مجموع الفتاوى/المجلد السادس/حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة
حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة
قال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
حديث: رؤية المؤمنين ربهم في الجنة في مثل يوم الجمعة من أيام الدنيا، رواه أبو الحسن الدارقطني في كتابه في الرؤية وما علمنا أحدًا جمع في هذا الباب أكثر من كتاب أبي بكر الآجري وأبي نعيم الحافظ الأصبهاني رواه من حديث أنس مرفوعًا، ومن حديث ابن مسعود موقوفا، ورواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعًا.
فأما حديث أنس، فرواه الدارقطني من خمس طرق أو ست طرق، في غالبها: أن الرؤية تكون بمقدار صلاة الجمعة في الدنيا. وصرح في بعضها: بأن النساء يرينه في الأعياد.
وأما حديث ابن مسعود، ففي جميع طرقه مرفوعها وموقوفها التصريح بذلك، وإسناد حديث ابن مسعود أجود من جميع أسانيد هذا الباب، ورواه أبو عبد الله بن بطة في الإبانة بإسناد آخر من حديث أنس أجود من غيره، وذكر فيه: وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة. ورواه أبو أحمد بن عدي من حديث صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أنس، وما أعلم لفظه.
ورواه أبو عمرو الزاهد بإسناد آخر لم يحضرني لفظه، ورواه أبو العباس السراج: حدثنا على بن أشيب، حدثنا أبو بدر، حدثنا زياد بن خَيْْثَمة، عن عثمان بن مسلم، عن أنس بن مالك، وليس فيه الزيادة، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده عن شَيْبَان بن فَرُّوخ، عن الصَّعْق بن حزن، عن علي بن الحكم الْبُنَانِيّ، عن أنس نحوه، ولا أعلم لفظه.
ورواه أبو بكر البزار وأبو بكر الخلال وابن بطة من حديث حذيفة بن اليمان مرفوعًا، ولم يذكر فيه هذه الزيادة، لكن قال في آخره: «فلهم في كل سبعة أيام الضعف على ما كانوا فيه قال وذلك قول الله في كتابه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}» 1. ورواه الآجري وابن بطة أيضا مرفوعًا من حديث ابن عباس وفيه: «وأقربهم منه مجلسًا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوا».
وله طريق آخر من حديث أبي هريرة، ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الحميد بن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي هريرة، وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد روى سُوَيْد بن عمرو عن الأوزاعي شيئًا من هذا. وقالوا: ورواه سويد بن عبد العزيز عن الأوزاعي قال: قال: حديث عن سعيد. وروى أيضا معناه عن كعب الأحبار موقوفًا، وفيه معنى الزيادة.
وأصل حديث «سوق الجنة» قد رواه مسلم في صحيحه، ولم يذكر فيه الرؤية. وهذه الأحاديث عامتها إذا جرد إسناد الواحد منها لم يخل عن مقال قريب أو شديد، لكن تعددها وكثرة طرقها يغلب على الظن ثبوتها في نفس الأمر، بل قد يقتضي القطع بها.
وأيضا، فقد روى عن الصحابة والتابعين ما يوافق ذلك، ومثل هذا لا يقال بالرأي، وإنما يقال بالتوقيف.
فروى الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن المبارك: أخبرنا المسعودي، عن المِنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، قال: سارعوا إلى الجمعة، فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كِثِيبٍ من كافور، فيكونون في قرب منه على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا. وأيضا بإسناد صحيح إلى شَبَابة بن سَوَّار، عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود قال: سارعوا إلى الجمعة، فإن الله عز وجل يبرز لأهل الجنة في كل يوم جمعة فى كثيب من كافور أبيض فيكونون في الدنو منه على مقدار مسارعتهم في الدنيا إلى الجمعة، فيحدث لهم من الكرامة شيئًا لم يكونوا رأوه فيما خلا. قال: وكان عبد الله بن مسعود لا يسبقه أحد إلى الجمعة، قال: فجاء يومًا وقد سبقه رجلان فقال: رجلان وأنا الثالث، إن الله يبارك في الثالث.
