التاج في أخلاق الملوك/باب في صفة ندماء الملك/تقاضي الملك عن الصغائر
تقاضي الملك عن الصغائر
ومن أخلاق الملك التغافل عما لا يقدح في الملك، ولا يجرح المال، ولا يضع من العز، ويزيد في الأبهة. وعلى ذلك كانت شيم ملوك آل ساسان.
وفيما يحكى عن بهرام جور أنه خرج يوماً لطلب الصيد، فعار به فرسه حتى وقع إلى راعٍ تحت شجرة، وهو حاقن. فقال للراعي: احفظ علي عنان دابتي، حتى أبول.
فأخذ بركابه حتى نزل، وأمسك عنان الفرس. وكان لجامه ملبساً ذهباً، فوجد الراعي غفلةً من بهرام، فأخرج من خفه سكيناً، فقطع بعض أطراف اللجام. فرفع بهرام رأسه، فنظر غليه، فاستحيا، ورمى بطرفه إلى الأرض، وأطال الاستبراء ليأخذ الراعي حاجته من اللجام. وجعل الراعي يفرح بإبطائه عنه، حتى إذا ظن أنه قد أخذ حاجته من اللجام، قام، فقال: يا راعي، قد إلي فرسي، فإنه قد دخل في عيني مما في هذه الريح، فما اقدر على فتحهما.
وغمض عينيه لئلا يوهمه أنه يتفقد حلية اللجام. فقرب الراعي فرسه، فركبه. فلما ولى، قال له الراعي: أيها العظيم، كيف آخذ إلى موضع كذا وكذا؟ لموضع بعيد.
قال بهرام: وما سؤالك عن هذا الموضع؟ قال: هناك منزلي، وما وطئت هذه الناحية قط غير يومي هذا، ولا أراني أعود إليه ثانية.
فضحك بهرام، وفطن لما أراد، فقال: أنا رجل مسافر، وأنا أحق بأن لا أعود إلى ههنا أبداً.
ثم مضى. فلما نزل عن فرسه، قال لصاحب دوابه ومراكبه: إن معاليق اللجام قد وهبتها لسائلٍ مربي، فلا تتهمن بها أحداً.
وهكذا يحكى عن أنوشروان انه قعد ذات يومٍ في نيروز أو مهرجان، ووضعت الموائد، ودخل وجوه الناس الإيوان على طبقاتهم ومراتبهم. وقام الموكلون بالموائد على رؤوس الناس، وكسرى بحيث يراهم.
فلما فرغ الناس من الطعام، جاؤوا بالشراب في آنية الفضة، وجامات الذهب. فشرب الأساورة وأهل الطبقة العالية في آنية الذهب. فلما انصرف الناس، ورفعت الموائد، أخذ بعض القوم جام ذهبٍ، فأخفاه في قبائه، وأنوشروان يلحظه. فصرف وجهه عنه.
وافتقد صاحب الشراب الجام، فصاح: لا يخرجن أحد من الدار حتى يفتش.
فقال كسرى: لاتتعرض لأحد! وأذن للناس فانصرفوا. فقال صاحب الشراب: أيها الملك! إنا فقدنا بعض آنية الذهب! فقال الملك: صدقت! قد أخذها من لا يردها عليك، وقد رآه من لا ينم عليه. فانصرف الرجل بالجام. وهكذا فعل معاوية بن أبي سفيان في يوم عيدٍ، وقد قعد للناس، ووضعت الموائد وبدر الدراهم والدنانير للجوائز والصلات فجاء رجل من الجماعة، والناس يأكلون، فقعد على كيس فيه دنانير. فصاح به الخدم: تنح! فليس هذا بموضع لك.
فسمع معاوية،
فقال: دعوا الرجل يقعد حيث انتهى به المجلس فأخذ كيساً، فوضعه بين بطنه وحجزة سراويله،
وقام. فلم يجسر أحد أن يدنو منه. فقال الخادم: أصلح الله أمير المؤمنين! إنه قد نقص من المال كيس دنانير. فقال: أنا صاحبه، وهو محسوب لك.
وهذه أخلاق الملوك معروفة في سيرهم وكتبهم. وإنما يتفقد مثل هذا من هو دون الملك. فأما الملك، فيجل عن كل شيءٍ، ويصغر عنده كل شيء.