الروح/المسألة السادسة عشرة/فصل الرد على من قال أن الإيثار مكروه
وأما قولكم الإيثار بسبب الثواب مكروه وهو مسألة للإيثار بالقرب، فكيف الإيثار بنفس الثواب الذي هو الغاية، فقد أجيب عنه بأجوبة:
أحدها: إن حال الحياة حال لا يوثق فيها بسلامة العاقبة، لجواز أن يرتد الحي، فيكون قد آثر بالقربة غير أهلها، وهذا قد آمن بالموت.
فإن قيل: والمهدى إليه أيضا، قد لا يكون مات على الإسلام باطنا فلا ينتفع بما يهدي إليه، وهذا سؤال في غاية البطلان، فإن الإهداء له من جنس الصلاة عليه، والاستغفار له، والدعاء له، فإن كان أهلا وإلا انتفع به الداعي وحده.
الجواب الثاني: إن الإيثار بالقرب يدل على قلة الرغبة فيها، والتأخر عن فعلها، فلو ساغ الإيثار بها لأفضى إلى التقاعد والتكاسل والتأخر، بخلاف إهداء ثوابها فإن العامل يحرص عليها لأجل ثوابها لينتفع به أو ينفع به أخاه المسلم فبينهما فرق ظاهر.
الجواب الثالث: إن اللّه سبحانه يحب المبادرة والمسارعة إلى خدمته والتنافس فيها، فإن ذلك أبلغ في العبودية، فإن الملوك تحب المسارعة والمنافسة في طاعتها وخدمتها، فالإيثار بذلك مناف لمقصود العبودية، فإن اللّه سبحانه أمر عبده بهذه القربة إما إيجابا وإما استحبابا، فإذا آثر بها ترك ما أمره وولاه غيره، بخلاف ما إذا فعل ما أمر به طاعة وقربة ثم أرسل ثوابه إلى أخيه المسلم وقد قال تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد:21] وقال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة:148] ومعلوم أن الإيثار بها ينافي الاستباق إليها والمسارعة.
و قد كان الصحابة يسابق بعضهم بعضا بالقرب، ولا يؤثر الرجل منهم غيره بها، قال عمر: واللّه ما سابقني أبو بكر إلى خير إلا سبقني إليه- حتى قال: واللّه لا أسابقك إلى خير أبدا.
و قد قال تعالى: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:26] يقال: نافست في الشي ء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه على وجه المباراة، ومن هذا قولهم شي ء نفيس أي: هو أهل أن ينافس فيه ويرغب فيه، وهذا أنفس ما لي أي أحبه إلي، وأنفسني فلان في كذا، أي أرغبني فيه، وهذا كله ضد الإيثار به والرغبة عنه.
هامش