ورواه ابن بطة بإسناد صحيح من هذا الطريق، وزاد فيه: ثم يرجعون إلى أهليهم فيحدثونهم بما قد أحدث لهم من الكرامة شيئًا لم يكونوا رأوه فيما خلا. هذا إسناد حسن حسنه الترمذي وغيره.
ويقال: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، لكن هو عالم بحال أبيه متلق لآثاره من أكابر أصحاب أبيه، وهذه حال متكررة من عبد الله رضي الله عنه فتكون مشهورة عند أصحابه فيكثر المتحدث بها، ولم يكن في أصحاب عبد الله من يتهم عليه حتى يخاف أن يكون هو الواسطة؛ فلهذا صار الناس يحتجون برواية ابنه عنه وإن قيل: إنه لم يسمع من أبيه.
وقد روى هذا عن ابن مسعود من وجه آخر، رواه ابن بطة في الإبانة بإسناد صحيح عن الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن عمرو بن قيس إلى عبد الله بن مسعود قال: إن الله يبرز لأهل جنته في كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيكونون في الدنو منه كتسارعهم إلى الجمعة، فيحدث لهم من الحياة والكرامة ما لم يروا قبله.
وروى عن ابن مسعود من وجه ثالث رواه سعيد في سننه: حدثنا فرج بن فضالة، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن مسعود، أنه كان يقول: بكِّروا في الغدو في الدنيا إلى الجمعات؛ فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل يوم جمعة علي كثيب من كافور أبيض، فيكون الناس منه في الدنو كغدوهم في الدنيا إلى الجمعة.
وهذا الذي أخبر به ابن مسعود أمر لا يعرفه إلا نبي أو من أخذه عن نبي، فيعلم بذلك أن ابن مسعود أخذه عن النبي ﷺ، ولا يجوز أن يكون أخذه عن أهل الكتاب لوجوه:
أحدها: أن الصحابة قد نهوا عن تصديق أهل الكتاب فيما يخبرونهم به، فمن المحال أن يحدث ابن مسعود رضي الله عنه بما أخبر به اليهود على سبيل التعليم ويبني عليه حكمًا.
الثاني: أن ابن مسعود رضي الله عنه خصوصًا كان من أشد الصحابة رضي الله عنهم إنكارًا لمن يأخذ من أحاديث أهل الكتاب.
والثالث: أن الجمعة لم تشرع إلا لنا، والتبكير فيها ليس إلا في شريعتنا، فيبعد مثل أخذ هذا عن الأنبياء المتقدمين، ويبعد أن اليهودي يحدث بمثل هذه الفضيلة لهذه الأمة، وهم الموصوفون بكتمان العلم والبخل به وحسد هذه الأمة.
ورواه ابن ماجه في سننه من وجه آخر مرفوعًا إلى النبي ﷺ عن علقمة قال: خرجت مع عبد الله بن مسعود إلى الجمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس يجلسون من الله يوم الجمعة على قدر رواحهم إلى الجمعة الأول والثاني والثالث»، ثم قال: «رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد».
وهذا الحديث مما استدل به العلماء على استحباب التبكير إلى الجمعة، وقد ذكروا هذا المعنى من جملة معاني قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} 2 قال بعضهم: السابقون في الدنيا إلى الجمعات هم السابقون في يوم المزيد في الآخرة، أو كما قال؛ فإنه لم يحضرني لفظه، وتأييد ذلك بقول النبي ﷺ المخرج في الصحيحين: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد»، فإنه جعل سبقنا لهم في الآخرة لأجل أنا أوتينا الكتاب من بعدهم، فهدينا لما اختلفوا فيه من الحق حتى صرنا سابقين لهم إلى التعبيد، فكما سبقناهم إلى التعبيد في الدنيا نسبقهم إلى كرامته في الآخرة.
وأما حديث أنس وهو أشهر الأحاديث فيما يكون يوم الجمعة في الآخرة من زيارة الله ورؤيته وإتيان سوق الجنة، فأصح حديث عنه ما رواه مسلم في صحيحه عن حماد ابن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله، لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالا».
