائل ذلك الشعر فنلته؟ فصعق ابن عمر، ولبط به. فلما رأى ما حل به، دنا من أذنه فقال: إنها امرأتي.
فقام ابن عمر، فقبل ما بين عينيه.
فضحك عبد الملك حتى فحص برجله، وقال: قاتلك الله، يا روح! ما أطيب حديثك! ومد إليه يديه، فقام روح فأكب عليه، وقبل أطرافه، وقال: يا أمير المؤمنين، ألذ نبٍ فأعتذر،
أم لملالةٍ فأرجو عاقبتها؟ قال: لا والله! ما ذاك من شيء نكرهه.
ثم عاد له أحسن حالاً.
ونحو هذا يحكى عن جرير بن الخطفي، حين دخل على عبد الملك، وقد أوفده إليه الحجاج، وقال لجرير: كن في آخر من يدخل.
فلما دخل جرير، قال محمد: يا أمير المؤمنين، هذا جرير بن الخطفي، مادحك وشاعرك.
قال جرير: فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشاد مديحه؟ قال: هات بالحجاج! قال: فقلت: بل بك، يا أمير المؤمنين! قال: هات في الحجاج.
فأنشدته قولي في الحجاج:
صبرت النفس يا ابن أبي عقيلٍ ... محافظةً، فكيف ترى الثوابا؟
ولو لم ترض ربك، لم ينزل ... مع النصر الملائكة الغضابا،
إذا سعر الخليفة نار حربٍ ... رأى الحجاج أثقبها شهابا.
فقال: صدقت، هو كذلك! ثم قال للأخطل، وهو خلفي، وأنا لا أراه: قم فهات
مديحنا! فقام، فأنشده، فأجاد، وأبلغ. فقال: أنت شاعرنا، وأنت مادحنا؛ قم فاركبه! فألقى النصراني ثوبه، وقال: جب، يا ابن المراغة قال: وساء ذلك من حضر من المضرية، وقالوا: يا أمير المؤمنين، لا يركب الحنيف المسلم، ولا يظهر عليه.
فاستحيا عبد الملك، وقال: دعه! قال: فانصرف أخزى خلق الله حالاً، لما رأيت من إعراض أمير المؤمنين عني، وإقباله على عدوي، حتى إذا كان يوم الرواح للوداع، دخلت لأودعه، فكنت آخر من دخل عليه. فقال له محمد بن الحجاج: يا أمير المؤمنين، هذا جرير، وله مديح في أمير المؤمنين! فقال: لا، هذا شاعر الحجاج.
قلت: وشاعرك، يا أمير المؤمنين! قال: لا.
فلما رأيت سوء رأيه، أنشأت أقول:
أتصحو أم فؤادك غير صاح ...
فقال: ذاك فؤادك! ثم أنشدته، حتى بلغت البيت الذي سره، وهو قولي:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح؟
فاستوى جالساً، وكان متكئاً، فقال: بلى نحن كذلك، أعد. فأعدت، فأسفر لونه،
وذهب ما كان في قلبه، ثم التفت إلى محمد بن الحجاج، فقال: ترى أم حزرة ترويها مائة من الإبل؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! إن كانت من فرائض كلبٍ، فلم تروها فلا أرواها الله! قال: فأمر لي بمائة فريضة. ومددت يدي، وبين يديه صحاف أربعة من فضةٍ قد أهديت إليه، فقلت: المحلب، يا أمير المؤمنين! فأخذت منها واحدة، فقال: خذها، لا بورك لك فيها.
قلت: كل ما أخذت من أمير المؤمنين مبارك لي فيه.
وهكذا فعل بالأمس عبد الملك بن مهلهل الهمداني، وكان سليمان ابن أبي جعفر قد جفاه. فأتاه يوماً في قائم الظهيرة، والهجيرة تقد. فاستأذنن فقال له الحاجب: ليس هذا بوقت إذنٍ على الأمير.
فقال له: أعلمه بمكاني.
فدخل عليه، فأعلمه، فقال له: مره يسلم قائماً ويخفف! فخرج الحاجب، فأذن له، وأمره بالتخفيف. فدخل، فسلم قائماً، ثم
أمسيت فبينا أنا في الطريق، إذا بمؤذن قد ثوب بصلاة المغرب على مسجد معلق فصعدت، ثم صعدت، ثم صعدت..
قال سليمان: فبلغت السماء، فكان ماذا؟ قال: فتقدم إنسان، إما كريجي وإما سنيدي وإما طمطماني. فأم القوم، فقرأ بكلامٍ لم افهمه، ولغةٍ ما أعرفها، فقال: ويل لكل هره زمأ مالاً وعدده يريد: " ويل لكل همزةٍ لمزة الذي جمع مالاً وعدده ".
قال: وإذا خلفه رجل سكران ما يعقل سكراً، فلما سمع قراءته، ضرب بيديه ورجليه وجعل يقول: إيرعكي دركلي! إيرعكي دركلي في حرم قاريك! فضحك سليمان، ثم تمرغ على فراشه، وقال: ادن مني يا أبا محمد، فأنت أطيب أمة محمد! ثم دعا بخلعة، وقال: إلزم الباب، واغد في كل يومٍ. وعاد إلى أحسن حالاته عنده.
وهذه أخلاق الملوك لمن فهمها. وليس بعجب أن تتلون أخلاقهم، إذ كنا نرى أخلاق القرين المساوي، والشريك والإلف تتلون ولا تستوي، ولعله يجد عن إلفه وقرينه وشكله، مندوحةً. فكيف بمن ملك الشرق والغرب، والأسود والأبيض، والحر والعبد، والشريف والوضيع، والعزيز والذليل.