مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة
فصل هل ترى المؤمنات الله في الآخرة
[عدل]المقتضى لكتابة هذا: أن بعض الفقهاء كان قد سألني لأجل نسائه من مدة: هل ترى المؤمنات الله في الآخرة؟ فأجبت بما حضرني إذ ذاك: من أن الظاهر أنهن يرينه، وذكرت له أنه قد روى أبو بكر عن ابن عباس أنهن يرينه في الأعياد، وأن أحاديث الرؤية تشمل المؤمنين جميعًا من الرجال والنساء، وكذلك كلام العلماء، وأن المعنى يقتضى ذلك حسب التتبع، وما لم يحضرني الساعة.
وكان قد سنح لي فيما روى عن ابن عباس: أن سبب ذلك أن الرؤية المعتادة العامة في الآخرة تكون بحسب الصلوات العامة المعتادة، فلما كان الرجال قد شرع لهم في الدنيا الاجتماع لذكر الله ومناجاته، وترائيه بالقلوب والتنعم بلقائه في الصلاة كل جمعة، جعل لهم في الآخرة اجتماعًا في كل جمعة لمناجاته ومعاينته والتمتع بلقائه.
ولما كانت السنة قد مضت بأن النساء يؤمرن بالخروج في العيد حتى العواتق والحيض، وكان على عهد رسول الله ﷺ يخرج عامة نساء المؤمنين في العيد، جعل عيدهن في الآخرة بالرؤية على مقدار عيدهن في الدنيا.
وأيد ذلك عندي ما خرجاه في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسًا عند رسول الله ﷺ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تُضَامُّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} 1، وهذا الحديث من أصح الأحاديث على وجه الأرض المتلقاة بالقبول، المجمع عليها عند العلماء بالحديث وسائر أهل السنة.
ورأيت أن النبي ﷺ أخبر المؤمنين بأنهم يرون ربهم، وعقبه بقوله: «فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها فافعلوا»، ومعلوم أن تعقيب الحكم للوصف، أو الوصف للحكم بحرف الفاء يدل على أن الوصف علة للحكم، لاسيما ومجرد التعقيب هنا محال؛ فإن الرؤية في الحديث قبل التحضيض على الصلاتين وهي موجودة في الآخرة، والتحضيض موجود قبلها في الدنيا.
والتعقيب الذي يقوله النحويون لا يعنون به: أن اللفظ بالثاني يكون بعد الأول، فإن هذا موجود بالفاء وبدونها وبسائر حروف العطف. وإنما يعنون به معنى: أن التلفظ الثاني يكون عقب الأول، فإذا قلت: قام زيد، فعمرو أفاد أن قيام عمرو موجود في نفسه عقب قيام زيد، لا أن مجرد تكلم المتكلم بالثاني عقب الأول، وهذا مما هو مستقر عند الفقهاء في أصول الفقه، وهو مفهوم من اللغة العربية إذا قيل: هذا رجل صالح فأكرمه، فهم من ذلك أن الصلاح سبب للأمر بإكرامه، حتى لو رأينا بعد ذلك رجلا صالحًا لقيل كذلك الأمر، وهذا أيضا رجل صالح أفلا تكرمه؟ فإن لم يفعل فلابد أن يخلف الحكم لمعارض وإلا عد تناقضًا.
وكذلك لما قال النبي ﷺ: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئًا قَدَّمَه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئًا قَدَّمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقى النار ولو بشق تمرة فليفعل، فإن لم يستطع فبكلمة طيبة»، فهم منه أن تحضيضه على اتقاء النار هنا لأجل كونهم يستقبلونها وقت ملاقاة الرب، وإن كان لها سبب آخر.
وكذلك لما قال ابن مسعود: سارعوا إلى الجمعة، فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كَثِيبٍ من كثب الكافور، فيكونون في القرب منه على قدر تسارعهم في الدنيا إلى الجمعة، فهم الناس من هذا أن طلب هذا الثواب سبب للأمر بالمسارعة إلى الجنة.
وكذلك لو قيل: إن الأمير غدًا يحكم بين الناس أو يقسم بينهم، فمن أحب فليحضر، فهم منه أن الأمر بالحضور غدًا لأخذ النصيب من حكمه أو قسمه، وهذا ظاهر.
ثم إن هذا الوصف المقتضى للحكم تارة يكون سببًا متقدمًا على الحكم في العقل وفي الوجود كما في قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} 2، وتارة يكون حكمه متقدمًا على الحكم في العلم، والإرادة متأخرة عنه في الوجود كما في قولك: الأمير يحضر غدًا، فإن حضر كان حضور الأمير يتصور ويقصد قبل الأمر بالحضور معه، وإن كان يوجد بعد الأمر بالحضور وهذه تسمى العلة الغائية، وتسميها الفقهاء حكمة الحكم، وهي سبب في الإرادة بحكمها، وحكمها سبب في الوجود لها.
والتعليل تارة يقع في اللفظ بنفس الحكمة الموجودة، فيكون ظاهره أن العلة متأخرة عن المعلول، وفي الحقيقة إنما العلة طلب تلك الحكمة وإرادتها. وطلب العافية وإرادتها متقدم على طلب أسبابها المفعولة، وأسبابها المفعولة متقدمة عليها في الوجود ونظائره كثير. كما قيل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ}3، و{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ} 4 ويقال: إذا حججت فتزود. فقوله ﷺ: «إنكم سترون ربكم، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاتين» إلى: «فافعلوا»، يقتضى أن المحافظة عليها هنا لأجل ابتغاء هذه الرؤية، ويقتضى أن المحافظة سبب لهذه الرؤية، ولا يمنع أن تكون المحافظة توجب ثوابًا آخر ويؤمر بها لأجله، وأن المحافظة عليها سبب لذلك الثواب وأن للرؤية سببًا آخر؛ لأن تعليل الحكم الواحد بعلل واقتضاء العلة الواحدة لأحكام جائز. وهكذا غالب أحاديث الوعد كما في قوله: «من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه»، و«من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، وقوله: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» ونحو ذلك، فإنه يقتضي أن صلاة هاتين الركعتين سبب للمغفرة، وكذلك الحج المبرور، وإن كان للمغفرة أسباب أخر.
وأيد هذا المعنى أن الله تعالى قال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}5، وقد فسر هذا الدعاء بصلاتي الفجر والعصر، ولما أخبر أنهم يريدون وجهه بهاتين الصلاتين، وأخبر في هذا الحديث أنهم ينظرون إليه، فتحضيضهم على هاتين يناسب ذلك أن من أراد وجهه نظر إلى وجهه تبارك وتعالى.
ثم لما انضم إلى ذلك ما تقدم من أن صلاة الجمعة سبب للرؤية في وقتها، وكذلك صلاة العيد، ناسب ذلك أن تكون هاتان الصلاتان اللتان هما أفضل الصلوات، وأوقاتهما أفضل الأوقات فناسب أن تكون الصلاة التي هي أفضل الأعمال ثم ما كان منها أفضل الصلوات في أفضل الأوقات سببًا لأفضل الثوابات في أفضل الأوقات.
لاسيما وقد جاء في حديث ابن عمر الذي رواه الترمذي عن إسرائيل، عن ثُوَيْر بن أبي فاختة، سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله ﷺ: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيًا»، ثم قرأ رسول الله ﷺ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 6.
قال الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه عبد الملك بن أبْحَر، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا، ورواه عبيد الله الأشجعي، عن سفيان، عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر قوله: ولم يرفعه. وقال الترمذي: لا نعلم أحدًا ذكر فيه مجاهدًا غير ثوير، وأظنه قد قيل في قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}7: إن منه النظر إلى الله.
وروى في ذلك حديث مرفوع رواه الدارقطني في الرؤية: حدثنا أبو عبيد قاسم ابن إسماعيل الضَّبِّيّ، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق البصري، حدثنا هانئ بن يحيى، حدثنا صالح المصري، عن عباد المِنْقَرِيِّ، عن ميمون بن سِيَاه، عن أنس بن مالك؛ أن النبي ﷺ أقرأه هذه الآية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون، ويطيبون ويحملون، ويرفع الحجاب بينه وبينهم، فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل وذلك قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}.