فهذا ليس فيه إلا أنهم يأتون السوق، وفيه: يزدادون حسنًا وجمالا، وأن أهليهم ازدادوا أيضا في غيبتهم عنهم حسنًا وجمالا، وإن كانوا لم يأتوا سوق الجنة.
وإن كانت زيادة بعض الحديث على بعض غير مقبولة، بل يجعل نوع تعارض. فينبغي ألا يقبل في الباب حديث برؤية الله يوم الجمعة؛ لأنه ليس فيها شيء يقاوم حديث أنس هذا، فإنه هو الذي أخرجه أصحاب الصحيح دون الجميع، بل قد يقال: لو كانت رؤية الله خاصة وإن زيادة الوجوه حسنًا وجمالا كان عنها لأخبر به في هذا الحديث، بل قد يقال: ظاهره أن زيادة الحسن والجمال إنما كان من الريح التي تهب في وجوههم وثيابهم. وإن كان الواجب أن يقال: ما في تلك الأحاديث من الزيادات لا ينافى هذا وإن كان هذا أصح فإن الترجيح إنما يكون عند التنافي، وأما إذا أخبر في أحد الحديثين بشيء وأخبر في الآخر بزيادة أخرى لا تنافيها؛كانت تلك الزيادة بمنزلة خبر مستقل، فهذا هو الصواب.
وليس هذا مما اختلف فيه الفقهاء من الزيادة في النص هل هي نسخ؟ فإن ذلك إنما هو في الأحكام التي هي الأمر، والنهي والإباحة، وتوابعها: مثل ما قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 3، وقال النبي ﷺ: «البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام»، وقال لآخر: «على ابنك جلد مائة وتغريب عام»، فهنا اختلف العلماء: هل هذه الزيادة نسخ لقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}؟ مع أن الجمهور على أنها ليست بنسخ وهو الصحيح كما هو مقرر في موضعه.
وأما زيادة أحد الخبرين على الآخر في الأخبار المحضة، فهذا مما لم يختلف المسلمون أنه ليس بنسخ، وأنه لا ترد الزيادة إذا لم تناف المزيد، فإن رجلا لو قال: رأيت رجلا، ثم قال: رأيت رجلا عاقلا أو عالمًا، لم يكن بين الكلامين منافاة، ففرق بين الإطلاق والتقييد والتجريد والزيادة في الأمور الطلبية، وبين ذلك في الأمور الخبرية.
وإذا كان كذلك، فيقال: قد جاء في أحاديث أخر أن السوق يكون بعد رؤية الله سبحانه كما أن العادة في الدنيا أنهم ينتشرون في الأرض ويبتغون من فضل الله بعد زيارة الله والتوجه إليه في الجمعة.
وما في هذا الحديث من ازدياد وجوههم حسنًا وجمالا، لا يقتضى انحصار ذلك في الريح، فإن أزواجهم قد ازدادوا حسنًا وجمالا ولم يشركوهم في الريح، بل يجوز أن يكون حصل في الريح زيادة على ما حصل لهم قبل ذلك، ويجوز أن يكون هذا الحديث مختصر من بقية الأحاديث بأن سبب الازدياد رؤية الله تعالى، مع ما اقترن بها.
وعلى هذا، فيمكن أن يكون نساؤهم المؤمنات رأين الله في منازلهن في الجنة رؤية اقتضت زيادة الحسن والجمال إذا كان السبب هو الرؤية كما جاء مفسرًا في أحاديث أخر كما أنهم في الدنيا كان الرجال يروحون إلى المساجد فيتوجهون إلى الله هنالك، والنساء في بيوتهن يتوجهن إلى الله بصلاة الظهر، والرجال يزدادون نورًا في الدنيا بهذه الصلاة، وكذلك النساء يزددن نورًا بصلاتهن، كل بحسبه، والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن، بل كل عبد يراه مخليًا به في وقت واحد كما جاء في غير حديث بل قد بين النبي ﷺ أن بعض مخلوقاته وهو القمر يراه كل واحد مخليًا به إذا شاء.
