البداية والنهاية/الجزء التاسع/شريح بن الحارث
ابن قيس أبو أمية الكندي، وهو قاضي الكوفة، وقد تولى القضاء لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبى طالب، ثم عزله علي، ثم ولاه معاوية ثم استقل في القضاء إلى أن مات في هذه السنة، وكان رزقه على القضاء في كل شهر مائة درهم، وقيل: خمسمائة درهم، وكان إذا خرج إلى القضاء يقول: سيعلم الظالم حظ من نقص، وقيل إنه كان إذا جلس للقضاء قرأ هذه الآية: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى } الآية، [ص: 26] .
وكان يقول: إن الظالم ينتظر العقاب والمظلوم ينتظر النصر.
وقيل: إنه مكث قاضيا نحو سبعين سنة.
وقيل: إنه استعفى من القضاء قبل موته بسنة، فالله أعلم.
وأصله من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، وقدم المدينة بعد موت النبي ﷺ، توفي بالكوفة وعمره مائة وثمان سنين.
وقد روى الطبراني قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب، عن إبراهيم التيمي، قال: كان شريح يقول: سيعلم الظالمون حق من نقصوا. إن الظالم ينتظر العقاب، وإن المظلوم ينتظر النصر.
ورواه الإمام أخمد، عن إسماعيل بن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، به.
وقال الأعمش: اشتكى شريح رجله فطلاها بالعسل وجلس في الشمس فدخل عليه عواده فقالوا: كيف تجدك؟ فقال: صالحا. فقالوا: ألا أريتها الطبيب؟ قال: قد فعلت، قالوا: فماذا قال لك؟ قال: وعد خيرا: وفي رواية أنه خرج بإبهامه قرحة فقالوا: ألا أريتها الطبيب؟ قال: هو الذي أخرجها.
وقال الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: كانت فتنة ابن الزبير تسع سنين وكان شريح لا يختبر ولا يستخبر.
ورواه ابن ثوبان، عن عبدة، عن الشعبي، عن شريح، قال: لما كانت الفتنة لم أسأل عنها. فقال رجل: لو كنت مثلك ما باليت متى مت، فقال شريح: فكيف بما في قلبي.
وقد رواه شقيق بن سلمة، عن شريح، قال: في الفتنة ما استخبرت ولا أخبرت ولا ظلمت مسلما ولا معاهدا دينارا ولا درهما، فقال أبو وائل: لو كنت على حالك لأحببت أن أكون قدمت، فأوى إلى قلبه فقال: كيف يهدأ، وفي رواية كيف بما في صدري تلتقي الفتيتان وإحداهما أحب إلي من الأخرى.
وقال لقوم رآهم يلعبون: مالي أراكم تلعبون؟ قالوا: فرغنا ! قال: ما بهذا أمر الفارغ.
وقال سوار بن عبد الله العنبري: حدثنا العلاء بن جرير العنبري، حدثني سالم أبو عبد الله أنه قال: شهدت شريحا وتقدم إليه رجل فقال: أين أنت؟ فقال: بينك وبين الحائط، فقال: إني رجل من أهل الشام، فقال: بعيد سحيق، فقال: إني تزوجت امرأة، فقال: بالرفاء والبنين، قال: إني اشترطت لها دارها، قال: الشرط أملك، قال: اقض بيننا، قال: قد فعلت.
وقال سفيان: قيل لشريح بأي شيء أصبت هذا العلم؟ قال: بمعاوضة العلماء، آخذ منهم وأعطيهم.
وروى عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن محمد بن سالم، عن إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، أنه سمع عليا يقول: يا أيها الناس ! يأتوني فقهاؤكم يسألوني وأسألهم، فلما كان من الغد غدونا إليه حتى امتلأت الرحبة، فجعل يسألهم: ما كذا ما كذا، ويسألونه ما كذا ما كذا فيخبرهم ويخبرونه حتى إذا ارتفع النهار تصدعوا غير شريح فإنه جاث على ركبتيه لا يسأله عن شيء إلا أخبره به، قال: سمعت عليا يقول: قم يا شريح فأنت أقضى العرب.