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات وقال: هذا لا يصح، فيه ميمون بن سِيَاه، قال ابن حبان: ينفرد بالمناكير عن المشاهير لا يحتج به إذا انفرد، وفيه صالح المصري، قال النسائي: متروك الحديث.
قلت: أما ميمون بن سياه، فقد أخرج له البخاري والنسائي، وقال فيه أبو حاتم الرازي: ثقة، وحسبك بهذه الأمور الثلاثة، وعن ابن معين قال فيه: ضعيف، لكن هذا الكلام يقوله ابن معين في غير واحد من الثقات. وأما كلام ابن حبان ففيه ابتداع في الجرح.
فلما كان في حديث ابن عمر المتقدم، وعد أعلاهم «غدوة وعشيًا» والرسول ﷺ قد جعل صلاتي الغداة والعشي سببًا للرؤية، وصلاة الجمعة سببًا للرؤية في وقتها، مع ما في الصلاة من مناسبة الرؤية، كان العلم بمجموع هذه الأمور يفيد ظنًا قويًا: أن هاتين الصلاتين سبب للرؤية في وقتهما في الآخرة، والله أعلم بحقيقة الحال.
فلما كان هذا قد سنح لي، والنساء يشاركن الرجال في سبب العمل فيشاركونهم في ثوابه، ولما انتفت المشاركة في الجمعة انتفت المشاركة في النظر في الآخرة، ولما حصلت المشاركة في العيد حصلت المشاركة في ثوابه.
ثم بعد مدة طويلة جرى كلام في هذه المسألة، وكنت قد نسيت ما ذكرته أولا، لا بعضه، فاقتضى ذكر ما ذكرته أولا، فقيل لي: الحديث يقتضي أن هاتين الصلاتين من جملة سبب الرؤية، لا أنه جميع السبب، بدليل أن من صلاهما ولم يصل الظهر والعصر لا يستحق الرؤية. وقيل لي: الحديث يدل على أن الصلاتين سبب في الجملة، فيجوز أن تكون هاتان الصلاتان سببًا للرؤية في الجمعة، كيف وقد قيل: إن أعلي أهل الجنة من يراه مرتين؟ فكيف يكون المحافظون على هاتين الصلاتين أعلاهم؟
فقلت: ظاهر الحديث يقتضي أن هاتين الصلاتين هو السبب في هذه الرؤية لما ذكرته من القاعدة في النساء آنفًا، ثم قد يتخلف المقتضى عن المقتضى لمانع لا يقدح في اقتضائه، كسائر أحاديث الوعد، فإنه لما قال: «من صلى البَرْدَيْن دخل الجنة» 8، من فعل كذا دخل الجنة، دل على أن ذلك العمل سبب لدخول الجنة وإن تخلف عنه مقتضاه لكفر أو فسق.
فمن ترك صلاة الظهر أو زنا أو سرق ونحو ذلك كان فاسقًا، والفاسق غير مستحق للوعد بدخول الجنة كالكافر، وكذلك أحاديث الوعيد إذا قيل: من فعل كذا دخل النار، فإن المقتضى يتخلف عن التائب وعمن أتى بحسنات تمحو السيئات وعن غيرهم، ويجوز أن يكون للرؤية سبب آخر، فكونه سببًا لا يمنع تخلف الحكم عنه لمانع ولا يمنع أن ينتصب سبب آخر للرؤية. ثم أقول: فعل بقية الفرائض سواء كانت من جملة السبب، أو كانت شرطًا في هذا السبب، فالأمر في ذلك قريب، وهو نزاع لفظي، فإن الكلام إنما هو في حق من أتى ببقية شروط الوعد، وانتفت عنه موانعه.
ولا يجوز أن يقال: فالأنوثة مانع من لحوق الوعد، أو الذكورة شرط؛ لأن هذا إن دل عليه دليل شرعي، كما دل على أن فعل بقية الفرائض شرط قلنا به، فأما بمجرد الإمكان فلا يجوز ترك مقتضى اللفظ وموجبه بالإمكان، بل متى ثبت عموم اللفظ وعموم العلة وجب ترتيب مقتضى ذلك عليه ما لم يدل دليل بخلافه، ولم يثبت أن الذكورة شرط، ولا أن الأنوثة مانع، كما لم يقتض أن العربية والعجمية والسواد والبياض لها تأثير في ذلك.
وكذلك الحديث يدل على أن المقتصدين يشاركون السابقين في أصل الرؤية، وإن امتاز السابقون عنهم بدرجات، ومثوبات، أو شمول المعنى لهؤلاء على السواء، فهذا من هذا الوجه دليل على أن هاتين الصلاتين سبب للرؤية، ووجود السبب يقتضى وجود المسبب، إلا إذا تخلف شرطه أو حصلت موانعه، والشروط والموانع تتوقف على دليل.
وأما الاعتراض على كون هاتين الصلاتين سبب للرؤية في الجملة ولو في يوم الجمعة فيقال: ذلك لا ينفي أن النساء يرينه في الجملة ولو في غير يوم الجمعة، وهذا هو المطلوب.
ثم يقال: مجموع ما تقدم من سائر الأحاديث يقتضى أن الرؤية تحصل وقت العمل في الدنيا، فإذا قيل: إن الرؤية تكون غدوًا وعشيًا وسببها صلاة الغداة والعشي، كان هذا ظاهرًا فيما قلناه، والمدعي الظهور لا القطع.
وأما كون الرؤية مرتين لأعلى أهل الجنة وليس من صلى هاتين الصلاتين أعلى أهل الجنة، فليس هذا بدافع لما ذكرناه؛ لأن هذين الاحتمالين ممكنة به، يخرج الدليل عليها، لكن الله أعلم بما هو الواقع منها، يمكن السبب فعل هاتين الصلاتين على الوجه الذي أمر الله به باطنًا وظاهرًا، لا صلاة أكثر الناس.
ألا ترى إلى حديث عمار بن ياسر عن النبي ﷺ: «إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها» حتى قال: «عشرها» رواه أبو داود، فالصلاة المقبولة هي سبب الثواب، والصلاة المقبولة هي المكتوبة لصاحبها، وقد بين النبي ﷺ أن من المصلين من لا يكتب له إلا بعضها، فلا يكون ذلك المصلي مستحقًا للثواب الذي استحقه من تقبل الله صلاته وكتبها له كلها.
وعلى هذا، فلا يكاد يندرج في الحديث إلا الصديقون أو قليل من غيرهم، والنساء منهن صديقات.
ويجوز أن يكون من له نوافل يجبر بها نقص صلاته، يدخل في الحديث، كما جاء في حديث أبي هريرة المرفوع: «أن النوافل تجبر الفرائض يوم القيامة».
وعلى هذا، فيكون الموجودون بهذا أكثر المصلين المحافظين على الصلوات، ويكون هؤلاء أعلى أهل الجنة، فإن أكثر أمة محمد ﷺ ما يحافظون على الصلوات، بل منهم من يؤخر بعضها عن وقته، ومنهم من ترك بعض واجباتها، ومنهم من يترك بعضها، وسائر الأمم قبلنا لا حظ لهم في هاتين الصلاتين.
ولو قيل: إن كل من صلى هاتين الصلاتين دخل الجنة على أي حال كان مغفورًا له، نال هذا الثواب لأمكن في قدرة الله، ولم يكن الحديث نافيًا لهذا؛ إذ أكثر ما فيه أنه من أعلى أهل الجنة، والعلو والسفول أمر إضافي، فيصدق على أهل الجنات الثلاث أنهم من أعلى أهل الجنات الخمس الباقية، ويصدق أيضا على أكثر أهل الجنة أنهم أعلى بالنسبة إلى من تحتهم، وبعض هذا فيه نظر. والله أعلم بحقيقة الحال.
لكن الغرض أن هذا لا ينفي ما ذكرناه، وهذا كله لو كان حديث المرتين، يصلح لمعارضة ما ذكرنا من الدلالة، وهو لا يصلح لذلك لما فيه من الاختلاف في إسناده.
