مجموع الفتاوى/المجلد السادس/فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد
فصل قول القائل لا يثبت لله صفة بحديث واحد
إذا تبين هذا، فقول القائل: لا يثبت لله صفة بحديث واحد عنه أجوبة:
أحدها: أن يقال: لا يجوز النفي إلا بدليل، كما لا يجوز الإثبات إلا بدليل. فإذا كان هذا القائل ممن لا يتكلم في هذا الباب إلا بأدلة شرعية، ويرد الأقوال المبتدعة. قيل له: قول القائل: إن الله لا يتكلم بصوت ونحو ذلك، كلام لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، وليس فيه حديث لا صحيح ولا ضعيف، وأما الإثبات ففيه عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمساند، وآثار كثيرة عن السلف والأئمة، فأي القولين حينئذ هو الذي جاءت به السنة؟ قول المثبت أو النافي؟ وإن كان ممن يتكلم بالأدلة العقلية في هذا الباب تكلم معه في ذلك، وبين له أنها تدل على الإثبات لا على النفي، وأن قول النفاة معلوم الفساد بدلائل العقل كما اتفق على ذلك جمهور العقلاء.
الوجه الثاني: أن يقال: هذه الصفة دل عليها القرآن؛ فإن الله أخبر بمناداته لعباده في غير آية، كقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} 1، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} 2 وقوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} 3، والنداء في لغة العرب هو صوت رفيع، لا يطلق النداء على ما ليس بصوت لا حقيقة ولا مجازًا، وإذا كان النداء نوعا من الصوت فالدال على النوع دال على الجنس بالضرورة، كما لو دل دليل على أن هنا إنسانًا فإنه يعلم أن هنا حيوانًا.
وهذا كما أنه إذا أخبر أن له علمًا وقدرة، دل على أن له صفة؛ لأن العلم والقدرة نوع من الصفات، وإذا كان لفظ القرآن لم يذكر فيه أن العلم صفة ولا القدرة صفة. وكذلك إذا أخبر في القرآن أنه يخلق ويرزق ويحيى ويميت دل على أنه فاعل، فإن هذه أنواع تحت جنس الفعل، وإن كان ثبوت هذه الصفة بما قد دل عليه القرآن في غير موضع كان ما جاء من الأحاديث موافقًا لدلالة القرآن، ولم تكن هذه الصفة ثابتة بمجرد هذا الخبر.
الوجه الثالث: إن ما أخبر الله به في كتابه من تكليم موسى وسمع موسى لكلام الله، يدل على أنه كلمه بصوت، فإنه لا يسمع إلا الصوت، وذلك أن الله قال في كتابه عن موسى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}4، وقال في كتابه: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} 5.
ففرق بين إيحائه إلى سائر النبيين وبين تكليمه لموسى، كما فرق أيضا بين النوعين في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} 6، ففرق بين الإيحاء والتكليم من وراء حجاب، فلو كان تكليمه لموسى إلهامًا ألهمه موسى من غير أن يسمع صوتًا، لم يكن فرق بين الإيحاء إلى غيره والتكليم له، فلما فرق القرآن بين هذا وهذا، وعلم بإجماع الأمة ما استفاضت به السنن عن النبي ﷺ من تخصيص موسى بتكليم الله إياه، دل ذلك على أن الذي حصل له ليس من جنس الإلهامات وما يدرك بالقلوب، إنما هو كلام مسموع بالآذان، ولا يسمع بها إلا ما هو صوت.