إذا نلخص ذلك، فنقول، الأحاديث الزائدة على هذا الحديث في بعضها ذكر الرؤية في الجمعة، وليس فيه ذكر تقدير ذلك بصلاة الجمعة في الدنيا، كما في حديث أبي هريرة حديث سوق الجنة وفي بعضها أنهم يجلسون من الله يوم الجمعة في الآخرة على قدر رواحهم إلى الجمعة في الدنيا، وليس فيه ذكر الرؤية - كما تقدم في حديث ابن مسعود المرفوع وفي بعضها ذكر الأمرين جميعًا، وهي أكثر الأحاديث.
وليست الأحاديث المتضمنة للرؤية المجردة عن تقدير ذلك بصلاة الجمعة بدون الأحاديث المتضمنة لذلك، لا في الكثرة ولا في قوة الأسانيد، بل المتضمنة لذلك أكثر منها، وإسناد بعضها أجود من إسناد تلك، ولو كانت تلك أكثر، ورويت هذه الزيادة بإسناد واحد من جنس تلك الأسانيد لكان حكمها في القبول والرد كحكم المزيد؛لعدم المنافاة.
ولو فرض أن بعض العامة الذين يسمعون الأحاديث من القصاص، أو من النقاد، أو بعض من يطالع الأحاديث ولا يعتنى بتمييزها، اشتهر عنده شيء من ذلك دون شيء لم يكن بهذا عبرة أصلا، فكم من أشياء مشهورة عند العامة، بل وعند كثير من الفقهاء والصوفية والمتكلمين أو أكثرهم، ثم عند حكام الحديث العارفين به لا أصل له ! بل قد يقطعون بأنه موضوع!
وكم من أشياء مشهورة عند العارفين بالحديث، بل متواترة عندهم، وأكثر العامة، بل كثير من العلماء الذين لم يعتنوا بالحديث ما سمعوها أو سمعوها من وراء وراء، وهم إما مكذبون بها، وإما مرتابون فيها، وهم مع ذلك لم يضبطوها ضبط العالم لعلمه، كضبط النحوى للنحو، والطبيب للطب، وإن ضبطوا منها شيئًا ضبطوا اللفظة بعد اللفظة، مما لا تسمن ولا تغني من جوع، وليس ذلك مما يعتمد عليه، ولا ينضبط به دين الله ولا يسقط به عن الأمة الفرض في حفظ علم النبوة، والفقه فيه. قال الإمام أحمد: معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه.
وأنا أذكر شواهد ما ذكرته: فروى الدارقطني في كتاب الرؤية وهي من أوائل ما رواه في ترجمة أنس: حدثنا أحمد، حدثنا سليمان، حدثنا محمد بن عثمان بن محمد، حدثنا مروان بن جعفر، حدثنا نافع أبو الحسن مولى بني هشام، حدثنا عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل فأحدثهم عهدًا بالنظر إليه في كل جمعة، وتراه المؤمنات يوم الفطر، ويوم النحر».
وروى الدارقطني أيضا عن جماعة ثقاة، عن عبد الله بن روح المدائني، حدثنا سلام بن سليمان، حدثنا ورقاء، وإسرائيل، وشعبة، وجرير بن عبد الحميد كلهم قالوا: حدثنا لَيْث، عن عثمان بن حميد، عن أنس بن مالك قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «أتاني جبريل عليه السلام وفي كفه كالمرآة البيضاء يحملها، فيها كالنكتة السوداء، فقلت: ما هذه التي في يدك يا جبريل؟ فقال: هذه الجمعة. قلت: وما الجمعة؟ قال: لكم فيها خير. قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: تكون عيدًا لك ولقومك من بعدك، وتكون اليهود والنصارى تبعًا لكم. قلت: وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها ساعة لا يسأل الله عبدُه فيها شيئًا هو له قسم إلا أعطاه إياه، وليس له بقسم إلا ادخر له في آخرته ما هو أعظم منه. قلت: ما هذه النكتة التي فيها؟ قال: هي الساعة ونحن ندعوه يوم المزيد. قلت: وما ذلك يا جبريل؟ قال: إن ربك أعد في الجنة واديًا فيه كُثْبَان من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين عز وجل على كرسيه يحف الكرسي بكراسي من نور، فيجيء النبيون حتى يجلسوا على تلك الكراسي، ويحف الكرسي بمنابر من نور، ومن ذهب مكللة بالجوهر، ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف من غرفهم حتى يجلسوا على تلك الكثبان، ثم يتجلى لهم عز وجل فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي، فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم في ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك مقدار منصرفكم من الجمعة، ثم يرتفع على كرسيه عز وجل وترتفع معه النبيون والصديقون والشهداء، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم، وهي لؤلؤة بيضاء وزمردة خضراء وياقوتة حمراء غرفها وأبوابها منها، وأنهارها مطردة فيها، وأزواجها وخدامها وثمارها متدليات فيها، فليسوا إلى شيء بأحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا منه نظرًا إلى ربهم عز وجل ويزدادوا منه كرامة».