ولما جرى الكلام ثانيًا في رؤية النساء ربهن في الآخرة، استدللت بأشياء أنا أذكرها، وما اعترض به علي وما لم يعترض حتى يظهر الأمر، فأقول: الدليل على أنهن يرينه أن النصوص المخبرة بالرؤية في الآخرة للمؤمنين تشمل النساء لفظًا ومعنى، ولم يعارض هذا العموم ما يقتضي إخراجهن من ذلك، فيجب القول بالدليل السالم عن المعارض المقاوم.
ولو قيل لنا: ما الدليل على أن الفُرْس يرون الله؟ أو أن الطوال من الرجال يرون الله! أو إيش الدليل على أن نساء الحبشة يخرجن من النار؟ لكان مثل هذا العموم في ذلك بالغًا جدًا إلا إذا خصص، ثم يعلم أن العموم المسند المجرد عن قبول التخصيص يكاد يكون قاطعًا في شموله، بل قد يكون قاطعًا.
أما النصوص العامة، فمثل ما في الصحيحين عن أبي هريرة: أن الناس قالوا، يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: «هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا، يا رسول الله، قال: «فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب؟»، قالوا: لا، قال: «فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه. فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقولون: نعوذ بالله منك! هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا عز وجل فإذا جاء ربنا عز وجل عرفناه، فيأتيهم في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم!فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم فيتبعونه، ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ !» وساق الحديث.
وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله ﷺ: «نعم، فهل تُضَارُّون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس معها سحاب؟هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بَرٍّ وفاجر وغُبَّر 9 أهل الكتاب» وذكر الحديث في دعاء اليهود والنصارى إلى أن قال: «حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولمنصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب. فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، ولا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، ثم يضرب الجسر على جهنم».
هذان الحديثان من أصح الأحاديث، فلما قال النبي ﷺ: «فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتبعه»، أليس قد علم بالضرورة أن هذا خطاب لأهل الموقف من الرجال والنساء؟ لأن لفظ «الناس» يعم الصنفين، ولأن الحشر مشترك بين الصنفين.
وهذا العموم لا يجوز تخصيصه، وإن جاز جاز على ضعف؛ لأن النساء أكثر من الرجال، إذ قد صح أنهن أكثر أهل النار، وقد صح: لكل رجل من أهل الجنة زوجتان من الإنسيات سوى الحور العين؛ وذلك لأن من في الجنة من النساء أكثر من الرجال وكذلك في النار، فيكون الخلق منهم أكثر، واللفظ العام لا يجوز أن يحمل على القليل من الصور دون الكثير بلا قرينة متصلة؛ لأن ذلك تلبيس وعَيٌّ 10 ينزه عنه كلام الشارع.
ثم قوله: فيقال: «من كان يعبد شيئًا فليتبعه»، وصف من الصيغ التيتعم الرجال والنساء، ثم فيها العموم المعنوي وهو: أن اتباعه إياه معلل بكونه عبده في الدنيا، وهذه العلة شاملة للصنفين، ثم قوله: «وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها». والنساء من هذه الأمة مؤمناتهن ومنافقاتهن، «فإذا جاء عرفناه»، وقوله: «فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيدعوهم»تفسير لما ذكرناه في أول الحديث من أنهم يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر.
والضمير في قوله: «فيأتيهم في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا» قد ثبت أنه عائد إلى الأمة التي فيها الرجال والنساء، وإلى من كان يعبده الذي يشمل الرجال والنساء، وإلى الناس غير المشركين، وذلك يعم الرجال والنساء، وهذا أوضح من أن يزاد بيانًا.
ثم قوله في حديث أبي سعيد: «فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوها فيها أول مرة» نص في أن النساء من الساجدين الرافعين قد رأوه أولا ووسطًا وآخرًا، والساجدون قد قال فيهم: «لا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود»، و«من» تعم الرجال والنساء، فكل من سجد لله مخلصًا من رجل وامرأة فقد سجد لله، وقد رآه في هذه المواقف الثلاث، وليس هذا موضع بيان ما يتعلق بتعدد السجود والتحول وغير ذلك مما يلتمس معرفته، وإنما الغرض هنا ما قصدنا له.
ثم في كلا الحديثين الإخبار بمرورهم على الصراط، وسقوط قوم في النار، ونجاة آخرين، ثم بالشفاعة في أهل التوحيد حتى يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ويدخلون الجنة ويسمون الجُهنمِيِّين، أفليس هذا كله عامًا للرجال والنساء؟ أم الذين يجتازون على الصراط ويسقط بعضهم في النار ثم يشفع في بعضهم هم الرجال، ولو طلب الرجل نصًا في النساء في مثل هذا أما كان متكلفًا ظاهر التكلف؟
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير: أنه سمع جابرًا يسأل عن «الورود» فقال: نجىء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا، انظر أي ذلك فوق الناس؟ قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن- نورًا، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كَلاليب وحَسَك تأخذ من شاء الله، ثم يطفأ نور المنافقين ثم ينجو المؤمنون. وذكر الحديث في دخول الجنة والشفاعة.
أفليس هذا بينًا في أنه يتجلى لجميع الأمة؟ كما أن الأمة تعطي نورها، ثم جميع المؤمنين ذكرانهم وإناثهم يبقى نورهم، وكذلك جميع ما في الحديث من المعاني تعم الطائفتين عمومًا يقينيًا.
وهذا الحديث هو مرفوع قد رواه الإمام أحمد وغيره بمثل إسناد مسلم، وذكر فيه عن النبي ﷺ ما يقتضى أن جابرًا سمع الجميع منه، وروى من وجوه صحيحة عن جابر عن النبي ﷺ مرفوعًا، وهذا الحديث قد روى أيضا بإسناد جيد من حديث ابن مسعود مرفرعًا إلى النبي ﷺ أطول سياقه من سائر الأحاديث، وروى من غير وجه.
وفي حديث أبي رَزِين العقيلي المشهور من غير وجه قال: قلنا: يا رسول الله، أكلنا يرى ربه يوم القيامة؟ قال: «أكلكم يرى القمر مخليًا به؟» قالوا: بلى. قال: «فالله أعظم»، وقوله: «كلكم يرى ربه» كقوله: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في مال زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها» من أشمل اللفظ.
ومن هذا قوله: «كلكم يرى ربه مخليًا به»، و«ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر»، «وما منكم إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان» إلى غير ذلك من الأحاديث الصحاح والحسان التي تصرح بأن جميع الناس ذكورهم وإناثهم مشتركون في هذه الأمور من المحاسبة والرؤية، والخلوة والكلام.
وكذلك الأحاديث في رؤيته سبحانه في الجنة مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله فما شيء أعطوه أحب إليهم من النظر إليه»، وهي «الزيادة».
قوله: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار»يعم الرجال والنساء، فإن لفظ الأهل يشمل الصنفين، وأيضا فقد علم أن النساء من أهل الجنة، وقوله: «يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه» خطاب لجميع أهل الجنة الذين دخلوها ووعدوا بالجزاء، وهذا قد دخل فيه جميع النساء المكلفات. وكذلك قولهم: «ألم يثقل. . . ويبيض. . . ويدخل. . . وينجز» يعم الصنفين وقوله: «فيكشف الحجاب فينظرون إليه» الضمير يعود إلى ما تقدم وهو يعم الصنفين.
ثم الاستدلال بالآية دليل آخر؛ لأن الله سبحانه قال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، ومعلوم أن النساء من الذين أحسنوا، ثم قوله فيما بعد: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ }11 يقتضي حصر أصحاب الجنة في أولئك، والنساء من أصحاب الجنة، فيجب أن يكُنَّ من أولئك، وأولئك إشارة إلى الذين لهم الحسنى وزيادة، فوجب دخول النساء في الذين لهم الحسنى وزيادة، واقتضى أن كل من كان من أصحاب الجنة، فإنه موعود بالزيادة على الحسنى التي هي النظر إلى الله سبحانه ولا يستثنى من ذلك أحد إلا بدليل، وهذه الرؤية العامة لم توقت بوقت، بل قد تكون عقب الدخول قبل استقرارهم في المنازل، والله أعلم أي وقت يكون ذلك.