الوجه الرابع: أن مفسري القرآن، وأهل السنن والآثار، وأتباعهم من السلف، كلهم متفقون على أن الله كلم موسى بصوت، كما في الآثار المعروفة عنهم في الكتب المأثورة عن السلف، مثل ما ذكره ابن جرير وأمثاله في تفسير قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} 7، وتفسير كلام الله لموسى وغير ذلك، وكما ذكره عبد الله بن أحمد، والخلال والطبراني، وأبو الشيخ، وغيرهم في كتب السنة وكما ذكره الإمام أحمد وغيره في كتب الزهد، وقصص الأنبياء
الوجه الخامس: أن يقال: الأدلة الدالة على أن الله يتكلم من الشرع والعقل دلت على أنه يتكلم بالصوت، فإن الناس لهم في مسمى الكلام أربعة أقوال:
قيل: إنه اسم للفظ الدال على المعنى، وقيل: للمعنى المدلول عليه باللفظ وقيل: اسم لكل منهما بطريق الاشتراك. وقيل: اسم لهما بطريق العموم، وهذا مذهب السلف والفقهاء والجمهور، فإذا قيل: تكلم فلان: كان المفهوم منه عند الإطلاق اللفظ والمعنى جميعًا، كما قال النبي ﷺ: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به»، وقال: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم»، وقال: «أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل».
ونظائر هذا كثيرة.
فالكلام إذا أطلق يتناول اللفظ والمعنى جميعًا، وإذا سمى المعنى وحده كلامًا، أو اللفظ وحده كلامًا، فإنما ذاك مع قيد يدل على ذلك، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وأن الكلام عند الإطلاق هو اللفظ والمعنى جميعًا، والقرآن والحديث مملوء من آيات الكلام لله تعالى، فكان المفهوم من ذلك هو إثبات اللفظ والمعنى لله.
الوجه السادس: أن القرآن كلام الله باتفاق المسلمين، فإذا كان كلامه هو المعنى فقط، والنظم العربي الذي يدل على المعاني ليس كلام الله كان مخلوقًا خلقه الله في غيره، فيكون كلامًا لذلك الغير؛لأن الكلام إذا خلق في محل كان كلامًا لذلك الغير كما تقدم، فيكون الكلام العربي ليس كلام الله، بل كلام غيره، ومن المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أن الكلام العربي الذي بلغه محمد ﷺ عن الله أعلم أمته أنه كلام الله لا كلام غيره، فإن كان النظم العربي مخلوقًا لم يكن كلام الله فيكون ما تلقته الأمة عن نبيها باطلا.
وهذا من أعظم حجج السنية على الجهمية من أن القرآن غير مخلوق، فإنهم قالوا: لو خلقه في غيره لكان صفة لذلك الغير، كسائر الصفات المخلوقة إذا خلقها الله في محل كانت صفة لذلك المحل، وهذا بعينه يدل على أن القرآن العربي كلام الله لا كلام غيره، إذ لو كان مخلوقًا في محل لكان الكلام العربي كلامًا لذلك المحل الذي خلق فيه، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الكلام العربي كلام الله لا كلام غيره.
وهذا يبطل قول من قال من المتأخرين: إن الكلام يقال بالاشتراك على اللفظ والمعنى، فإنه يقال لهم: إذا كان كل منهما يسمى كلامًا حقيقة، امتنع أن يكون واحد منهما مخلوقًا، إذ لو كان مخلوقًا لكان كلامًا للمحل الذي خلق فيه.
ولهذا لم يكن قدماء الكلابية يقولون: إن لفظ الكلام مشترك بين اللفظ والمعنى؛ لأن ذلك يبطل حجتهم على المعتزلة، ويوجب عليهم القول بأن كلام الله مخلوق، لكن كانوا يقولون: إن إطلاق الكلام على اللفظ بطريق المجاز، وعلى المعنى بطريق الحقيقة، فعلم متأخروهم أن هذا فاسد بالضرورة وأن اسم الكلام يتناول اللفظ حقيقة فجعلوه مشتركًا، فلزمهم أن يكون كلام الله مخلوقًا، فهم بين محذورين: إما القول بأن كلام الله مخلوق، وإما القول بأن القرآن العربى ليس كلام الله، وكلا الأمرين معلوم الفساد، وليس الكلام في نفس أصوات العباد وحركاتهم، بل الكلام في نفس القرآن العربى المنزل على محمد ﷺ.