وروى ابن بطة هذا الحديث مثل هذا عن القافلاني: حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبى شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن محمد، عن ليث، عن أبي عثمان، عن أنس، وفيه: «ثم يتجلى لهم ربهم تعالى ثم يقول: سلوني أعطكم، فيسألونه الرضا فيقول: رضائي أحلكم داري وأنالكم كرامتي فسلوني أعطكم، فيسألونه الرضا، فيشهدهم أنه قد رضي عنهم قال: فيفتح لهم ما لا ترى عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر قال: وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة، ثم يرتفع ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم» وذكر تمامه.
وهذا الطريق يبين أن هذا الحديث محفوظ عن ليث بن أبى سليم، واندفع بذلك الكلام في سلام بن سليم؛ فإن هذا الإسناد الثاني كلهم أئمة إلى ليث، وأما الأول فكأن في القلب حزازة من أجل أن «سلامًا» رواه عن جماعة من المشاهير، ورواه عنه عبد الله ابن روح المدائني، وقد اختلف في «سلام» هذا، فقال ابن معين مَرَّةً: لا بأس به، وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. وسئل عنه ابن معين مرة أخرى فقيل له: أثقة هو؟ فقال: لا. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. فإذا كان الحديث قد روى من تلك الطريق الجيدة، اندفع الحمل عليه.
ورواه الدارقطني من هذه الطريق من وجه ثالث من حديث الحسن بن عرفة: حدثنا عمار بن محمد ابن أخت سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان، عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «أتاني جبريل وفي كفه كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء» وساق الحديث نحو ما تقدم، ولم يذكر: «وذلك مقدار انصرافكم من الجمعة».
وهذا يقوي أن للحديث أصلا عن ليث، ولا يضر ترك الزيادة؛ فإن عمار بن محمد ابن أبى أخت سفيان لا يحتج، لا بزيادته، ولا بنقصه، وإنما ذكرناه للمتابعة. وفي هذا الحديث: أن الصالحين هم الذين يرجعون إلى أهليهم، فأما النبيون والصديقون والشهداء فلا يرجعون حينئذ، وليس فيه ما يدل على رؤية النساء، لا بنفي ولا إثبات.