وكذلك ما دل من الكتاب على الرؤية كقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}12 هو تقسيم لجنس الإنسان المذكور في قوله: {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} 13، وظاهر انقسام الوجوه إلى هذين النوعين. كما أن قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ }14 أيضا إلى هذين النوعين، فمن لم يكن من الوجوه الباسرة كان من الوجوه الناضرة الناظرة، كيف وقد ثبت في الحديث أن النساء يزددن حسنا وجمالا، كما يزداد الرجال في مواقيت النظر؟ وكذلك قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}15 قد فسر بالرؤية، وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}16، فإن هذا كله يعم الرجال والنساء.
واعلم أن الناس قد اختلفوا في صيغ جمع المذكر، مظهره ومضمره، مثل: المؤمنين، والأبرار، وهو هل يدخل النساء في مطلق اللفظ أو لا يدخلون إلا بدليل؟ على قولين:
أشهرهما عند أصحابنا ومن وافقهم: أنهم يدخلون؛ بناءً علي أن من لغة العرب إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلبوا المذكر، وقد عهدنا من الشارع في خطابه أنه يعم القسمين ويدخل النساء بطريق التغليب، وحاصله أن هذه الجموع تستعملها العرب تارة في الذكور المجردين، وتارة في الذكور والإناث، وقد عهدنا من الشارع أن خطابه المطلق يجرى على النمط الثاني، وقولنا: المطلق، احتراز من المقيد، مثل قوله: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }17، ومن هؤلاء من يدعي أن مطلق اللفظ في اللغة يشمل القسمين.
والقول الثاني: أنهن لا يدخلن إلا بدليل، ثم لا خلاف بين الفريقين، أن آيات الأحكام والوعد والوعيد التي في القرآن تشمل الفريقين وإن كانت بصيغة المذكر. فمن هؤلاء من يقول: دخلوا فيه؛ لأن الشرع استعمل اللفظ فيهما، وإن كان اللفظ المطلق لا يشمله، وهذا يرجع إلى القول الأول. ومنهم من يقول: دخلوا؛ لأنا علمنا من الدين استواء الفريقين في الأحكام، فدخلوا كما ندخل نحن فيما خوطب به الرسول، وكما تدخل سائر الأمة فيما خوطب به الواحد منها، وإن كانت صيغة اللفظ لا تشمل غير المخاطب.
وحقيقة هذا القول: أن اللفظ الخاص يستعمل عامًا حقيقة عرفية، إما خاصة، وإما عامة، وربما سماه بعضهم قياسًا جليًا ينقص حكم من خالفه، وأكثرهم لا يسمونه قياسًا، بل قد علم استواء المخاطب وغيره، فنحن نفهم من الخطاب له الخطاب للباقين، حتى لو فرض انتفاء الخطاب في حقه لمعنى يخصه لم ينقص انتفاء الخطاب في حق غيره، فالقياس تعدية الحكم، وهنا لم يعد حكم، وإنما ثبت الحكم في حق الجميع ثبوتًا واحدًا، بل هو مشبه بتعدية الخطاب بالحكم، لا نفس الحكم.
وعلى كل قول، فالدلالة من صيغ الجمع المذكر متوجهة، كما أنها متوجهة بلا تردد من صيغة: من وأهل والناس ونحو ذلك.
واعلم أن هنا دلالة ثانية، وهي دلالة العموم المعنوي، وهي أقوى من دلالة العموم اللفظي؛ وذلك أن قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }18، وقد فسرت القرة بالنظر وغيره، فيقتضي أن النظر جزاء على عملهم، والرجال والنساء مشتركون في العمل الذي استحق به جنس الرجال الجنة، فإن العمل الذي يمتاز به الرجال كالإمارة والنبوة عند الجمهور ونحو ذلك لم تنحصر الرؤية فيه، بل يدخل في الرؤية من الرجال من لم يعمل عملا يختص الرجال، بل اقتصر علي ما فرض عليه: من الصلاة، والزكاة، وغيرهما، وهذا مشترك بين الفريقين.
وكذلك قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}19 أن البر سبب هذا الثواب، والبر مشترك بين الصنفين، وكذلك كل ما علقت به الرؤية من اسم الإيمان ونحوه، يقتضي أنه هو السبب في ذلك، فيعم الطائفتين.
وبهذا الوجه احتج الأئمة: أن الكفار لا يرون ربهم. فقالوا: لما حجب الكفار بالسخط دل على أن المؤمنين يرون بالرضى، ومعلوم أن المؤمنات فارقوا الكفار فيما استحقوا به السخط والحجاب، وشاركوا المؤمنين فيما استحقوا به الرضوان والمعاينة، فثبتت الرؤية في حقهم باعتبار الطرد واعتبار العكس، وهذا باب واسع إن لم نقطعه لم ينقطع. فإن قيل: دلالة العموم ضعيفة، فإنه قد قيل: أكثر العمومات مخصوصة، وقيل: ما ثم لفظ عام إلا قوله: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }20، ومن الناس من أنكر دلالة العموم رأسا.
قلنا: أما دلالة العموم المعنوي العقلي، فما أنكره أحد من الأمة فيما أعلمه، بل ولا من العقلاء، ولا يمكن إنكارها، اللهم إلا أن يكون في أهل الظاهر الصرف، الذين لا يلحظون المعاني كحال من ينكرها، لكن هؤلاء لا ينكرون عموم الألفاظ، بل هو عندهم العمدة، ولا ينكرون عموم معاني الألفاظ العامة، وإلا قد ينكرون كون عموم المعاني المجردة مفهومًا من خطاب الغير.
فما علمنا أحدًا جمع بين إنكار العمومين؛ اللفظي والمعنوي، ونحن قد قررنا العموم بهما جميعًا، فيبقى محل وفاق مع العموم المعنوي، لا يمكن إنكاره في الجملة، ومن أنكره سد على نفسه إثبات حكم الأشياء الكثيرة، بل سد على عقله أخص أوصافه، وهو القضاء بالكلية العامة، ونحن قد قررنا العموم من هذا الوجه، بل قد اختلف الناس في مثل هذا العموم: هل يجوز تخصيصه؟ على قولين مشهورين.
وأما العموم اللفظي، فما أنكره أيضا إمام ولا طائفة لها مذهب مستقر في العلم، ولا كان في القرون الثلاثة من ينكره، وإنما حدث إنكاره بعد المائة الثانية وظهر بعد المائة الثالثة، وأكبر سبب إنكاره إما من المجوزين للعفو من أهل السنة، ومن أهل المرجئة من ضاق عطنه لما ناظره الوعيدية بعموم آيات الوعيد وأحاديثه، فاضطره ذلك إلى أن جحد العموم في اللغة والشرع، فكانوا فيما فروا إليه من هذا الجحد كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ولو اهتدوا للجواب السديد للوعيدية: من أن الوعيد في آية وإن كان عامًا مطلقًا، فقد خصص وقيد في آية أخرى جريًا على السنن المستقيمة أولى بجواز العفو عن المتوعد وإن كان معينا، تقييدًا للوعيد المطلق، وغير ذلك من الأجوبة، وليس هذا موضع تقرير ذلك، فإن الناس قد قرروا العموم بما يضيق هذا الموضع عن ذكره.
وإن كان قد يقال: بل العلم بحصول العموم من صيغه ضروري من اللغة والشرع والعرف، والمنكرون له فرقة قليلة يجوز عليهم جحد الضروريات، أو سلب معرفتها، كما جاز على من جحد العلم بموجب الأخبار المتواترة وغير ذلك من المعالم الضرورية.
وأما من سلم أن العموم ثابت، وأنه حجة، وقال: هو ضعيف، أو أكثر العمومات مخصوصة، وأنه ما من عموم محفوظ إلا كلمة أو كلمات.
فيقال له أولا: هذا سؤال لا توجيه له، فإن هذا القدر الذي ذكرته لا يخلو إما أن يكون مانعًا من الاستدلال بالعموم أو لا يكون، فإن كان مانعًا فهو مذهب منكري العموم من الواقفة والمخصصة، وهو مذهب سخيف لم ينتسب إليه. وإن لم يكن مانعًا من الاستدلال فهذا كلام ضائع غايته أن يقال: دلالة العموم أضعف من غيره من الظواهر وهذا لا يقر، فإنه ما لم يقم الدليل المخصص وجب العمل بالعام.