ويظهر ذلك بأن نقدر الكلام في القرآن قبل أن ينزل إليه ويبلغه إلى الخلق. فإن قيل: إنه كله كلام الله تكلم به وبلغه عنه جبريل إلى محمد كما هو المعلوم من دين المرسلين كان هذا صريحًا بأنه لا فرق بين الحروف والمعاني وأن هذا من كلام الله، كما أن هذا من كلام الله، وإن قيل: إنه خلق في غيره حروفًا منظمة دلت على معنى قائم بذاته، فقد صرح بأن تلك الحروف المؤلفة ليست كلامه، وأنه لم يتكلم بها بحال. وإذا قيل: إن تلك تسمى كلامًا حقيقة وقد خلقت في غيره، لزم أن تكون كلامًا لذلك الغير فلا يكون كلام الله، وهو خلاف المعلوم من دين الإسلام، وإن قيل: لا يسمى كلامًا حقيقة كان خلاف المعلوم من اللغة والشريعة ضرورة.
ونحن لا نمنع أن المعنى وحده قد يسمى كلامًا، كما قد يسمى اللفظ وحده كلامًا، لكن الكلام في القرآن الذي هو لفظ، ومعنى هل جميعه كلام الله؟ أم لفظه كلام الله، دون معناه؟ أم معناه كلام الله دون لفظه؟ ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الجميع كلام الله، وقد قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} إلى قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}8، كان بعض المشركين يقولون: إن محمدا إنما يتعلم القرآن من عبد لبني الحضرمي، فقال الله تعالى: لسان الذي يضيفون إليه القرآن لسان أعجمي وهذا لسان عربي مبين.
وهذا يبين أن محمدا بلغ القرآن لفظه ومعناه، لم ينزل عليه معان مجردة، إذ لو كان كذلك لأمكن أن يقال: تلقى من هذا الأعجمي معان صاغها بلسانه، فلما ذكر قوله: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} 9 بعد قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} 10 دل ذلك على أن روح القدس نزل بهذا اللسان العربي المبين.
الوجه السابع: أن كلام الله وسائر الكلام، يسمع من المتكلم، كما سمع موسى كلام الله من الله، وسمع الصحابة كلام النبي ﷺ منه، وتارة يسمع من المبلغ عنه، كما سمع المسلمون القرآن من النبي ﷺ، والمبلغين عنه، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} 11، وكما يسمع كلام النبي ﷺ من الصحابة، ثم من المعلوم أن المحدث إذا حدث بقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» كان الكلام كلام رسول الله ﷺ لفظه ومعناه، تكلم به بصوته والمحدث بلَّغه بحركاته وأصواته.
ثم من المعلوم أن المبلغ عن النبي ﷺ وأمثاله من الناطقين تكلم به بحروفه ومعانيه، مع إمكان الرواية عنه بالمعنى، وإمكان قيام ألفاظ مكان ألفاظ، كما حكى الله في القرآن أقوال أمم تكلمت بغير الكلام العربي، ولو قدر أن المبلغ عنه لم يتكلم إلا بمعنى الكلام وعبر عنه لكان كالأخرس الذي تقوم بذاته المعاني من غير تعبير عنها حتى يعبر عنها غيره بعبارة لذلك الغير، ومن المعلوم أن الكلام صفة كمال تنافى الخرس، فإذا كان من قال: إن الله لا يقوم به كلام، فقد شبهه بالجامدات ووصفه بالنقص وسلبه الكمال، فمن قال أيضا: إنه لا يعبر عما في نفسه من المعاني إلا بعبارة تقوم بغيره، فقد شبهه بالأخرس الذي لا يعبر عن نفسه إلا بعبارة تقوم بغيره، وهذا قول يسلبه صفة الكمال ويجعل غيره من مخلوقاته أكمل منه.