ورواه أبو العباس محمد بن إسحاق السراج: حدثنا علي بن أشيب، حدثنا أبو بدر، حدثنا زياد بن خَيْثَمة، عن عثمان بن مسلم، عن أنس بن مالك قال: أبطأ علينا رسول الله ﷺ ذات يوم، فلما خرج قلنا: لقد احتبست !قال: «فإن جبريل أتاني، وفي كفه كهيئة المرآة البيضاء، فيها نكتة سوداء، فقال: إن هذه الجمعة فيها خير لك ولأمتك، وقد أرادها اليهود والنصارى فأخطؤوها، فقلت: يا جبريل، ما في هذه النكتة السوداء؟ قال: إن هذه الساعة التي في يوم الجمعة لا يوافقها عبد يسأل الله خيرًا من قسمه إلا أعطاه إياه، أو ادخر له مثله يوم القيامة، أو صرف عنه من السوء مثله، وإنه خير الأيام عند الله، وإن أهل الجنة يسمونه يوم المزيد. قلت: يا جبريل، وما يوم المزيد؟ قال: إن في الجنة واديًا أفيح، تربته مسك أبيض، ينزل الله إليه كل يوم جمعة، فيوضع كرسيه ثم يجاء بمنابر من نور فتوضع خلفه، فتحف به الملائكة، ثم يجاء بكراسي من ذهب فتوضع، ثم يجىء النبيون والصديقون والشهداء والمؤمنون أهل الغرف فيجلسون، ثم يتبسم الله إليهم فيقول: سلوا، فيقولون: نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، فسلوا، فيسألون مُناهم فيعطيهم ما سألوا وأضعافها، ويعطيهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم يقول: ألم أنجزكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي وهذا محل كرامتي؟ ثم ينصرفون إلى غرفهم ويعودون كل يوم جمعة. قلت: يا جبريل، ما غرفهم؟ قال: من لؤلؤة بيضاء وياقوتة حمراء وزبرجدة خضراء، مقدرة منها أبوابها فيها أزواجها مطردة أنهارها» رواه أبو يعلي الموصلي في مسنده عن شَيْبَان بن فَرُّوخ، عن الصَّعْق بن حزن، عن علي بن الحكم الْبُنَاني، عن أنس نحوه، لم يحضرني لفظه.
ورواه الدارقطني أيضا من حديث عبد الله بن الحميم الرازي، وحدثنا عمرو بن قيس، عن أبى شبيبة، عن عاصم، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان، عن أنس. ومن حديث إسحاق بن سليمان الرازي: حدثنا عَنْبسَة بن سعيد، عن عثمان بن عمير، عن أنس بن مالك بنحو من السياق المتقدم، وليس فيه ذكر الزيادة.
وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن الأسود بن عامر قال: ذكر لي عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 4، قال: يتجلى لهم كل جمعة.
ورواه أيضا الدارقطني من حديث محمد بن حاتم المِصِّيصي: حدثنا محمد بن سعيد القرشي، حدثنا حمزة بن واصل المِنْقَرِيّ، حدثنا قتادة بن دِعَامة، سمعته يقول: حدثنا أنس بن مالك قال: بينما نحن حول رسول الله ﷺ إذ قال: «أتاني جبريل وفي يده المرآة البيضاء» وذكر الحديث المتقدم بأبسط مما تقدم، وفيه ما يجمع بين حديث أنس الذي في صحيح مسلم وبين سائر الأحاديث، وفيه: «ويكون كذلك حتى مقدار متفرقهم من الجمعة».
وروى من طريق آخر، رواه أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد غلام ثعلب: حدثنا محمد بن جعفر بن أبى الدَّمِيك المروزي، حدثنا سلمة بن شَبيب، حدثنا يحيى بن عبد الله الحراني، حدثنا ضرار بن عمرو، عن يزيد الرَّقَاشِيّ، عن أنس بن مالك، وذكر الحديث بأبسط مما تقدم، ولم يحضرني سياقه، ولكن أظن فيه الزيادة المذكورة، وهذا الإسناد ضعيف من جهة يزيد الرقاشي وضرار بن عمرو، لكن هو مضموم إلى ما تقدم.
وروى من طريق عن أنس رواه أبو حفص بن شاهين: حدثنا جعفر بن محمد العطار، حدثنا جدي عبد الله بن الحكم، سمعت عاصمًا أبا علي يقول: سمعت حميدًا الطويل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله يتجلى لأهل الجنة كل يوم على كَثِيب كافور أبيض»، وقيل: إن جعفرًا، وجده، وعاصما مجهولون، وهذا لا يمنع المعارضة.
ورواه أيضا الدارقطني بإسناد صحيح إلى العباس بن الوليد بن مَزْيَد، أخبرني محمد بن شعيب، أخبرني عمر مولى عفرة، عن أنس بن مالك بنحو ما تقدم في الروايات المتقدمة، وفيه: «فيفتح عليهم بعد انصرافهم من يوم الجمعة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
فهذا قد روى عن أنس من طريق جماعة، وفي أكثر رواية هؤلاء ذكر الزيادة، كما تقدم.