ثم يقال له ثانيًا: من الذي سلم لكم أن العموم المجرد الذي لم يظهر له مخصص دليل ضعيف؟ أم من الذي سلم أن أكثر العمومات مخصوصة؟ أم من الذي يقول: ما من عموم إلا قد خص إلا قوله: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }؟ 21، فإن هذا الكلام، وإن كان قد يطلقه بعض السادات من المتفقهة وقد يوجد في كلام بعض المتكلمين في أصول الفقه، فإنه من أكذب الكلام وأفسده.
والظن بمن قاله أولا: إنه إنما عنى أن العموم من لفظ "كل شيء" مخصوص إلا في مواضع قليلة، كما في قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ }22، {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ }23، {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}24، وإلا فأي عاقل يدعى هذا في جميع صيغ العموم في الكتاب والسنة، وفي سائر كتب الله وكلام أنبيائه، وسائر كلام الأمم عربهم وعجمهم.
وأنت إذا قرأت القرآن من أوله إلى آخره، وجدت غالب عموماته محفوظة، لا مخصوصة، سواء عنيت عموم الجمع لأفراده، أو عموم الكل لأجزائه أو عموم الكل لجزئياته، فإذا اعتبرت قوله: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ}25، فهل تجد أحدًا من العالمين ليس الله ربه؟ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }26، فهل في يوم الدين شيء لا يملكه الله؟ {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} 27، فهل في المغضوب عليهم والضالين أحد لا يجتنب حاله التي كان بها مغضوبًا عليه أو ضالا؟ {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}الآية 28، فهل في هؤلاء المتقين أحد لم يهتد بهذا الكتاب؟{والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ}29، هل فيما أنزل الله ما لم يؤمن به المؤمنون لا عمومًا ولا خصوصًا؟ {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}30، هل خرج أحد من هؤلاء المتقين عن الهدى في الدنيا، وعن الفلاح في الآخرة؟
ثم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ }31 قيل: هو عام مخصوص، وقيل: هو لتعريف العهد فلا تخصيص فيه، فإن التخصيص فرع على ثبوت عموم اللفظ، ومن هنا يغلط كثير من الغالطين، يعتقدون أن اللفظ عام، ثم يعتقدون أنه قد خص منه، ولو أمعنوا النظر لعلموا من أول الأمر أن الذي أخرجوه لم يكن اللفظ شاملا له، ففرق بين شروط العموم وموانعه، وبين شروط دخول المعنى في إرادة المتكلم وموانعه.
ثم قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ ّ}أليس هو عامًا لمن عاد الضمير إليه عمومًا محفوظًا؟ {خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ }32 أليس هو عامًا في القلوب وفي السمع وفي الأبصار وفي المضاف إليه هذه الصفة عمومًا، لم يدخله تخصيص؟ وكذلك {وَلَهُمْ}، وكذلك في سائر الآيات إذا تأملته إلى قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }33، فمن الذين خرجوا من هذا العموم الثاني فلم يخلقهم الله له؟ وهذا باب واسع.
وإن مشيت على آيات القرآن كما تلقن الصبيان وجدت الأمر كذلك، فإنه سبحانه قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ}، فأي ناس ليس الله ربهم؟ أم ليس ملكهم؟ أم ليس إلههم؟ ثم قوله: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}34 إن كان المسمى واحدًا فلا عموم فيه، وإن كان جنسا فهو عام، فأي وسواس خناس لا يستعاذ بالله منه؟
وكذلك قوله: {بِرَبِّ الْفَلَقِ }أي جزء من «الفلق»أم أيّ فلق ليس الله ربه؟ {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ }أي شر من المخلوق لا يستعاذ منه؟ {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ }أي نفاثة في العقد لا يستعاذ منها؟ وكذلك قوله: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ}35 مع أن عموم هذا فيه بحث دقيق ليس هذا موضعه.
ثم سورة الإخلاص فيها أربع عمومات: {لم يلد و لم يولد}، فإنه يعم جميع أنواع الولادة، وكذلك {وَلَمْ يُولَدْ}، وكذلك {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أحَدٌ}36 فإنها تعم كل أحد وكل ما يدخل في مسمى الكفؤ، فهل في شيء من هذا خصوص؟
ومن هذا الباب كلمة الإخلاص، التي هي أشهر عند أهل الإسلام من كل كلام، وهي كلمة «لا إله إلا الله»، فهل دخل هذا العموم خصوص قط؟
فالذي يقول بعد هذا: ما من عام إلا وقد خص إلا كذا وكذا، إما في غاية الجهل وإما في غاية التقصير في العبارة؛ فإن الذي أظنه أنه إنما عني من الكلمات التي تعم كل شيء مع أن هذا الكلام ليس بمستقيم، وإن فسر بهذا؛ لكنه أساء في التعبير أيضا، فإن الكلمة العامة ليس معناها أنها تعم كل شيء، وإنما المقصود أن تعم ما دلت عليه، أي: ما وضع اللفظ له، وما من لفظ في الغالب إلا وهو أخص مما هو فوقه في العموم وأعم مما هو دونه في العموم والجميع يكون عامًا. ثم عامة كلام العرب وسائر الأمم إنما هو أسماء عامة، والعموم اللفظي على وزان العموم العقلي وهو خاصية العقل، الذي هو أول درجات التمييز بين الإنسان وبين البهائم.
فإن قيل: سلمنا أن ظاهر الكتاب والسنة يشمل النساء، لكن هذا العموم مخصوص؛ وذلك أن في حديث رؤية الله للرجال يوم الجمعة: «إن الرجال يرجعون إلى منازلهم فتتلقاهم نساؤهم فيقلن للرجل: لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه! فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به». وهذا دليل على أن النساء لم يشاركوهم في الرؤية، وإذا كان هذا في رؤية الجمعة، ففي رؤية الغداة والعشي أولى؛لأن هذا أعلى من تلك ومن لم يصلح للرؤية في الأسبوع، فكيف يصلح للرؤية في كل يوم مرتين؟ وإذا انتفت رؤيتهن في هذين الموطنين، ولم يثبت أن الناس يرونه في غير هذين الموطنين، فقد ثبت أن العموم مخصوص منه النساء في هذين الموطنين، وما سواهما لم يثبت لا للرجال ولا للنساء، فلم يبق ما يدل على حصول الرؤية للنساء في موطن آخر، فإما أن يبقى مطلقًا عملا بالأصل النافي، وإما أن ينفى عن هذين الموطنين ويتوقف فيما عداهما ولا يحتج على ثبوتها فيه بتلك العمومات لوجود التخصيصات فيها.
هذا غاية ما يمكن في تقرير هذا السؤال، ولولا أنه أورد على لما ذكرته لعدم توجهه. فنقول:
الجواب من وجوه متعددة وترتيبها الطبيعي يقتضى نوعًا من الترتيب، لكن أرتبها على وجه آخر ليكون أظهر في الفهم:
الأول:
أنا لو فرضنا أنه قد ثبت أن النساء لا يرينه في الموطنين المذكورين، لم يكن في ذلك ما ينفي رؤيتهن في غير هذين الموطنين، فيكون ما سوى هذين الموطنين لم يدل عليه الدليل الخاص لا بنفي ولا بإثبات، والدليل العام قد أثبت الرؤية في الجملة، والرؤية في غير هذين الموطنين لم ينفها دليل، فيكون الدليل العام قد سلم عن معارضة الخاص فيجب العمل به، وهذا في غاية الوضوح.
فإن من قال: رأيت رجلا، فقال آخر: لم تر أسود ولم تره في دمشق، لم تتناقض القضيتان، والخاص إذا لم يناقض مثله من العام لم يجز تخصيصه به، فلو كان قد دل دليل على أن النساء لا يرينه بحال؛ لكان هذا الخاص معارضًا لمثله من العام، أما إذا قيل: إنه دل على رؤية في محل مخصوص كيف ينفي بنفي جنس الرؤية؟ وكيف يكون سلب الخاص سلبًا للعام؟
فإن قيل: لا رؤية لأهل الجنة إلا في هذين الموطنين، قيل: ما الذي دل على هذا؟ فإن قيل: لأن الأصل عدم ما سوى ذلك. قيل: العدم لا يحتج به في الأخبار بإجماع العقلاء، بل من أخبر به كان قائلا ما لا علم له به، ولو قيل للرجل: هل في البلد الفلاني كذا، وفي المسجد الفلاني كذا؟ فقال: لا؛ لأن الأصل عدمه، كان نافيًا ما ليس له به علم باتفاق العقلاء.