وقد قرر في غير هذا الموضع أن كل كمال يثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق، فالخالق أولى بالتنزه عنه، وكان هذا من الأدلة الدالة على إثبات صفات الكمال له كالحياة والعلم والقدرة، فإن هذه صفات كمال تثبت لخلقه فهو أولى وأحق باتصافه بصفات الكمال، ولو لم يتصف بصفات الكمال لكانت مخلوقاته أكمل منه، وهذا بعينه قد احتجوا به في مسألة الكلام، وهو مطرد في تكلمه بعبارة القرآن ومعناه جميعًا.
وقد استدلوا أيضا بأنه لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها، وهي صفات نقص، والله منزه عن ذلك، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالعلم لوصف بالجهل، ولو لم يوصف بالكلام لوصف بالخرس، ولو لم يوصف بالبصر والسمع لوصف بالعمى والصمم.
وللملاحدة هنا سؤال مشهور وهو: أن هذه المتقابلات ليست متقابلة تقبل السلب والإيجاب، حتى يلزم من نفى أحدهما ثبوت الآخر، بل هي متقابلة تقابل العدم، والملكة، وهو سلب الشيء عما شأنه أن يكون قابلا له، كعدم العمى عن الحيوان القابل له، فأما الجماد فإنه لا يوصف عندهم بالعمى ولا البصر لعدم قبوله لواحد من هذين، وقد أعيا هذا السؤال كثيرًا من المتأخرين حتى أبى الحسن الآمدي وأمثاله من أهل الكلام وظنوا أنه لا جواب عنه، وقد بسط الكلام في أجوبته في غير هذا الموضع.
وذكر من جملة الأجوبة عن هذا أن يقال: هذا أبلغ في النقص، فإن ما كان قابلا للاتصاف بالبصر والعمى، والعلم والجهل، والكلام والخرس، فهو أكمل مما لا يقبل واحدًا منهما؛ إذ الحيوان أكمل من الجماد، فإذا كان الاتصاف بصفات النقص عيبًا مع إمكان الاتصاف بصفات الكمال، فعدم إمكان الاتصاف بصفات الكمال وعدم قبول ذلك أعظم آفة وعيبًا ونقصًا فسبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
الوجه الثامن: أن يقال: كلام الله إما أن يكون مخلوقًا، منفصلا عنه، ولم يقم بذاته كلام كما يقوله الجهمية: من المعتزلة وغيرهم وإما أن يكون كلامه قائمًا به، والأول باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة، وأدلة بطلانه من الشرع والعقل كثيرة، كما قد بسط في موضعه.
وإن كان كلامه قائمًا به، فلا يخلو إما أن يقال: لم يقم به إلا المعنى، كما يقوله ابن كلاب وأتباعه، وإما أن يقوم به المعنى والحروف، والأول باطل.
أما أولا: فلأن المعنى الواحد يمتنع أن يكون هو الأمر، والنهي، والخبر، وأن يكون هو مدلول التوراة، والإنجيل، والقرآن.
وأما ثانيا: فلأن المعنى المجرد لا يسمع، وقد ثبت بالنص والإجماع أن كلام الله مسموع منه كما سمعه موسى بن عمران؛ ولهذا كان محققوا من يقول بأن الكلام هو مجرد المعنى يقول: إنه لا يسمع، ولكن طائفة منهم زعمت أنه يسمع بناء على قولهم: إن السمع يتعلق بكل موجود، والرؤية بكل موجود، والشم والذوق واللمس بكل موجود، وجمهور العقلاء يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة من العقل، وهذا من أعظم ما أنكره الجمهور على أبي الحسن الأشعري ومن وافقه من أصحاب أحمد وغيرهم.
وأما ثالثًا: فلو لم يكن الكلام إلا معنى لم يكن فرق بين تكليم الله لموسى وإيحائه إلى غيره، لا بين التكليم من وراء حجاب، والتكليم إيحاء، فإن إيصال معرفة المعنى المجرد إلى القلوب يشترك فيه جميع الأنبياء. ولهذا قال من بنى على هذا الأصل الفاسد: إن الواحد من أهل الرياضة قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران كما ذكر ذلك في الإحياء ونحوه، وصار الواحد من هؤلاء يظن أن ما يحصل له من الإلهامات هي مثل تكليم الله لموسى بن عمران.