وأما حديث حذيفة رضي الله عنه فرواه أبو بكر الخلال بن يزيد بن جمهور: حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العَنْبَرِي، حدثنا أبي، عن إبراهيم بن المبارك، عن الأعمش، عن أبى وائل، عن حذيقة بن اليمان، قال: قال رسول الله ﷺ: «أتاني جبريل، وإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها» وساق الحديث بزيادته على ما تقدم، وفيه ألفاظ أخرى، ولم يذكر الزيادة.
ورواه أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن مَعْمَر وأحمد بن عَمْرو العصفوري قالا: حدثنا يحيى بن كثير العنبري، عن إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مطيب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، وذكر الحديث، وفيه: «فيوحي الله إلى حملة العرش أن يفتحوا الحجب فيما بينه وبينهم، فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري؟ سلوني فهذا يوم المزيد. فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا ويرجع في قوله: يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فسلوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك رب ننظر إليه، فيكشف الله الحجب فيتجلى لهم، فيغشاهم من نوره ما لولا أن الله قضى ألا يموتوا لاحترقوا، ثم يقال لهم: ارجعوا إلى منازلكم، فيرجعون إلى منازلهم في كل سبعة أيام يوم، وذلك يوم المزيد».
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنه فروى من غير وجه صحيح في كتاب الآجري وابن بطة وغيرهما، عن أبي بكر بن أبي داود السجستاني: حدثنا عمي محمد ابن الأشعث، حدثنا ابن جَسْر، حدثنا أبي جَسْر، عن الحسين، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: «إن أهل الجنة يرون ربهم تعالى في كل يوم جمعة في رمال الكافور، وأقربهم منه مجلسًا أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرهم غدوًا»، وهذا تصريح بالزيادة المطلوبة.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الحميد بن أبي العشرين: حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية، عن سعيد بن المسيب، أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، فقال سعيد: أفيها سوق؟ قال: نعم، أخبرني رسول الله ﷺ: «إن أهل الجنة إذا دخلوا نزلوا فيها بفضل أعمالهم، ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون ربهم، ويبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، فتوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم وما فيهم من دنى على كثبان المسك والكافور، ما يرون بأن أصحاب الكراسي أفضل منهم مجلسًا»، قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله، وهل نرى ربنا عز وجل؟ قال: «نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟». قلنا: لا. قال: «كذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى ولا يبقى في ذلك المجلس يعني: رجلا إلا حاضره الله محاضرة، حتى يقول للرجل منهم: يا فلان بن فلان، أتذكر يوم قلت: كذا وكذا فيذكره ببعض غُدَرَاته في الدنيا فيقول: يا رب، أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه. فبينما هم كذلك غشيهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قط، ويقول ربنا: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، فنأتي سوقًا قد حفت به الملائكة، فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب، فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضًا قال: فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقاه من هو دونه وما فيهم دنى فيروعه ما عليه من اللباس، فما ينقضى آخر حديثه حتى يتخيل إليه ما هو أحسن منه؛ وذلك أنه لا ينبغى لأحد أن يحزن فيها، ثم ننصرف إلى منازلنا، فيتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبًا وأهلا، لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه، فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا». قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد روى سويد بن عمرو عن الأوزاعي شيئًا من هذا.
قلت: قد روى هذا الحديث ابن بطة في الإبانة بأسانيد صحيحة عن أبى المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، عن الأوزاعي، وعن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن صالح: حدثني الهقل، عن الأوزاعي قال: نبئت أنه لقى سعيد بن المسيب أبا هريرة فقال: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة، وذكر الحديث مثل ما تقدم. وهذا يبين أن الحديث محفوظ عن الأوزاعي، لكن في تلك الروايات سمى من حدثه، وفي الروايات البواقي الثانية لم يسم، فالله أعلم.
ومضمون هذا الحديث: أن أزواجهم لم تكن معهم في جمعة الآخرة، ولا في سوقها، لكنه لا ينفى أنهن رأين الله في دورهن، فإن الرجال قد عللوا زيادة الحسن والجمال بمجالسة الجبار، والنساء قد شركتهم في زيادة الحسن والجمال، كما تقدم في أصح الأحاديث.
هامش