وأتت شريحا امرأتان جدة صبي وأمه يختصمان فيه كل واحدة تقول: أنا أحق به
أبا أميه أتيناكَ وأنتَ المستعانُ بهِ * أتاكَ جدةُ ابنٍ وأمٌ وكلتانا تفديه
فلو كنتِ تأيمتِ لما نازعتكي فيهِ * تزوجتِ فهاتيه ولا يذهبْ بكِ القيهِ
ألا أيها القاضي فهذهِ قصتي فيهِ *
قالت الأم:
ألا أيها القاضي قد قالت لك الجدة * قولا فاستمع مني ولا تطردني ردهْ
تعزى النفسَ عن ابني * وكبِدي حملتْ كَبدهْ
فلما صار في حجري * يتيما مفردا وحدهْ
تزوجتُ رجاءَ الخيرِ * منْ يكفينيَ فقدهْ
ومن يُظهرُ لي الودَ * ومنْ يحسنُ لي رِفدهْ
فقال شريح:
قد سمع القاضي ما قلتما ثم قضى * وعلى القاضي جهد إن غفل
قال للجدة: بيني بالصبي * وخذي ابنك من ذات العلل
إنها لو صبرت كان لها * قبل دعوى ما تبتغيه للبدل
فقضى به للجدة.
وقال عبد الرازق: حدثنا معمر بن عون، عن إبراهيم، عن شريح، أنه قضى على رجل باعترافه فقال: يا أبا أميه قضيت عليَّ بغير بينة، فقال شريح: أخبرني ابن أخت خالتك.
وقال علي بن الجعد، أنبأنا المسعودي، عن أبي حصين، قال: سئل شريح، عن شاة تأكل الذباب فقال: علف مجان ولبن طيب.
وقال الإمام أحمد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أبي حيان التيمي، حدثنا أبي، قال: كان شريح إذا مات لأهله سنور أمر بها فألقيت في جوف داره، ولم يكن له مشعب " شارع " إلا في جوف داره يفعل ذلك اتقاء أن تؤذي المسلمين -يعني أنه يلقي السنور في جوف داره لئلا تؤذي بنتن ريحها المسلمين -، وكانت مياذيب أسطحة داره في جوف الدار لئلا يؤذي بها المارة من المسلمين.
وقال الرياشي، قال رجل لشريح: إن شأنك لشوين. فقال له شريح: أراك تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها في نفسك.
وقال الطبراني، حدثنا أحمد بن يحيى تغلب النحوي، حدثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن زياد بن سمعان.
قال: كتب شريح إلى أخ له هرب من الطاعون: أما بعد فإنك والمكان الذي أنت فيه والمكان الذي خرجت منه بعين من لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب، والمكان الذي خلفته لم يعد أمرا لكمامه ومن تظلمه أيامه.
وإنك وإياهم لعلى بساط واحد، وإن المنتجع من ذي قدرة لقريب.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن الشعبي، عن شريح، أن عمر، كتب إليه: إذا جاءك الشيء من كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه رجاء ما ليس في كتاب الله، وانظر في سنة رسول الله ﷺ فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، وفي رواية: فانظر فيما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا، والسلام.
وقال شريح: كنت مع علي في سوق الكوفة فانتهى إلى قاص يقص فوقف عليه وقال: أيها القاص ! تقص ونحن قريبو العهد؟ أما إني سائلك فإن تجب فما سألتك وإلا أدبتك، فقال القاص: سل يا أمير المؤمنين عما شئت، فقال علي: ما ثبات الإيمان وزواله؟ قال القاص: ثبات الإيمان الورع وزواله الطمع. قال علي: فذلك فقص. قيل إن هذا القاص هو نوف البكالي.