ودخلت الفلاسفة من هذا الباب، فزعموا أن تكليم الله لموسى إنما هو فيض فاض على نفسه من العقل الفعال، وأن كلام الله ليس إلا ما يحصل في النفوس من المخاطبات، كما أن الملائكة ما يحصل في القلوب من الصور الخيالية، ومثل هذا قد يحصل في اليقظة والمنام، فجعلوا تكليم الله لموسى بن عمران من جنس من يرى ربه في المنام وهو يكلمه، ونحو ذلك، وهو لازم لقول من جعل كلام الله معنى مجردًا، وإذا كان اللزوم معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام علم فساد اللازم.
وأما رابعًا: فلو لم يكن الكلام إلا مجرد المعاني لكان المخلوق أكمل من الخالق، فإنا كما نعلم أن الحي أكمل من الميت، وأن العالم أكمل من الجاهل والقادر أكمل من العاجز، والناطق أكمل من الأخرس، فنحن نعلم أن الناطق بالمعاني والحروف أكمل ممن لا يكون ناطقًا إلا بالمعاني دون الحروف، وإذا كان الرب يمتنع أن يوصف بصفات النقص، ويجب اتصافه بصفات الكمال، ويمتنع أن يكون للمخلوق من صفات الكمال ما لا يكون للخالق، امتنع أن يكون موصوفًا بالكلام الناقص وأن يكون المخلوق أكمل منه في اتصافه بالكلام التام؛ ولهذا كان موسى بن عمران مفضلا على غيره بتكليم الله إياه، كلمه كلامًا سمعه موسى من الله، فكان تكليمه له بصوته أفضل ممن أوحى إلى قلبه معاني مجردة لم يسمعها بأذنه.
وأما خامسا: فلو لم يكن الكلام إلا معنى مجردًا لكان نصف القرآن كلام الله ونصفه ليس كلام الله، فالمعنى كلام الله والألفاظ ليست كلام الله، وهذا خلاف المعلوم من دين المسلمين؛ ولهذا يفرقون بين القرآن الذي هو كلام الله وبين ما أوحاه إلى نبيه من المعاني المجردة، ويعلمون أن جبريل نزل عليه بالقرآن كله، ليس لجبريل ولا لمحمد منه إلا التبليغ والأداء، فهذا رسوله من الملائكة، وهذا رسوله من البشر.
ولهذا أضافه الله إلى هذا تارة، وإلى هذا تارة بلفظ الرسول، كما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} الآية 12، فهذا محمد، وقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} 13، فهذا جبريل.
وقد ظن بعض الغالطين أن إضافته إلى الرسول تقتضي أنه أنشأ حروفه وهذا خطأ؛ لأنه لو كان جبريل أو محمد هو الذي أنشأ لفظه ونظمه امتنع أن يكون الآخر الذي أنشأ ذلك، فلما أضافه إلى هذا تارة، وإلى هذا تارة، علم أنه أضافه إليه لأنه بلغه وأداه لا لأنه أنشأه وابتداه، لا لفظه ولا معناه؛ ولهذا قال: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ولم يقل: لقول ملك ولا نبي. فذكر ذلك بلفظ الرسول ليبين أنه يبلغ عن غيره، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} 14، وفي السنن أن النبي ﷺ كان يعرض نفسه على الناس في الموسم ويقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي».