ولو قال الآخر: الذين يرون الله كل يوم مرتين هم النبيون فقط؛ لأن الأصل عدم رؤية غيرهم، ولهم من الخصوص ما لا يشركون فيه، كان هذا قولا بلا علم إذا سلم من أن يكون كذبًا وليس هنا مفهوم يتمسك به، كما في قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً }37.
فإن الرسول لم يقل: إن أهل الجنة لهم موطنان في الرؤية، حتي يقول ذلك بنفي ما سواهما، بل كلامه يدل على خلاف ذلك كما سنبينه، ولو فرضنا أنه يجوز الحكم باستصحاب الحال في مثل هذا، فإن العموم والقياس حجتان مقدمتان على الاستصحاب، أما العموم، فبإجماع الفقهاء. وأما القياس، فعند جماهيرهم.
ومعلوم أن العموم والقياس يقتضيان ثبوت الرؤية كما تقدم، فلا يجوز نفيها بالاستصحاب، وإن جاز تخصيص ذلك بنقص عقل النساء، فينبغي أن يقال: البله وأهل الجفاء من الأعراب ونحوهم ممن يدخل الجنة لا يرى الله، فإنه لا ريب أن في النساء من هو أعقل من كثير من الرجال، حتى إن المرأة تكون شهادتها نصف شهادة الرجل، والمغفل ونحوه ترد شهادتهما بالكلية، وإن لم يكن مجنونًا، وقد قال النبي ﷺ: «كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع»، أكمل ممن لم يكمل من الرجال، ففي أي معقول تكون الرؤية للناقص دون الكامل؟
الجواب الثاني:
أن نقول: نفس الحديث المحتج به دل على أن لأهل الجنة رؤية في مواطن عديدة، فإنه قال: «وأعلى أهل الجنة منزلة من يرى الله كل يوم مرتين غُدْوَة وعَشِيَّة»، فإذا كانت هذه للأعلى، فمفهومه أن الأدنى له دون ذلك، ولا يجوز أن يقصر ما دون ذلك علي «رؤية الجمعة»؛ لأنه لا دليل عليه، بل يجوز أن يراه بعضهم كل يوم مرة، وبعضهم كل يومين مرة، وبعضهم أكثر من ذلك والحكمة تقتضي ذلك، فإن «يوم الجمعة»يشترك فيه جميع الرجال من الأعلين والمتوسطين ومن دونهم، وكل يوم مرتين للأعلين، فالذين هم فوق الأدنين ودون الأعلين لابد أن يميزوا عمن دونهم، كما نقصوا عمن فوقهم.
الجواب الثالث:
أنه قد جاءت الأحاديث برؤية الله في غير هذين الموطنين، منها: ما رواه ابن ماجه في سننه والدارقطني في الرؤية عن الفضل بن عيسى الرَّقَاشِيّ، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تبارك وتعالى أشرف عليهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قول الله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}38، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما دام الله بين أظهرهم حتى يحتجب عنهم، وتبقى فيهم بركته ونوره».
ورويناه من طريق أخرى معروفة إلى سلمة بن شبيب: حدثنا بشر بن حجر، حدثنا عبد الله بن عبيد الله، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «بينما أهل الجنة في ملكهم ونعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب تبارك وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم، فيقول: السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله تبارك وتعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ}، فينظرون إليه وينظر إليهم، فلا يلتفتون إلى شيء من الملك والنعيم حتى يحتجب عنهم»، قال: «فيبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم».
وهذه الطريق تنفي أن يكون قد تفرد به الفضل الرقاشي، وهذا الحديث بعمومه يقتضي أن جميعهم يرونه، لكن لم يستدل به ابتداء؛ لأن في إسناده مقالا، والمقصود هنا أنه قد روى ذلك وهو ممكن ولا سبيل إلى دفعه في نفس الأمر، والعمومات الصحيحة تثبت جنس ما أثبته هذا الحديث.
وأيضا، فالحديث الصحيح: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه».
فهذا ليس هو نظر الجمعة؛ لأن هذا عند الدخول، ولم يكونوا ينتظرونه، ولا اجتمعوا لأجله، ونظر الجمعة يقدمون إليه من منازلهم ويجتمعون لأجله كما جاءت به الأحاديث، وبين هذا التجلي وذاك فرق تدل عليه الأحاديث، ولا هذا التجلي من المرتين اللتين تختص بالأعلين، بل هو عام لمن دخل الجنة كما دل عليه الحديث موافقًا لقوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ }39.
وأيضا، فقد جاء موقوفًا على ابن عباس، وعن كعب الأحبار مرفوعًا إلى النبي ﷺ: «إنهم يرونه في كل يوم عيد»
وأيضا، فقد ثبت بالنصوص المتواترة في عَرَصَات القيامة قبل دخول الجنة أكثر من مرة، وهذا خارج عن المرتين، إلا أن يقال: وإن كان لم يقل: ولا في سؤال السائل ما يدل عليه فهو مبطل لحصره قطعًا، ومن أراد أن يحترز عنه يصوغ السؤال على غير ما تقدم، وإنما صغناه كما أورد علينا.
وأيضا، فقد قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ }40 قال النبي ﷺ: «يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، فكيف يمكن أن يقال: إن من سوى الأعلين لا يرى الله قط إلا في الأسبوع مرة؟ ويقضي ذلك الدليل على ما قد أخفاه عن كل نفس، ونفى علمه من كل عين، وسمع، وقلب، وفرق بين عدم العلم، والعلم بالعدم، وبين عدم الدليل، والدليل على العدم، فإذا لم يكن مع الإنسان فيما سوى الموطن سوى عدم العلم وعدم الدليل، لم يكن ذلك مانعًا من موجب الدليل العام بالاضطرار وبالإجماع.
ونكتة الجواب الأول: أن النبي ﷺ إذا قال: إن أهل الجنة يرون الله تعالى وفسر به قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }إلى قوله: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ }، فأعلمنا بهذا أن أصحاب الجنة لهم «الزيادة» التي هي النظر إليه، وقد علمنا أن أهل الجنة وأصحاب الجنة منهم النساء المحسنات أكثر من الرجال. وقال لنا مثلا: يوم الجمعة يراه الرجال دون النساء، وقال لنا أيضا: لا يراه كل يوم مرتين إلا أعلى أهل الجنة، وفرضنا أن النساء لا يرينه بحال كل يوم مرتين ولا يوم الجمعة، ولا فيما سوى ذلك قط، وهذا وإن كان من وقف على هذا الكلام يعلم أنه لا خلاف بين العلماء، بل ولا بين العقلاء في أنه لا يدل على نفي جنس الرؤية، ولا يخص ذلك اللفظ العام، ولا يقيد ذلك المطلق فإنما رددت الكلام فيه للمنازعة فيه، فلا يظن أنا أطلنا النفس فيه لخفائه، بل لرده مع جلائه.
ولك أن تعبر عن هذا الجواب بعبارات، إن شئت أن تقول: أحاديث الإثبات أثبتت رؤية مطلقة للرجال وللنساء، ونفى المقيد لا ينفي المطلق، فلا يكون المطلق منفيًا، فلا يجوز نفي موجبه.
وإن شئت أن تقول: أحاديث الإثبات تعم الرجال والنساء، وأحاديث النفي تنفي عن النساء ما علم أنه للرجال، أو ما ثبت أن فيه الرؤية أو تنفى عن النساء الروية في الموطنين اللذين أخبروا بالرؤية فيهما، لكن هذا سلب في حال مخصوص، لم يتعرض لما سواهما، لا بنفي ولا بإثبات، والمسلوب عنه لا يعارض العام.