وقال رجل لشريح: إنك لتذكر النعمة في غيرك وتنساها في نفسك، قال: إني والله لأحسدك على ما أرى بك. قال: ما نفعك الله بهذا ولا ضرني.
وروى جرير، عن الشيباني، عن الشعبي، قال: اشترى عمر فرسا من رجل على أن ينظر إليه، فأخذ الفرس فسار به فعطب، فقال لصاحب الفرس: خذ فرسك، فقال: لا ! فاجعل بيني وبينك حكما، قال الرجل: نعم ! شريح، قال عمر: ومن شريح؟ قال: شريح العراقي، قال: فانطلقا إليه فقصا عليه القصة، فقال: يا أمير المؤمنين رد كما أخذت أو خذ بما ابتعته، فقال عمر: وهل القضاء إلا هذا؟ سر إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها، فإنه لأول يوم عرفه يومئذ.
وقال هشام بن محمد الكلبي، حدثني رجل من ولد سعد بن وقاص، قال: كان لشريح ابن يدعو الكلاب ويهارش بين الكلاب، فدعا بداوة وقرطاس فكتب إلى مؤدبه فقال:
ترك الصلاة لأكلب يسعى بها * طلب الهراش مع الغواة الرجس
فإذا أتاك فعفَّه بملامة * وعظه من عظة الأديب الأكيس
فإذا هممت بضربه فبدرة * فإذا ضربت بها ثلاثا فاحبس
واعلم بأنك ما أتيت فنفسه * مع ما تجرعني أعز الأنفس
وروى شريح، عن عمر، عن عائشة، أن النبي ﷺ قال لها:
«يا عائشة، { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعا } [الأنعام: 159] إنهم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، إن لكل صاحب ذنب توبة إلا أصحاب الأهواء والبدع، أنا منهم بريء وهم مني براء». وهذا حديث ضعيف غريب رواه محمد بن مصفى، عن بقية، عن شعبة - أو غيره - عن مجالد، عن الشعبي، وإنما تفرد به بقية بن الوليد، من هذا الوجه وفيه علة أيضا.
وروى محمد بن كعب القرظي، عن الحسن، عن شريح، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله ﷺ: «إنكم ستغربلون حتى تصيروا في حثالة من الناس قد مزجت عهودهم وخربت أمانتهم، فقال قائل: فكيف بنا يا رسول الله؟ فقال: تعملون بما تعرفون وتتركون ما تنكرون، وتقولون: أحد أحد، انصرنا على من ظلمنا وأكفنا من بغانا».
وروى الحسن بن سفيان، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الجبار بن وهب، عن عبد الله السلمي، عن شريح، قال: حدثني البدريون منهم عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ قال: «ما من شاب يدع لذة الدنيا ولهوها ويستقبل بشبابه طاعة الله تعالى إلا أعطاه الله تعالى أجر اثنين وسبعين صديقا، ثم قال: يقول الله تعالى: أيها الشاب التارك شهوته من أجلي، المبتذل شبابه لي، أنت عندي كبعض ملائكتي». وهذا حديث غريب.
وقال أبو داود، حدثنا صدقة بن موسى، حدثنا أبو عمران الجوني، عن قيس بن زيد - وقال أبو داود أو عن زيد بن قيس -عن قاضي المصرين شريح، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: أن النبي ﷺ قال: «إن الله تعالى يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول: يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الناس؟ فيم أذهبت أموالهم؟ فيقول يا رب لم أفسده ولكن أصبت إما غرقا وإما حرقا، فيقول الله سبحانه: أنا أحق من قضى عنك اليوم، فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة». لفظ أبي داود ورواه يزيد بن هارون، عن صدقة به، وقال فيه: «فيدع الله بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل» ورواه الطبراني من طريق أبي نعيم، عن صدقة به، ورواه الطبراني أيضا، عن حفص بن عمر، وأحمد ابن داود المكي، قالا: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا صدقة به، والله سبحانه وتعالى أعلم.