وأيضا، فإن قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} عائد إلى القرآن فتناوله للفظ كتناوله للمعنى، والقرآن اسم لهما جميعًا، ولهذا إذا فسره المفسر، وترجمه المترجم، لم يقل لتفسيره وترجمته إنه قرآن، بل اتفق المسلمون على جواز مس المحدث لكتب التفسير، واتفقوا على أنه لا تجوز الصلاة بتفسيره وكذلك ترجمته بغير العربية عند عامة أهل العلم، والقول المروي عن أبي حنيفة قيل: إنه رجع عنه، وقيل: إنه مشروط بتسمية الترجمة قرآنا. وبكل حال فتجويز إقامة الترجمة مقامه في بعض الأحكام لا يقتضي تناول اسمه لها، كما أن القيمة إذا أخرجت من الزكاة عن الإبل والبقر والغنم لم تسم إبلا، ولا بقرًا، ولا غنمًا، بل تسمى باسمها كائنة ما كانت.
وكذلك لفظ التكبير في الصلاة، إذا عدل عنه إلى لفظ التسبيح ونحوه، وقيل: إن الصلاة تنعقد بذلك كما يقوله أبو حنيفة لم يقل: إن ذلك لفظ تكبير، فكذلك إذ قدر أنا ترجمنا القرآن ترجمة جائزة لم يقل: إن الترجمة قرآن، ولم نسمها قرآنًا، فلو كان القرآن إنما كان كلام الله لأجل المعنى فقط ولفظه ونظمه ليس كلام الله، بل سمى بذلك لدلالته على كلام الله، كان ما شارك هذا اللفظ والنظم من الدلالة مشاركًا له في الاسم والحكم، فكان يجب تسميته، قرآنا وإثبات أحكام القرآن له، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.
الوجه التاسع: أن هذا القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله الذي أنزله على نبيه، كما ثبت ذلك بالنص وإجماع المسلمين، وقد كفر الله من قال: إنه قول البشر، ووعده أنه سيصليه سقر، في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}إلى قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} كما أراده الله بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} 15، فإنه لو أراد أن البشر بلغوه عن غيرهم كما يتعلمه الناس بعضهم من بعض لم يكن هذا باطلا، وإنما أراد أن البشر أحدثوه وأنشؤوه عنه.
فمن جعل لفظه ونظمه من إحداث محمد، فقد جعل نصفه قول البشر، ومن جعله من إحداث جبريل، فقد جعل نصفه قول الملائكة، ومن جعله مخلوقًا في الهواء أو غيره جعله كلامًا لذلك الهواء. وكفر من قال: إنه قول الملك، أو قول الهواء، أو الشجر، بل كفر من قال: إنه قول البشر، فدل ذلك على أنه ليس شيء من القرآن لا لفظه، ولا معناه من قول أحد من المخلوقين ولا من كلامه، بل هو كلام الله تعالى، وأيضا فالإشارة في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}لا تعود إلى المعنى دون اللفظ، بل إليهما.
الوجه العاشر: وهو أن الله أخبر أن القرآن منزل من الله، كما قال: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}16، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} 17، وقال: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}18، الضمير يتناول اللفظ والمعنى جميعًا لا سيما ما في قوله: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ}فإن الكتاب عند من يقول: إن كلام الله هو المعنى دون الحروف اسم للنظم العربي، والكلام عنده اسم للمعنى، والقرآن مشترك بينهما، فلفظ الكتاب يتناول اللفظ العربي باتفاق الناس.
فإذا أخبر أن {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله}علم أن النظم العربي منزل من الله وذلك يدل على ما قال السلف: إنه منه بدأ، أي هو الذي تكلم به، وهذا جواب مختصر عن سؤال السائل بحسب ما احتملته هذه الورقة؛ إذ الكلام على ذلك مبسوط في مواضع أخر، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هامش
- ↑ [مريم: 52]
- ↑ [القصص: 62]
- ↑ [الأعراف: 22]
- ↑ [طه: 13]
- ↑ [النساء: 163، 164]
- ↑ [الشورى: 51]
- ↑ [سبأ: 23]
- ↑ [النحل: 101 103]
- ↑ [النحل: 103]
- ↑ [النحل: 102]
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [الحاقة: 40، 41]
- ↑ [التكوير: 19 21]
- ↑ [المائدة: 67]
- ↑ [الحاقة: 40]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [النحل: 102]
- ↑ [الزمر: 1]