وإن شئت أن تقول: القضية الموجبة المطلقة لا يناقضها إلا سلب كلى، وليس هذا سلبًا كليًا فلا يناقض، ولا يجوز ترك موجب أحد الدليلين.
وإن شئت أن تقول: ليس في ذكر هذين الموطنين إلا عدم الإخبار بغيرهما، وعدم الإخبار بثواب معين من نظر أو غيره لا يدل على عدمه، كيف وهذا الثواب مما أخفاه الله؟ وإذا كان عدم الإخبار لا يدل على عدمه، والعموم اللفظي والمعنوي إما قاطع وإما ظاهر في دخول النساء، لم يكن عدم الدليل مخصصًا للدليل سواء كان ظاهرًا أو قاطعًا، وكل هذا كما أنه معلوم بالعقل الضروري فهو مجمع عليه بين الأمة، على ما هو مقرر عند العلماء في الأصول والفروع.
وإنما ينشأ الغلط من حيث يسمع السامع ما جاء في الأحاديث في الرؤية عامة مطلقة، ويرى أحاديث أخر أخبرت برؤية مقيدة خاصة، فيتوهم ألاّ وجود لتلك المطلقة العامة إلا في هذه المقيدة، أو ينفي دلالة تلك العامة لهذا الاحتمال، كرجل قال: كنت أدخل أصحابي داري وأكرمهم. ثم قال في موطن آخر: أدخلت داري فلانًا وفلانًا من أصحابي في اليوم الفلاني، فمن ظن أن سائر أصحابه لم يدخلهم لأنه لم يذكرهم في هذا الموطن فقد غلط، وقيل له: من أين لك أنه ما أدخلهم في وقت آخر؟ فإذا قال: يمكن أنه أدخلهم، ويمكن أنه ما أدخلهم فأنا أقف، قيل له: فقد قال: كنت أدخل أصحابي داري، وهذا يعم جميع أصحابه.
ونحن لا ننازع في أن اللفظ العام يحتمل الخصوص في الجملة مع عدم هذه القرينة، فمع وجودها أوكد، لكن ننازع في الظهور فنقول: هذا الاحتمال المرجوح لا يمنع ظهور العموم كما تقدم، فيكون العموم هو الظاهر وإن كان ما سواه ممكنًا وأما سائر الأجوبة، ففي تقرير أن الرؤية تقع في غير هذين الموطنين.
الجواب الرابع:
أنا لو فرضنا أن حديث المرتين كل يوم يعارض ما قدمناه من النصوص الصحيحة العامة لفظًا ومعنى لما كان الواجب دفع دلالة تلك الأحاديث بمثل هذا الحديث؛ لما تقدم، أولا: لما في إسناده من المقال؛ ولأنه يستلزم إخراج أكثر أفراد اللفظ العام بمثل هذا التخصيص، وهذا إما ممتنع وإما بعيد، ومستلزم تخصيص العلة بلا وجود مانع ولا فوات شرط، وهذا ممتنع عند الجمهور، أو من غير ظهور مانع، وهذا بعيد لا يصار إليه إلا بدليل قوي.
الجواب الخامس:
لو فرضنا أن لا رؤية إلا ما في هذين، فمن أين لنا أن النساء لا يرين الله فيهما جميعًا؟ وهب أنا سلمنا أنهن لا يرينه يوم الجمعة، فمن أين أنهن لا يرينه كل يوم مرتين؟ وقول القائل: هذه أعلى وتلك أدنى، فكيف يحرم الأدني من يعطي الأعلى؟ فعنه أجوبة:
أحدها: أن الذين ميزوا برؤية كل يوم مرتين شركوا الباقين في رؤية يوم الجمعة، فصار لهم النوعان جميعًا، فإذا كان فضلهم بالنوعين جميعًا، فما المانع في أن بعض من دونهم يشركهم في الجمعة دون «رؤية الغداة والعشي»، والبعض الآخرون يشركونهم في «الغداة والعشي» دون «الجمعة»؟ ولا يكون من له الغداة والعشي دون الجمعة أعلى مطلقًا، وإنما الأعلى مطلقًا الذي له الجميع.
لكن قد يقال: يلزم على هذا أن يكون النساء أعلى ممن له الجمعة دون البَرْدَيْنِ من الرجال، فيقال: قد لا يلزم هذا، بل قد تكون الجمعة وحدها أفضل من البردين وحدهما.
وقد يقال: فهب أن الأمر كذلك. أكثر ما فيه تفضيل النساء على مفضول الرجال، وهذا الاحتمال وإن كان ممكنًا، لكن يبعد أن تكون كل امرأة تدخل الجنة أفضل ممن لا يرى الله كل يوم مرتين، فإن ذلك مستلزم أن يكون مفضول النساء أفضل من مفضول الرجال، فيترك هذا الاحتمال ويقتصر على الذي قيل، وهو: أن الأعلى مطلقًا الذي له المرتان مع الجمعة، وإنما لزم هذا لأنا نتكلم بتقدير أن لا رؤية إلا هذين، ولا ريب أن هذا التقدير باطل قطعًا.
الوجه الثاني: أنه من أين لكم أن «الرؤية كل يوم مرتين»أفضل من «رؤية الجمعة»؟ نعم هي أكثر عددًا، لكن قد يفضل ذلك في الكيفية، فيكون أحد النوعين أكثر عددًا والآخر أفضل نوعًا: كدينار وخمسة دراهم، ولا ريب أن هذا ممكن إمكانًا قريبًا؛ فإن الله يثيب عبده على: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} مع قلة حروفها بقدر ما يثيبه على ثلث القرآن.
وإذا كان الأمر كذلك، فيمكن في حق من حرم الأفضل في نوعه أن يعطى النوع المفضول وإن كثر عدده، سواء كان فاضل النوع أفضل مطلقًا، أو كانا متكافئين عند التقابل، وفي أحاديث المزيد ما يدل على هذا، فإنهم يرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالا، فيقولون: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، فيحق لنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به. وفي حديث آخر: «فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة؛ ليزدادوا نظرًا إلى ربهم، ويزدادوا كرامة».
ومن تأمل سياق الأحاديث المتقدمة، علم أن التجلي يوم الجمعة له عندهم وقع عظيم، لا يوجد مثله في سائر الأيام، وهذا يقتضي أن هذا النوع أفضل من الرؤية الحاصلة كل يوم مرتين، وإن كانت تلك أكثر! فإذا منع النساء من هذا الفضل لم يلزم أن يمنعن مما دونه، وهذا بين لمن تأمله.
الوجه الثالث: هب أن رؤية الله كل يوم مرتين أفضل مطلقًا من رؤية الجمعة، فلا يلزم حرمانهن من الثواب المفضول حرمان ما فوقه مطلقًا، وذلك أن العبد قد يعمل عملا فاضلا يستحق به أجرًا عظيمًا، ولا يعمل ما هو دونه فلا يستحق ذلك الأجر، وما زال الله سبحانه يخص المفضولين من كل صنف بخصائص لا تكون للفاضلين، وهذا مستقر فى الأشخاص من الأنبياء والصديقين وفي الأعمال.
ولو كان العمل الفاضل يحصل به جميع المفضول مطلقًا لما شرع المفضول في وقت، فلا يلزم من إعطاء الأعلى إعطاء الأدنى مطلقًا، ولا يلزم منه منع الأعلى مطلقًا، فهذا ممكن إمكانًا شرعيًا في عامة الثوابات، ألا ترى أن الذين في الدرجات العلى من أهل الجنة لا يعطون الدرجات الدنى، ثم لا يكون هذا نقصًا في حقهم، فإن الله سبحانه يرضى كل عبد بما آتاه، فجاز أن يكون قد أرضى النساء بأعلى الرؤية عن مجموع أعلاها وأدناها.
والذي يؤيد هذا: أنه من الممكن أن تكون رؤية الجمعة جزاء على عمل الجمعة في الدنيا، ورؤية الغداة والعشي جزاء على عمل الغداة والعشي، فهذا ممكن في العقل، وإن لم يجئ به خبر، وإذا كان ممكنًا لم يلزم من منعهن «رؤية الجمعة» لعدم المقتضى فيهن منعهن «رؤية البَرْدَيْن»مع قيام المقتضى فيهن.
