انتقل إلى المحتوى

التاج في أخلاق الملوك/باب في صفة ندماء الملك/الملوك أمام الأمور الجليلة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

الملوك أمام الأمور الجليلة

ومن أخلاق الملك، إذا دهمه أمر جليل من فتق ثغر، أو قتل صاحب جيشٍ، أو ظهور عدو يدعو إلى خلاف الملة، أو قوة مناويءٍ، أن يترك الساعات التي فيها لهوه، ويجعلها وسائر الساعات في تدبير مكايدة عدوه، وتجهيز جنوده وجيوشه، وأن يصرف في ذلك شغله وفكره وفراغه على مثل ما فعل من مضى من ملوك الأعاجم وغيرها، للتسويف والتمني وحسن الظن بالأيام نصيباً.

فإن هذا عجز من الملك، ووهن يدخل على الملك.

وكانت ملوك الأعاجم، إذا حزبها مثل هذا، أمرت بالموائد التي كانت توضع في كل يوم أن ترفع وظائفها، واقتصرت على مائدةٍ لطيفةٍ، ورأس الأساورة.

فلا يوضع عليها إلا الخبز والملح، والخل والبقل، فيأخذ منه شيئاً هو ومن معه، ثم يأتيه الخباز بالبرماورد في طبقٍ، فيأكل

منه لقمةً؛ ثم يرفع المائدة، ويتشاغل بتدبير حربه، وتجهيز عساكره. ولا تزال هذه حاله حتى يأتيه عن ذلك الفتق ما يرتقه، وعن ذلك العدو ما يحب. فإذا أتاه، أمر أن يتخذ له طعام مثل طعامه الأول، وأمر الخاصة والعامة بالحضور. وقامت الخطباء أولاً بالتهنئة له، والتحميد لله تعالى بالفتح عليه والنصر له. ثم قام الموبذ فتكلم، ثم الوزراء بنحوٍ من كلام الخطباء. ثم مد الناس أيديهم إلى الأطعمة على مراتبهم؛ فإذا فرغوا، بسط للعامة في ظهر الإيوان، وللخاصة في صحنه بحضرة الملك؛ وقعد صاحب الشرطة للعامة، كقعود الملك للخاصة. ثم دعا بالمغنين وأصحاب الملاهي.

وكانوا يقولون: إن حق شكر النعمة أن يرى أثرها.

وكانت الخلفاء والأمراء، إذا دهمهم أمر، فزعوا إلى المنابر، وحرضوا الناس على الطاعة، ولزوم الجماعة.

وفيما يذكر عن معاوية أنه قال: ما ذقت أيام صفين لحماً ولا شحماً ولا حلواً ولا حامضاً؛ ما كان إلا الخبز والجبن وخشن الملح، إلى أن تم لي ما أردته.

ويحكى عن عبد الملك بن مروان أن صاحب إفريقية أهدى إليه جاريةً تامة المحاسن، شهية المتأمل. قال: فلما أن دخلت على عبد الملك بن مروان، نظر إليها، وفي يده قضيب خيزران. فصعد ببصره إليها وصوبه، ثم رمى بالقضيب، وقال: رديه علي.

فولت. فنظر إليها مقبلةً ومدبرةً، فقال: أنت والله أمنية المتمني.

قالت: فما يمنعك يا أمير المؤمنين، إذ كانت هذه صفتي عندك؟ قال: بيت الأخطل:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء، ولو باتت بأطهار

وكان هذا في خروج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. ثم أمر بها أن تصان وتخدم. فلما فتح عليه، كانت أول جاريةٍ دعا بها.

ويحكى عن مروان بن محمد الجعدي أنه أقام ثلاثين شهراً، لم يطأ جاريةً إلى أن قتل. وكان إذا استهدفت إليه الجارية، قال: إليك عني! فوالله لا دنوت من أنثى،

ولا حللت لها عقد حبوتي، وخراسان ترجف بنصر، وأبو مجرمٍ قد أخذ منه بالمخنق.



التاج في أخلاق الملوك لعمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبي عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى عام 255هـ)

باب في الدخول على الملوك | دخول الأشراف | دخول الأوساط | كيفية الدخول على الملك | استقبال الملك للملوك | وداع الملك للملوك | باب في مطاعمة الملوك | المنصور والفتى الهاشمي | على مائدة اسحق بن ابراهيم | شرف مؤاكلة الملوك | بين معاوية والحسن بن علي | شره القضاة | الملك وضيوفه على المائدة | الحديث على المائدة | طبقات الندماء | في حضرة الملك | مراتب الندماء والمغنين | أقسام الناس | انقلاب الحال في عهد بهرام جور | في عهد الأمويين | الخليفة الأمين | الخليفة المأمون | أخلاق الملك السعيد | أنعام الملوك ومنتهم | العفو عند المقدرة | آداب البطانة مع الملوك | حديث الملك | بين معاوية والرهاوي | أقوال في حسن الاستماع | عود إلى أخلاق الملوك | معاقبة أنوشروان للخائن | عبد الملك والأشدق | الرشيد والبرامكة | مراعاة حرمة الملك | إغضاء البصر وخفض الصوت بحضرة الملك | في غياب الملك | مكافآت الملوك | باب في صفة ندماء الملك | عدة الملك في سفره أو نزهته | خلال الندماء وملاعبة الملوك | آداب الندماء عند نعاس الملك | إمامة الملك للصلاة | آداب مسايرة الملك | مسايرة الموبذ لقباذ | مسايرة شرحبيل لمعاوية | صاحب الشرطة والهادي | ما قاله الهاشمي للخراساني | عدم تسمية أو تكنية الملك | عند تشابه الأسماء | ما يتفرد به الملك في عاصمته | دعاء الملك وتعزيته | غضب الملك ورضاه | وعلى هذا أخلاق الملوك وصنيعهم | أسرار الملك | حفظ حرم الملك | امتحان من يطعن في المملكة | تقاضي الملك عن الصغائر | رد على العامة | إكرام الأوفياء | أدب سماع الملك ومحادثته | إعادة الحديث | أمارات الذهاب من مجلس الملك | اغتياب الآخرين أمام الملك | آداب رسول الملك | احتياط الملك | معاملة ابن الملك للملك | صلاح الجفوة في التأديب | صفات المقربين من الملك | سخاء الملك وحياؤه | اعتلال الملك | جوائز البطانة | هدايا المهرجان والنيروز | لهو الملوك وشربهم | زيارة الملوك لأخصانهم | استقبال الملوك للناس في الأعياد | عقوبة الملك الظالم | استقصاء أحوال الرعية | الملوك أمام الأمور الجليلة | الحرب خدعة | النهاية |