ومن الممكن في العقل أنهن إنما لم يشهدن رؤية الجمعة؛ لأنه مجتمع الرجال والغيرة في الجنة؛ ألا ترى أن النبي ﷺ لما رأى الجنة، ورأى قصرًا وعلى بابه جارية، قال: «فأردت أن أدخل، فذكرت غيرتك»، فقال عمر: أعليك أغار؟، والله أعلم بحقائق الأمور، فإذا كان كذلك، فهذا منتف في رؤية الغداة والعشي؛ لأن تلك الرؤية قد تحصل وأهل الجنة في منازلهم.
ثم هذا من الممكن أن الرؤية جزاء العمل، فإنه قد جاء في الأخبار ما يدل على أن الرؤية يوم الجمعة ثواب شهود الجمعة، بدليل أن فيها يكونون في الدنو منه على مقدار مسارعتهم إلى الجمعة. وتفاوت الثواب بتفاوت العمل دليل على أنه مسبب عنه، وبدليل أنه مذكور في غير حديث أنه يكون بمقدار انصرافهم من صلاة الجمعة في الدنيا.
وموافقة الثواب للعمل في وقته، وفي قدره حتى يصير جزاء وفاقا يقتضى أن العمل سببه، وبدليل أن ذلك مذكور في فضل يوم الجمعة في الدنيا والآخرة، فعلم أن ارتباط ثوابه في الآخرة بعمله في الدنيا، وبدليل أن فيه عند منصرف الناس من الجمعة رجوع الصالحين إلي منازلهم، ورجوع الأنبياء والصديقين والشهداء إلى ربهم.
وهذا مناسب لحالهم في الدنيا، فإن الصالح إذا انقضت الجمعة اشتغل بما أبيح له في الدنيا، وأولئك اشتغلوا بالتقرب إليه بالنوافل، فكانوا متقربين إليه في الدنيا بعد الجمعة فقربوا منه بعد الجمعة في الآخرة، وهذه المناسبة الظاهرة المشهود لها بالاعتبار تقتضي أن ذلك التجلي ثواب أعمالهم يوم الجمعة، وإذا كان كذلك فانتفاء الرؤية في حق النساء لعدم شهودهن الجمعة؛ ولهذا روى أنهن يرينه في العيد كما شرع لهن شهود العيد.
فإن قيل: ما ذكرتموه من هذه الزيادة أمر غريب، والأحاديث المشهورة المجمع عليها ليس فيها هذه الزيادة فلا يجوز الاعتماد عليها، والناس كلهم قد سمعوا أحاديث الرؤية يوم الجمعة ولم يسمعوا هذه الزيادة.
قلنا: قد تقدم الجواب عن ذلك بما ذكرناه من طرق الحديث وحال أصله وزيادته، وبينا أن الزيادة لا ينقص حكمها في الرؤية عن حكم أصل الحديث نقصًا يمنع إلحاقها به، بل هي إما مكافئة أو قريبة أو فوق، وأجبنا عما قيل هنا وما لم يقل.
فإن قيل: فقد كن المؤمنات يشهدن صلاة الجمعة مع رسول الله ﷺ، فعلى قياس هذا، ينبغي لمن شهد الجمعة من النساء أن يشهدن يوم المزيد في الجنة.
قلنا: ما كان يشهد الجمعة والجماعة من النساء إلا أقلهن؛ لأن النبي ﷺ قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن» متفق عليه. وقال: «صلاة إحداكن في مَخْدَعِهَا أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في حجرتها أفضل من صلاتها في دارها، وصلاتها في دارها أفضل من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي»، أو قال: «خلفي» رواه أبو داود، فقد أخبر المؤمنات: أن صلاتهن في البيوت أفضل لهن من شهود الجمعة والجماعة إلا العيد، فإنه أمرهن بالخروج فيه، ولعله والله أعلم لأسباب:
أحدها: أنه في السنة مرتين فقبل، بخلاف الجمعة والجماعة.
الثاني: أنه ليس له بدل، خلاف الجمعة والجماعة، فإن صلاتها في بيتها الظهر هو جمعتها.
الثالث: أنه خروج إلى الصحراء لذكر الله، فهو شبيه بالحج من بعض الوجوه؛ ولهذا كان العيد الأكبر في موسم الحج موقفة للحجيج، ومعلوم أن الصحابيات إذا علمن أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لم يتفق أكثرهن على ترك الأفضل، فإن ذلك يلزم أن يكون أفضل القرون على المفضول من الأعمال.
فإن قيل: هذا التفضيل إنما وقع في حق من بعد الصحابيات لما أحدث النساء ما أحدثن، ولأن من بعد الرسول من الأئمة لا يساويه، فأما الصحابيات فصلاتهن خلف النبي ﷺ كانت أفضل، ويكون هذا الخطاب عامًا خرج منه القرن الأول، فإن تخصيص العموم جائز.
قلنا: هذا خلاف ما علم بالاضطرار من لغة العرب والعجم، وخلاف ما علم بالاضطرار من دين المسلمين، وخلاف ما فطر الله عليه العقلاء، وخلاف ما أجمع المسلمون عليه؛ وذلك لأن قوله: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن» قد أجمع المسلمون على أن الحاضرين تحقق دخولهم فيه، واختلفوا في القرن الثاني والثالث: هل يدخلون بمطلق الخطاب أم بدليل منفصل؟ فيه قولان، فأما دخول الغائب دون الحاضر فممتنع باتفاق.
ثم اللغة تحيله، فإن قوله: «لا تمنعوا إماء الله» لا ريب أنه خطاب للصحابة رضي الله عنهم - ابتداء، فكيف تحيل اللغة ألا يدخلوا فيه، ويدخل فيه من بعدهم؟ أهل اللغة لا يشكون أن هذا ممتنع.
ثم قد علمنا بالاضطرار أن أوامر القرآن والسنة شملت الصحابة ثم من بَعْدَهم، وقد يقال أو يتوهم في بعضها: أنها شملتهم دون من بعدهم، فأما اختصاص من بعدهم بالأوامر الخطابية دونهم، فهذا لا وجود له.
وأما مخالفته للفطر، فما من سليم العقل يعرض عليه هذا إلا أنكره أشد الإنكار، ثم هب هذا أمكن في قوله: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»، فكيف بقوله: «صلاة إحداكن في مسجد قومها أفضل من صلاتها معي» أو: «خلفي»؟ أليس نصًا في صلاتهن في بيوتهن في مسجد النبي ﷺ خلفه؟ وصلى الله على محمد.
هامش
- ↑ [طه 130]
- ↑ [المائدة: 38]
- ↑ [النحل: 98]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [الأنعام: 52]
- ↑ [القيامة: 22، 23]
- ↑ [مريم 62]
- ↑ [البردان: الغداة والعشي صلاة الفجر وصلاة العشاء]
- ↑ [الغُبَّر: جمع غابر، وهو الباقي]
- ↑ [أي: عجزٌ وعدم اهتداء]
- ↑ [يونس: 26]
- ↑ [القيامة: 2225]
- ↑ [القيامة: 13، 14]
- ↑ [عبس: 3841]
- ↑ [السجدة: 17]
- ↑ [المطففين: 22، 23]
- ↑ [الأحزاب: 35]
- ↑ [السجدة: 17]
- ↑ [المطففين: 22، 23]
- ↑ [الأنعام: 101]
- ↑ [الأنعام: 101]
- ↑ [الأحقاف: 25]
- ↑ [النمل: 23]
- ↑ [الأنعام: 44]
- ↑ [الفاتحة: 2]
- ↑ [الفاتحة: 4]
- ↑ [الفاتحة: 7]
- ↑ [البقرة: 2، 3]
- ↑ [البقرة: 4]
- ↑ [البقرة: 5]
- ↑ [البقرة: 6]
- ↑ [ البقرة: 7 ]
- ↑ [البقرة: 21]
- ↑ [الناس: 14]
- ↑ [الفلق: 1-5]
- ↑ [الإخلاص: 3، 4]
- ↑ [النور: 4]
- ↑ [يس: 58]
- ↑ [يونس: 26]
- ↑ [السجدة: 17]